الجمعة ١ نيسان (أبريل) ٢٠٠٥
بقلم نجمة خليل حبيب

عين صابتنا

دخلت عالمنا على حين غرة , بعثرت ما كان معلبا من ثوابت ومعتقدات فوق رفوف وعينا منذ عهد عاد. . . بعد دخولها لم تعد الامور على ما كانت عليه . لماذا حصل هذا ؟ لماذا هفت قلوبنا الى كل حركة وكل ساكنة فيها لست ادري . ابي يغضب وينهانا عن التفوه باسمها . اخرجوها من افكاركم . هي ضلالة وشر . ولكنها دائما بيننا اقرب من رفة الجفن , وان كان لا يزال في انقسنا خشية من ان نلهج باسمها على الملا, إلا انها دائما بين اي اثنين منا تلاقيا على سمر .

كلنا مولود في استراليا , كلنا ترعرع في سدني بالذات,.ولكننا في الحقيقة ما فارقنا جلود اجدادنا يوما. فخورين بحسبنا ونسبنا . نكن احتقارا اخرس لهذه المدنية الغريبة عن نهجنا ووصايانا. قانعين بكل ما يرسمه لنا الاب فهو ادرى بمصلحتنا .

قضى رأيه , الذي لا يعلوه رأي , ان اكتفي من الدراسة بالشهادة الثانوية فلم اطمع بمزيد. لقد صور لي ان هذا يكفي للفتاة العاقلة , بنت الاصول , فرضيت. ما وعيت امي إلا قابعة في مطبخها , ولم ينته الى وعيّ أنه دار يوما في خلدها ان تقتدي بجاراتها او حتى ببعض بنات جاليتها , فتسعى او حتى تطالب في نشاط خارج دائرة العمل المنزليّ . قانعة راضية باقتفاء اثر امها وجدتها في الانصباب على تأمين حاجياتنا وكسب شوط السبق في اتقان الاطيب والاكثر تعقيدا من انواع الطعام . تحرص على تلبية طلبات كل فرد في الاسرة , لا تشكو ولا تتذمر ولا حتى يغريها ما حققته نسيبتها بهية من امتياز على زوجهافي الاونة الاخيرة . "سندي وتاج راسي ابو فيصل".

من جهتي ما طالبت يوما بالخروج الى العمل كمعظم زميلاتي . . . طلباتي الاساسية مؤمنة . تصطحبني الى السوق كلما دعت الحاجة . خروجي من البيت منظم مقنن , فما انا سجينة ولا في حل متروك لي الحبل على الغارب . قد اساهم في مساعدة اخوتي الصغار في بعض واجباتهم المدرسية , او اعمل "بابي ستر " لابناء خالتي عندما تدعوني الى ذلك ـ طبعا بدون مقابل ـ فالمقابل ما زال عيبا في قبيلتنا نّعف عنه ظاهريا حتى ولو تحلبت افواهنا شوقا لملامسته . قد اذهب مع بنات الاعمام او الاخوال لمشاهدة مسرحية او فيلم كثر الحديث عنه , ولكن بعد ان نعد لذلك اياما او حتى اسابيع ونقدم عرضا مفصلا "للجهات المختصة " عن الفيلم وموضوعه ومشاهده ومتى واين يعرض وكل التفاصيل المهمة وغير المهمة . لم يكن الامر ليزعجني فقد اسلمت له القيادة واستكنت هادئة البال , بعيدة عن وجع الراس . رضخت لكل اوامره , ما احسست غبنا ولا عنّ لي أنّ حالي خليقة بالشكوى . لا اذكر انني خدشت وصاياهم , وما جال بخاطري ابدا ان اتساءل وماذا لو اكلنا اللحم يوم الجمعة ! ! . . .

ثم دخلت حياتنا . . . جاء بها اخي الاكبر زميلة في الجامعة . هكذا بدون مقدمات ـ كما يفسرـ
ـ حصل الامر بعفوية تامة . ما دعوتها ولا حاجة . . . كنا في نقاش , سرقنا الحديث , ما حسينا ودرينا الا واحنا "كدام" الباب .
ـ وبدك ياني"اصدكك"! ! . . . وتدرس هندسة عمار كمان . . . مسترجله يعني . . . من "كلّة" ما حدا يردها . . . .هذي بنت فلتانه . . .

لا ! ! . . . لم تكن فلتانه . . . كانت ابنة عائلة محترمة متماسكة , نواتها اب وام واطفال , والاب هو راس عشيرته دون منازع . كانت واحدة منا , لها نفس لون جلدتنا وغزارة شعورنا حتى انها تتكلم لغتنا الام بطلاقة افضل من اي واحد منا . . . اذهلتنا جرأتها . . . صدمتنا . . . لو كانت شقراء الشعر زرقاء العينين لكان الامر اختلف . لو انها ممن يرطنون في كلامهم . . . لو أنها مولودة في هذه الحضارة . . . لو انها من عائلة مفككة . . . لو انها تعيش بعيدة متمردة على اوامر القبيلة . . . لو ان فيها شيئا من هذا , لاختلف الامر

أما ان تكون سمراء الجلدة , عسلية العينين , لم تات الى استراليا الا قبل سنوات لا تتعدى اصابع اليد الواحدة . . . ومن قرية لا تبعد سوى بضع مئات من الكيلومترات عن قريتنا , ففي الامر عجب . . .

تذهب الى الجامعة , تعود في ساعة متاخرة . اختصاصها مما هو مقصور في عرفنا على جنس الرجال . لها زملاء يزورونها وتزورهم في بيوتهم . . . فهذا مدهش وغريب ! ! . . .

. . . أعجب اخي الصغير بجدائلهاالكثيفة المضفورة إلى الوراء وبّعلآقة المفاتيح الزئبقية التى لا تفارق يدها . وكانت امي تطلق شهقات خافتة وهي تسمعها تناقش هؤلاء الشبان ـ ابنها ورفاقه ـ حقوق الشاذين جنسيا ومسالة الموت الرحيم . . . وكانت تعتريني دهشة وانا اراها تقارع هؤلاء الرجال , كل واحد يفصل منها ثلاثة فيعلو صوتها اصواتهم دون ان تحس ازاءهم باي دونية . تصر على رأيها تحارب لاثباته دون مواربة او مجاملة كاذبة .

وانتهت زيارتها ليبدأ شيء ما داخل حظيرتنا . بدأ منطق والدي يبدو لامنطقيا. فاسواره التي قضى ثلاثين عاما في استراليا يحصنها ويعلي مداميكها طاولها اهتزاز . . . صرت اتساءل عن سر خنوعي . . . اصبحت اكثر تبرما وتأففا . لماذا لا اكون مثلها ! ! ها هي متألقة كزنبقة حقل . واثقة لا يجفلها زميل ولا تقعدها الاقاويل . ما همها ما يدور في ذهن الاخرين عنها , خائضة في هذه المدنية حتى الثمالة دون ان تخدش انيابها الشرسة سوى القشرة المهترئة من أصالتها.

وما عادت الايام كسابقاتها. . .
قلت : اخرق بروتوكولهم وارفض اصطحاب الجوقة الى الكنيسة هذا الاحد , فثارت ثائرته . . . ورأيتني اكسر الشر واذهب , إلا ان ذهابي هذه المرة كان مختلفا . . .
أصّر اخي على عدم تناول الطعام الذي اعدته والدتي فعلا صراخه , وراح يشتمنا جملة وتفصيلا , تهيب الصغير وسكت على مضض بعد ان وشوشت هي في اذنه شيئا ما .

وتساءلت امي عن سبب قبوعها الدائم في البيت , فأرغى وازبد وكاد يصاب بذبحة قلبية , فاستكانت ولكنها اصبحت بعدها دائمة التذمر والتشكي . . . لم تعد ترتب غرفنا عن رضى بل صارت تطلب منا باصرار غاضب ان نقوم نحن بهذا العمل . . . اصبحت تنهرنا أذا ما طلبنا منها كوب ماء او كوب عصير .
كف "فيصل" عن الطلب إليّ أن أكوي له قمصانه , وصار يحضر سندويتشاته بنفسه كل صباح. . .
وضرب والدي كفا بكف وقال بصوت فجيعائي ناحب : " . . . عين صابتنا "

من مجموعة ". . . والابناء يضرسون"


مشاركة منتدى

  • هكذا تكرمون النصوص المبدعة في تجمعكم؟

    لماذا ركنت هذه القصة الراقية " عين صابتنا" إبداعاً واسلوباً الى آخر ما جاء في عددكم "الكريم". هل ان كل ما جاء قبلها افضل منها؟

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى