الثلاثاء ١٥ شباط (فبراير) ٢٠١١
بقلم إبراهيم سعد الدين

حتَّى لا يَضيعَ دَمُ الشُّهداءْ

«مَنْ يَقْنَعْ بِنِصْف ثَوْرة.. يَحْفُرْ قَبْرَه بِيَدِه»، هذه هي المقولة التي كانت تتردّدُ على ألسنة ثُوّار مصر من الشَّباب الذين أشعلوا فتيل الثَّورة ـ ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون ثان ـ وقادوا جماهير الشَّعب بكل فئاته وطوائفه وأطيافه السياسية مُنادين بإسقاط النِّظام. وهي مقولةٌ أثبتت وقائع التاريخ وأحداثه صِحَّتها.

فالثورة في جَوْهرها هَدْمٌ لنظامٍ قائم فقد شَرْعيّته ومقَوّمات وجوده وإقامة نِظامٍ جديدٍ يُلبّي تطلّعات الجماهير وطموحاتها المشروعة في الحُرِّيَّة والعدالة الاجتماعية واستقلال الإرادة الوطنية. وقد كان موقف المُؤسّسة العسْكريّة مُشَرِّفاً في تفاديها الاصطدام بجماهير الثورة وهو صدام كان مُسْتحيلَ الوقوع أمام هذا الطوفان الهادر من جموع الشعب المصريّ التي هزمت منذ انطلاقها كُلّ أدوات القَمْع والقَهر من أمنٍ مَرْكزيّ وفلول شُرطةٍ استعان بها النظام الحاكم لأكثر من رُبْع قَرْن في إخماد كُلّ الهبّات والانتفاضات الوطنية والتنكيل بقياداتها ورموزها. والآن.. بعد أن سَقَطَ رأس النّظام مُمَثَّلاً في شَخْص مُبارك وحاشيته، هناك تساؤلاتٌ مَشْروعة تَطْرَحُ نَفْسَها بإلْحاحٍ على الضَّمير العام وبالأخصّ على المُؤسَّسةِ العَسْكريّة التي تُمسك الآن بمقاليد الأمور.

من هذه التّساؤلات على سبيل المثال لا الحَصْر ما يَتَعَلَّقُ بوجود الحكومة الحاليّة التي أُطلق عليها اسْم (حكومة تسْيير الأعمال) والتي تشَكَّلتْ في ظلّ حكم مُبارك برئاسة أحد وزرائه المُقربين والتي جاءت مُخَيِّبةً للآمال بكُلّ المقاييس. فهي تَضُمُّ خَمسَةَ عشَرَ وزيراً من الحُكومة المُقالة ـ حكومة الحزب الوطني ـ والتي اتُّهمت بالفشَلِ والفساد والإفساد. وبعض هؤلاء الوزراء تحوطه شُبهات التَّرَبُّح والإثراء غير المَشْروع والتزوير، وبعضهم أخفق إخفاقاً ذريعاً في أداء مهامّ منصبه، والبعض الآخر ـ ووزير الإعْلام المُقال أنس الفقي أحد الأمثلة الحَيّة ـ يَجْمع بين الإخفاق والتَّرَبُّح وتضليل الرّأي العام.

لقد كانت تشكيلة هذه الحكومة أحد الأسباب المُباشرة في تأجيج نار هذه الثورة وإلهاب غضب الجماهيرْ. غير أنّ المُفارقَةَ الغريبة والمُثيرة للتَّعجُّب حَقّاً تكمن في السؤال الذي يَطْرحه رَجُل الشّارع العاديّ: كيف تكون هناك حكومةٌ لِحِزْبٍ تلاشَى من الوجود واستقالت معظمُ قياداته العُليا وتبرّأت من كُلّ جرائمه وممارساته المُشينة في إفساد الحياة السياسيّة وتزوير إرادة الشَّعب ونَهْب ثَرواته..؟! أليْسَ من الضَّروريّ المُبادرة بتشكيل حكومة ائتلافٍ وطنيٍّ تضُمُّ كُلَّ ألوان الطَّيْف السّياسي في مصر لتكون قادرةً على إنجازِ مهامّ المرحلة الانتقاليّة والاضّطلاع بمسؤوليّاتِها، وهي مهامٌّ ومسؤوليّات جسيمة وبالغة الأهميّة والخطورة..؟!

من التَّساؤلات المُثارة أيْضاً ما يَتَعَلَّقُ بحالة الطّوارئ التي سادت طوال حُكم مُبارك وأتاحت للسُّلطةِ القائمة ـ آنذاك ـ ارتكاب جرائمها بحقّ الوطن والمواطنين دون مُساءلةٍ أو حِسابْ. لقد بادر المجلس العَسْكريّ بتطمين العالم الخارجي بإعْلانه الالتزام بكافّة المُعاهداتِ المُبرمة والمواثيق الدّولية، فلماذا لا تُبادرُ هذه المُؤسسة أيضاً بتطمين الشَّعب المِصْريّ بإلغاء حالة الطّوارئ والإفراج عن كُلّ المُعتقلين السّياسيّين وبعضهم من قيادات ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون ثانٍ التي يَتَغَنَّى بها كُلّ الناطقين بلسان الحُكْم الآن..؟ كيف تكون هُناك ثَورةٌ مُباركةٌ ومُعْتَرَفٌ بشَرْعيّتها من قبل المجلس العَسْكريّ القائم وبعض قادة هذه الثورة والمُتعاطفين معها رَهْن الاعتقالْ..؟ ماالّذي يحول الآن دون إلغاء حالة الطّوارئ والإفراج عن جميع المُعتقلين السّياسيّين..؟!

من هذه التَّساؤلات أيضاً ما يتعلَّقُ بمُلاحقة الفساد والمُفسدين. فما نُشر حَتَّى الآن من أسماء تخضع للمساءلة القانونيّة لا يَتجاوزُ عدد أصابع اليد الواحدة، يتقدّمهم الملياردير أحمد عِزّ أمين تنظيم الحزب الوطني وحبيب العادلي وزير الدّاخلية السّابق وبضْعة رجالِ أعمالٍ من وزراء الحكومة المُقالة. أين هو رئيس الحكومة السّابقة أحمد نظيف ورئيسا مجلسي الشَّعْب والشّورى وغيرهم من أركان النظامِ ورؤساء وزارات سابقين ضالعين في الفساد والإفساد وتبديد ثروات الوطن ونهْب موارده وخَيْراته..؟!

ولماذا لا تُنشَرُ بياناتٌ واضحة تتسمُ بالشفافية والنّزاهة عن ثَرْوة مُبارك وعائلته وكُلّ أقطاب نظامِه بعد أن نشرت كثيرٌ من الصُّحف الأجنبية ووكالات الأنباء العالميّة تقديرات عن هذه الثروات تتراوحُ ما بين 40 و 70 مليار دولار لعائلة مُبارك وحدها فَضْلاً عن الأصول الأخرى من عقاراتٍ وممتلكاتٍ بمُختلف دول العالم. لماذا لم تُصدر الحكومة الحالية بياناً شافياً ووافياً للرّأي العام بكُلّ هذه الثروات رَدّاً على ما يُثارُ ويُنشَرُ من بيانات بالخارج يَتَرَدَّدُ صَداها بالدّاخل..؟! لماذا لا توجّه الحكومة خطاباتٍ إلى كُلّ دول العالم بتجميد هذه الثَّروات مَنْعاً من تهريبها والتلاعب بها، خاصَّة وأنّ هناك أنباءً عن تسريب هذه الثروات في حساباتٍ يَصْعبُ تَعَقّبُها.

هُناك أيضاً تساؤلٌ عن الدّستور الذي تَمّ تعطيله ويُقالُ إنّ ثَمَّة لجنة قانونية ـ شُكّلت في ظِلّ حكم مُبارك ـ تقوم الآن بتنقيحه. لماذا لا تُبادر الحكومة بتشكيل لجنةٍ تأسيسيّة جديدة تضمُّ فُقهاء القانون والدّستور في مصر وبعض الخبراء ورموز الحركة الوطنية وتضمّ مُمثّلين لقيادة ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون ثان لوضْع دستورٍ جديد يليقُ بمصر ومكانتها وتطلعات شَعبها وطموحات ثورتها، بدلاً من ترقيع دستور مُهْترئٍ تَمّ تفصيل بعض موادّه لخدمة مصالح نظامٍ أسقطَتْه الثَّورة....؟!

ومن التَّساؤلات التي تَفْرضُ نَفْسَها أيضاً بقاء المنظومة الإعلامية من إذاعاتٍ مرئيّة ومسموعة وصُحفٍ رَسْميّة جَرَى العُرف على تسْميتها زوراً وبُهتاناً بـ"الصحف القوميّة". هذا الإعلام الرّسْميّ لعب دَوْراً مُخجلاً ومُشيناً في التَّنظير لنظام مُبارك والتَّرويج له وتبرير سياساته وإخفاء الحقائق عن الجمهور. وكُلّ رؤساء هذه المؤسسات الذين تربَّعوا على عرشها كانوا أبواقاً للنظام وأسهموا بقدْرٍ وافر في تضليل الرأي العام وتشويه الوعي وتخريب الوجدان، وجميعهم كوّنوا ثرواتٍ هائلة في ظلّ ذلك النظام وارتكبوا من الخطايا في حقّ الشَّعب ما يستوجب عزلهم وإخضاعهم للمحاكمة.

لكن المُفارقة الغريبة حَقّاً أنهم قاموا بدورٍ مشبوه ومُشين أثناء مُظاهرات الثورة ونعتوا المُتظاهرين بأقبح النعوت، فما أن انتصرت الثورة حتى حَوّلوا ولاءهم إليْها وأطلقوا عقائرهم بمهاجمة النظام السّابق والتَّغنّي بأمجاد الثورة. هؤلاء الفاسدون والمُفسدون ألم يحن الوقت لعزلهم من مناصبهم ومحاسبتهم على كُلّ ما اقترفوه من جرائم في حق الوطن والشَّعب، وإعادة صياغة المنظومة الإعلامية على أساسٍ وطنيّ وقوميٍّ يُعيد للإعلام المصْريّ مكانته وهيبته وحيدته ونزاهته كمؤسسة لِكُلّ المصريّين وليس كجهازٍ مُسَخَّرٍ للدّعاية والتَّرويج لكُلّ نظامٍ قائم..؟!

وأخيراً ـ وليسَ آخراً ـ هناك تساؤلٌ عن مُحاسبة الضّالعين في قَتْل أكثر من ثلاثمائة شَهيدٍ وإصابة أكثر من خمسة آلافِ جريحٍ في المُظاهرات التي أنجزت هذه الثورة من قوّاتِ الأمن وقياداته وبلطجية الحزب الوطنيّ الحاكم. أين هؤلاء المسؤولون مع وزير الداخلية السابق في ارتكاب هذه المجازر البشعة التي رأيناها جميعاً بالصَّوت والصورة في مشاهد تقشعرّ لها الأبدان وتستصرخ الضَّمائر..؟!

تساؤلات مُلحّةٌ ومشروعة يَنْبَغي ألاّ تتوقف حركة الثورة عن طرحها حتى لا تضيع دماء الشُّهداء والجَرْحَى، وحَتَّى لا نَقْنَع بنصْف ثَوْرةٍ تتربَّصُ بها قوى كثيرة بالدّاخل والخارج وتتأهَّبُ للانقضاض عليها وتصفية مُنجزاتها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى