الخميس ٢٥ آب (أغسطس) ٢٠١٦

الغربة والسياسة وثمنها الباهظ

قبل ما يقرب من عقدين من الزمان قدم لنا أحد المشافي في أميركا خياراته فيما يتعلق بمرض ابنتي التي ولدت عام 1991 بعلة قلبية ؛ حيث كان مرضها كما يقولون لا شفاء منه "Terminal"؛ عرضوا علينا حينها ثلاث خيارات، الأول هو رفع أجهزة الإنعاش ونتيجة ذلك والله أعلم موت الطفلة خلال عدة أيام، وخيار ثانٍ وهو أن نعلن تخلينا عنها لتتبناها عائلة أخرى قد تكون أكثر قدرة على تحمل المسؤولية، إذ ربما بدا لهم أننا زوجان صغيران في العمر وتنقصنا التجربة، ثم الخيار الثالث وهو ان نتحمل المسؤولية ونمضي باتجاه العلاج الذي قد يأخذ زمناً طويلاً لكن دون أي ضمان للنتائج. موقف الخيارات هذا شنيع جداً لكن لكل أمّة مفاهيمها، وبما أنها خيارات فلا بأس سنختار ما يرضي ضميرنا.

حينما اتفقنا أن القرار هو خوض هذا التحدي والمضي في طريقنا بتحمل المسؤولية حتى النهاية، تم نقل الطفلة بعد ذلك إلى مستشفى متخصص ليتموا عملية جراحية أولى تتبعها عدة عمليات، وبينما هم يضعونها في سيارة الإسعاف حضرت الممرضة لتخفف عنا مما نحن فيه، وذلك حينما رأت أمها تبكي ورأتني مطرقاً شارداً، فقالت: ستكون ابنتكما بخير، لا تقلقا، سنقدم لها كل عناية ممكنة، حينها التفتّ إليها وقلت: لا أشك بأنكم ستعتنون بها حق العناية، وهذا يسعدني، وإن كنت تظنين أني حزنت لها وحدها كل هذا الحزن، فهذا ليس صحيحاً إلى حد ما، انظري سيدتي؛ هذه ابنتي، تقدمون لها سيارة إسعاف ليس لها مثيل في بلادنا، وأنا متأكد أنها ستحظى بعناية ممتازة، وفي النهاية لو ماتت فذلك قدر الله الذي لا مفر منه، لكن في بلادنا أطفال قصفوا في ملاجئهم وفي بيوتهم ولم يجدوا من يضمد جراحهم أو حتى يشيعهم، فاختلطت أجسادهم ببقايا بيوتهم المهدمة -كانت حينئذ الحرب الأممية الأولى على العراق الجريح-، هؤلاء يا سيدتي هم أهلي أيضاً وأحزن لحالهم، بل أحس بالقهر لما أصابهم، إذا كانت هذه حالة ابنتي بقدر الله، فلِمَ نكون سبب شقاء الآخرين؟! لم تتحدث بعدها الممرضة بشيء وانتهى الأمر إلى مشفى تتيه فيه أقدامنا لكبر حجمه وتطوره. منذ تلك اللحظة تغيرت بوصلتنا في الحياة، كبرت ابنتنا وأخذت حظها في هذه الدنيا بعد زراعة قلبين على فترتين متتاليتين، لكننا لم ننس ولن ننسى الوطن والأرض وهموم الأهل هناك.

ثم ومن باب تواصلنا مع مجتمعنا الآخر "الأصل" كنا نطالع ونقرأ في صحفنا الصادرة في بلادنا عن حالات كثيرة تحتاج عناية طبية خاصة، فنألم لأطفال لا يجدون قوت يومهم، ولآخرين يولدون بأمراض ثم لا تسعفهم حالة المشافي في بعض مدننا التشافي، بينما يغادر أولاد الذوات إلى مستشفيات عالمية للتداوي، وتبقى مشافينا التي تعاني من نقص في كل ناحية على ما هي عليه، لينتهي الأمر بقيام أهل المريض بضرب الطبيب والممرض وما يكون بعد ذلك من مضاعفات لهذا الأمر، ونحن هنا عن بعد، نألم لما يجري في بلادنا، فلا تنسينا غربتنا أهلنا وما يكون من حالهم هناك، وبقينا نتساءل؛ لم كل هذا الفساد؟ لماذا لا يجد أطفالنا عناية خاصة؟ ولم يقوم رجل عجوز بالهجوم على جموع المصلين يستجديهم ثمن دوائه؟ كلها هموم يعيشها أهلنا، ولا نستطيع نسيانها أبداً مهما كانت ظروفنا في غربتنا، وكل هذه الحالات تحتاج نظاماً لتأمين كل مواطن ليصان حقه في الحياة.

مرّت الأيام وكبرنا في مجتمعنا الجديد نقاوم الصعاب بقوة الله وعنايته التي رعانا بها، نتعارف كمغتربين فنصبح أهلاً حيث جمعتنا الغربة، وتصير العلاقات بين الأهل من إيجابي إلى سلبي أو العكس، كما هو الحال في بلادنا بين الأهل هناك، لكن نبقى كمغتربين نفتقد وصل من تركنا خلفنا في بلادنا، نفتقد أداء واجبنا نحوهم، إذ لا تكفي المشاعر وحدها، ولا يكفي أن نكتب من أجلهم، لكن هذا كل ما بيدنا من قدرة.
ثم نمضي كما الأيام في مهجرنا، كل يأخذ من الآخر، لكنها "الأيام" تأخذ منّا ذكرياتنا وتأخذ منّا ماضينا، طفولتنا، أحلامنا، آمالنا، فنصبح تائهين على خريطة الزمن والأرض، وينسانا الوطن وأهله، لينعتونا بقولهم "مغتربون"، لا بأس، نعم مغتربون ولم لا ..؟
كما ومن خلال محاكاة أدبيات الصحافة وخصوصاً بعد ثورة النت، صرنا نقرأ هذه الكلمة "مغتربون" وهذا النعت وكأنه لعنة على أصحابه، فنرى الكثيرين يجردوننا حقنا في المواطنة خصوصاً حينما نناقش مسألة عامة أو طارئة، ونظل في نظر الجميع "مغتربون" ، وكأن الغربة جريمة أو هروب من الوطن للتنعم في وطن آخر أكثر رخاءً.
زاد في وحشة الغربة والاغتراب أوضاعنا السياسية الداخلية في بلادنا الأم وفي بلاد المهجر، فقد شاهدنا مآسي المغتربين الذين عادوا بعد حرب العراق وحالة التنكيل التي أصابتهم بسبب تلك الحرب، كما أهينوا في وطنهم من قبل أهليهم بعد عودتهم، وكلنا رأى السجون تغص بالمهاجرين لأسباب منها ما هو سياسي ومنها ما هو جنائي، خصوصاً بعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001، كما خسر الكثير من المغتربين أولادهم بسبب قوانين هذه البلاد، حيث تركوا منازل والديهم بعد بلوغهم سن الثامنة عشرة تحت حماية القانون، أو بسبب خطأ يضع أولياء أمورهم في حرج قانوني يفقدهم حقهم في رعاية أولادهم مما يؤدي إلى إرسالهم إلى دور الحضانة التابعة للحكومة ثم عرضهم على المجتمع للتبني. أما التبني فهو حكاية اضطهاد أخرى للأطفال، حيث يلقيهم آباؤهم الجدد حال بلوغهم سن الثامنة عشرة في الشارع، أي بعد انقطاع المعونة الحكومية التي يحصلون عليها بسبب التبني، هذا إن لم يتعرضوا لكل صروف الأذى من أهلهم الجدد أثناء فترة الحضانة لنجد أن المغتربين يدفعون ثمناً باهظاً في غربتهم وفي بلدهم الأم، فهم صاروا نكرات في بلادهم التي خرجوا منها، وفي بلاد الغربة يكون الثمن باهظاً بصورة أخرى كما ذكرت سالفاً. مؤسفة هي حالة الاغتراب التي تعيشها جالياتنا في غربتها، فلكل واحد منّا حكاية، ولكل عائلة من عائلاتنا رواية تخصها وتميزها عن غيرها.

كنت أستمع لفيروز هذه الليلة تغني ... وقد نظرت في المرآه ورأيت الشيب قد غزا رأسي بعد هذه السنوات العجاف في الغربة وبعد أن دارت بنا الأيام، قلت يالهذا الصوت!! فيه براءة لا نعدمها أبداً... كانت فيروز تغني فينا ... ولنا... لكنها كذبتنا... وها نحن قد كبرنا فلم ينسانا الزمن ولم يعد لنا الكثير من الأحلام ... حتى حلمنا أيتها الياسمينة.... انطوى في عمرنا وصار إلى ما صار إليه ... صار سراباً...

لا بأس غني لنا يا فيروز...حتى لو لم تلامسي واقعنا ... المشيب ... الهموم ... الجحود ... النكران ... غني وسأغنيها معك ... وسأصدّق هذه الكذبة علني لو عدت إلى وطني أذكر الصبا وأذكر الذي كان في مرابعنا... أطربينا أو اشجينا ، لا فرق، فما عادت الدمعة بمعناها ولا الابتسامة بصورتها...

ياداره دوري فينا.... وظلي دوري فينا .... تينسوا أساميهن.... وننسى أسامينا....
تعا تنتخبى من درب الأعمار .... وإذا هنه كبروا ..... ونحن بئينا صغار
وسألونا وين كنتوا ..... وليش ما كبرتوا انتوا .... بنئلن نسينا ....
نسينا يا فيروز ... نسينا يا أهلنا ... نسينا أننا لم نعد في هذا الكون سوى خيالات وهواجس من الماضي... نسينا أننا "مغتربون".... وهذا الشيب يجعلنا نكذّب حلمنا أننا مازلنا كما خرجنا بالأمس...

وياداره دوري فينا.... وظلي دوري فينا .... تينسوا أسامينا.... وننسى أسامينا.... واعذريني لهذا التحريف...

أيها الأهل؛ لا تبتئسوا؛ إن سمعتم لنا رأياً ولم يعجبكم أننا من يقول به؛ اضربوا به عرض الحائط.... فقد نسيتنا حكوماتنا فلا ضير إن نسيتمونا أنتم أيضاً ... لكننا لن ننساكم ... لأنكم الأهل والأحبة ...

أيها الأهل؛ علينا من رأينا المغرم ولكم منه المغنم ... هل يرضيكم هذا؟

أيها الأهل؛ إن ضاقت بنا وبآرائنا مجالسكم ومنتدياتكم فلا تضيقنّ بنا "محمولين" مقابركم، فذاك آخر الأمل ومنتهى الحلم .. لكن لا تكتبوا عليها "أسامينا، فهي منسية ....

وياداره دوري فينا.... وظلي دوري فينا .... تينسوا أسامينا.... وننسى أسامينا ...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى