الأربعاء ٤ شباط (فبراير) ٢٠٠٩
بقلم سامر مسعود

على مدخل القرية

أذكر في صباح باكر، وكلها صباحات متشابهة، أنني توجهت إلى ساحة القرية حيث توقفت سيارات الأجرة، حجزت مقعدا في إحداها، وانتظرت نصف ساعة، ساعة ، أكثر من ذلك أو أقل، لا أذكر تماما، حتى امتلأت السيارة بركابها، ثم تحركت نحو المدينة. ما أن تجاوزت السيارة بيوت القرية حتى رأيت المشهد المعتاد؛ سيارة عسكرية تقف في منتصف الطريق، وأمامها وقف ضابط أمرد في العشرينيات من عمره، أسود اللون، نحيل، وضع نظارات كبيرة سوداء، حمل بندقيته الرشاشة باستعداد لأي طارئ، ولم ينسَ أن يضع بعض " الخوازيق" أمام السيارات القادمة تحسبا للحظة عصيان، وخلفه على بعد أمتار ومن كلا الجهتين كان يقف جنديان آخران متأهبين. وما أن اقتربت السيارة حتى أشار الضابط بيده طالبا من الجميع النزول بغرض التفتيش. كان أحدهم يفحص السيارة بدقة، في حين كان الضابط يملي على حاسوبه العسكري ما تضمنته البطاقات الشخصية الخاصة بالركاب. كنت أنظر إلى ساعتي باستمرار، فالوقت يضيق، والطلبة في انتظار الدرس الأول... لفت ذلك السلوك انتباه الضابط، ألقى البطاقات على مقعد السيارة الأمامي، تقدم نحوي، تمتم بكلمات عبرية بلكنة ثقيلة لا تخلو من سخرية:

 اسمك حامد، وتعمل معلما...؟!

 المدرسة في نهاية الشارع على قمة التلة المقابلة، تبعد خمس دقائق بالسيارة من هنا.

 آه... أعرفها جيدا، بالأمس ألقى أحدهم زجاجة فارغة على مقدمة سيارتي، انظر... لقد تضرر الطلاء...

 عليّ أن أكون في المدرسة بعد عشرة دقائق...

 تتهرب من كلماتي؟ أنت معلم وقح... فهمت عملك الآن... تعلمهم أشياء غير جيدة...

 أعلمهم كلمات تزين لغة كلامهم.

اقترب مني بتوتر ظاهر، وصرخ بغضب:

 عربي قذر، هذه هي الكلمات التي تليق بكم...

 على الاقل لدينا كلمات...

 بلغت بك الوقاحة أن تشكك في لغتي أيضا! لا بأس، عقلك بحاجة إلى تنظيف... حسنا، ولدت في إثيوبيا، وعدت إلى وطني من جديد.

 هل فهمتك أشجار التين والزيتون؟! هل سمعتَ تراتيل الحساسين والشحاحير؟! هل رأيت الزعتر وهو يعانق الندى في صباح ربيعي دافئ؟!

 ما هذا الهذيان؟ أنت معلم خرف وبحاجة إلى مصحة عقلية.

 أظلمت الأرض، وتحولت البساتين إلى صحراء... أصيبت بأمراض غريبة قادمة من بعيد...

أخذ الضابط يصفق بسخرية، ثم قال:

 وتعمل طبيبا يشخص الأمراض أيضا!... لقد تماديت كثيرا في تخريفك... لن أسمح لك بالمرور... اليوم ما في عمل.

 الحياة تناديني، نهاري يحثني على العمل، العصافير والأزهار تحتفل بيوم جديد، ألا تسمعها؟! ألا تراها؟!

 فلسطيني خطير... عد من حيث أتيت، لن أسمح لك بالمرور...

 انا لست في إثيوبيا، لا تخن تاريخ هذه الأرض... كن إثيوبيا طيبا ودعني أمر.

أطرق الضابط مفكرا، ثم صرخ:

 الأوامر واضحة، أنا المسؤول هنا، وعليك العودة.

 إنني أشفق عليك، آخر ما يفكر به الشاب في مثل عمرك أن يمتهن وظيفة القهر والكراهية.

لم أكن أتخيل قبل سنوات قليلة مضت أن يتحول المدخل الشرقي لقريتي إلى بوابة سجن كبير، معبر ضيق أسفل طريق افعواني يلتف حول القرية من كل جهاتها، وفي لحظة ما تصدر "الأوامر" لضابط اثيوبي بفتح تلك البوابة أو إغلاقها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى