الجمعة ١٩ آذار (مارس) ٢٠١٠
عودة «العطيلي»
بقلم جوني منصور

من برج البراجنة إلى وادي النسناس

«العطيلي»، رواية من تأليف نبيل أبو حمد. وهو فنان وأديب (كاتب قصة قصيرة) ورسام كاريكاتير، لبناني الأب وفلسطيني الأم. روايته هذه تختصر الزمان والمكان لتضعهما في قارب واحد يستقله القارئ عبر شريط سينمائي يحكي مأساة الفلسطيني الحالم بالعودة إلى أرضه ووطنه، متخلصًا من ذل ذوي القربى. أبو حمد رسام أيضًا، خاصة الكاريكاتير وله لوحات ليتوغرافية متعددة. نظّم عدة معارض في لندن وباريس وبيروت. وصدرت له مجموعات قصص قصيرة وقصيرة جدًّا، منها:«عبق نساء، عرق رجال» (1995)، «الضرب على العصب» (1999)، «اللصوص» (2007)، وأعمال فنية أخرى. ويعمل على إنتاج مسلسل لأفلام دمى متحركة، ويدير صالة عرض للوحات تشكيلية في لندن.

كان قرار «العطيلي» بالعودة إلى وادي النسناس نتيجة حياة المعاناة التي تعرّض لها في مخيم برج البراجنة أثناء مكوثه فيه قرابة سنتين بعد نكبة شعبه الفلسطيني من العام 1948. و«العطيلي»هو العم رضوان بطل الرواية وعنوانها وهي من تأليف نبيل أبو حمد.

كان رضوان وهو ابن وادي النسناس بحيفا يعيش في هذا الحي العربي الصامد مع زوجته آمنة وابنته خالدة، إلى أن حدث في احد الأيام أن توقف الباص الذي كان يقل الركاب في شارع الجبل لتنزل منه آمنة محملة بأغراض البيت، إلا أن سائق الباص انطلق من جديد فما كان من آمنة إلا أن سقطت وارتطم رأسها بعامود ففج وماتت للتو. أما العم رضوان فكانت مصيبته سابقة لتلك التي وقعت لزوجته، حيث أنه كان يعمل في احد محاجر حيفا القريب من حي الهادار لقطع حجارة البناء لإتمام تشييد الحي اليهودي. واشرف عليه مهندس مصري والمهندس الأكبر حاييم اليهودي. وعمل معه مجموعة من العمال الحوارنة(القادمين من جبل حوران، وكانوا ماهرين في قطع الحجارة).

وفي أحد الأيام فلتت عربة القطار الذي كان ينقل الحجارة من الوادي واصطدمت برضوان فسقط للحال وعلقت رجلاه تحت عجلات العربة الحديدية فبترتا، فأصبح مقعدًا. وصنع له حاييم عربة رومبيلات «رولمان» مساعدة منه لرضوان ليعود إلى ممارسة شيء من حياته العادية. ووفر له حاييم بعض المال لتسيير أموره ريثما يُخطط لمستقبله في ظل حالته الجسدية الجديدة. بينما المهندس المصري لاذ بالفرار واختفت آثاره. واقترح حاييم على رضوان أن يمتهن الاستجداء فلا عيب في ذلك، فاليهود شعب اعتاد على الشحاذة طيلة عمره، على حد قول حاييم. واقتنع رضوان بما اقترحه حاييم بعد مسيرة طويلة من حساب الذات. وأخذ يُودِع الأموال التي يجنيها من الشحذة لدى حاييم لأنه ائتمنه كثيرًا.

ولما وقعت أحداث حيفا وازدادت وتيرة اعتداءات اليهود على الأحياء العربية في المدينة وانتشرت أنباء القتل والتنكيل بالجثث من قبل عناصر عصابات الهاغاناه والارغون، قرر رضوان مغادرة حيفا ريثما تهدأ الأحوال. حاول حاييم الذي كان يطل عليه بين الفينة والأخرى ثنيه عن هذا القرار من منطلق أن اليهود يحبون العيش مع العرب، إلا أن رضوان توجس شرًّا من هذا الكلام. فما وجد نفسه هو وخالدة ابنته إلا وهما يستقلان مركبًا نحو عكا ومنها إلى لبنان حيث وصلا إلى برج البراجنة الذي أعِدَّ كمخيم للاجئين الفلسطينيين. ولما صحا رضوان تذكر بيته في وادي النسناس وماله لدى حاييم. وضاقت الحياة بهما فبدأ بالتسول في ساحة البرج أسوة بعدد كبير من المتسولين هناك وباعة العلكة للارتزاق. وازدادت صعوبة الحياة من معاملة بعض اللبنانيين للفلسطينيين والتضييق عليهم، بالإضافة إلى ظهور الصحوة لدى عدد من الفلسطينيين بضرورة ايجاد الحلول المناسبة.

وبعد تفكير جاد استولى على كل من رضوان وابنته خالدة طلب منها أن تستدعي أبو ارتين الارمني جارهما ليساعدهما في العودة إلى حيفا والتخلص من ذل المخيم في برج البراجنة. وكان أبو ارتين هذا يعمل لدى هيئة الأمم المتحدة ولديه أساليبه وطرقه في تهريب الناس كمتسللين(هكذا عُرّفوا) إلى فلسطين مقابل مبلغ من المال لا يُستهان به. واتفقوا على تنفيذ الخطة.

وتم نقل رضوان وخالدة من بيروت إلى عين ابل ورميش في الجنوب اللبناني ومنها عبر طرق وعرية سيرًا على الأقدام بمساعدة رجال ذي علاقات مع أبي ارتين إلى سعسع ومنها إلى فراضة فالرامة ثم كفرياسيف وأخيرًا إلى حيفا. ولما اخترقت الشاحنة التي كان تقلهما شارع الجبل وعرجت يسارًا نحو وادي النسناس"بدأ قلب رضوان يضرب بصخب أكثر وكذلك خالدة حيث بدأت تشعر بتسارع خفقات صدرها، وتتحسس حرارة خديها كلما اقتربت الشاحنة مترا صوب منزلهما، إلى أن أطلت العمارة عليهما، فلهج رضوان كالعاشق الملهوف لرؤية حبيبته، ثم طلب من أبي ارتين أن يوقف الشاحنة بملاصقة شبابيك الشقة،... فوقعت أنظارهما على بعض قطع العفش التي كانت لهما، فشهقا وسالت من عيونهم نظرات الحنان كأنها تمسح سطح هذه القطع بحب قديم إلى أن اصطدم نظرهما بامرأة بدينة ذات شعر أشقر وعينين زرقاوين تبحلقان باستغراب بهم من الداخل، كأنها تستفهم بشراسة عن الأمر. فما كان من أبي ارتين إلا أن كلمها بالانكليزية المبسطة بأن هذين الشخصين هما صاحبا البيت، وأنهما غادرا منذ سنتين، فما كان من هذه المرأة إلا أن اشتعلت بغضبها وصدح صوت من حنجرتها كأنه الزعيق: ليذهبا إلى الجحيم، إنه ليس بيتهما بعد اليوم". ولما سمعا هذا الجواب تذكرا أن لهما منزل خالة خالدة في الطيرة المجاورة لحيفا. فوصلا إلى هناك واستقبلهما سامح ابن خالة خالدة وهو يعمل ميكانيكيا أمام داره حيث يصلح سيارات اليهود، دون أن يتنازل عن حقه في الدفاع عن ملكه ووطنه فاحتفظ بمسدس بارابيلو لحالة الطوارئ وانتظم في حركة سرية جمعت معذبي الأرض من كافة الجنسيات بما فيهم اليهود والعرب.

وبالرغم من النقاش الحاد في البداية بين سامح ورضوان إلا أنهما في النهاية اتفقا على شيء واحد وهو ضرورة الاستمرار في الحياة. فاقترح سامح على العم رضوان أن يتخلص من مهنة الشحذة ويساعده في الكراج خاصة بما له علاقة بتصليح السيارات من أسفلها لقدرته على القيام بذلك جراء وضعه الجسدي. أما خالدة فاقترح عليها أن تعود إلى الخياطة لتسنرزق منها وان تُحدث تغييرًا على منظرها وهندامها، وهذا الكلام لم يرق للعم رضوان "العطيلي"، ولا لخالدة في البداية.

وتفاهم رضوان مع ابنته ليلاً بأنه بات من الضروري زيارة حاييم واخذ المال الذي ادخره عنده قبل الرحيل. وفعلاً، تَوَجّها في الغد إلى بيت حاييم ووجداه يسبح مع زوجته شولا في مسبح بناه مُلحقًا لبيته، فاستقبلهما حاييم ورحب بهما، أما زوجته فقالت ما الذي سنفعله برضوان؟ لقد استثمرنا ماله في بناء الملحق بدلاً من أخذ قرض بنكي ودفع فوائده. فاقترح حاييم أن يعيد إليه ماله بالتقسيط شهريًا لمدة عشرين عامًا كما كان سيفعل مع القرض البنكي فيما لو حصل عليه. فحاييم رجل مبدئي وصاحب ضمير ويرفض التفريط بالأمانة والصداقة!! وأقنعته شولا قائلة: «أي لا يموت الغنم ولا يموت الراعي». فأجابها رضوان مُصححًا: «أي لا يموت الذب ولا يموت الغنم. يعني يا ست شولا سنظل نشحذ مدى العمر». أما حاييم فأراد أن يُلطّف الأجواء فتدخل قائلا:«لا. لا. يا رضوان، الأخذ منا ليس شحاذة، إنه استرجاع أموالك ولكن على مهل». هنا أيقن العم رضوان بأنه سيظل مربوطًا إلى حاييم وزوجته مدى العمر وبكثير من الذل، لأن هذه المرّة حاييم ليس صديقًا فقط، بل هو صديق عدو ومُنتصر.

ورضي رضوان بهذه الحالة ريثما تنجلي وتنقشع الغيوم ويرى ما سيفعله، ولما جاء موعد أخذ القسط الأول في الشهر التالي، «نظر رضوان إلى بيت حاييم وشولا وقال في نفسه: هذا البناء الذي يعيشان فيه هو في الحقيقة يجب أن يكون عقار العم رضوان. فحزّت هذه الأفكار في نفسية رضوان وأشعرته بغصة كبيرة، لأن أمواله ذهبت لعائلة حاييم وهو الآن يستجديها جنيها جنيها».

وفي الشهر الذي يليه توجه رضوان إلى منزل حاييم لأخذ القسط من ماله، وبرفقته خالدة ابنته، والتي ما أن دخلت إلى البيت حتى إستهواها رؤية الملحق والمسبح لتخرج وتتفحصه، أما رضوان فبقي في الصالون يرقب عودة شولا من المطبخ حاملة صينية عليها كأسين من البارد وهي لوحدها فآستهوته نفسه وحاول مغازلتها فرفضت وصفعته بالصينية وطردته مع ابنته. وحاول في اليوم التالي استعطاف حاييم إلا أن حاييم استغلها فرصة ليتخلص من رضوان ومن التزامه تجاهه، موجهًا إليه كل أنواع الإهانات. وحاول رضوان توضيح موقفه إلا أن حاييم وزوجته من وراءه تحثه على رفض التنازل لصالح رضوان، فما كان من رضوان إلا أن استل مسدس سامح الذي لفه تحت إبطه وأطلق عدة عيارات نارية على حاييم وزوجنه شولا، فأصابهما بجروح في جسديهما، إلى أن وصلت الشرطة واعتقلته مع خالدة وزجتهما في السجن بتهمة قيامهما بعملية إرهابية. وبعدها أُفرج عن خالدة بعد اعتراف رضوان بمسئوليته لوحده عن عمله وامتلاكه المسدس دون علاقة لسامح به. فحُكم على رضوان بالسجن أما سامح وخالدة فوجدا طريق الزواج لتوثيق العلاقة بينهما وبناء عائلة جديدة قوية ومتينة على أرضهما بالرغم من كل محاولات التضييق والملاحقات.

هذه الرواية محاولة استعادة حيفا فعليًا، بالرغم من كل المنع والحواجز التي فرضتها وتفرضها اسرائيل على الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم. وأكدت الشرعية الدولية هذا الحق في قرار رقم 194 الذي يعرف بـ«حق العودة». وهو بهذا يصف لنا جهاد عائلة العم رضوان في سبيل العيش بكرامة في أرض الوطن، ثم فشل هذا المشروع بحدث النكبة، وحاول رضوان أن يعيش في لبنان فجار عليه ذوي القربى، فقرر العودة متخطيًا كل ما يمكن أن يعترض طريقه، فكان همه العودة إلى حبيبته «حيفا».

هذه الرواية هي صلب القضية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى