الثلاثاء ٢٤ آذار (مارس) ٢٠٠٩
بقلم وائل حامد غانم

حين تغيب الفصول

السماء ملبدة بالغيوم والعاصفة تشد آخر أحزمتها لتبدأ هجومها المعتاد...المدافىء التي تطلق سحبها الداكنة تقاتل موجة البرد داخل البيوت الصغيرة

السيارات القليلة في الشارع تمشي ببطء خشية الانزلاق وتكاد شوارع المدينة تخلو من المشاة.

كان منظر صبية صغار يركضون في شارع الحي الضيق يثير الدهشة في هذا الجو قارس البرودة، أقترب منهم لأتحقق أمرهم فأجد مجموعة من الفتية يلبسون ملابس شتوية ثقيلة يطاردون ولداً من أترابهم يلبس قميصاً رقيقاً ممزقاً عند كتفه الأيمن و (بنطالاً ) ينحسر عن ساقيه ليظهر رِجْلاً صغيرة نحيلة عارية تختبئ ضمن حذاءٍ بالٍ يفتح فمه كعصفورِ جائع في حين يكرر فم صاحبه بلا توقف ..بردان....بردان...والأطفال الأشقياء يركضون وراءه يغنون: يا بردان أين لحافك.....

أطيل مراقبة الأطفال فيوحي لي منظر المسكين أنه اقل تأثراً بالبرد من مطارديه ، فأنوفهم السائلة وخدودهم التي لدغتها أنياب البرد فبدت كمؤخرة السعادين توحي أن الفتية المغنين يبحثون عن لحافهم لا عن لحاف صاحبهم الشقي..

وتستمر المطاردة وبركض الصغير في أزقة الحي صائحاَ :بردان .. بردان غير مكترثِ بالطفيليين الذين يلاحقونه.
لقد عرفت هذا الصبي انه حسام الطفل البائس الذي طالما عرف معاني الغنج والدلال والحنان في أحضان أبيه وأمه الراحلة،لم يكن قد أكمل سنته الرابعة حين كان مضرب المثل بدلاله وغنجه وتميز لباسه وألعابه عن جميع أطفال الحي ،ولكن كان للقدر حساب آخر معه؛ مرض أرسله الغيب ليخطف حضن أمه الدافئ ويرمي جسدها اللطيف جثة ًباردةً في حفرةٍ باردةٍ مظلمةٍ رآها حسام بعينيه ولم يدرك كنه الحقيقة لكن حدس الطفولة أنبئه أن كارثة ما قد وقعت فراح يبكي ويصرخ .

ثم أصبح حضن أبيه ملاذه الآمن و لحافه الدافئ الذي يختبأ داخله ،وحين كان أبوه يضع رجليه الصغيرتين بين

فخذيه ويلفه بحنان يغرق في نومٍ آمنٍ عميق .

وفي هذا العش الأليف كان الطفل المفجع يحس بكل أمان الدنيا ودفء الجنة ، وعانده القدر أيضاً ،فما كان الأب الشاب ليدفن نار شبابه في تلك الحفرة التي تحوي بقايا جسد ويرتفع منها شاهد قبرٍ باسم زوجته وكان لابد له تحت إلحاح أهله والأصدقاء أن يأتي بأم لصغيره .

وتزوج الوالد بعد مرور عامٍ ونيف على مفارقة الزوجة .

عليك أن تنام في الغرفة المجاورة يا بني ،لقد أصبحت رجلاً ويمكنك النوم وحيداَ بلا خوف ؛وامتثل الطفل المطيع ونام في الفراش الذي أعده والده في الغرفة المجاورة والتي تفصلها نافذة صغيرة عن غرفة العروسين.

وفي أول مرة ينام مفرداً لم يشعر حسام بالخوف ولم يشعر بالغيرة من تلك التي أخذت مكانه في حضن أبيه ، لكنه يشعر بقشعريرة برد تتسلل الى ظهره وتنساب كجدول ماء بارد يجري من كتفه الى أسفل مؤخرته ويبدأ جسمه بالارتجاف فيطلق بهمسٍ عليل :(آآح) بردان ليحس بيد أبيه تتلقفه ما بك يا بني ..أمريض أنت ؟ ..

دعه..تنادي العروس انه الغنج فهذه أول ليلة ينام وحيدا

بردان يا أبي يقول الصغير فيحمله الوالد الى فراشه ويخبئه بين ذراعيه بينما تستلقي المرأ ة جوار عريسها وتأخذ بالتأفف : لو أنك غيرت هذه الكذبة كيف تبرد في عز الصيف ؟ يضم أبو حسام ولده بين ذراعيه لكن قشعريرة البرد لا تغادر المسكين

ومضت تلك الليلة، وجاءت ليالي أصبح فيها الزوجان يتجاهلان أنين الولد و(الآحات ) التي يطلقها بينما كانت البرودة تغلغل في أعضاء جسده بالتدريج .

و يهمل الرجل ولده ، ويصب جل اهتمامه لزوجته وأولاده الجدد بينما تزداد جبال الجليد اتساعاً على أديم الجسد الضعيف حتى أصبح الشارع ملاذه يشكو برده لنسائم الصيف ورياح الشتاء ويختبئ ليلاً في غرفة المئونة ،وعندما صدمته دراجة يوماً وسارع صاحب احد المحلات باسعافه تحول صاحب المتجر الى ألد أعداء أهل

حسام وكيف لا يكون وقد حرم ابنهم من التمتع بلذة الدفء الأبدي في نعيم الآخرة ،حتى جراح حسام النازفة لم تكن تشعره بالألم بل كان يحس بالبرد ...برد قارس .. برد فقط...

لا يزال الأشقياء يطاردون الفرخ المسكين ، أمسح جبيني بمنديلي فالحر الشديد يجعلك تتصبب عرقاً رغم أن اليوم لا يزال في بدايته لكن الشمس اللاهبه التي تزحف بنارها المستعرة تدريجياً الى قبة السماء الخالية من الغيوم تجعل الناس يهربون الى بيوتهم ومزارعهم ولا يظهر في الشوارع إلا أطفالاً صغاراً يرتدون سراويلاً قصيرةً الى ما فوق ركبهم وقمصاناً بربع كم ٍِ ملونة بألوان ٍ مختلفة يطاردون طفلاً يلبس قميصاً ممزقاً على كتفيه و(بنطالاًً ) ينحسر عن رجل ٍ حالكة الشقاء تختبئ في حذاءٍ قذرٍ بالٍ يفتح فمه كطفلٍ رضيعٍ ، وينادي الولد الشريد بلا توقف بردان بردان ...بينما يطارده أطفال الحي مغنين بأصواتٍ عاليةٍ ... يا بردان أين لحافك


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى