الاثنين ٧ حزيران (يونيو) ٢٠١٠
بقلم سهيلة سبتي

تجليات الخطاب الديني

في الرواية العربية الأنثوية

في البدء كانت الكلمة معلنة عن رصيد من الكلمات تتحول عبر الزمن إلى فسيفساء رواية تترجم لغة القرن العشرين التي تمظهرت في لغة المرأة المتنقلة من طقوس الحكي و السرد الليلي إلى روعة الإبداع و التأليف النهاري، من السكون إلى الحركة، من الخمول إلى التأمل، من الطمأنينة الكاذبة إلى القلق الفكري المتوقد. فلم تعد المرأة ذلك الكائن الضعيف و البائس الذي يسلم بكل ما يقدم و يقدر له لأنها عوملت كأنثى فحسب. بل تحولت إلى أنثى / امرأة تتأمل كل ما يحيط بها و تتفاعل معه، و لتبلغ – في نظرنا – أعلى درجات الوعي الذي تتحصن به فيكسبها قدرة على الكتابة والإبداع. فاكتسحت ميدان الرواية و أنتجت فغيرت فخلقت أنماطا فنية جديدة من الكتابة و التعبير، و تطرقت إلى مواضيع لم يسبق لها الخوض في غمارها و لا حتى التفكير فيها.

إن أهم ما يميز مضامين تلك الروايات هو احتواؤها لما يعرف بـ: المسكوت عنه، أي أنها اخترقت الطابو المحرم عليها و على الرجل على حد السواء فولجت متاهة السياسة و أغوار الجنس و غياهب الدين.

يتحدد الخطاب الديني داخل الروايات الأنثوية العربية المعاصرة بإطار إشكالى مميز تدور في نطاقه إيديولوجيا الحركات التحررية النسوية الغربية، و بالتالي ينبغي أن يفهم على أنه يشكل ركيزة أساسية ضمن جملة المعايير التي تقوم عليها تلك الحركات، و بالتالي فهو يشكل بؤرة مركزية مميزة داخل النسق الروائي المعاصر، إضافة إلى أنه يشكل محورا أساسيا بغية الوصول إلى معنى جملة القضايا التي تثار ضمن تلك المتون الروائية أو إيديولوجيا الأنوثة السائدة هناك.

ينبنى النص السردي الأنثوي على مجموعة من الخطابات البارزة كالخطاب الثقافي و التاريخي والسياسي، بيد أن الخطاب الديني يحظى بالنزر القليل أمام تلك الخطابات، فالروائية العربية لم تول اهتماما كبيرا بهذا الخطاب على خلاف الرجل/الروائي ذلك أن " الروائي و المبدع في آن واحد، تجاوز الأطر الدوغمائية، ورسم لنفسه حدود المعرفة الدينية المتجاوزة لمثل هذه المعاير و المقاييس، محاولا في الوقت نفسه إنتاج مفهومه للدين، نابعا من واقعه التاريخي إضافة إلى تجربته الذاتية."
(1) بينما الروائية المبدعة بقيت أسيرة هذه الأطر التي تتناولها بمفاهيم مغلوطة، ذلك أن هذه المفاهيم قد انبنت لديها من خلال التعايش مع الأعراف الاجتماعية التي حلت محل الدين – أي الأحكام الفقهية التشريعية – فضلت التجربة الدينية لديها مقتصرة داخل هذا الحيز الضيق و المغلوط، وبالتالي قد ترسخ لديها الوعي بأن القيام بتجربة دينية جديدة لا يكون إلا بتحطيم تلك القيود وتجاوزها إلى الفكر التحرري الجديد المنجلي من منابع الحركة النسوية الغربية بالدرجة الأولى والعربية بالدرجة الثانية.

و بهذا تسعى المرأة / الروائية إلى أن تتحدى الأحكام الدينية القائمة – و نقصد هنا الأحكام العرفية وليست الفقهية – و تكسر قوانينها و تشريعاتها لتؤسس لها دينا جديدا خاصا بها، تشرع فيه لتشريعاتها الأنثوية و تقيم من خلاله طقوسها الدينية الجديدة و تتمرد عبره على قوانين الدين والعرف و المجتمع بغية بناء الذات و تأسيس امبراطورية الأنوثة ترسخ من خلالها إيديولوجيات جديدة وفق ترانيم لغوية مغايرة. و من هنا يجوز لنا طرح الإشكال التالي:

كيف تجلى الخطاب الديني داخل المتون السردية الأنثوية ؟

بمعنى: كيف كرست الروائية العربية الخطاب الديني كآلية من آليات التمرد و التغيير ؟؟

الخطاب الديني / التقويض و المجابهة:

بعد أن امتدت تيارات الحركة النسوية الغربية إلى بقاع الوطن العربي، فقد أينعت ثمارها ونضجت، و انتقلت المرأة العربية من عالم الحجاب و الحريم إلى العالم الخارجي الحقيقي الذي كان بالنسبة لها مجرد حلم و نسج خيال، واستيقظ البركان النائم داخل المرأة من سباته بعد خمول، وبدأت المرأة بالتململ ثم الحركة ثم الفعل لتحقق الوجود الأنثوي داخل الحقل الاجتماعي عن طريق الكتابة و الإبداع.

إن تحقيق الوجود الأنثوي داخل مجتمع يقوم على نظام بطرياركي منذ آلاف السنين لأمر صعب إن لم نقل مستحيل، بيد أن الأنثى قد حملت القلم و تخطت الألم و سعت مكابرة و مثابرة إلى تقويض الأعراف السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و الدينية السائدة، ذلك أن هته الأعراف هي نتاج بطرياركي قح، أسسها الرجل و رسخها بغية خدمة أغراضه و ميولاته. ولقد تظافر الديني و السياسي و توحدا معا بغية إضفاء الصفة الشرعية لهذا النظام و تدعيمه، وحين انتفضت الأنثى لتفكك قيودها فلقد توجب عليها أن تتحرر من الأغلال الدينية – السياسية حتى تتمكن من إثبات وجودها كذات و كينونة، و لقد ركزنا على ثنائية الدين / السياسة لأنها ثنائية متكاملة، فالدين يرتمي في أحضان السياسة بغية تأسيس نظام شمولي (*)، و السياسة تستعين بالدين لتستمد منه شرعية وجودها و قيامها و حين يتلاقى ثالوث: الذكورة/الدين/السياسة تقع الأنثى ضحية للاستلاب، و بالتالي فقد ارتبط تجلي الدين كخطاب لمحاولة تقويض النظام السياسي و هدم الأسس الاجتماعية / الدينية القائمة و هو ما تجلى في رواية "نوال السعداوي" " موت الرجل الوحيد على الأرض".

ينجلي الخطاب الديني في هذه الرواية كقناع للخطاب السياسي الذي يندمج فيه و تكشف الكاتبة من خلاله رياء المجتمع الذي يتمظهر بالتدين الكاذب الذي يتوقف عند حدود الشكل الخارجي: "ينهض و السبحة تتراقص بين أصابعه: سبحانه... سبحانه... سبحانه... ارتدى الجبة و القفطان و العمامة و هو يسبح، ثم سار بجسده النحيل المقوس الظاهر ناحية الباب".(2) ذلك أن الدين في العرف السائد هو التسبيح و لبس القميص و إطالة اللحية، هذا هو الدين، و هذا سلوك المتدين بامتياز الذي يحتمي برياء دينه (**) ليكرس تعاليم المجتمع البطرياركي القائمة على استلاب المرأة، و بالتالي فقد استعين بقناع الدين لتكريس هذا الاستلاب: "زوجة الشيخ حمزاوي كما قال لأبيها قبل الزواج ليست كالزوجات الأخريات. إنه الرجل القائم على الدين و الأخلاق، رجل التقوى و الصلاح في كفر الطين، و زوجة هذا الرجل لا يصلح أن يراها أحد و لا يظهر من جسمها للأقرباء المقربين إلا الوجه و الكفان: تعيش معززة مكرمة في بيته لا ترى الشارع إلا مرتين، مرة حين تخرج من بيت أبيها، و المرة الثانية حين تخرج من بيت زوجها إلى مقبرتها" (3) فهنا تظهر المرأة –كذات و كيان – مجرد عورة و عبئ على المجتمع وبالتالي تحال من عالم الحياة والوجود التي لا تساهم فعاليتها إلى عالم الدين و الممارسات العقدية (كالصلاة و التسبيح) و التي لا تجيدها أيضا بحكم أنها تمثل: العورة و الضعف و العجز. و بما أن كل ضعيف عاجز يحتاج إلى قوي فاعل فقد تحولت الأنثى إلى ملكية خاصة لـ: "الشيخ حمزاوي" رجل الدين الذي سيحتفظ بها في بيته حتى تحمل في نعشها إلى القبر الثاني الأبدي.

تتوافق ثنائية الرجل/الدين إلى حد التطابق، فالشيخ "حمزاوي" رجل الدين الأول في القرية الذي يحظى بهيبة و احترام أهل القرية بدءا بالعمدة إلى غاية الطفل الصغير، و هو الرجل الذي يصطف و راءه كل الرجال وقت الصلاة، فيطيل الخطبة و الركوع و السجود حتى يستمتع بسلطة الأنا و تبعية الآخر و خضوعه. هنا يتوافق الرجل مع الدين حين يستمد منه السلطة و الهيبة، وبهذا تبقى العلاقة بينهما قائمة مادام الغرض محقق و المنفعة منجزة، و بما أنا السلطة قد كرست قوتها لرجل الدين فقد اتحدت به و تحول رجل السلطة إلى إله يمثل في شخص العمدة بعينيه الزرقاوين: "إنما هو وجه الله ذاته"(4) فتمازجت الهيبة الإلهية بالقوة السلطوية لتجسد الظلم و البطش والفساد، فالعمدة هو الرجل الأول و الوحيد على أرض كفر الطين، وهو ممثل الحكومة بيده الحل و الربط و هو مالك أغلب الأراضي بفلاحيها و ماشيتها و حتى نسائها، خاصة الفتيات الصغيرات اللواتي يتمتعن بالسذاجة و الجهل. إن العمدة هو الوجه الحقيقي للحكومة المستبدة التي تمعن في قمع الشعب و تخويفه و تجويعه فكريا حتى تضمن سطوتها و استبدادها. و لإضفاء صفة الشرعية على أعمالها فإنها تستعين بغطاء ديني يكمن في شخصية: "الشيخ حمزاوي" الذي يدعم الفساد والانحلال الأخلاقي حين يسعى إلى إحضار فتيات القرية إلى بيت العمدة بدعوى القيام بأعمال المنزل بينما يعدهن لإسعاد العمدة. و هكذا تتالت الضحايا كنفيسة التي ماتت بعد الولادة وزينب التي اعتقدت أنها حين تسلم جسدها للعمدة فإنها تسلمه لله.

ينطوي هذا التكاثف الديني - السياسي على خطاب مهيمن تسعى الكاتبة إلى تقويضه عبر فضح هذه الازدواجية التمويهية إبداع مفهوم جديد لله و السلطة عن طريق القتل: قتل العمدة/السلطة /الله: "ما إن اقترب منها حتى رأى ذراعها الطويلة ترتفع في الهواء و في نهايتها الفأس. قبل أن يسقط الفأس فوق رأسه ليهشمه، كان قد رأى عينيها و فقد الوعي من شدة الذعر."(5) لقد تم القتل و الإقصاء من طرف المرأة التي أصبحت تتمتع بوعي جديد يفضح الخطاب السلفي التمويهي و يفتح آفاق جديدة لتأسيس خطاب ديني مغاير يراعى ثنائية الذكورة/ الأنوثة لا ازدواجية الذكورة/السلطة.

II- الخطاب الديني / الوعي الجديد:

بعد أن نهضت المرأة العربية المبدعة بوعيها الجديد، كان سعيها إلى تمزيق الأطر الصلبة للمركزية الدينية التي تتسم بضيق الأفق، و إلى القضاء على وحدانية بعدها في فهمها للأدب والفن والحياة. و قد كان السبيل إلى ذلك عن طريق إبداع نصوص روائية مثخنة بإيديولوجيا الأنثوية.

يتمتع الخطاب الديني بحضور نسبي داخل هذه التجربة الروائية، و شكل رؤى اقتصادية وسياسية و اجتماعية و ثقافية. غير أن تشكل الرؤية الدينية لدى أغلب الروائيات العربيات قد تحددت بسياق مثاقفة متفاعلة - و فاعلة نوعا ما - مع المفاهيم الفكرية و الفلسفية المستوردة في علب مغلفة باسم: الحركة النسوية الغربية. فكانت المحاولات لتجسيد هذا الوعي الجديد من خلال تحويل المفاهيم السائدة و خلق مفاهيم مغايرة تكشف فعل الوجود الإنساني القلق بدءا بمفهوم "الله" إلى مفهوم الوجود و الكينونة. فالله لفظا و معنى هو:" في معظم الحالات صرخة المضطهدين، و الله في مجتمع يخرج من الخرافة هو العلم، و في مجتمع آخر يخرج من التخلف هو التقدم. فإذا كان الله هو ما يقيم أودنا و أساس وجودنا و يحفظنا فهو [...] الإرادة و الحرية. وإذا كان الله ما نلجأ إليه حين الضرر، و ما نستعيذ به من الشر فهو القوة و العتاد و الاستعداد، كل إنسان و كل جماعة تسقط من احتياجاتها عليه، و يمكن التعرف على تاريخ احتياجات البشر بتتبع معاني الله على مختلف العصور" (6) هذا هو حال الإنسان على مر العصور بيد أن أغلب الروائيات العربيات قد تخلين في مسيرتهن التحررية عن الله و فق هذه المفاهيم، و أسسن مفهوما جديدا لله ألا و هو:

الله = الإنسان/الكينونة

و الإنسان لا يكون إلا إذا اشتمل الحرية و الإرادة و القوة، هنا تكمن الألوهية التي تتعانق مع الكينونة الإنسانية و هو ما نادت به الروائية المغربية "خناثة بنونة" في روايتها: "الغد و الغضب" "قذفت برأيي: إنني أرفض هذا الإله... هذا الذي يقبل الرياء. فخرجت عن صمتها: / و هل تعتقدين حتما أن الإله هكذا ؟!. - و كيف أعتقته... هكذا عثرت عليه." (7) تطلق الكتابة هنا صرختها حين ترفض رفضا صريحا و قاطعا إله أبيها و عائلتها و صديقتها سلمى، و ينطوي هذا الرفض على فوضى الإيديولوجيا و تشتت الذات الأنثوية داخل مجتمع يتبنى الرياء بامتياز، و لهذه كان لزاما عليها أن تؤسس إلاهها الخاص و دينها الخاص لتبحر عبره إلى قضايا الوجود و الحياة، فتتيه البطلة في غياهب الفكر اللامحدود بعيدا عن الدين و المجتمع، لترسخ الحضور القوي و الوحيد للأنا الأنثوية من خلال النظر إلى الحياة بعيون البطلة "هدى" حين تطرح آراءها الذاتية و تصوراتها الخاصة، فتكشف الواقع و تفضحه، و تنقد و توجه خاصة حين تعري المركزية الدينية المرتبطة بأحكام الفقه المتزمت - حسب رأيتها - الذي ينحصر في الوعظ و الإرشاد دون السعي إلى الارتباط بالعلوم و مواكبة تحديات العصر و هو ما تجلى في حوار البطلة مع الإيمان: "هذا إمام كبقية الأئمة و ماذا يعرف إمام مسجد أن يقول؟ [...] كان يبدأ في اتخاذ دوره. الوعظ والإرشاد بشكل منحط، و لكني لم أكن مسجدا و لا مصلين، فقاطعته: ماذا تستطيع أن تقول لي عن الأديان... عن الإيمان بالغيب في عصر التحديات المادية؟ لكن الأئمة يصلون مع مصلين معينين، أما أن يحاوروا الفكر فغالبا لا [...] / ماذا يستطيع الدين في عصر العلم؟ (8) تمثل في شخصية الإمام التيارات الدينية السلفية التي تتشبث بالمركزية الفقهية التراثية المتقوقعة في براثن الماضي الصالح، فجاء الخطاب الديني مرصعا بمصطلحات صارمة و جازمة:" عليك اللعنة/كافرة/أعوذ بالله" (9). لقد انحصر الخطاب الديني الآني عند حدود التكفير و التسبيح و لم يسع إلى مواكبة علوم العصر، و خاصة علوم الإنسان كالفكر و الفلسفة اللذين يحققان الوجود الحقيقي للإنسان، و بهذا فإن:

الدين = العجز و العقم.

و هنا تجدر الإشارة إلى أن المقصود ليس الدين كتعاليم و تشريعات، بل ممثل هذا الدين الذي يكمن في شخص الإمام الذي تدينه الكاتبه باسم كل من يعيش عصر التطور و العولمة: "تكتلت جهود كثيرين... كل أولئك الذين سرقت منهم وسيلة حركتهم، ليفجروا المسرحية عن إدانة الإمام... الشيخ الحمداوي نفسه!."(10)

إن إدانة الإمام هي إدانة للخطاب الديني المعاصر الذي يتسم بالعجز و اللافعالية في عصر صراع الحضارات و تقاتلها و ما كان للمبدعة إلا أن تطلق استغاثتها: "يا أصوات الدين انفضوا الغبار عن حناجركم." (11)

فهل من مجيب ؟؟

الخطاب الديني / آليات التجديد و منطق المسالمة:

اعتمدت الروائية العربية على الخطاب الديني كآداة لتغيير منطلقاته و تجديد آلياته (***)، و كما سبق و ذكرنا فقد زاوجت بينه و بين الخطاب الإيديو-سياسي و السوسيو-ثقافي، و لم تكتف المبدعة بهذا فقط، بل سعت إلى إحداث زلزلة في عالم اللغة إذ يتكاثف الخطاب الديني العرفي مع السلطة الذكورية لتكبيل المرأة و تحديد وظائفها و دورها في الوجود و المجتمع، و لأجل هذا فقد احتمت المرأة بالكتابة التي تأخذ بعدا سلطويا ضد الدين و الموروث و الثابت و بالتالي كانت الدعوة إلى القيام بثورة لغوية و تخطي المألوف و نقده مع السعي الحثيث إلى التجديد المتواصل لأن: "التجديد لا يحدث من المؤسسة بل من أفراد يخرجون منها و عليها، و المؤسسة لا تؤهلهم لهذا الخروج بل إنها تعرض معارضتها لهم، و الخروج ليس سوى وعي شقي طامح لما هو أبعد وأرقى، ولكن على أكتاف المؤسساتي العرفي."(12)

تسعى المرأة إذن إلى التجديد و التغيير، فبيد أن هذا التغيير لا يمس الدين في حد ذاته، بل هي ترفض الأحكام الدينية المكبلة بالأعراف الاجتماعية و تهاجم أشكال الممارسات الدينية الخاضعة للوصاية البطرياركية، بمعنى آخر: تتصالح الروائية العربية مع الدين الذي ترى فيه مرتعا للأمان والاستقرار النفسي فتصرح بطلة "ذاكرة الجسد" و تعلن: "كيف تسمي الدين رواسب، إنه قناعة، و هو ككل قناعاتنا قضية لا تخصنا سوانا... لا تصدق المظاهر أبدا في هذه القضايا. الإيمان كالحب عاطفة سرية نعيشها وحدنا في خلوتنا الدائمة إلى أنفسنا. إنها طمأنينتنا السرية، درعنا السرية.. و هروبنا السري إلى العمق لتجديد بطرياتنا عند الحاجة."(13)

تحتمي الشخصية البطلة "حياة" بفكرة الدين الذي حورت آلياته عن طريق التشدق بألفاظ مغايرة و متمايزة و ينجلي ذلك حين تربط الإيمان بالحب، و الطقوس الدينية بالخلوة الدائمة والطمأنينة السرية. يترادف عند "حياة"/"أحلام" الدين بالطمأنينة الذاتية لا بالاعتماد على آلية رد الظواهر إلى مبدأ واحد، و هي بهذا تسعى إلى تأسيس فكر جديد عبر لغة جديدة لأن: "التجديد عن طريق اللغة ليس عملا/شكليا بل هو عمل يمس المضمون في إعطائه أكبر قدر ممكن من القدرة على التعبير والكشف عن كل إمكانياته."(14)

و مقابل السعي لتأسيس لغة جديدة، نجد معاداة واضحة ومعلنة للتراث القومي و الأفكار السائدة: "أما الذين يبدوا عليهم فائض من الإيمان فهم غالبا ما يكونون قد أفرغوا أنفسهم من الداخل ليعرضوا كل إيمانهم في الواجهة لأسباب لا علاقة لا بالله."(15) نشهد هنا قطيعة ثقافية -معرفية مع التيار السلفي الأصولي الذي يتشبث بفتات الماضي و شذرات التراث الإسلامي و التي تتمثل في: اللباس و اللسان (أي اللبس القصير و التسبيح الجهري). هنا تحاول المبدعة أن تخلق مفهوما جديدا للتدين ألا وهو تدين الروح و النفس لا تدين المظهر الخارجي، و قد استوحت المؤلفة هذه الأفكار من الحركة النسوية الغربية، ذلك أن تلك الحركة تتبنى الدين كقيمة لإعلاء ذات المرأة و ترسيخ وجودها دون أن يكون عائقا أمام حريتها و مانعا لتحقيق كينونتها. وفي حال ما كان عائقا – أي الدين – حينها يمكن التخلي عنه و تأسيس دين جديد يتسم بالذاتية و الحرية.

الخاتمة:

حظي الخطاب الديني في الرواية العربية الأنثوية بحضور نسبي، ذلك أنه ارتبط بمختلف الخطابات ولم يتأسس كخطاب قائم بذاته، إذ أنه كان أداة ضمن جملة الأدوات التي سخرتها المرأة لتكسير القيود و الحواجز الوهمية المسيجة بالطابو، و أولى هذه الحواجز هو الدين اعتقادا منها أنه العقبة الأساسية، بيد أن الروائية العربية قد عجزت وفق هذه المغالطات الفكرية التي تتبناها كقناعات عن تأويل الخطاب الديني إلى إيديولوجيا مع أن هذا هو هدفها الأساسي و بقيت إيديولوجيا الأنوثة هي المهيمنة على أغلب تلك الروايات، أي أن الروائية العربية كانت و مازالت تتمتع بعلاقة مضطربة مع الدين فجاء الخطاب الديني لديها إما مبتورا أو مغلوطا. و في رأيينا الخاص يتوجب على الروائيات العربيات أن يفهمن الدين كخطاب و تشريعات فهما صحيحا لأنه هو مرتع الأمان و الحرية لا الحركات التحررية الغربية.

التهميش:

(1) عبد الوهاب بوشليحة: إشكالية الدين- السياسة – الجنس في الرواية المغاربية (1970م-190م)، أطروحة دكتوراه، جامعة عنابة 2003-2004. ص 47.

(*) مثال: الخلافة الإسلامية: نظام سياسي قام بفضل ظهور الدين الجديد- أي الإسلام في شبه الجزيرة العربية.

(2) نوال السعداوي: موت الرجل الوحيد على الأرض، دار الآداب، بيروت، ط6، 1999م. ص:48.

(**) هنا ينطوي مفهوم الدين حول الحكام التشريعية المستمدة من أعراف المجتمع الذكوري و ليست الأحكام الفقهية الأصلية.

(3) المصدر نفسه. ص: 49.

(4) المصدر نفسه. ص: 164.

(5) المصدر نفسه. ص: 206.

(6) حسن حنفي: التراث و التجديد: موقفنا من التراث القديم، المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع، لبنان، ط5، 2002م. ص: 113.

(7) خناثة بنونة: الغد و الغضب، منشورات وزارة الثقافة، (د.ط)، 2006م. ص: 150.

(8) المصدر نفسه. ص: 233/234.

(9) المصدر نفسه. ص: 234.

(10) المصدر نفسه. ص: 252.

(11) المصدر نفسه. ص: 233.

(***) اعتمدنا على التحديدات التي وضعها "نصر حامد أبو زيد" في كتابه: "الخطاب الديني: زؤية نقدية..، دار المنتخب العربي، بيروت، ط1، 1992م". و هي خمس آليات: آلية التوحيد بين الفكر و الدين، آلية رد الظواهر إلى مبدأ واحد، آلية الاعتماد على سلطة السلف، آلية اليقين الذهني و الحسم الفكري، آلية إهدار البعد التاريخي. أما المنطلقات فهما اثنتين: إهدار السياق التاريخي: مبدأ الحاكمية، إهدار السياق الثقافي: النص الديني و تفسيره.

(12) عبد الله محمد الغذامي: حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية، المركز الثقافي العربي، بيروت- الدار البيضاء، ط3، 2005م. ص:85.

(13) أحلام مستغانمي: ذاكرة الجسد، منشورات أحلام مستغانمي، ط22، 2007م. ص: 240.

(14) حسن حنفي: التراث و التجديد: موقفنا من التراث القديم. م. س. ص:111/112.

(15) أحلام مستغانمي: ذاكرة الجسد، م. س. ص: 240.

في الرواية العربية الأنثوية

تنويه من الأستاذة عائشة التركي

دراسة جادة تناولت موضوعا أولته الروائية العربية اهتماما وهو علاقة المرأة عموما والمرأة الروائية بالخطاب الديني السائد بما هو إحدى أدوات الضغط التي تُواجه بها المرأة وتقف حجرة عثرة في طريق تأكيد ذاتها أمام نفسها وفي المجتمع وتعرّضها للاستلاب.

اعتمدت سهيلة السبتي على نماذج روائية من فترات تاريخية مختلفة نوال سعداوي وأحلام المستغانمي....ومن دول عربية مختلفة :مصر، الجزائر، المغرب وهي بذلك تبرهن على ما تتعرض له المرأة قديما وحديثا في العالم العربي من تحديات تصرّ هي على الوقوف في وجهها


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى