الثلاثاء ١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٥
حقوق الإنسان في المغرب
بقلم إدريس ولد القابلة

تطورات مهمة... خطابات رنانة... و"مرمطة" الصفقة الإنسانية على أرض الواقع

أن الإشكالية الحقوقية بالمغرب لا زالت متشعبة وتخترق كل مجالات الحياة في المجتمع، ومرتبطة مع طبيعة النظام السياسي والتوجه الاقتصادي المعتمد وطبيعة علاقات المغرب مع محيطه الإقليمي والقاري والدولي. وعموما يمكن القول أن معاينة الواقع في المجال الحقوقي تبين بجلاء أن المغرب مازال يعيش منظومة من المتناقضات الصارخة، أو على الأقل مستعصية الفهم.

فلازلنا نعاين مثلا أن عبد الله زعزع يجهر بميوله الجمهوري وهو مواطن بالمملكة المغربية، يصرح بمواقفه في هذا الصدد جماهيريا وبكل حرية دون أن يتبع ذلك أي إجراء أمني أو مساءلة واضحة، لكن نعاين بالمقابل استمرار عدم اعتراف الحكومة المغربية بجمعية المعطلين، الجمعية المغربية لحاملي الشهادات المعطلين، وتكريس استمرار إمطارهم الممنهج بالهراوات الغليظة أمام ساحة البرلمان وفي الساحات العمومية، لاسيما في الرباط وعلى أنظار الملأ... كما نعاين الحديث عن العلمانية والحداثة والتحديث وكذلك تقبيل يد الملك تعبيرا عن الوفاء والإخلاص في خدمة الوطن. علما أن البعض طالب بإلغائه، ولقيت هذه الدعوة تجاوبا كبيرا من طرف الكثير من المغاربة، إلا أنها لقيت تعارضا شديد اللهجة من بعض دوائر صنع القرار التي مازالت تعتبر تقبيل اليد يدخل ضمن ثقافة تضرب بجذورها في أعماق التاريخ المغربي. وللإشارة فإن العاهل السعودي ألغى تقبيل يده أو يد أحد أفراد العائلة المالكة باعتبار أنها ممارسة لا تقبلها النفس، إضافة إلى كونها تؤدي إلى الانحناء وهو أمر مخالف لشرع الله حسب قوله. وعموما إن الحديث عن الواقع الحقوقي بالمغرب يرتبط بالواقع الاقتصادي والاجتماعي، لأنه هو الركح الذي يوضح الواقع الحقوقي على أرض الواقع المعيش بعيدا عن الخطابات الرسمية والوصلات الدعائية التي لا تقنع أحدا.

في الواقع إن التساؤلات ذات العلاقة بالوضع بالمغرب ترعبني حقا لأنها تجعل مستقبل المغرب مفتوحا على جميع الاحتمالات وأتمنى أن أكون مخطئا في هذا التحليل.

فوضعية حقوق الإنسان بالمغرب مرتبطة أشد الارتباط بالواقع الاجتماعي والاقتصادي، إذ لا مجال لاحترام الحقوق في وضعية تتميز بالتردي والخصاص حتى ولو حضرت الإرادة لتحقيق ذلك. وعموما لازال الوضع بالمغرب يتميز بخصاص واضح في المجالات الاجتماعية بفعل الاعتناء بالإكراه المالية واللهث وراء الحفاظ على التوازنات المالية العامة بأي ثمن كأولوية الأولويات ولو دعا الأمر إلى التضحية بكل الباقي وهذا ما نصب فتح الله والعلو لخدمته منذ أن أصبح وزيرا للمالية بالرغم من أن كل الخطط والمنطلقات التي أسست لمسؤوليته هذه تناقض بالتمام والكمال كل كتاباته سواء كاقتصادي أو كمناضل متحزب سابقا وهذا ما لم يتمكن المغاربة من فهمه إطلاقا.

هذا في ظل غياب الشروط الحد الأدنى الضروري لتحقيق نسبة نمو اقتصادي تمكن من إعطاء انطلاقة لصيرورة التنمية الشاملة المستدامة. وفي ذات الوقت انكشف فيه وبشكل مفضوح عدم استجابة جملة من الآليات والقوانين (حتى المستحدثة منها) لمتطلبات الاقتصاد الوطني، بل وحتى لإمكانية أي تصور تنموي فعلي متراص واضح المعالم ومحدد الأهداف والمقاصد. وهكذا فلا نحن حققنا النسبة المطلوبة من النمو الاقتصادي ولا نحن استطعنا التخفيف من تزايد الفقر واستفحال البطالة والتصدي لانتشار السكن العشوائي وغير اللائق، ولا نحن شرعنا فعلا وفعليا في التغيير الجدري لمنظومة تعليمنا المهترئة ولو على الأقل بالتخفيف من مهزلة المزيد من تخريج العاطلين والمعطلين وإنتاج وإعادة إنتاج البطالة المستدامة.

و ها نحن على مشارف نهاية سنة 2005 ولازال السؤال مطروحا: إلى أين نحن سائرون؟ وهو مطروح بحدة أكثر من أي وقت مضى، إذ أن الحصيلة العامة في شموليتها- وفي هذا الصدد وجب التركيز على السلبيات اعتبارا لكون أن الانتظارات كبيرة وكبيرة جدا- تفيد بأن هناك غياب مؤشرات مقنعة يطمئن إليها القلب. بل على العكس من ذلك بدأ يتضح كأن التاريخ يعيد نفسه بالمغرب...قلق سياسي كبير...تردي الأوضاع في مختلف المجالات...آليات الإقصاء والتهميش لازالت مشتغلة...معطلون لا حق لهم في الاعتراف بجمعيتهم ومصيرهم الدائم والمستدام هو الهراوات البوليسية في الساحات العمومية...حكومة لا يعرف المواطن المغربي ماذا تفعل بالنسبة إليه...قرارات جوهرية من صلب اختصاصاتها في المجال الاقتصادي والاجتماعي وحتى الاستراتيجي تتخذ بعيدا عنها وبعيدا عن ممثلي الشعب...أحزاب سياسية تحتضر وأوضاع دائما في اتجاه التردي كل مرة بوتيرة أسرع وأوسع مدى من السابق...و وجوه وشخصيات ارتبطت أسماؤها بكل ما هو غير محمود سواء بالمغرب أو دوليا لازالت جالسة على كراسيها الدوارة تُنهي وتأمُر كل في مجاله...فئات واسعة طالها التهميش والإقصاء وعُطلت طاقاتها رغما عنها...آليات في جملة من القطاعات والمجالات تعطلت ولم تعد ذات جدوى...سياسات وبرامج وخطط وإجراءات لم تفعل إلا المساهمة في المزيد من تردي الأوضاع وسوء الحال...

و بالتالي فلم نعد نواجه بالمغرب مشكلات ومعضلات، وإنما أضحينا نجد أمامنا منظومات-مشاكل ومنظومات-معضلات وآليات تعيد إنتاج نفسها وفي كل مرة أوسع مدى من السابق. وعلى سبيل المثال لا الحصر، لم نعد بالمغرب نعيش معضلة الفقر وإنما أصبحنا نواجه منظومة التفقير بآليات خاصة بها، وهذا ما أطلق عليه البروفسور المهدي المنجرة "الفقرقراطية" ونفس الشيء بالنسبة للفساد، فقد تجاوزنا معضلة الفساد وأصبح الأمر يتعلق بالفسادقراطية وقس على ذلك الرضوخ والخوف والذل...

لذلك فلن تنفع لا قوانين جديدة ولا سياسات ولا خطط عادية للتصدي لهذا الواقع. والحجة على هذا هو أن مجمل خطط إصلاحات ومجمل النصوص القانونية والتدابير الإجرائية التي تمت بلورتها لمواجهة كل تلك المنظومات-المعضلات باءت بالفشل، لأنها تعاملت معها كمشكلات ومعضلات في حين أنها أضحت منظومات-مشكلات ومنظومات-معضلات وبالتالي فهي تستوجب ليس حلولا وإنما منظومات-حلول ومنظومات-آليات تصحيحية جذرية وليس شكلية ومظهرية أو مرصودة لتحسين الصورة ليس إلا. فهل يعقل التصدي للفقر بتوزيع المعونات ومنح الصدقات دون ربط الأمر بآليات منظومة توزيع الثروة والدخل ومنظومة منح الامتيازات، وما هذا إلا على سبيل المثال كذلك. وهل يعقل التصدي للبطالة بتوزيع رخص النقل أو احتلال الملك العمومي أو السماح بالتجارة المتجولة بدون مضايقة هنا وهناك دون التساؤل أيهما أفضل ومجدي، أن تستمر الدولة في أداء تعويضات طيطانيكية للوزراء السابقين حتى الذين لم يعمروا بوزاراتهم إلا أياما معدودات وتخصيص رواتب لنواب الأمة تثقل كاهل الميزانية أم تخصيص هذه المبالغ لميزانية التجهيز والاستثمار وتمويل أشغال عمومية كبرى ومتوسطة أو صغرى محلية أو جهوية تساهم كصمام أمان لامتصاص جزء من البطالة في انتظار تحقيق نسبة من النمو الاقتصادي تسمح على الأقل بالحفاظ على نسبة البطالة كما هي عليه دون استفحال؟ وهذا مجرد مثال كذلك.

و تزداد الصورة تعقيدا إن أضفنا إلى هذه التحديات الداخلية، التحديات الخارجية (ملف الصحراء، الشراكة مع أوروبا، الموقف من السلام في الشرق الأوسط). فهل مثل هذا الوضع يسمح بتكريس احترام حقوق الإنسان، لاسيما الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، حتى ولو حضرت الإرادة لتحقيق ذلك؟

علما أن المغرب تميز على صعيد الوطن العربي بتواجد مبكر ونشط لحركة حقوق الإنسان سواء في شكلها غير الحكومي أو الحكومي. فالمغرب كان الأسبق على الصعيد العربي في هذا المجال، إذ تأسست العصبة المغربية لحقوق الإنسان في 11 أبريل 1972 وتلتها جمعيات ومنظمات وهيئات أخرى، لاسيما بعد مصادقة المغرب على العهدين الدوليين المتعلقين بالحقوق السياسية والمدنية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية سنة 1979. وهناك حاليا بالمغرب عدة منظمات وهيئات تعنى بإشكالية حقوق الإنسان. فهناك الجمعية المغربية لحقوق الإنسان ومنتدى الحقيقة والإنصاف وجمعية مناهضة الرشوة والمنظمة المغربية لحقوق الإنسان ومركز حقوق الناس والمنظمة المغربية للدفاع عن حقوق السجناء والمرصد الوطني للسجون والمنظمة الحقوقية التابعة لحزب العدالة والتنمية وغيرها، إضافة للعصبة المذكورة سالفا. وللشهادة والتاريخ، يُعتبر البروفسور المهدي المنجرة من المغاربة الأوائل الذين اهتموا بهذه الإشكالية بالمغرب. فقد كان وراء تأسيس العصبة المغربية لحقوق الإنسان إلا أنه تخلى عنها بعد أن انحرفت عن المسار المخطط لها أصلا.

وعموما إن الفضل في إبراز إشكالية حقوق الإنسان بالمجتمع المغربي يعود بالأساس إلى مناضلي الحركة الماركسية-اللينينية المغربية والقوى الديمقراطية (اليسار) إلى أن وصلت الوضعية إلى ما هي عليه الآن. وتجدر الإشارة في هذا المجال الدور إلى الريادي الذي لعبته الجمعية المغربية لحقوق الإنسان ومنتدى الحقيقة والإنصاف.

و بجانب هذه الجمعيات عير الحكومية نشأت هيئات حكومية اهتمت بالشأن الحقوقي بالمغرب منها وزارة حقوق الإنسان التي ألغيت وهناك المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان الذي عرف تغييرات جوهرية في هيكلته ومكوناته ومهامه. إذن هناك تعدد المنظمات والهيئات التي تعنى بموضوع حقوق الإنسان بالمغرب. وهذا التعدد يعكس في حد ذاته عمق اهتمام المجتمع المغربي بالإشكالية الحقوقية سواء على صعيد الاهتمامات القطاعية كحقوق الطفل، المرأة، الخادمات القاصرات، الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، المستهلك...

كما أنه لا يمكن نكران أن تطورات مهمة سجلت في هذا المجال بالمغرب، وهذا بشهادة الجميع، مغربيا وأفريقيا وعربيا ودوليا، إذ أضحت بلادنا، خلافا للسابق، تولي لحقوق الإنسان، لاسيما السياسية والمدنية منها، أهمية خاصة سواء على مستوى الدولة أو المجتمع المدني. وقد بدأت هذه الصيرورة منذ 1990 عبر اتخاذ جملة من القرارات. وتكرست هذه الصيرورة أكثر في ظل العهد الجديد بعد اعتلاء الملك محمد السادس عرش البلاد. إلا أنه حسب المتتبعين للوضع الحقوقي بالمغرب، مازالت هذه الخطوات التي تم تحقيقها لم تتجسد بعد بالدرجة المطلوبة على أرض الواقع اليومي المعيش ليصبح احترام حقوق الإنسان وتكريسها ثقافة حاضرة. كما أنه لازال الاهتمام يقتصر إلى حد كبير بالحقوق السياسية والمدنية دون الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إذ أن الاهتمام بهذه الأخيرة على أرض الواقع مازال هامشيا جدا في المجتمع المغربي.

و مهما يكن من أمر وجب على الحركة الحقوقية المغربية إعادة النظر في التجربة والمسار لكي تتماشى مع التطورات الحاصلة. وتكفي الإشارة إلى إشكاليتين اثنتين للبرهنة على ضرورة المراجعة هذه، إشكالية طبيعة العمل الحقوقي وإشكالية مصداقية الجمعيات والهيئات الحقوقية المغربية.
وبخصوص الإشكالية الأولى لازال العمل الحقوقي بالمغرب، على غرار العمل الجمعوي عموما، يرتكز على التطوع، إذ لا وجود للاحترافية الفعلية في هذا المجال. ولقد حان الوقت للنظر في هذه الإشكالية والتفكير في اعتماد مبدأ الاحترافية لتجنيد الطاقات الحقوقية بالمغرب. لقد أضحى من اللازم الآن على المنظمات والجمعيات الحقوقية أن تعمل باحترافية على جميع الأصعدة، في التسيير والتدبير وإقرار البرامج وتتبع الوضع الحقوقي وتثمين الفعل في مجال التربية على حقوق الإنسان الذي مازال ينتظره الكثير، لاسيما في العالم القروي. وذلك بالعمل على مشاريع وبرامج محددة لتكون المنظمات والجمعيات الحقوقية بالمغرب جاهزة فعلا وفعليا للتأثير في السياسة العامة بالبلاد، فهذا هو السبيل للمساهمة في صيرورة التغيير الفعلي. لأن الاحترافية ستمكنها من القدرة على المراقبة والتوثيق ونشر الوعي الحقوقي على أوسع مدى (و هنا وجبت الإشارة مرة أخرى إلى أن العالم القروي مازال إلى حد الآن لم يدخل بعد ضمن اهتماماتها رغم أنه يحتضن أغلب المواطنين المغاربة، وهذا نقص فظيع ونقطة ضعف كبيرة جدا حان الوقت لتجاوزها رغم صعوبة المهمة).

وما دام الهدف المرحلي هو القضاء على الانتهاكات والهدف الاستراتيجي هو تكريس ثقافة حقوق الإنسان لتصبح ثقافة سائدة في المجتمع وممارسة يومية لتكاد تكون "فطرية" – أليس من الأجدى والأفضل التفكير في نوع من التخصص في بعض الحقوق والتركيز عليها اعتبارا لتعدد الحقوق وكثرتها، علما أن هذا التخصص لا ينال من ترابطها وشموليتها كما قد يدعي البعض، علما أن التخصص هو الذي يطبع العمل الحقوقي في كل البلدان التي اعتمدت الاحترافية في هذا المجال.
أما بخصوص المصداقية، لامناص من طرح السؤال التالي: كيف يرى المواطن المغربي مصداقية وصدقية الجمعيات الحقوقية والفاعلين الحقوقيين بالمغرب؟ إنه سؤال وجب أن تطرحه الجمعيات الحقوقية المغربية على أنفسها لأن الجواب عليه بنزاهة وموضوعية سيكشف لها الكثير، ما من شأنه أن يفزعها ويجعل فلسفتها ومختلف ادعاءاتها قاب قوسين أو أدنى. ففي الظاهر كل جمعية تدعي أن لها أجندة ومبادئ ومرتكزات وقناعات، لكن هل تعمل فعلا بها وهل يكرسها أعضاؤها فعلا على أرض الواقع اليومي، أم أنهم حقوقيون بارزون في المناسبات والخطابات وغير ذلك بالتمام والكمال في حياتهم العادية اليومية ؟ وهل تكرس ما تدعو إليه على أرض الواقع وفي الممارسة اليومية؟
فمن مؤشرات الصدقية والمصداقية، التجدر أو التواجد وسط أوسع الجماهير أو على الأقل في جزء مهم من الرأي العام. ومن المؤشرات كذلك، علاقة الحقوقيين وتنظيماتهم مع مختلف المؤسسات والهيئات (الإعلام، البرلمان، القضاة، الخبراء، الهيئات المهنية، مجموعات الضغط...). ويظل أهم مؤشر للصدقية والمصداقية توسيع قاعدة المنخرطين والمتعاطفين. لكن في واقع الأمر لازلنا بالمغرب إلى حد الآن نلاحظ نفس الوجوه ونفس الحضور في كل مناسبة أو نشاط كأن الأمر يتعلق باستنساخ وليس حركية فاعلة، وهذا مضر كثيرا بالصدقية والمصداقية على مختلف الأصعدة، والغريب في الأمر أن الحقوقيين المغاربة لم يريدوا بعد استخلاص ما وجب استخلاصه.

و من المؤشرات كذلك الصلاحية. فإذا كانت الجمعية أو المنظمة تهتم بكل الحقوق وبكافة المنظومة الحقوقية يصعب عليها أن تكون مجدية في عملها باعتبار أنها تجاوزت مرحلة النشأة. لكنها إذا تخصصت في مجال معين من الحالات الحقوقية فإن مصداقيتها ستتأكد بسهولة على أرض الواقع، لاسيما وأنها ستفرض نفسها كطرف لابد من اللجوء إليه في نطاق اهتمامه اعتبارا لتخصصه فيه ولدرايته به أكثر من غيره. لكن الواقع في المغرب يفيد أن الأغلبية الساحقة للجمعيات والمنظمات الحقوقية تهتم بكل الحقوق، الشيء الذي جعلها لم تتمكن بعد من أن تكتسب صفة الخبرة في أي مجال من المجالات الحقوقية، وهي أعلى مرحلة لتثبيت المصداقية والصدقية، ومازلنا في المغرب بعيدين كثيرا عن هذا المستوى، لكن وجب التخطيط لبلوغه الآن قبل فوات الأوان.

و إن أكبر حدث حقوقي عرفه المغرب هو قضية طي ملف الماضي. وبهذا الخصوص لازلنا أمام مقاربتين. مقاربة تدعو إلى تجنب إثارة المسؤوليات فيما جرى من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان خلال سنوات الجمر أو السنوات الرصاصية. ومقاربة تعتبر أن إثارة المسؤولية هي الطريق الأنجع لكشف الحقيقة كاملة من أجل طي صفحة الماضي نهائيا وبلا رجعة.

فالمقاربة الأولى تسعى إلى تفادي الاعتراف الرسمي بمسؤولية الدولة في تلك الانتهاكات الجسيمة وذلك سعيا لعدم إثارة روح الكراهية في المجتمع. أما المقاربة الثانية، فإنها ترى من الضروري إعادة الاعتبار إلى الضحايا ورد الاعتبار للشعب المغربي قاطبة لأن الأمر يهمه قبل غيره، ولن يكون لرد هذا الاعتبار معنى إلا باعتراف الدولة بمسؤوليتها عن تلك الانتهاكات وتقديم مرتكبيها للمساءلة ولمحاكمة ولو رمزية، علما أن القائمين اختاروا المقاربة الأولى وظل جزء كبير من الحركة الحقوقية المغربية يدعو، ولازال، إلى اعتماد المقاربة الثانية.

كما يظل كذلك ملف الاختفاء القسري من القضايا البارزة حاليا في الركح الحقوقي بالمغرب. وعموما وبالرغم من التطورات التي عرفتها البلاد في المجال الحقوقي لازال هذا الملف موضوع جدال كبير، ومازالت كل حقائقه لم تكشف بعد، ولازالت عائلات المختفين تطالب بالحقيقة كاملة للتمكن من إقفال هذا الملف. وعلاقة بالموضوع وجبت الإشارة إلى أن ابن المناضل اليساري، أحد قياديي منظمة "إلى الأمام"، عرض على أنظار القضاء المغربي ملف والده الذي لقي حتفه وهو رهن الاعتقال رفقة زوجته بالمعتقل السري درب مولاي الشريف. ومن المنتظر أن يثير التقرير النهائي المرتقب لهيئة المصالحة والإنصاف جدالا واسعا في الموضوع.

كما أنه لا يخفى على أحد في المغرب أن المخزن ظل حريصا أشد الحرص على إبعاد البادية المغربية والفلاح المغربي عن السياسية والمساهمة في الركح السياسي، وذلك قصد الاستعمال كورقة ضغط ظلت دائما وأبدا بيد القصر في مواجهته للقوى المطالبة بضرورة التغيير بالمغرب. لهذا شدد النظام قبضته على العالم القروي بالمغرب ومنع منعا كليا وممنهجا أي تواصل بينه وبين القوى السياسية الحية. وللإشارة، فهذا ما كان قد اعتمده الاستعمار الفرنسي بالتمام والكمال. لهذا ظل ولازال العالم القروي بالمغرب بعيدا عن التحديث السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وعن إشكالية الديمقراطية وحرية المرأة ومشاركة الشباب، وذلك رغم أنه فضاء يعيش فيه أكثر من نصف ساكنة البلاد، وهنا تكمن الأسباب الحقيقية لمعضلة التنمية بالمغرب.

أما الحقوقيون المغاربة فمازالوا غير مهتمين بالعالم القروي، ولم نعاين إلى حد الآن أي جمعية ومنظمة حقوقية تعنى بهذا العالم وأي برنامج حقوقي خاص به خلافا مثلا لما هو عليه الأمر بمصر حيث توجد العديد من المنظمات والهيئات الحقوقية المهتمة بالفلاح المصري وبالبادية المصرية والمرأة الريفية. وهذا أمر يدعو فعليا إلى التساؤل، كيف يمكن تكريس ثقافة حقوق الإنسان بالمجتمع المغربي وأكثر من نصفه هو خارج نطاق التغطية الحقوقية ومقصي عمليا وفعليا من اهتمامات المنظمات والجمعيات الحقوقية. هذا في الوقت الذي يقر فيه الجميع بأن هناك علاقة وطيدة بين حقوق الإنسان والديمقراطية. فالديمقراطية شرط جوهري لحقوق الإنسان، لكن أكثر من نصف الساكنة بالمغرب غير معنية بالديمقراطية. علما أن الديمقراطية غير ممكنة في ظل غياب حقوق الإنسان، كما أن حقوق الإنسان لا يمكن تكريسها فعلا وفعليا دون ديمقراطية. فالمواطنون لا يمكنهم الاستفادة من حقوقهم الأساسية دون تمتعهم بحقهم في المشاركة السياسية وتقرير مصير مجتمعهم. وعندنا بالمغرب أكثر من نصف الساكنة غير معنية لا بهذه المشاركة ولا بتقرير مصير المجتمع؟

أما بخصوص مفهوم المساواة الذي يلغط به الجميع حاليا بالمغرب، نلاحظ بجلاء أن هذا المفهوم مازال يعتريه النقصان ويكفي النظر إلى تصادمه مع مطالب المواطنين المغاربة الاجتماعية والاقتصادية، وخصوصا في حدها الأدنى وتكافئ فرص الاندماج في المجتمع والتمكن من إيجاد مكان تحت شمسه.

و كما سبق الإشارة لذلك، فالواقع المعيش يبين أن هناك فرق شاسع بين الخطابات وبين المعيش اليومي، وهذا يعني مما يعنيه أن هناك معوقات. ولتقريب الصورة يمكن الوقوف على أهمها. فهناك الفقر، والفقر بالمغرب أصبح فقرا مركبا يتضمن الحرمان من جملة من المقومات الضرورية للحياة. وهذا الفقر لا يعود إلى كون أن الثروات الوطنية قد تقلصت أو تراجعت، وإنما يعود بالأساس (البعض يقولون لتنامي الديمغرافية) إلى تفعيل آليات تمركز تلك الثروات ومصادرها بيد قلة قليلة لا تكاد تبين على حساب حرمان الأغلبية الساحقة للمغاربة. ولا يخفى على أحد أن اختلال ميزان العدالة الاجتماعية بشكل مفضوح وغير مقبول ومحتمل، كما هو الحال عندنا، من شأنه أن يحول البلاد إلى بؤرة للإجرام واللا أمن ما دام هناك افتقاد الإنسان للشعور بوجوده العادل وبحقه الإنساني في الوجود الكريم، الشيء الذي يغرقه في اليأس، وآنذاك سيكون مستعدا لأي شيء، وهذا ما على القائمين على الأمور وضعه نصب أعينهم باعتبار أن مغاربة اليوم ليسوا هم مغاربة الأمس.. ولعل الذكرى تنفع المؤمنين.

لم نعد بالمغرب نعاين فقرا وإنما فقرقراطية، لأنه هناك علاقة وثيقة بين أنماط التدبير السائدة- حتى حاليا- في بلورة السياسات العمومية من جهة، وبين تطور الفقر من جهة أخرى. فالدولة أضحت غير قادرة على تهيئ المناخ المناسب للاستثمار الذي له تأثير مباشر ورأسي على ظاهرة الفقر، بحيث يُمكٌن من خلق فرص للشغل يستفيد منها الفقراء، ولأن الدولة أصبحت غير قادرة كذلك على تغطية الحاجيات في مجال الخدمات الأساسية بدرجة كافية ومجدية في ميدان التعليم والصحة والرياضة والثقافة وغيرها تساعد الفقراء على اكتساب الشروط الضرورية واللازمة للتفاعل مع السوق والتمكن من ضمان دخل كاف لمواجهة المتطلبات الحيوية للحياة. ولأن الدولة فشلت في تدبير مختلف برامج محاربة الفقر والتصدي لآثاره ومسبباته بالمغرب.

و أتحدث هنا عن الفقرقراطية وليس عن الفقر لأن الفقر عندنا لم يعد ظاهرة طبيعية وإنما معضلة دائمة تهم أوسع الفئات، ولأنه نتاج اختيارات وسياسات اقتصادية واجتماعية انتهجت مند عقود ولازالت جملة من آلياتها فاعلة إلى حد الآن.

أتحدث عن الفقرقراطية وليس عن الفقر لأن هناك حاليا بالمغرب فقر وتفقير عبر آليات الفعل السياسي والفعل الاقتصادي والفعل الاجتماعي. فعندما يجد المواطن المغربي البسيط نفسه أمام الإدارة لقضاء مآربه أو لاجئا للقضاء للمطالبة حقه المسلوب أو مضطرا لطلب الاستفادة من إحدى الخدمات العلاجية أو الاجتماعية، آنذاك يلمس بجلاء، ويعاين بأم عينه الدلالات الحقيقية، ليس للفقر، وإنما للفقرقراطية ببلاده. آنذاك تتضح له الصورة، كون الفقر بالمغرب حاليا ليست ظاهرة يمكن تجاوزها، , إنما هو معطى ثابت ودائم وحالة بنيوية بفعل آليات تعيد إنتاجه المستدام. ففي المغرب، كما قال البروفسور المهدي المنجرة، أضحى الفقراء يلدون فقراء أكثر فقرا والأغنياء يلدون أغنياء أكثر غنى، هذه هي مأساة المغرب. وهذا في نظري تعريف مركز ومختزل ببراعة للفقرقراطية.

فهل والحالة هذه يمكن الحديث عن تكريس فعلي لحقوق الإنسان في ظل سيادة الفقرقراطية؟ علما أن الأمر ليس وليد اليوم، وإنما هو نتيجة لصيرورة منذ أن حصلت البلاد على استقلالها في أواسط خمسينات القرن الماضي، وعلى امتداد 5 عقود والحكومات المتعاقبة على المغرب تتحدث عن وضع سياسات وخطط وتحدد الميزانيات وتنفق الأموال قصد تحقيق التنمية لتحسين مستوى المعيشة والتصدي للفقر، وبُذلت جهود وصُرفت الأموال الطائلة، وبُلورت أكوام من السياسات والخطط، ولكن كل هذا لم يزد الفقر بالمغرب إلا تكريسا واستفحالا واتساعا لدوائره وترسيخ آليات إعادة إنتاجه إلى أن وصل الحال إلى ما هو عليه الآن. وبالرغم من أن كل الفئات الشعبية بذلت الجهود تلو الجهود وتكبدت الحرمان وسغف العيش وأُثقلت كهولها بالضرائب العادية منها والاستثنائية والتضامنية، فإنها ظلت ولازالت تعاين تدهور أحوالها المعيشية، لاسيما منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي حيث ازداد الفقر توسعا بشكل لم يسبق له مثيل. فهل النمو الاقتصادي المحقق على مدى كل السنوات الفارطة تحقق بالأساس على حساب الفئات الشعبية ومن خلال تدهور مستوى معيشتها على الدوام وعلى حساب توسيع الفقر؟ فأين ذهبت ثمار ذلك النمو الاقتصادي؟

إذا حضرت الشجاعة والنزاهة السياسية للجواب على هذا السؤال، يمكن آنذاك فهم تعثر تكريس حقوق الإنسان بالمغرب على أرض الواقع المعيش. وهذه إحدى المعوقات.

و تتضح الصورة أكثر جلاء إذا تناولنا إشكالية الأجور بالمغرب. ففي واقع الأمر هناك مغربان على الأقل وليس ومغرب واحد: المغرب- الجزيرة والمغرب- المحيط. ولعل أحسن صورة لهذا التمايز هي الرواتب والأجور في القطاع العمومي المغربي. فهناك أجور ورواتب المغرب-الجزيرة وأجور ورواتب المغرب-المحيط. في الأول هناك موظفون يتقاضون ما بين 200 و500 ألف درهما شهريا، وفي الثاني موظفون ومستخدمون أقنان يعانون بفعل عدم كفاية رواتبهم وأجورهم حتى لتوفير الضروريات الحيوية. فإذا أخذنا بعين الاعتبار، بكل نزاهة وموضوعية، الأوضاع المتأزمة التي تعيشها البلاد منذ مدة ونسبة نمو اقتصادنا الوطني ووتيرة إنتاج الثروات المضافة وطبيعة الاختلالات البنيوية التي تتخبط فيها ولازالت مؤهلة للبقاء على هذا الحال، اعتبارا لكل هذا فإنه من غير المعقول قطعا الاستمرار في قبول هذا الحال مهما كانت التبريرات ومهما اجتهد المجتهدون لتبريرها. فمهما يكن العمل الذي يضطلع به أي موظف من هؤلاء مهما كان وفي أي مجال، فإن ضخامة الرواتب المطبقة في نطاق المغرب الجزيرة لا تتناسب مع مردوديته للبلاد والعباد ولا تتناسب وطاقة تحمل ميزانية الدولة التي ينتظرها الكثير بخصوص النواقص التي يعيشها المغرب-المحيط. خصوصا وأن تلك الرواتب لا تسقط من السماء ولا ينتجها أولائك الموظفون وإنما تقتطع اقتطاعا من المالية العامة أي من مال الشعب المغربي، وربما على حساب جوع وحرمان فئات واسعة منه، فئات المغرب-المحيط، مغرب الأجور المتدنية التي لا تكاد تكفي حد لسد الحاجيات الحيوية ومغرب البطالة والعطالة والشباب المهمش. وهنا تحضرني هزالة الرواتب التي لا تكاد تبين التي يتقاضاها أغلب مستخدمو ومستخدمات التعاون الوطني بالمغرب ( قد سبق لي أن أنجزت موضوعا حولهم تحت عنوان "أقنان القرن الواحد والعشرين") والتي هي في واقع الأمر وصمة عار علي جبين الحكومة باعتبار أن أغلبهم قضوا عمرهم، أكثر من 30 سنة في الخدمة، بل أن وزير المالية كان قد اقترح بكل وقاحة الاستغناء عنهم جملة وتفصيلا.

قد يتفهم المرء ضخامة الأجور إذا كانت مطبقة في القطاع الخاص، إنها في الواقع علامة على أن الأمور بخير، لكن في القطاع العمومي ومن مال الشعب الذي ظلت ولازالت أوسع فئاته تنظر تحسين أوضاعها المعيشية وجملة من الخدمات منذ أن حصلت البلاد على الاستقلال، فهذا ما لا يمكن أن يتقبله عقل سليم. وهذا كذلك معوق من المعوقات.

و من المعوقات كذلك، وهذا تحدث بصدده الكثيرون، استمرار حضور العقلية المخزنية بقوة على جميع المستويات وفي مختلف المجالات. فالمخزن بالمغرب، كانت ولازالت له وظائف اقتصادية وهي وظائف تجلت سلبياتها سابقا على مستوى انعكاساتها الاجتماعية. والآن، نجد أنفسنا في حيص بيص عندما نريد تحديد طبيعة الاقتصاد المغربي، فهو ليس باقتصاد الدولة ولا باقتصاد ليبرالي محض ولا باقتصاد اجتماعي تتحكم الدولة في دواليبه الأساسية، ولا باقتصاد السوق بالمفهوم الليبرالي، فما هي طبيعة اقتصادنا بالضبط؟ لقد استعصى علي الأمر حقا.

المهم، منذ سنوات والمغاربة ينتظرون حدوث انفتاح على السوق وخلق اقتصاد اجتماعي كما تم الترويج لذلك لكن عاينوا انفتاح كل شيء ولم يعاينوا إلى حد الآن علامات الاقتصاد الاجتماعي. واليوم أصبحنا نلاحظ، وبقوة، تواجد سلطة المخزن، ليس كإطار أمني تسييري فقط، ولكن كإطار اقتصادي وهذا وضع قل نظيره جدا في العالم. وهذا كذلك من المعوقات.

و هناك إشكالية الفساد والتصدي إليه. في واقع الأمر يحتار المرء بالمغرب عندما يعاين نهج تعاطي القائمين على الأمور مع جملة من القضايا، ومن ضمنها الفساد. فهناك جملة من الموظفين الصغار المأمورين أدينوا من طرف محكمة العدل الخاصة (التي تم الإقرار الضمني الواضح بعدم دستوريتها وكونها كانت بعيدة، بعد السماء عن الأرض، عن توفير أدنى شروط المحاكمة العادلة وتكريس العدل والعدالة والنزاهة والاستقلالية) وشردت عائلات وكانوا كلهم متهمين باختلاس مبالغ زهيدة لا تكاد تبين هزالتها مقابل الملايير المنهوبة من القرض الفلاحي والضمان الاجتماعي والبنك الشعبي ووكالة المغرب العربي للأنباء والقرض السياحي والعقاري وشركة كوماناف وشركتي صوديا وصوجيطا وبنك الإنماء الاقتصادي والجمارك والمطاعم المدرسية ومؤسسات مالية عمومية أخرى، لم يطل أصحابها القانون ومن أطالهم تم البحث عن طريق من الطرق لتخليصهم منه. وهذا، أقل ما يمكن وصفه، هو حيف في حق أكباش ضحية محكمة العدل الخاصة، علما أن عددا لا يستهان به منهم أدينوا ظلما وعدوانا، وهذا أمر يستوجب الالتفاتة إليه لجبر ما يمكن جبره من ضرر. وبالتالي فإن نهج التصدي للفساد هو كذلك أحد المعوقات.

و هناك إشكالية التعاطي مع قضية الشباب بالمغرب. فإن الشباب المغربي، بالرغم من ظروف التهميش والإقصاء وآليات التفقير... بالرغم من كل هذا يجب أن تكون الكلمة كلمتهم لأنهم أقرب إلى روح العصر من أحزابنا السياسية التي فشلت فشلا ذريعا في احتواء الشباب والتواصل معهم. إنه لمن المؤسف حقا أن يعاين المرء بالمغرب شعور فئات واسعة من الشباب بالدونية لأنه لم يُسمح لهم باحتلال مكان تحت شمس وطنهم بفعل الاستمرار في التشبث بتلك العقلية وبتلك الأساليب وبتلك المناهج التي دمرت ولازالت تدمر حياة فئات واسعة من الشباب المغربي وأذاقتهم الذل وأعاقت مساهمتهم الفعلية في تطور بلادهم. وقد تصاعد هذا الشعور لدرجة أنه قضى على حياة فئات واسعة منهم أمضوا أجمل سنوات عمرهم مهمشين كليا. أحسن ما في العمر، بين 25 و35 سنة، قضوه علة على المجتمع ولم يُسمح لهم بالمساهمة الصادقة والنزيهة والمسئولة في بناء غد أفضل لوطنهم ما دامت الظروف لم تسعفهم على الزواج للتفكير في مستقبل أبنائهم. وهذا كذلك معوق من المعوقات.
و هناك إشكالية العلاقة بين السياسة الأمنية المعتمدة وحقوق الإنسان بالمغرب. فمؤخرا اعتمد المغرب سياسة القرب في المجال الأمني باعتبار أنها سياسة أثبتت نجاعتها نسبيا بفرنسا التي تعتبر أن الحق في الأمن أحد الحقوق الملزمة للدولة، لاسيما وأن مكونات المجتمع أضحت معنية بهذا الحق عبر تكريس سياسة التطويق والتدخل الاستباقي للتصدي للعنف والإرهاب. إلا أن القضية الأمنية والحق في الأمن بالغرب من المفروض أن يظلا مرتبطين بخدمة مصالح المواطنين اليومية واحترام حقوقهم والعمل على تمكينهم من الاستفادة من حقهم في الصحة والشغل ومن احتلال مكان تحت شمس وطنهم يحفظ لهم كرامتهم الإنسانية قبل مواطنتهم. علما أنه، خلافا للمغرب، أسست فرنسا سياستها الأمنية ليس على استعراض عضلات جهازها الأمني، وإنما على الاعتناء بالمطالب الاجتماعية أولا وعلى تجديد النسيج العمراني وتخفيض الكثافة السكانية بالأحياء الهامشية وتحسين الخدمات الاجتماعية. وبالتالي فإن السياسة الأمنية المعتمدة قد تمثل هي كذلك إحدى المعوقات. وهده من أهم معوقات تكريس حقوق الإنسان على أرض الواقع بالمغرب.

و الحالة هذه، وهذا يتفق عليه الكثيرون، أن السبيل الأجدى والأنجع لإعداد مستقبل أفضل هو اعتماد إستراتيجية متوجهة إلى الذات ومعتمدة بالأساس وبالدرجة الأولى على عوامل داخلية يتم التحكم فيها، عوض جعلها ترتكز على عوامل خارجية لا يمكن التحكم فيها كما هو حاصل إلى حد الآن بالمغرب بشهادة أغلب المحللين الاقتصاديين. وعلى هذه الإستراتيجية أن تأخذ في حسبانها القيم الاجتماعية والثقافية وحاجيات المجتمع كما هي معبر عليها ديمقراطيا عوض الاكتفاء بالعناية بحاجيات ومطالب الأقلية (أي مغرب-الجزيرة). ولا يمكن التفكير في المستقبل حاليا دون وجوب الإقرار الواضح والشفاف بالإرادة اللازمة لإصلاح عميق لمنظومة توزيع الثروات والدخل بطريقة لا يلعب فيها الدور الأساسي، لا الانتماء الحزبي ولا الاجتماعي ولا العشائري ولا الزبوني ولا اعتبار الولاء، وهذا لتقريب الهوة السحيقة القائمة بين المغرب-الجزيرة والمغرب- المحيط لتسير البلاد نحو الانصهار في مغرب واحد تقبل به أغلبية الشعب المغربي.

و كما سبق للبروفسور المهدي المنجرة أن بين بجلاء أنه ليس هناك مستقبل واحد بل هناك تعدد في المستقبلات الممكنة، لذلك كان من الواجب الاختيار للتهييء للغد البارحة وليس اليوم. ومستقبل المغرب اعتبارا للواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والحقوقي الحالي يظل خاضعا لصيرورة عامة لم تعد تخفى على أحد الآن، وهي صيرورة تتشكل من البحث على الاستقرار وإبقاء دار لقمان على حالها، ثم السعي وراء الإصلاح لمحاولة التصدي إلى التصدعات وتسكين الآلام أو إخفاؤها والتستر عليها ولو مؤقتا، ثم فرض التغيير بعد استفحال آليات الفقرقراطية والمكر السياسي وسياسة المكر وسيادة فقدان الثقة في آليات الدولة وآليات المجتمع وانكشاف الأمور.

لهذا فلا مناص للمغرب، إن هو أراد أن يكون له وجود فعلي و محترم بين دول هذا العالم مستقبلا، لا مناص من بلورة رؤية مستقبلية واضحة المقاصد ومحددة الأهداف، وهي رؤية مازال يفتقدها المغرب إلى حد الآن. واستمرار غيابها من شأنه أن يشكل خطرا إن لم يتم تدارك الأمر. وهذه الرؤية لابد وأن تعتني بالمواطن البسيط والواقع الفعلي المعيش وليس القفز عليه كما ظل يجري إلى حد الآن. لأنه بالرغم من كل ما يقال ويذاع، فإن المواطن المغربي البسيط مازال لم يستفد بعد من ما يسمى بالتغيير، وهذه إشكالية جوهرية تعتبر من بين العوامل المحددة لمستقبل المعذب. وفي ظل غياب مثل هذه الرؤية الواضحة المقاصد والمحددة الأهداف، لا مستقبل في المغرب، حسب صيغة البروفسور المهدي المنجرة، إلا لشيء واحد في المغرب، ألا وهو الفقر والفقرقراطية.

لكن حاليا، مع الأسف الشديد، لازال المغرب يفتقد مثل هذه الرؤية. وأما إن كان للقائمين على الأمور رؤية، في هذا المجال، فإنها مازالت محجوبة على المواطن ولا يعلمها، وبالتالي وجب الإفصاح عليها في حالة وجودها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى