الأحد ٢٨ شباط (فبراير) ٢٠١٠
بقلم جوني منصور

تفتيت المفتت ومهمة التجميع

يمر العالم العربي خاصة ومنطقة الشرق الأوسط عامة في المرحلة الزمنية الأخيرة في أزمات ومآزق عصيبة للغاية غير خافية على أحد بالمرة. ولكل أزمة أو مأزق سبب أو مجموعة أسباب ، وهناك من يقف وراء هذه الأسباب. وحين نقوم بعملية فحص هذه الجوانب يتبين لنا أن اسرائيل أحد الواقفين من ورائها مجتمعة أو منفصلة، ولها يد مباشرة أو غير مباشرة. فالشرق الأوسط منذ أن وضع على الخارطة الاستعمارية منذ أكثر من مائتي سنة تقريبًا(ولنجعل الحملة الفرنسية بقيادة نابليون هي المنطلق)، يتعرض إلى التفتيت المتواصل، بالرغم من المحاولات الصادقة التي قام بها زعماء عدد كبير من البلاد العربية لتحرير بلادهم وأوطانهم وتحقيق الاستقلال، وتوحيد كلمة العرب. إلا أن مراجعة عميقة لمجموعة من الأحداث التي عصفت وما تزال بالمنطقة يتبين أنها من صناعة اسرائيلية مقصودة تهدف أول ما تهدف إلى تفتيت العالم العربي سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا وفكريًا، وتحويله إلى جزر متناثرة لا صلة بينها، وتصدير أزمات وصراعات دينية ومذهبية وسياسية وحدودية وغيرها لزج العالم العربي مجتمعًا في متاهات كثيرة يصعب في أعقابها التوصل إلى ما يمكن أن يوحد. أضف إلى أن عملية التفتيت هذه قد حققت نجاحات كبيرة في العراق حيث أنّ عراق اليوم ليس عراق الأمس ولن يكون كذا في الغد، تمزيق وطائفية وعشائرية وعائلية. والصومال يعاني التمزق بين مواطنيه، وقد أعيدت النعرة القبائلية بين سكانه، وأزمة دارفور تجثم ثقيلة على قلوب السودانيين والعرب أيضًا، ولبنان ليس بأحسن حال والمسألة اللبنانية واقفة على كف عفريت، كما يقولون، والحالة بين اليمن والحوثيين ودخول السعودية على الخط بمبادرة منها أو من الولايات المتحدة، قد استنفدت طاقات بشرية ومالية وعسكرية هائلة، والملف الايراني رابض في مركزية الشرق الأوسط. كل هذه الأمور والقضايا أو الملفات السياسية والعسكرية الساخنة قد جعلت حكومات البلاد العربية تغوص في همومها الداخلية أو هموم بقاء أنظمتها الرجعية والقمعية والدكتاتورية التي ترضى بها دول اوروبا والولايات المتحدة التي تتغنى بالدمقراطية. ويضاف إلى كل هذا المُفَتّت من الشرق الأوسط ومن قضايا داخلية، السعي الدؤوب لاسرائيل إلى خلق متواصل لمجموعة من القضايا التي تدفع بالعرب إلى مزيد من الغرق فيها. فقضية اغتيال المبحوح تُشغل العالم العربي أكثر مما تشغل اسرائيل التي قد يجوز أنها كانت من وراء العملية، وهذا الأمر ليس غريبًا عنها.

مقابل كل هذا الغرق والغوص والذوبان للقرار العربي أو للمبادرة العربية تتابع اسرائيل في تفعيل ضغط متواصل على الصعيد الاقليمي والعالمي في كل ما يتعلق بالملف النووي الايراني. اسرائيل تريد تسديد ضربة غلى ايران بأي ثمن، وتريد أن تقحم دولاً عربية فيها إضافة إلى شركاء اوروبيين والولايات المتحدة. وتنتظر وقوع اللحظة لتقوم بالعملية. في هذا المقطع بالذات نجحت اسرائيل في جعل الملف الايراني ملف "فوبيا" خليجية وعربية، بهدف زيادة تفتيت العالم العربي. صحيح أن لايران أجندة سياسية وتاريخية في علاقاتها مع الدول الخليجية، ولكن أن تصبح العدو الأول والأكثر خطرًا على هذه الدول وعلى دول عربية أخرى، ومنها مصر، فهذا غير المعقول بتاتًا! السعي الاسرائيلي هو تحويل ايران إلى الخطر الأكبر في الشرق الأوسط، وأنها ـ أي اسرائيل ـ هي داعية سلام وتسعى من اجل تحقيقه، وتعمل اسرائيل على إثبات حسن نواياها من خلال تمسكها بخيار السلام.

هذه الصورة القاتمة التي صدرتها اسرائيل إلى الدول العربية المحيطة بها والبعيدة عنها، وتنظيف ساحتها ولو جزئيًا من كونها شيطان الشرق الأوسط، قد دفع بالأنظمة العربية القائمة إلى تحقيق مزيد من سياسات القمع ضد كل من يتجرأ على رفع صوته مُنددًا باسرائيل، فأين المظاهرات المليونية في العالم العربي؟! غاب هذا المشهد منذ عدة سنوات.

أما على الصعيد الفلسطيني فحققت اسرائيل ما لم تكن تحلم به من قبل، فالاستيطان مستمر بكثافة أكبر من ذي قبل، والتضييق على الفلسطينيين آخذ بالزيادة يومًا بعد يوم، ونهب الأرض وتقليص الحيز الفلسطيني بات واضحًا، وتقييد حركة وتنقل الفلسطينيين وكأنه أمر مقبول ومرضي عنه بالشرعية الدولية، وتصدير أزمة الثقة الفلسطينية من خلال كشف عمليات فساد ورشاوى سياسية ومالية وأخلاقية لإشغال وإلهاء الفلسطينيين بمثل هذه القضايا وتصويرهم عالميًا بالسلبية ومحليًا بقلة الحياء، وبالتالي ترك المجال لاسرائيل لتلعب وحدها في الملعب السياسي، وكأنها منزهة عن الفساد والجريمة، ويلفها بياض ناصع للغاية. وكذلك تعمل اسرائيل من خلال مؤسساتها على إضعاف فلسطينيي الداخل من خلال تنشيط العنف وتوسيع دائرته وخلق أجواء من الرعب الداخلي والتوتر السائد في المجتمع العربي الفلسطيني. هذا من جهة، ومن جهة أخرى تشريع مجموعة من القوانين العنصرية بامتياز للحد من حقوق الفلسطينيين في الداخل وحرمانهم من المواطنة وتنغيص حياتهم يوميا. وبات واضحا أكثر من قبل أن اسرائيل لا تريد السلام مع مواطنيها العرب الفلسطينيين في الداخل، كما أنها لا تريد السلام مع الفلسطينيين. ما تريده اسرائيل هو تحقيق المشروع الصهيوني الساعي إلى إقامة دولة يهودية إثنية صرفة. معنى ذلك مزيد من تفريغ فلسطين والسيطرة على الأرض الفلسطينية بكل الطرق والوسائل.

إزاء هذه الحالة من الضعف والترهل العربي، وتفتيت المفتت، وإزاء غياب الصوت العربي الصارخ والمطالب بالحرية والحقوق الإنسانية والدولية، يقف الإنسان مشدوهًا متعجبًا، ما الذي يجرى لهذه الأمّة؟ أليست بحاجة إلى ما يجمعها ويعيد بناء ذاتها وشخصيتها المستهدفة؟ أما آن الأوان لإعادة ترتيب أوراق البيت العربي أخلاقيًا واجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا؟ باعتقادنا أن الوقت قد حان لإعادة تجميع البيت العربي بكافة مركباته، والعمل على تمكينه وصيانته وتحصينه. ولتحقيق هذه الغاية السامية لا بد من حركة قومية ثورية في كافة أرجاء الوطن العربي تعيد الكرامة إلى الوجه والذات العربية، وتُبقي القضية الفلسطينية حيّة بعيدًا عن مزاودات سياسية ومصالح ذاتية ضيقة الأفق.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى