الأربعاء ١ حزيران (يونيو) ٢٠٠٥
بقلم سليمان نزال

مناجاة أيام..

كبرتَ قليلا يا أخى.. كبرت َ يا "حمدان" فى رابع منافيك، وما هرمت رؤاك.. خطوطُ الطول والعرض تتقاطعُ مثل خناجر الغزاة ِ فى كفيكَ.. على ظهرك تشعُّ كدمات الوقت المكلوم.. ومن الوراء ومن الأمام تحيطك الذكريات.. وأنتَ تكبر بالتزامن مع حياة زيتونةٍ فى البيت القديم، تبصرها فى صحوك و تبصرها ما بين الصحو و الجمر.. ولا تنام.. تختار أضلاعك دائرة العصيان، لتنهض، تكملها فى وثبات.. ولا تنسى..

فتياً كان الوقت فى خلاياك.. وكنتَ تحضر دروس الأيام تحت شجرة التوت، وتقرأ فى الأوراق والأغصان حكمة الراحلين.. كان والدك يعتمد عليك أكثر من أخوتك وأخيه فى قراءة "الكواشين"، تعلمت اللغات كى تقرأ حقوقك سطراً سطراً، وفواصل انتساب واتصال.. يبتسم أبوك "أبو صالح"، بعد كلِّ قراءة، يلمعُ وسامُ التجمل فوق صدره، وهو يستعيد صهيلَ المواسم فى جملة التوق والفقدان، تستمع له فى التماهي، تتلفت النظرات صوبَ براعم تتفتح فى الجوار.. تبتسم أنت أيضا.. وتجمع الإبتسامات إلى حصيلة ما حفظت فى جوارير الأسى.. شاباً كنت يا صديقى.. وكانت الأحلام عرائس تخطر و تتجول فى باحات التمنى، وكنت ترى الحزنَ فى عيونها.. فتراهن على موعد قريب.. يأتى..

وتتذكر أول "سفرة" من مخيم إلى مخيم.. حين حملك والدك "أبو صالح ديرواي" خلفه على "الموتورسيكل" القديم، وعبرَ بكَ الدروب الفرعية والسرية كى تتدربَ على الرجولة بالسلاح..

كان يستعجل الزجَّ بكَ فى مناطق التكوين الثائرة.. وكنتَ سعيداً.. وكان "أبو صالح" يسرع على غير عادته وهو من تروى حوله النوادر فى قيادتة البطيئة جداً لدراجته النارية التى يستعملها، كبائع متجول، فى تجارة القماش بين القرى والمخيمات.. لم تكن خائفا. كنت تستقبل الهواء برئتى التلهف، تشعر أنه يداعب خصلات أحلامك على الطريق المؤدى لرفقة الأشبال..

لم تكن تتوقع ما حدث وأنتما فى الشارع:- حتى فى الدروب الصغيرة يطاردوننا يا حمدان.. قال جملته وهو يشير إلى الحاجز العدائي.. وقد أبصره من على مسافة كافية..

 سألته بقلق: ماذا ستفعل يا أبى؟

أجابك بلهجة صقرية: - لا تخف يا بنى.. لى مسالكى.. سأتوارى خلف هذه الشاحنة.. ثم أعود أدراجى إلى المخيم..

 وأنا يا أبى

 تنزل الآن.. وخلفَ البساتين ستجدهم..

  سأجدهم يا أبى.
 
 ينتظرونك..

كانت كل الطرقات فى كف أبيك واضحة. وجدتَ ثغرةً فى الشريك الشائك، تسللتَ بسرعة.. وصلتَ بأمان.. إلتحقتَ بهم يا حمدان..

وبقيتَ فى معسكر التدريب كل شهور صيف ذاك العام وصيف العام الذى تلاه.. كنت تعود فى الإجازات القصيرة، فيقذفك "أبو صالح" برزمة من صفحات الذاكرة.. بعد أن يخرجها من علبة خشبية.

كبرتَ قليلا يا أخى.. وإنتقلت عائلتك كى تعيشَ فى المخيم الآخر.. تعلمتَ مهنة تصليح السيارات "الميكانيك" وصرتَ معلماً فى مهنتك.. وإقتسمَ إخوتك حالةَ الإنتساب بين فصيلين.. كنت أنتَ مع فصيل أبيك فى قوات "المليشيا". كنتَ مع أهل المخيمات، تحرسون الجرحَ المصيرى من هجماتِ الأعداء..

وخرجتَ قبل الحصار بعشرة أيام.. ذهبتَ للعمل فى دولة عربية.. وبقيتَ هناك فى التنظيم.. وظلَّ أبو صالح فى المخيم، يتاجر نهاراً ويحرس الأحلام ليلاً.. لم يفقد وريقة من سنديان جموحه النبيل..

حين سقطَ المخيم.. وتوالى قدوم الأخبار الحزينة.. شعرتَ أن العالم تقلَّص بحجم جرة فخار.. وأردتَ أن تركله بلهيب أحزانك.. وحين جاءَ النبأ الصاعقُ وعلمتَ أن أبا صالح والدك الحبيب، أستشهد وهو على رأس مجموعة قتالية.. تأزَّرتَ بالصبر الذى إختلط مع الدموع.. وتوجهت مع أقربائك إلى "المكتب" لتستفسرَ عن أحوال كل الناس فى المخيم.. وكأنك ذهبت لتستقبلَ المزيد من الصدمات والحروق فى صدرك.. بكيتَ وتماسكتَ، صرخت وتحملتَ.. أحسستَ بالفخر. وأحسستَ بالمرارة.. شريطٌ نارى يحرقُ المسافةَ بين الأيام.. كلُّ شىء يتجمدُ الآن فى الخلايا.. محمد ويوسف الصغير يستشهدان وصالح ينجو بأعجوبة من الموت و يخرج من الحصار.. وأبو صالح ديرواى يستشهد، بعد إصابة أحد الأشبال فى مجموعته.. يرفض تركه لمصيره.. يحاول أن يعالجه.. يحمله على كتفه، ينزف، تصطدم المجموعة بكمين للفاشست.. يستشهد أبو صالح مقاتلاً نبيلاً..

كبرتَ فى منفى.. تتذكر الشهيد محمد والشهيد يوسف، تتذكر كلَّ الشهداء، تتذكر مخيمات "برج الشمالى" و "الرشيدية" و"البص" و "عين الحلوة" و "شاتيلا" و "صبرا" و "برج البراجنة" و "البدواى" و "نهر البارد".. تتذكر "تل الزعتر" الشهيد. تبصر دراجة أبو صالح النارية.. تصعد.. تجتاز الموانع..

تسمع هديرها، هاهى تعبر بكَ فى دروب.. ليس يعرف الأعداء أسرار خطواتها..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى