الأربعاء ١٤ تموز (يوليو) ٢٠١٠
بقلم رشا السرميطي

أين أجد أبي.. لقد فقدته !

بريد الحزن

تحية ألم و بكاء،

أنا عيدي لم يكتمل، والشمس انكسرت في قاع محيط أحلامي ..

أرخى الليل ستائره مستسلماً للقضاء، حتى النورس هاجر أعشاشه منتحباً بعد استحالة البقاء ..

لقد سكن البحر أمامي، وانطفئ النور في عينيه المتجعدتين، حين توقف نبضه، حاسماً للحظة المرجوَّة، قُضيت درب التيه، وهُزمت روحه في العراك مع تلك الأنابيب الملونة، الموصولة بجسده العليل، جهاز الإحتضار يذيع معزوفة الترقب بهلع، بعد نفاذ الصَّبر، وانتهاء انتظارنا لساعاتٍ قليلةٍ تفوق السنين طولاً، وتتعالى على وخز الشوك آهاتٍ ترثينا، صبغ السواد دفاتري، وغطَّى البياض كلماتي بحبر الأسى، متحرِّشاً بموج همساتي.

ها أنا مرة أخرى أرتعش، وفؤادي ثمل بالوجع السدين، وحيدة بين قصاصات الورق المبعثر، على هامش عمرٍ باهتٍ يرويه القلم عازفاً، لحن الرضا، على ذمَّة الفرح القادم، وحده الموت يسرق الروح من ثنايا الجسد، كأنه حلم!

أكتب إليك يا عزيزي، والدمع لم يزل يتموَّج دافئاً في مآقي الحداد، من غسق يقتحم سكون الليل البارد، ويبدّل السواد السَّاكن، بفجرٍ ربما تشرق فيه أمانينا، والعباد تسعى للرِّزق مستبشرة، فالحمد ذكراً حاضراً فينا، أحتضن آخر صورة أجهضت إطار الورد، والمقل تبرق رعداً يواسي مطر الفجيعة، كالبرق، وكفارس الشرق رحل، ممتطياً تجلد المغتربين في الدنيا، بعد ثمانية وستين عاماً، ها قد وصل الأجل، واستلَّ أبتي من بيننا، لقد ذهب مصطحباً أجمل ما لديّ، ليوثق التاريخ ساعة بؤس أخرى في كراستي الخاسرة، فكل الذين أحببتهم، رحلوا، وخلفوني وحيدة- إما أن أكون أو لا أكون !

وصلت روحي عند المغيب، بعد أن قطعت شوطاً من رحلة العذاب تحت الغيم، أحبو بين الأنين والأمل، وأقفز عن الحواجز العسكرية التي بترت أجنحة الحلم، بسراب حقيقة آنية، تخطَّيت كل المخاطر كي أصل أبي، ومضيت في بحر الحياة، أبحث عن ضفة يرسو فيها أنين القلم، على وتر السطور العرجاء، عثرت على نفسي مجدداً بلا قارب ينجيني، في الجوف بركان لم يقذف أيَّ كلمة بعد، والشفاه حبلى صبراً يعاضد الصَّمت بكتمان على ما يكاد ينهينا.

لا أدري، والآهـ موقوتة في سطري، وشفاهي تغتسل من نبع قهري السَّاكن، لم يبقى سوى ألمي والغضب متأهب في صدري، أوقد النيران داخل مدن حزني، فجيعة أحرقت نصِّي، بل صرخة لطفلة يُتمت؛ فأين والدي الذي أحببته؟

طرح الماضي قسوته، والحاضر يبكينا، ذهب بعد أن أودعني بين فكيَّ الدنيا، يمضغني الخوف، ويطحن عزيمتي التيه، كي يبتلعني الظلام في حلكة ليلٍ أتوَّحد فيه والآتي.
الخامس من نيسان، والساعة الخامسة والنصف، يوم الاثنين، وذاك الغروب المقيت، من نفس العام ألفين وعشرة، كلها أشباح زرعت الرُّعب حولي، فاستوطن الخوف أحشائي، بينما كنت عنواناً للقوة، ومثالاً تحتذي فيه النساء بقدرة اصطبارهنّ على مجابهة البلاء، قدر فرَّق الشَّمل، وأصاب العذاب أسرتي، فتبدلت.

ودَّعنا بضعفٍ أصاب الجسد، والعرق تصبب تائهاً، ليتدفق ضجيج هدوئي، بين أنفاسٍ متأوِّهة، بالكاد تأخذها الرئتان، والقرآن الكريم ما فارق شفاهي، رحمة فيه يا رب، لا شيء سوى الأنين، وعبرات حرَّى تحرق أجمل أيام العمر، وتسلخ آمال السبعة والعشرين عاماً حائرةً، قدر يتلو الآخر، ومصاب يتَّحد بوابل يمتحن الثبات فينا، فهل هناك بقيِّة مستقبل ينتظرنا، في محطة فرح يا سندي الضائع؟

الساعات تمضي، ووحده الإيمان فقط يواسينا، كصفحات كتاب ضيعهُ التاريخ، بلا غلاف يؤبِّد ملكية ماسية البوح نزفاً من مآسينا، صدع زلزل الجبلين في نابلس، جرزيم وعيبال، اللذَينِ أُصيبا بحمى وجع الإدمان، لدخانٍ لم يفارقه أبي حتى خسرته؛ وفقدناه جميعاً.

متى قد تعزف الطير أغانينا؟ وأغصان الليَّمون تتمايل بعبير الياسمين مزهرة، كلي حنين لوميض أمل لا يلغينا، بل، ومتى يبتهج الزَّهر ندياً فوق الجبين، في حديقة غرسنا المروية بعرق أيدينا؟ أخبرني يا والدي، متى لن نلتقي حلماً بعد اليوم، والأقلام تحكينا؟

آخ، ومآذن الجوامع تعليها، وجميع المصلين تشهد إعدام أماسينا، اختاره القضاء فرحل في ذمِّة الله، ألف سؤال يهطل فوق أوراقي الباكية في لحظة من التيه بين الموت والحياة - قضيتان محض إبهام البشر- لم أعثر فيهما إلا لذكريات كانت على عجل، أطياف لجدتي، زائرة الحلم، وجدي الذي لا أعرفه، وصراخ كل يتيم شاركني مرَّ اللَّحظة، وذاك الرجل الذي بشرَّني بنهاية سطري، عيناه الحمراء أمامي، كأنني غادرت عالمنا الحقيقيّ .. يتردد على مسامعي ما أخبرني ليلة أمس:

كوني قوية كما عرفتك، هكذا قال: إياك أن تأوي للضعف سريراً ..

لن يغف جفن أميرة النِّساء،

بل شعور بالرِّضا على حسن القضاء،

أمي، وأخي الأوحد، حتى أخواتي،

وجميع الأحبة حولي،

لن تعوِّضني عن قبلة كانت توضع فوق جبيني من ثغر عشقته.

أين أجد أبي؟

يا قسوة البلاء .. لقد فقدته!

تلك الملامح التي أحمل نصفها، العين كحيلة لسمرة رجل شرقيٍّ يفيض حناناً، لكنَّ البنيتان لم تعد تعرفني والشعر أشعث، بدله الدَّهر برجل ما عاد يذكرني، أنياب مرضه مغروزة في فؤادي، والنبض بالكاد يتدفق، كلما رأيته؛ ظل لرجل حين يكلمني، ألف خنجر في صدري يطعنني، وأبجدية صوته لم تعد تفهمني، أكرِّر محاولاتي وأصغي إليه كي أدرك غايته، دون جدوى لقد رحل. اختار زمناً غير زمني، والألم يعتصرني حبراً يواسي حرماني؛ فأين أجده؟

ذاك الطفل الذي يروي الماضي بأدق تفاصيل الحزن والفرح، ألماً يُسمعني، شاب يقص عليَّ رواية لم أعاصر أبطالها؛ أباً ينكرني، لا البيت أصبح يرضيه، ولا الواقع يتقبله؛ كأنَّه يعلم اقتراب ميقاته!

تلك اللفافات المحترقة بين إصبعيه تزيد القرح في جرحي، هي عزاء المدخنين عند تشييع جثمان أمانيّهم المصلوبة على محطات الإحتضار، يحرقون أجمل أيام العمر في شهقة عميقة، تغلي فيها الآهات، وتضطرب معلنة حالة من الذعر الأسود، يحتل الرئتين كإسرائيل لا يهزم، ذاك النيكوتين الخارق هزم الشعوب، وأوجد لنفسه حق اللجوء في أنامل كل عاجز، لا يستطيع النهوض مجدداً بعد نكسته. يتبعها الزَّفير متقطعاً، بل مكبوتاً يعلن السلام على وتر الحلم الممزَّق، كلما رأيتها تحترق في أيدي المدَّخنين، أذكر تسلل النيكوتين إلى دم والدي رغبة في سيجارة، ظناً منه أن الرَّماد بعد الاحتراق يعيد الحطب، فيرتسم الدُّخان على مرآي، ضحكات ساخرة من فحم جسدي المشتعل غيظاً، بنصر حققه عليّ، فأردى والدي ميتاً.

آه تراقص آه، والمنفضة سئمت تلك السّموم، الزَّهايمر وصل مرضاً يزيد الهموم، زفراتٌ هزمتني في تلك اللحظة؛ واحتقاري للتّبغ يزداد كفراً، يسرق كنز حياتي ببطء، ويا سوء حظي! فالصحوة متأخرة، والإقلاع مستحيل، لأنَّ المركب تعطلَّ، والرُّبان ثمل لا يقوى النَّجاة. يقولون، للموت سكرات نعانيها عندما تبلغ الروح الحلقوم، لكنِّي أموت وأحيا بأمل الشِّفاء، في ظل صمتٍ موحشٍ يحطّم هذا السكون، ليهز عباءة الورد هزَّاً، فتمطر النَّدى شقياً تعثَّر على خدي، في لحظة توقف بها جهاز الأوكسجين، وانقطع النفس الأخير.

أتساءل، من أين يأتي هذا الدَّمع للإنسان، ومن أين ينبع الألم في الوجدان؟
كيف لجسدي تحمّل ما كان؟ أنَّى لشيء يمحو هذا المشهد من أمامي - كان عزيزًا عليّ أن أراه هشيماً من بقايا مهترئة، بعد أن عشت عمري أراه شامخًا كالجبل الذي نتكئ عليه جميعًا، ينطفئ ألمي ببسمته المتلألئة، وبريق مقلتيه، كان يتفقدني بعطف حتَّى أنسى أنه هو، ربما لأنَّه كان أول من حملني زهرة غضّة بين يديه، بعد أمي، لا أذكره جيداً.. لكنِّي أحاول إبصار تلك القصص التيِ روتها أفواههم عنه.

بين تردُّدٍ ويقين، وقعتْ فرحتي في شرك دموعي، وانهمر الألم على وجنتيّ، أمسح بقايا حلمي المسروق من أحقادهم، بأن نكون معاً أملاً بنصر الحروب، وفك قيد الفلسطينين، نحو فجر يفخر بحريِّة القدس. وصل القدر أخيراً محطة فراقنا، ليفاجئني بعناء نيسان، كفاح الفلاح بأرض يابسة، كصلاة لأجل المطر، جسد أوحد ما اعتاد النِّصف مقترناً، هذه أنا؛ صحوة للذات بيقين انتهى!

روح والدي تصعد إلى السَّماء، وأنا لم أزل أبحث عن سطر يقوى ثقل الكلمات الغارقة بوجعي، ومعاني الأسى أزهرت على ضفتيّ ورق النهايات، زهراً أسوداً، لقد نضج الوجع مثمراً، وآن قطاف أسطر الملّمات، باقة من شجن الحكايات بين يديّ، أمام جسده المكسو ببياض الكفن، جميعنا حوله في اللحظة الأخيرة.

بمزيدٍ من الدمع والأسى، يخط القلم سطراً جديداً من فيض حسرتي، البقاء لله يا غصَّة نفسي، ومن يدري! ماذا تخبئ الأقدار وعلم الغيب، رحمة الله عليك يا أبتي.

بريد الحزن

صالة العرض


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى