الخميس ١٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٠
بقلم مصطفى يعلى

بناء الصورة في الرواية الاستعمارية

صورة المغرب في الرواية الإسبانية [1]

هذا الكتاب للدكتور محمد أنقار، هو في الأصل أطروحة نوقشت بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، لنيل دكتوراه الدولة في الأدب العربي الحديث، سنة 1992، تحت إشراف الدكتور محمد السرغيني. لذلك فدقة الباحث الأكاديمي بادية عليه، وكذا الحرص الموضوعي الذي يطبعه جميعه.

والكتاب يتكون في خطته الكبرى من تقديم عام لموضوعه وملابساته، وثلاثة أبواب، اختص كل واحد منها بمفصل رئيس من مفاصل الأطروحة على هذا النحو: الباب الأول: مباحث الصورة، الباب الثاني: الصورة المختلة، الباب الثالث: نحو صورة متوازنة. كما توزع كل واحد من هذه الأبواب الثلاثة إلى فصول ثلاثة، درست في كل منها العناصر المكونة للمحاور البارزة في تكامل دقيق ومتماسك.
فقد اهتم الفصل الأول من الباب الأول ببحث الصورة الروائية من حيث الحدود العامة للمصطلح، وتنوع مفاهيمها لدى كبار المنظرين (جان مورو، بلاشير، أولمان، إيزر). وعالج الفصل الثاني صورة الآخر في النقد المقارن، من خلال مناقشة اجتهادات كل من (أسكولي، كاريه، فان تييجم، غويار، محمد غنيمي هلال، ريمون طحان، كمال أبو ديب، بيشوا، باجو، سعيد علوش، عبد الجليل الحجمري، عبد المنعم شحاتة، إدوار سعيد). في حين اقترب بنا الفصل الثالث من هذا الباب من موضوع الأطروحة ذاته، عبر عنوان " صورة المغرب في السرد الإسباني "، تلك الصورة التي ركزت على شخصية المسلم (المورو) السلبية غالبا.

وقد تمحور كل فصل من الفصول الثلاثة من الباب الثاني، على افتحاص إجرائي لجانب من الصورة المختلة لشخصية المغربي المسلم في عينات من الرواية الاستعمارية الإسبانية، بينما اهتمت فصول الباب الثالث والأخير، بالصورة المتوازنة التي أعادت بعض الاعتبار في إنصاف نسبي إلى هذه الشخصية المغبونة.
ولما كان مبحث الصورة الروائية بالمفهوم الجديد، على اعتبارها صورة أصيلة في هذا الجنس السردي وذات مكونات مخصوصة بها، وليست مستعارة من حقل الشعر؛ لا يزال غامضا لدى معظم الباحثين والنقاد في موضوع الصورة الروائية، فقد اضطر المؤلف في التقديم إلى تحديد أربع غايات لكتابه، هي:

  1. لفت النظر إلى الاهتمام أكثر بالصورة في حقل السرد وفي مقدمته الرواية تخصيصا.
  2. إضاءة أحد مسالك الأدب المقارن، بواسطة العمل على ترسيخ مبحث (صورة الآخر) في حقل النقد الأدبي تحديدا.
  3. استشراف الأساليب والرتب الجمالية التي حاكت بها الرواية الإسبانية صورة نوعية للمغرب المستعمر.
  4. كشف حالات الخلل والتوازن التخييليين الملازمين لصورة المغرب في الموروث الأدبي الإسباني، علما بأن كلا الشعبين المغربي والإسباني قد أسهما في بلورة جزء من ذاكرة كل منهما عن الآخر.

وفعلا، عندما نلج مجال الاشتغال على الصورة الروائية داخل الأطروحة، نجد المؤلف يتوقف عند مفهوم الصورة الروائية، فيتتبع مصطلح الصورة لغويا وجذوره الأجنبية (فرنسية، إسبانية)، وارتباطاته بحقول مختلفة، ليتفرغ لمناقشة معمقة للصورة الروائية كما حددها عدد من المنظرين (ف. مورو، س. أولمان، باشلار، ف. شكلوفسكي، م. باختين ، ف . إيزر إلخ...)، مجتهدا في استلال صورة مخصوصة بالرواية، مستندة إلى حدودها اللغوية والأدبية العامة، مع مراعاة مقتضيات الجنس الروائي وأصول البلاغة والتلقي؛ وليست نسخة طبق الأصل بكل مكوناتها من الصورة الشعرية التقليدية، بل هي تشكل لغوي منغرس في المتن الروائي، ومتميز بطابع تكويني مندمج في مجموع المكونات النصية والدلالية.

وبعد الاطمئنان إلى التحديد النسبي لمصطلح ومفهوم الصورة الروائية ولفت النظر إلى ما يميز الحدود بينها وبين الصورة الشعرية، انتقل المؤلف إلى بحث (صورة الآخر) في النقد المقارن، فعرض هذه الصورة وآراء عدد من كبار المقارنين العرب وغير العرب، المتراوحة بين تصوير الآداب القومية للبلاد والشعوب الأخرى (محمد غنيمي هلال)، وصورة القطر أو البلد في أدب غيره من البلدان (ريمون طحان)، والظاهرة الأدبية وشروط دراستها (كمال أبو ديب)، والفصل بين ما هو داخلي وما هو خارجي في الصورة (كلود بيشوا، بيير برونيل ، أندريه ميشيل روسو ). والصورلوجيا (دانييل هنري باجو ، سعيد علوش، عبد الجليل الحجمري)، وصورة الشرق من وجهة نظر أسطورية (عبد المنعم محمد شحاتة) والاستشراق (إدوار سعيد).

ولئن كان د. محمد أنقار قد توقف خلال عرضه لكل رأي من تلك الآراء للمقارنين العرب وغير العرب، ببعض التفصيل وكثير من العمق، فإنه لم يفته أن ينظر إليها جميعا بعين ناقدة، تمكنت من التنبه إلي مأخذ أساسي مرتبط بالموضوع المدروس. ذلك أن كل المقاربات التي وردت بها تلك الآراء، لم ترق إلى «تحويل مبحث «صورة الآخر» عن مساره المعهود نحو آفاق مغايرة. تحظى فيها الغاية الجمالية بكل عناية المقارن. وتغدو مقصدا أساسيا لا تحجبه أو تلغيه المقاصد المعرفية أو القومية أو الثقافية» [2].

والحقيقة، أن الباحث قد سلك خلال كل مراحل البحث وتفريعاته وتفاصيله، هذا النهج النقدي البناء، بحيث لا يفلت أي نقص أو سلبية دون أن يعريهما مما علق بهما من خطل، بغض النظر عن قيمة مجترحيهما العلمية، مع اقتراح البدائل باستمرار. تلك البدائل التي تنهض على مرتكز جوهري وأساسي، تحول إلى معيار نقدي جذري لدى الباحث، وإلى مفتاح مركزي للفهم والاستيعاب لدى القارئ، ألا وهو معيار (الغاية الجمالية)، الذي ينظر إلى الصورة الروائية باعتبارها أسلوبا لغويا تصويريا، ومن هنا ضرورة التعامل معها بتشريحها على ضوء مكونات جنس أدبي محدد هو الرواية، ومحكوم بالتفاعل مع موضوع معطى .

متسلحا بهذا الفهم، انتقل الباحث لمعالجة (صورة المغرب في السرد الإسباني)، أي الغاية الثالثة من أطروحته. حيث يربط بين المفهوم النظري للصورة كما حدد سابقا، وبين تجلياتها التطبيقية. فاستقصى (صورة المورو) في نصوص سردية ما قبل فرض الحماية على المغرب، كما تجلت في «قصص الرومانثيرو، القصص الموريسكي، الرواية الشطارية، قصة الأسير، ورواية دون كيخوطي لثربانطيس، يوميات شاهد على حرب إفريقيا لألركون، روايتا عيطة تطاوين، وكارلوس السادس في الرابضة لبينيطو بيرث غالدوس ). وقد استطاع الباحث أن يقدم عينات من صور المسلمين والعرب والمغاربة في السرد الإسباني ما قبل الحماية، منتهيا إلى أن (تباين الصيغ الأسلوبية لم يكد يفرز، على مستوى الثوابت الموضوعية إلا صورة مركزية وأساسية عن «المورو» من حيث هو عنصر أجنبي، وسيظل أجنبيا مهما صدر عنه من أفعال إيجابية. إنه «الآخر» الغريب عن الذات، والأسطورة المبهمة الرهيبة، القابعة «هناك» في أعماق اللاشعور الجمعي» [3]. علما بأن الصورة المركزية في تلك الأعمال، قد تباينت بتباين المضامين (في الحرب والسلم والحب والدين والسلوك والتجاوز)، مع حرص التفاصيل على الاحتراس من هذا الأجنبي، والنظر إليه بعين القدح واستثمار ملامحه في تكريس الثقافة العرقية، لولا بعض محاولات الإنصاف المحتشمة لهذا «الآخر» أحيانا نادرة.

ثم يتفرغ د. محمد أنقار لبحث غاية بحثه الرابعة (كشف حالات الخلل والتوازن التخييليين الملازمين لصورة المغرب في الموروث الأدبي الإسباني)، فيدرس الصورة المختلة المشوهة للإنسان المغربي، المهيمنة على عينات دالة من المتن الروائي الإسباني في فترة الحماية الاستعمارية على المنطقة الخليفية شمال المغرب، انطلاقا من موضوعات احترابية معينة: معركة أنوال (كلب رومي، لفيكتور ألبنيز)، الحرب الأهلية الإسبانية (صفارة البارود، وصبية بلباو، للويس أنطونيو دي فيغا)، الحب المستحيل (بعد خمس عشرة ثانية، لغوسطافو ديل باركو). لكن حس الموضوعية بوصفها شرطا أساسيا لمصداقية الباحث الأكاديمي، دفعت د. محمد أنقار إلى بذل مزيد من الجهد، من أجل استقصاء ما يمكن أن يخالف الصورة السلبية المبيتة في الروايات المدروسة في خانة (الصورة المختلة)، حيث اهتدى إلى ما يؤشر إلى وجود إرهاصات لـ (صورة متوازنة) للشخصية المغربية المعالجة في بعض النصوص الروائية الإسبانية في الفترة، وإن على ندرتها. وقد وجد بغيته في رواية (إيمان) لرامون خ. سندر، وفي الجزء الثاني من الثلاثية السيرية (مصهر متمرد)، لأرتورو باريا، وأخيرا في رواية (الحصن الخشبي) لخوسي دياث فرنانديث.

إن المؤلف في الفصول التطبيقية الثلاثة هذه، إنما ينمذج بنصوص روائية، يختبر عبرها مدى تماسك وفاعلية مفهوم الصورة الروائية، باعتباره معيارا نقديا يستقل عن حذلقات المناهج الحداثوية، ويستفيد منها في نفس الوقت. فقد تحول هذا المعيار عنده إلى بؤرة استقطاب لكل السمات الأسلوبية والبلاغية والبنيوية للرواية المدروسة، بعيدا عن التناول الإنشائي المهلهل الذي تعودنا على مواجهته كلما تعلق الأمر ببحث صورة موضوع ما.
وقبل الانتهاء من هذا العرض السريع التعريفي بالكتاب، نود أن نشير إلى أن د. محمد أنقار قد جعل من موضوع كتابه مشروع عمره. فمنذ حوالي عشرين عاما، أي منذ مناقشته لهذا البحث بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط،، وهو يشتغل على موضوعه تطويرا وتطبيقا وتدريسا. مما كان له أثره الواضح في تمهيد الطريق لعدد من الباحثين الشباب، الذين حضّروا رسائلهم أو أطاريحهم للحصول على أعلى الشهادات الجامعية، أو يشاركون بالنقاش الجدي المعمق للصورة الروائية في مختلف المحافل الثقافية (ندوات، أيام دراسية، مجلات، إصدارات إلخ...)، وتلك أسمى نتيجة وأهم إضافة يحققهما الباحث الحقيقي، عندما يجتمع الصدق والتواضع مع الموضوعية ونكران الذات.


[1تأليف: د. محمد أنقار، مكتبة الإدريسي للنشر والتوزيع، تطوان، 1994، عدد الصفحات: 264

[2ص. 67

[3ص. 104


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى