الأربعاء ١٩ آب (أغسطس) ٢٠٠٩
بقلم فليحة حسن

في الداخل حين لم يكن

كانت أرض غرفته فارغة إلا من بعض جرائد قديمة وكتب تتناوم بأغلفة متربة الى جانب ربطة عنق على وجه طاولة متهرئة الخشب تحاذي كرسياً يستند بطرف رأسه على حافة الطاولة كرجل وقد نام جلوساً، بينما ضجت جدران الغرفة بثقوب خلفتها أثار مسامير عدة استخدمت في تعليق صور وملصقات لم يفلح فضاء الغرفة الواحد في التقريب بين موضوعاتها، وعلى وجه الجدران أيضاً ُعِلق قميص احتفظتْ كفّ الإهمال به في دائرة الغبار وفارق نصوع بياضه،يجانبه رأس مسمار ثان تعلق به بنطال بني اللون تسرب الوسخ الى مسام خيوطه ونزّ منه على شكل بقع يحسبها الناظر زيتاً،بينما اجتمعت فردة حذاء بأختها في ركن الغرفة الى جانب جسد حزام جلدي اسود ضيع لمعانه،

كان الظل ينسحب رويداً رويداً خارجاً وراء جسد صاحبه من فجوة الباب الذي احتفظت دفته بانفراجها حتى بعد محاولة اليد إغلاقه، بينما احتفظ الشباك بعفونة صارمة جاءت كنتيجة حتمية لطول الانغلاق تاركاً البنطال يتململ في مكانه وهو يقول:

  لمَ يتركنا هكذا وكأنه لم يكدح في سبيل اقتنائنا؟ منذ شهر وهو يتحاشى ارتدائي وكأنني صرت قيداً ثقيلاً يربطه بالألم هو الذي كاد يجن حلماً بي، اذكر كيف كان يمرُّ (بمحل الملابس) ولأيام، بتثاقل مشيته يكاد يذوب حسرة وهو يرى
(المحل) ُيفرغُ من أمثالي رويداً رويداً، وما أن حانتْ لحظة لقائي به، أعني حين استطاع تحصيل ثمني لم ينتظر حتى يمتص نسيم العصر حرارة الظهيرة على العكس من ذلك جاء إليَّ راكضاً يتسابق مع رائحة عرقه، كان صاحب (المحل) يحاول إغلاقه فتعلق بالباب بتوسلاته وكلتا يديه، فتح له الآخر باب المحل واقتناني بكل ما يملك من مال وكثير من كلمات الامتنان، وأحضرني الى هنا كنت َ مثلي تماماً أيها القميص، جديداً، نظيفاً، معطراً،أتذكره فقط اغتسل وارتدانا وأسرع إليها، أتذكر كيف كان اللقاء؟؛

تنهد القميص حسرة ليقول:

  اجل شاهدتها، ابتسمتْ له، جلسا معاً، ربتتْ على كمي، ونعتته بالأنيق، كاد يذوب كما خيوطي من همس كلامها،

انتفض البنطال وقد أصابه الغيظ صارخاً:

  لكن ما الجديد؟؟ لِمَ لا يحفل بوجودنا الآن؟ لِمَ صار يكتفي بملابسه الرثة التي استطال وسخها كشعر رأسه ولحيته؟؟

أجابه القميص مستهزأ:

  وأنت هل تعدّ نفسك نظيفاً؟وهو الذي لم يفكر حتى بنفض طيات التراب عن جسدك؟؟

اهتزّ البنطال بعصبية كاد أن يفقد بها توازنه ويسقط أرضاً ليقول:

  لِمَ الاستهزاء؟ أنت أيضاً لم تنتشِ برائحة الصابون من زمن وبقيتَ ترسخ برائحة لقائهما أم انكَ نسيت ذلك؟
القميص وقد غمره الحلم،

  اجل يا صاحبي لقد أراد الاحتفاظ برائحتها، إلا تذكر كم كانت قريبة منه كان يريد أن يستنشقها حياة ولم يفلح، هكذا هم البشر يضيعون الواقع ويتمسكون بأطراف الحلم؛

امتزج صوت البنطال بحشرجة الحزن وتلعثم وهو يقول:

  المخيف في الأمر انه لم يعدّ يحتاجنا، لم يعد يرغب فينا، إذن هو لم يعد يحبنا، أنا افهم أن الحب حاجة، وها قد استبدلنا بملابس أخرى، قديمة، متهرئة لِمَ؟؟

اسند القميص ياقته الى كمه مفكراً وهو يقول:

  بعض البشر مجانين،نعم، بل جلّهم مجانين وإلا ما معنى أن يكدحوا ليشترونا ويكدسونا ويكتفون بالقديم منّا متى ما شاؤا؟

البنطال (مستهزأ):- ربما الحنين؟

القميص متسائلاً:

  الحنين لمنْ؟ للفقر؟ للوساخة؟ للنتانة؟

البنطال وقد اهتزّ بعنف:

  أرجوك اصمتْ، اصمتْ قليلاً ودعنا نفكر ماذا نفعل إذا طال فراقه؟ هل نسقط منتحرين كما فعل هذان الاثنان مشيراً الى الحزام وربطة العنق؟ أم نختنق بشهقة الخرس مثل حذائه السوداء تلك؟ أم ننتظر لنغدو وجبة شهية لجيوش العثة التي أكلت أحشاء خزانته وما فيها فركل أطلالها خارجاً؟

أجاب القميص بهمس حزين:لا أظنها ستعود إليه ولن يعود إلينا،

على الرغم من إنني كنت أرى ظل لقائهما وقد ارتسم على ارض الواقع فراقا ً، لكنه كان سعيداً بها حدّ انه نسيَّ أن المستحيل لا يمكن أن يصبح إلا مستحيلاً، كان مغمض الروح، آه يا صديقي لم يعد وجودنا منطقياً دونه؛ أسوء أنواع الإذلال انك لا تستطيع أن ترفض ما تكرهه؛ وأنا اكره نبذي؛ اكره َمنْ ينبذني اكره َمنْ يصنع مني لاشيء؟

البنطال متسائلا ً:

  لِمَ ُتحمّل الموقف اكبر من حجمه؟ أنت شيء، وموجود؛
القميص وبشدة:

  من قال ذلك؟ الشيء بلا ذلك الآخر الذي خرج تواً وأهملنا ليس شيئاً،
انه خطأ منطقي أن نكون بلا جسد نحتويه، يكون بنا ونكون به،
البنطال وهو ينفث حسرة ربطتْ بحبل سؤال:
  هل يعود؟؟
رد عليه القميص بصوت منخفض:
  لا ادري يا صديقي؟ ربما؛


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى