الثلاثاء ٢٩ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٩
بقلم بسام الطعان

شارب الانثى

كعادتهم.. كان موظفو (أمانة السجل المدني ) في البلدة ، جالسين خلف طاو لاتهم، يتذمرون ويتأففون من كثرة العمل وأسئلة المراجعين من طالبي إخراج قيد، أو شهادة ميلاد، أو سند إقامة، أو الحصول على بطاقة شخصية جديدة.
كان الزحام على أشده وكأنه يوم الحشر، وبينما الكل يريد أن يحصل على طلبه بأسرع وقت، اندلعت زوبعة من الصياح والشتائم من الخارج. التفت الجميع نحو مصدر الزوبعة يرددون:
ـ ماذا حصل؟!
بعد لحظات دخل رجل خمسيني الملامح، طويل القامة، عريض المنكبين، كث الشاربين، يرتدي سروالاً رمادياً وقميصاً أحمر، ويحمل على ظهره كيساً مليئاً ببذور التنديد والتوبيخ استعداداً لزرعها فـي وجوه الموظفين صغيرهم وكبيرهم، فانفتحت عيون الموظفين والمراجعين مثل أرغفة تنور، وبدت أفواههم شبيهة بالمغارات والكهوف.

عصاه الخيزران كانت تتراقص في يده وهو يعتــمر كوفية من الغضب الدفين كأنه قد خرج لتوه من معركة حامية مع هولاكو وجنوده ، وكانت ثيابه تئن من كثرة خرائط الوسخ المرسـومة فوقها، وحين التف الجميع من حوله، لطمهم بنظراته الصاروخية:
ـ من منكم فعلها يا جراثيم؟
اصطدمت النظرات ببعضها وانغلقت الأفواه، عندئذ انقلبت هيئته إلى مزيج من الأسى والحقد والسخرية:
ـ أصابكم الطرش!.. أين هو المسؤول عن هذا المكان؟
بعضهم أصابه الطرش فعلاً، وبعضهم انخرس لسانه أو لم يشأ أن يتدخل فيما لا يعنيه، وبعضهم الآخر فاض منه الخوف أمام قوة نظراته وتنفسه الذي يصعد ويهبط.

ظل ممتلئاً بالغضب والحقد وهو لا يستثني أحداً من شـتائمه، وعلى اثر صيحاته التي خلخلت الأعماق، خرج أمين السجل المدني من غرفته وهو يظن أن زلزالاً قد وقع.

أبعد من في طريقه ودخل بين جمع الموظفين وقال بغضب سيطر عليه بشكل مباغت:
ـ ماذا يجري هنا؟
لكن أحداً لم يكلف نفسه بالرد أو الالتفات إليه، بينما الرجل لا يزال يرغــي ويزبد، ثم رسم بإبهامه دائرة كبيرة في الفراغ وطوقهم بها:
ـ أنتم كلكم إناث وتظنون أن كل الناس مثلكم.. هل تريدون أن أخلع ثيابي؟ من يريد ذلك؟
يبدو أن أحداً لم يسمع الجملة الأخيرة، أو تجاهلـــها ربما خوفاً وربما أنه لم يشأ أن يدخل في مشاكل هو في غنى عنها.
اقترب أمين السجل المدني منه وقال بهدوء وهو يكاد يفقد أعصابه:
ـ من أنت وماذا تريد؟

حدّجه بنظرة مرعبة ولم يتكلم ، فقال الآخر بخشوع هبط عليه فجأة:
ـ الله يخليك يا " زلمة" ارأف بحالي وقل ماذا تريد؟

ـ ماذا أريد؟؟! اسأل نفسك واسأل هؤلاء المحترمين، نطق عبارته الأخيرة بقرف واضح. زفر الآخر بعمق:
ـ يبدو انك مصاب بمرض الوقاحة، انطق هذه الجوهرة وإلا سـأطلب من الموظفين أن يرموك في الشارع، هيا قل ماذا تريد وبسرعة؟
لكنه لم ينطق جوهرته، وإنما جلس على الأرض, أطرق رأسه ورائحة التيس تفح منه, وفجأة قال بصوت باك:
ـ أكاد أجن يا ناس.. أنا أنثى ؟!

بعفوية حاول أحد المراجعين تهدئته، لكنه دفعه بقوة فسقط بين الأرجل وهو يئن.
حين نفد صبر أمين السجل المدني، طلب من الموظفين أن يقتادوه إلى مكتبه، وبسرعة خاطفة حملوه ككيس مليء بالتراب ، وسرعان ما دخل وراءه الموظفـون وبعض المراجعين، غير أن أمين السجل طرد المراجعين وأغلق الباب.
أجلسه فوق كرسي وثير، قدم له سيجارة طويلة، أشعلها بنفسه، ثم طلب له كأس شاي، وما إن سحب نفساً وعبأ صـدره بالدخان حتى هدأ قليلاً، وقبل أن تنتهي السيجارة، رماها بقوة على الأرض وقال بمرارة:
ـ كيف تكتبون في بطاقتي الشخصية الجديدة أنثى.. هل أنا أنثى يا أغبياء؟! هل هذا الشارب لأنثى؟ قالها وهو يبرم شاربيه بإبهامه وسبابته.
تطلع الجميع إلى بعضهم, ثم إليه، ثم إلى بعضهم وتعالت الضحكات، فشــعر بأنهم يسخرون منه ونهض واقفاً وهو يرتجف غيظاً.
طلب منه أحد الموظفين أن يجلس وهو لا يزال يضحك، لكنه لم يذعن له، وإنما خطف كأس الشاي الذي لم يتذوقه وقال:
ـ أقسم بهذه النعمة إذا لم تصححوا الخطأ خلال أيام فسأجعل دمائكم تجري في الشوارع، أبعد هذا العمر تجعلونني مسخرة للعتالين وأصحاب الدكاكين يا أوباش؟

ـ العمى ضربك ماذا تقول؟! قالها أحد الموظفين بدهشة.
ـ العمى يضربك يا قواد يا قليل الأدب. قالها وكاد يهـجم عليه لكنه غيّر رأيه في اللحظة الأخيرة.
بعد أن كثرت مراجعاته لهم، وطال عذابه ، ولم يحصل علـــى هوية جديدة مكتوب عليها الجنس:ذكر. وبعد أن تشاجر في الصباح مع أحد العتالين وجـعل الدماء تنز من رأسه حين ناداه يا أنثى، دخل إلى غرفة أمين السـجل المدني وبيده عصا غليظة، ودون سلام أو كلام، هوى بها على رأسه الأصلع ، فأطلق آهة مصلوبة وعلى اثرها اندفع الى الغرفة كل من سمعها، أما هو فغرز نظراته الصارمة في وجوههم ، وحن لم يتقدم منه أحد، اندفع إلى الخارج مثل ســيل يدفع كل من في طريقه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى