الاثنين ١ آب (أغسطس) ٢٠٠٥
بقلم أسماء صالح الزهراني

مجددا حول (فقه الفوضى) لحامد بن عقيل

أحب أن أحتفل هنا بهذا القلم النقدى القادم بقوة، قلم الأستاذ حامد بن عقيل، وأعترف أننى قبل أن يصلنى الكتاب كنت واقعة تحت تأثير المقولة المعروفة بأن الناقد شاعر سيء، مع قلبها وافتراض أن الشاعر ناقد سيء، هذا مع كونى عرضة للاتهامين معا كما الزميل حامد!!

وقد يكون قول الزميل فيصل الرويس فى تعليق عابر على الكتاب على الشبكة:
"وأعتقد أن الشعر ليس فى الرواية, بل فى وجدان حامد بن عقيل, وهنا أتشاءم من القراءة, أخاف أن أكون ضحية قراءة منشور عاطفى يتعاطف مع شخصيات الرواية؛ ويعمل على تذويب مشاعر الكاتب فى تأويلاته النقدية.

عندها ستكون زيف نقدى., أو مشروع كتاب فلسفى اجتماعى تقريرى، أو حركة ثقافية ترهق النص الأساسى. وتضغط عليه كمشروع تزاوج مبنى على الإكراه. اعتقد أن الكاتب وضع نفسه على المحك بإستشهدات وإحالات تتطاير من خلال العروض التقديمية للكتاب؟! "
قد يكون هذا هو ما كان يؤطر توقعاتى للكتاب..

حتى وصلنى، فقرأت فيه ما يثلج الصدر:
قلم نقدى متكيء على حاسة نقدية قوية، تنساق مع النص، وتتفاعل معه دونما إخلال بالعلاقة المتوازنة بين القاريء والنص، القائمة على احترام استقلال كل منهما. وقد اشتغلت القراءة على نظريات نقدية حديثة بالنسبة للمشرق العربى، إذا أخذنا بالاعتبار تقدم النقد النظرى فى المغرب العربى وسبقه لكل جديد.. صنف الناقد قراءته فى حدود النقد التأويلى، ثم استعان بمباديء نظريات القراءة، وبالتحديد نظرية ستانلى فش حول أسلوبية التأثير..

وبغض النظر عن بعض ملاحظ على العرض التقديمى المجزوء والمرتبك فى بعض مواضعه _ مع العلم أن نسختى هى الأقدم، بمعنى احتمال تصويب العرض فى النسخة الأخرى _ أجد الكاتب يبرع كثيرا حين ينطلق على سجيته فى تحليل دلالى دقيق وجميل ومفتوح باتجاه الأجمل.

ومن أجمل ما لاحظت وهو يشير فى الوقت نفسه إلى قوة الحاسة النقدية عند الكاتب، أن التطبيق يسفر عن فهم دقيق للنظرية المشتغل عليها: وهى فى الاطار نظرية ستانلى فش، القائمة على عاملى: اللغة والزمن الكتابى والقرائى، وبطريقة تكشف عن استيعاب قوى عميق للنظرية، ويكشف هذا عن أن التطبيق أفصح عن قدرات الناقد من العرض النظرى.. وهذا ما يجعلنى أهيب بالأستاذ حامد بان يفسح المجال أمام قلمه للكتابة مباشرة حول / مع / داخل / بين النصوص، دون الانشغال كثيرا بالتنظير.. ولا أعنى بالطبع إفلات المنهج، إنما إمساك العصى من المنتصف، التخفيف من العروض النظرية الجافة.. والتركيز على إعمال المنهج فى التطبيق.. وما حدث فى فقه الفوضى أن العرض النظرى لم يكن بمستوى التطبيق المدهش من وجهة نظرى، فقد انشغل الناقد بعرض نظرى أقحم فيه أكثر من نظرية لا تخدم التطبيق، مما أخل بالعرض، وكان يمكنه الاقتصار على النظريتين المشتغل ضمنهما: أعنى نظريتى فش، وايكو.. وعدم تركهما مائعتين وسط مصطلح عمومى يجمع مناهج القراءة كلها تحت ملفوظ مختزل (نظريات القراءة ) أو (مناهج القراءة)، يحجب حقيقة تنوع مناهج القراءة العريقة فى النقد الغربى: السيميائى والبنيوى والتفكيكى والأسلوبى... الخ، والتى تداخلت مع مختلف مناهج النقد منذ استقلالها بالمصطلح قبل أكثر من ثلاثين عاما، واستقلت فروع كبيرة منها بمنظورات مختلفة.. كما عند ايكو مثلا..

انطلاق قلم حامد بن عقيل فى الجانب التطبيقى من كتابه جعلنى أحلم بنشاط نقدى مواز لفقه الفوضى، ينزل الى الساحة، ويخرج من نطاق العمل النظرى المقيد للنقد، لا سيما وأن كثيرا من نقادنا الشباب لا زالوا مقيدين أقلامهم بحمى التنظير.. والحوم حول حمى المصطلحات دون الوقوع فى استعمالها.. مما ينتج كثيرا من صور النقد الأعرج، المحتمى بفخامة اللغة دون الخوض فى معامع النصوص..

وجدت نفسى بعد قراءة الكتاب وقد تحطمت كل توقعاتى المسبقة، ووقعت فيما يسميه التأويليون تصادم الافاق (مع استبدال مصطلح الانصهار)، ذلك أن واقع القراءة ألغى التوقع المسبق فى اصطدام غاضب، غيرة للناقد المظلوم داخل كثير من الأدباء النقاد، وكثير منهم كان له بصماته فى تاريخ النقد قديمه وحديثه..

من وقفاتى على الكتاب ما يتعلق بلغته، اللغة فى فقه الفوضى لغة نقدية متوازنة، تحترم الجانب التواصلى كما لا تصادر الجانب الجمالى حين تصف لغة النص وجمالياته.. لغة تشير بقدر ما ترمز _عرضت للغة النص النقدى فى مقال يتيم نشر منقوصا فى جريدة اليوم / عدد يوم الخميس 12 ربيع الثانى الماضى.

بقى أن أشيد بنص الرواية، التى كانت الدافع الأصل لقراءة بهذا الجمال، وهى رواية _بالنظر لما أثير حولها_ ظلمت كثيرا وهضم حقها من التقدير. رواية تقوم على التكثيف والاختزال لبنية فكرية معقدة، تتضمن داخلها تراكبات من البنى: المجتمع / الوطن / الأمة / العالم /: ومفتوحة باتجاه أكبر قدر من القراءات كما كل عمل أدبى جميل.

حقيقة: كنت أتوقع أن تكون القراءة موظفة باعتساف التنظير لصالح الرواية، بالنظر إلى حجم الرواية الصغير، وهو أمر يدخل تحت ما أسميته فى حوار آخر فتنة النظرية، لكنى وجدت الرواية مكتوبة باحتراف، والدلالات الجميلة التى أبحرنا معها فى القراءة المقدمة هنا مقصودة من قبل الروائية الجميلة ليلى، ومنثورة فى كل زاوية من زوايا روايتها، بل لقد وجدتنى وأنا أتجاوز عالم فقه الفوضى لأكتشف عوالم أخرى فى فضاء النص الصغير، ولم يكن صغره الا علامة على مهارة التكثيف والاختزال على مستوى السرد لا اللغة وحدها.

ويقودنا هذا الحديث لنقطة منهجية مهمة فى فقه الفوضى: كون الناقد اعتمد منهج إيكو / وهو منهج يعنى بفكرة القصدية: قصدية الكاتب، قصدية القاريء، وحتى قصدية النص المتضمنة فى عمل لغته باستقلال عن نوايا كاتبه.. وفى هذا الاطار استخدم الناقد شواهد من كلام المؤلفة، فى انسجام مع سيميائية ايكو التى يتوخى فيها احترام حياة الكاتب فى نصه.. هذا مع ملاحظة وجود بعض الشواهد زائدة ومقحمة على موقعها التى وظفت فيه..

وهنا أعود لأؤكد أن الرواية بمقصدية كاتبتها المعروضة عبر لغتها وتقنياتها السردية تدعم القراءة، والدلالات التى خرجت بها.. مما يؤكد انسجام بنية القراءة، وهو شرط أساس مهم للحكم على نجاح أى عمل نقدى، أعنى ما يشير اليه النقاد تحت مصطلح (التآلف).. وهو مصطلح اعتنى به على الخصوص نقاد مناهج القراءة، الذين عدوا بناء التآلف هدف أخير لأى قراءة تنشد الرضى والاكتمال..

وأشير مرة أخرى لمقولة للزميل الرويس متابعة لتعليقه السابق:
" وذلك لإيمانى التام بان الفردوس اليباب لا تحتاج إلى تأويل
لقد كفتنا الكاتبة مؤنة التأويلات بلغة السرد الواضحة والمباشرة وتسمية الأشياء بأسمها الصحيح وتحديد إتجهات العمل! "

و أقول:
إن القراءة فى فقه الفوضى لم تكن قائمة على اللغة وحدها، وقد يكون مصطلح التأويل فى ارتباطه باللغة فى تراثنا الأصولى هو من يوحى بهذا الظن.. بينما مرجعيته النظرية الحديثة تتجاوز المنطقة اللغوية بكثير. فى فقه الفوضى نجد التأويل يطال السرد ككل، من منظور الدلالة، والدلالة فى فقه الفوضى لم تكن تأتى من اللغة وحدها. لقد وجدتها تأتى من الحدث، ومن الشخصية، ومن اللغة، ومن أبسط تقنيات السرد كما أجلها.. وهنا أعيد التأكيد على جودة الحس النقدى لدى الناقد، واستيعابه للمنهج الذى يعمل ضمن مقولاته، بغض النظر _مجددا _ عن ارتباك العرض النظرى لهذه المقولات..

وهنا أشير إلى ما سبق وأثير حول لغة الرواية وكونها موغلة فى الشعرية، والنقد السردى يعد هذا عيبا من عيوب السرد ما لم يوظف باتقان، وهى حفرة وقع فيها الكثير من روائيينا العرب، وما وجدته فى فردوس ليلى كان لغة متوازنة، توظف الشعرية لغرض التكثيف السردى، شعرية تخدم الحبكة الروائية القائمة على الاشارة للكثير فى جسم حدث واحد أبطاله ثلاث شخصيات..
هذا مع كون الناقد فى فقه الفوضى اعتمد هذا المعيار غير الدقيق، حين وصف لغة ليلى بالشعرية وعزى ثراء النص لهذا العامل كثيرا، دون أن يفرق بين شعرية السرد ككل وشعرية اللغة السردية، مع كونهما منطقتين مختلفتين من العمل السردى.. شعرية السرد: تقنية سردية تقوم على تكثيف العرض وتوظيف الحبكة بعناصرها _ومنها اللغة_ فى هذا التكثيف الذى هو من سمات الشعر، ولهذا أطلقت عليه: شعرية السرد. أما شعرية اللغة فهى هى، أعنى أننى لا أجد حاجة لشغل المساحة بشرحها هنا.
باختصار، يعد الكتاب إضافة نقدية مبهجة من جهات:
- كونه يحمل عملا نقديا مشرفا لكاتبه وللساحة النقدية الوطنية
- كونه يشتغل فى مجال الابداع المحلى المفتقر للنقد والتوجيه وتقديمه للعالم
- كونه يتفاعل مع النص فى حب وتواضع بإخلاص بدلا من أن يستعمله فى استعراض لغوى فارغ.

وفيما يخص الجانب النظرى فى فقه الفوضى، لاحظت عناية الناقد بأن لا يزعج القاريء بالمصطلحات، لكننى حبذت أن يختصر من عدد النظريات التى عرضها من الأساس، بدلا من أن يضعها مجملة ثم يختزلها فى اختصار مربك.. ذلك أن العناية بالقاريء لا تكون على حساب المنهج..
وهنا أشير إلى بعض ملاحظات حول المصطلح النقدى فى الكتاب، وبعض المصطلحات المطبقة.. أحب أن أعرض لها هنا باختصار:

 مصطلح الايحاء، وجدت الكاتب يستخدمه بطريقة لا تخرجه من نطاق مصطلح (الشعرية ) ونعلم جميعا أن الشعرية ترتكز على الايحاء مع التكثيف.. فماذا لو تم استعمال مصطلح (الشعرية ) مكان الايحاء وتصريفاته.. وذلك سيخفف من عدد المصطلحات المستعملة لصالح القاريء طبعا..
 فى مناقشة عنوان الرواية وجدت الكاتب يستعمل مصطلحى: ( الاطلاق) و ( التقييد) فى شرح وظيفة الصفة من منظور نحوى تقليدى، وأعجبنى جدا التفاتته الذكية لوظيفة الصفة فى نزع الدلالة بدلا من تقييدها، مما يسهم فى فتح المعنى بدلا من اغلاقه / وهنا وجدته يشرح التقييد والاطلاق بفتح الدلالة وإغلاقها كما تتداول فى النقد الحديث.. ثم يعود لاستعمال التقييد والاطلاق فى تطبيقه هو، حين قرأ دلالة العنوان.. ومجددا: ماذا لو تم الاكتفاء بمصطلح التقييد والاطلاق حين تعرضه فى النحو القديم وحده، ومن ثم تبدله باتفاق مع القاريء بمرادفه فى النقد الحديث: فتح الدلالة واغلاقها.. وهما مصطلحان سيستدعيان فى ذهن القاريء مصطلحى النص المفتوح والنص المغلق مما يخدم القراءة انسجاما وسهولة..
 تمنيت لو توقف الكاتب عند مصطلح الدلالة فى الجزء النظرى وتطرق إلى ان الدلالة موظفة فى الكتاب بحيث تشمل كل جوانب السرد وتقنياته وليس اللغة وحدها.. لأن ما هو موجود هو عمل عميق على الدلالة، لا يعبر عنه العرض النظرى المختزل..
 بالنسبة لنظرية ستانلى فش: أجدها مركزية فى الكتاب، وتطبيقها جميل، لكن الكاتب لا يشير اليها مستقلة، بل يدمجها ضمن النقد التأويلى ونظريات القراءة.. مع أنها تخدم النص النقدى وحاضرة فيه بقوة.. وأحب أن ألفت نظرك لجانب نقدى مهم: وهو أن ستانلى فش وجهت لنظريته ماخذ من أهمها أنها تركز على اللغة، مما يجعلها لسانية محضة.. كما قال عنها ايزر.. بينما أجدها موظفة فى الكتاب بحيث تشمل مستويات السرد كافة، حيث قابل الكاتب التقنيات السردية بعضها ببعض، وتتبع اشتباكاتها، وهذا توسيع للنظرية واضافة تحسب للكاتب فلم تهمل الحديث عنه والتوسع فيه ؟
على سبيل المثال لا الحصر: شخصية صبا قبل حدث الخطبة وبعدها.. وكيف انحنى مسار الشخصية بعد الحدث، ويذكرنا هذا بمقولة فش حول تغير وقع مفردة ما حين تشتبك بالمفردة التالية.. وهذا هو المرتكز الزمنى لنظرية فش.
 مجددا مع فش:
ذكر الكاتب مصطلح ارجاء الدلالة عند شرح النظرية، وهو مصطلح لا يرد عند فش _حسب علمي_ كما أنه مصطلح علم على تفكيكية جاك دريدا، فلا ينبغى ايراده هكذا مدغما دون تفصيل وإشارة لو فى الهامش لدريدا..
أيضا هذا المصطلح لا يخدم مقولات فش.. فبحسب فش: المعنى هو أثر على القاريء، وهذا الأثر يتطور: تعديلا، نقضا، دعما.. بمضى القاريء فى زمن القراءة، وزمن القراءة هو تراكم مفردات النص وتتاليها على الصفحة البيضاء _ كما يعبر فش _ وهو مساو لترتيب مرورها على عين القاريء، بحيث تؤثر كل مفردة فى وقع المفردة السابقة لها، وتتأثر بها أيضا..

وهكذا لا نجد الارجاء هنا إلا بمعنى سطحى: وهو كون المعنى لا يكتمل الا بنهاية الجمله.. وهذه محصلة بديهية لم يقف عندها فش بحسب علمى أيضا..

وعلى هذا المنوال... لا ينصف العرض النظرى المرتبك فى فقه الفوضى التطبيق المدهش والمبتكر والمفتوح باتجاه الأجمل..
فى النهاية أشكر الأستاذ حامد بن عقيل أن أتاح لى فرصة الاطلاع على كتابه بإهدائى نسخة من الكتاب، وهو تقدير ينضم إلى ما له من أياد عندى فى تشجيع قلمى ودعمه.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى