الخميس ١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٥
قصة قصيرة
بقلم ليلى أورفه لي

وهم الحقيقة

-1-

كان خائفاً، متلهفاً، متوجساً، ومشاعر متضاربة تعصف به وهو ينظر إلى المغلف الأزرق المغلق بإحكام والمزين بتوقيعها على طرفي اللاصق بطريقة تفترض فتحه مرة واحدة فقط، مسترجعاً بعض حديثهما حين سلمته المغلف قبل عدة أشهر:

 إن شئت افتحه الآن واقرأه ... لكني أرغب في أن تقرأه فيما بعد، بعد فترة من الزمن، ربما حينما نفترق، أو حينما تعتقد أنت أن الوقت مناسب أو ضروري لتعرف ما بداخله.

= ألن تعطيني فكرة عما يحتويه ؟

أجابته بالصمت ...

تحسس المغلف بيديه ومتعجباً وقال :

= دعيني أخمن ما به ، ليس وصية لأن الوصية تسلّم إلى المحامي وليس لي، ثم أني لست من أفراد عائلتك حتى تخصني وصيتك ، إضافة إلى أنك في صحة جيدة وشابة تضجين بالحيوية والنشاط ، ولا يلائمك أن تكتبي وصية كالعجائز، كما أنك فقيرة والفقراء لا يتركون وصايا بعدهم، و ...

 قاطعته: أجل الفقراء لا يتركون وصايا بعدهم ... لأنهم يتركون أحلاماً مستحيلة، وآمالاً مؤجلة.

= إذاً لماذا هذا الغموض ، وماذا في هذا المغلف؟

وبلهجتها التي تبدو آمرة في بعض الأحيان قالت:
 افتحه الآن إذا كنت فضولياً لهذه الدرجة ، إن به أمراً لست واثقة من أني أريدك أن تعرفه الآن، لذلك كتبته وأريد أن أتركه للزمن .. للقدر.. للأيام القادمة، إن ما به مهم جداً، وأيضاً غير مهم على الإطلاق ... الأيام ستبين ذلك، وفي الحقيقة لا أدري إن كان صواباً أن تعرفه فيما بعد أيضاً، لكني أريدك أن تتأكد أنك إذا وجدت نفسك لست محتاجاً لأن تطلع عليه فبإمكانك أن تمزقه أو تحرقه وكأنه لم يكن، ولن يضيرني ذلك أو يحزنني.

ازدادت حيرته ، وأخفى قلقه قائلاً :
= إذاً إنها بعض قصصك أو ربما بعض قصائدك أو لعلك تعطيني موافقة منك على منحي كل مخطوطاتك سلفاً.
صمتت ... ابتسمت ... قبّلته مودعة ... وتركت على استدارة فمه شفتيها ...

-2-

كان يثق بها، ويعجب في كثير من الأحيان بطريقة تفكيرها ، وكان يحبها حين تصّر على السير قربه متأبطة ذراعه ، وحين تفرض عليه أن يسمعها وهي متكأة برأسها على صدره مسترسلة في حديثها عن عشقها له ، وعن اللحظات الأولى لتعارفهما وعن معجزة الحب التي حصلت وجعلتها تكتشف أنه هو حبيبها الذي كانت تنتظره عمرها كله ... كان يحيط كتفيها بحنان ويشدها إليه متلقياً كلماتها بهدوء شديد ويحرص على مشاعرها الرقيقة والجارفة بآن واحد ويسمعها تعيد سرد هذه الحوادث في مناسبات مختلفة ، وكل مرة بطريقة جديدة وكأنها تحكي عنها للمرة الأولى .

حين التقاها أول مرة اختلطت عليه مشاعره ، اعتقد أنه يعرفها منذ زمن بعيد ، وأنها حبيبته المنتظرة ، اشتاق إليها كثيراً ، وفكر بها كثيراً ، وكان دائما يسأل نفسه عن سر تعلقه الفوري بها حتى صارت أسئلته أغصانا مورقة في قصيدة الحب واللهفة ، فأخبرها بالكثير من شعره عن مشاعره ، وعاش معها فرح الحب ونشوته ، ثم اختبر بداخله شعوراً آخر ، وكأن انبهاره بها قد تلاشى ، وأن ما يحمله من مشاعر لا يشبه شعور الحب الذي دغدغ قلبه لأول مرة في حياته وأيضاً لا يشبه شعوره حينما أخبرها بأنه يحبها .

ينتابه تجاهها مشاعر أكثر من الصداقة التي يكنها للأخريات وأقل من الحب الذي يشتاق إليه ، كان يحترمها ، ويحترم صدقه ، يحترم مشاعرها ، ويحترم أنوثتها ، لذلك أخبرها عن تغيير مشاعره ، وبأنه يأسف أن يحرم نفسه من التمتع بكل هذا الحب ، وفوجئ بردة فعلها التي اختلفت عمّا توقعه تماماً ، فهي لم تغضب ، ولم تصرخ ، لم تقل له ما كان يتوقعه مثل " أنت غشاش " ، أو " لقد خدعتني " أو ماشابه ذلك مما تقوله غيرها في مثل هذا الموقف ، كما فوجئ بها تُفهمه أنها لا يمكن أن تخسره ، وأنها ستبقى تحبه وتمنحه هذا الحب ، ولن تفترق عنه ، لم يفهم موقفها هذا ، لكنه احترم إرادتها وإصرارها .

أحب حبها له وتعلقها به ، لم يمنع نفسه عنها ، ترك لها دائماً حرية التصرف ، وبالوقت نفسه لم يشجعها على أي أمر سوى الكتابة .
حين كانت تطلب منه أن يسيرا معاً تحت المطر ، لم يكن يرفض بل كان يشعر ببهجة ونشوة رائعة وهي تسير قربه متأبطة ذراعه .

وحين على شاطئ البحر كانا يتأملان الأمواج الصاخبة كان يجد أنه من الطبيعي أن يحيط كتفيها بذراعه ليمنحها الاطمئنان والإحساس أنها تنعم بدفء رجولته أمام هذا الصاخب الجميل .
وحين رغبت ذات مرة بحصاة لونها أخضر ، فتش طويلاً على الشاطئ حتى وجدها وقدمها لها وتلقى قبلتها على أصابعه بشيء من الارتباك .
وعندما طلبت منه مرافقتها لمشاهدة عرض سينمائي تحمس لفكرتها وشعر أنه قضى معها أمسية رائعة .

وحين رآها قد صاغت الحصاة الخضراء وعلقتها بسلسال ذهبي قصير يلف عنقها فقط ، ضحك لجنونها ، ومثلما يتلقى الآباء تصرفات صغارهم بشيء من التقبل والفرح والحب على أمل أنهم سيكبرون وسيتعقلون ويقلعون عن جنونهم كان يقبل منها كل شيء .

كان يرفض أن يقبّلها لكنه لا يستطيع أن يقاوم قبلاتها ، وكان أحياناً يشفق عليها وأحياناً يشفق على نفسه من هذا الوضع الصعب والجميل بينهما .

كان ينتظر يوماً تقلع فيه عن حبه ، أو يوماً يعشقها فيه بمثل جنونها ، لكنه كان متعباً من فتور هذه المشاعر في قلبه رغم أنه لا ينقطع عن التفكير بها في غيابها ، ويهتم بكل ما يهمها ، يؤمن لها كل ما تحتاجه ، وهو حاضر لتلبية كل ما تريد بمجرد أن تتمناه قبل أن تطلبه.
إنه يعرف بأنه ذو مزاج يميل إلى الاكتئاب والحزن بسرعة ويدرك أنه مثقل بواقعه المتعب وأعماله غير الموفقة في كثير من الأحيان ، كما أنه يفهم أن الحب التزام ومسؤولية وزواج وأسرة لذلك هو غير قادر على التورط بعشق امرأة مهما كانت ، إضافة إلى أنه يعرف بأنه من هذا النوع من الرجال الذي لا يستطيع الخضوع لقيد أو أسر حتى لو كان قيد الحب الجميل .

كل ليلة كان يغفو على الصراع في داخله ، ويحاسب نفسه متسائلاً هل بتصرفه هكذا يؤذيها ؟ هل تتألم لأنه أخبرها أنه ما عاد مغرماً بها ؟ وهل تعتقد أنه يحبها لمجرد أنه يجاريها في كل ما تريد ولأنه يتقبل الحب منها ، ماذا تفكر به الآن بعد كل هذا المشوار الطويل ، وهي الصامتة دائماً رغم كثرة أحاديثها ؟

إنه لا يجرؤ على الحديث معها بهذا الخصوص بشكل مباشر رغم أنه يشعر أحيانا أن لديه فرصة للكلام حينما تعود للتحدث عن لحظات تعارفهما الأولى ، وعندما يحاول معرفة أسرار الحزن في عينيها ، عند منعطف ما من الحديث يدرك أنها تهرب من شيء ما ، من البوح بحقيقة ما ، من الإفصاح عن حزن ما يبدو خلف نظراتها تدفنه في عمق سحيق من روحها . فيسأل نفسه : هل تصمت متألمة بسببه هو ؟

ولو فاجئته بالسؤال " هل تحبني " ؟ بماذا سيجيبها ؟ هل يقول " لا " فيطعنها مرة أخرى ؟ أم يقول " نعم " فيخون هذا الصلب اليومي لروحه على خشبة همومه ومتاعبه ، فيخفي حيرته في الحديث عن الأصدقاء وعن مشاريعه وكيف سيغير عمله وينتقل من مكان إلى مكان آخر ... وكثيراً ما كان ينتبه إلى أنها تحدثه عن كل شيء في عملها ، عن كتابتها ، عن ماضيها ، وعن كل ما عاشته ، ودائما لديها من الجديد ما تخبره به ، فعلت كذا ، قرأت كذا ، كتبت كذا ، رأيت فلان ، ذهبت إلى هنا ، سافرت إلى هناك ، ولكنها أبداً ما كانت تحدثه عما ستفعله غداً أو الأسبوع القادم ، أخبارها كانت دائماً عن أمر حصل ، وكأن الزمن يوشك أن يتوقف عندها الآن، في اللحظة التي هي بها ، وهذا ما يثير فضوله وحزنه لكونه يشعر بأنه ليس لديه الحق في سؤالها لأنه يشعر أنها معه تحديداً تفضل أن تعيش العلاقة بينهما يوماً بيوم بلا ماض ولا مستقبل والماضي المهم بالنسبة لها هو فقط لحظة تعارفهما .

-3-

كان يحلو لها دائماً استرجاع بداية علاقتهما ، وتذكر بفرح لحظة تعارفهما للمرة الأولى في إحدى الرحلات حين سألها :
= أعتقد أني التقيت بك في مكان ما قبل الآن وسمعت صوتك .
أجابته بالنفي وهي تحاول أن تتذكر أيضاً أين رأت هذا الوجه وسمعت هذا الصوت ، واستمر في أسئلة مشابهة وهي تجيبه بأسئلة تحاول من خلالها شحذ ذاكرتها ، ولم تستطع التذكر ، لكن وجهه انطبع فوراً بذاكرتها ، ولحظة سؤاله لها أحست بشيء من الحب له ، هكذا فجأة وبدون مقدمات ، وكانت تلتقط نظراته تخصها بابتسامة منها دون الجميع ، وحين تسلقا منفردان المرتفعات الصخرية على قمة ذلك الجبل ، شعرا كأنهما يواصلان حديثاً كان سابقاً بينهما وأنهما أبداً ليسا غريبين التقيا مصادفة في هذا المكان ، شعرا أنهما يتنسمان أريج الله على هذه المرتفعات ، وشعر كل منهما كأن معجزة حب قد حصلت .

لحظة افترقا أحست أنها تفارق كل جمال الحياة وفرحها ، لم تحاول أن تلتقيه مجدداً ، كانت تخاف من حبها المفاجئ له وتحتار في أمر هذه المشاعر التي ملأت قلبها هكذا دون مقدمات إعجاب أو استلطاف أو صداقة ، لذلك اكتفت بمحادثته هاتفياً ، لم تحدثه عن تفكيرها المستمر به ، وعن عشقها له ، لكنها أهدته كتب أشعارها ، وأهداها الورود والأصداف البحرية. في عيد رأس السنة قدمت له هدية وأخفت في قلبها عشقها ، أما هو فقدم لها في عيد ميلادها كل أشعاره مع شمعة تموج باللونين الأزرق والأخضر ، وأخبرها أنه منذ البدء عرف بأنها مجبولة من حب وحلم ، وبأنها مجبولة من حزن وذكريات ، وأن ما جبلت به هو فرحها السرمدي ، لذلك فإنها منذ البدء دخلت في بعض مسامه وبعض عروقه وفي كل أفكاره ، وأخبرها بأنه ضاع بين غابات عينيها فوجد فرحه ، هذا الفرح الذي كبر منذ البدء وتحول رقصاً حين صارت كلمات أشعارها بين يديه ، وصار جنوناً حين سمع صوتها ، فشعر بشيء من الحب ، بشيء من ذاك الذي الذي يصدمنا لا نعرف متى ، ويضربنا لا نعرف كيف ، لكنه يجعلنا نضحك ، ونثور، ونلعب كالأطفال ، وأحيناً ودون مقدمات يجعلنا شعراء فتتغير ألفاظنا وتتغير قواميسنا وأوزاننا، ويتغير حتى لون دمنا ، ولون أعيننا وتصبح أصابعنا أقلاماً تخط قلوباً وتخط عطراً وتخط موسيقى .
فرحت كثيراً لأن مشاعرها لم تكن من طرف واحد ، ورأت في كلماته وفي قصائده جمالاً يفوق كل هدايا الميلاد ففاض قلمها بقصائد الحب ، يعبر عن فيض الحب في قلبها ، وحين التقيا على الشاطئ صارت رمال الشاطئ تنبت مكان خطواتهما أزهار الحب التي يسرع الموج إليها ليتنسم منها عبير الفرح ، ويحتفظ بها بين طيات زبده .

-4-

كانت الكتابة عشقها ما أن تبتعد عنه حتى تكتب له وتصور وتفسر كل لحظة من لحظاتهما معاً تزينها بورود الشعر وأحلام الحب .
كانت تكتب فرحة ، فجأة ذعرت من صفحتها البيضاء تعيد إليها رؤيتها القديمة وترسم لها بكل وضوح وجهاً عرفته يوماً ، فتذكرت فجأة أين التقت هذا الوجه وأين سمعت هذا الصوت ، وعاد إليها هذا الخوف المبهم الذي ينتابها كلما تذكرت ذلك الهاجس المؤلم الذي تراءى لها قبل عشرين عاماً ، وكأن كتاب القدر قد فتح لبصيرتها فقط ، حيث رأت نفسها تفارق الحياة عند العمر الذي هو عمرها الآن وبين ذراعي رجل يحمل نفس ملامحه ، وفي مكان لم تقع عليه عيناها بعد .

كانت تتذكر هذه الرؤيا بين حين وآخر في بعض مراحل حياتها ، لكنها أبداً ما صدقت نفسها ولا صدقت رؤيتها رغم العديد من الحوادث التي وقعت لها في حياتها وأثبتت لها صدق العديد من تنبؤاتها وأيضاً رغم العديد من تنبؤاتها التي لم تتحقق ، وكانت دائماً تقول لنفسها أن هذا الهاجس هو حتماً نتيجة لتأثرها بالروايات الرومانسية التي كانت تقرؤها في مرحلة المراهقة والتي عادة ما تنتهي بمأساة عشقية .
لكنها الآن في هذه اللحظة أحست بالفزع من رؤياها وبالخوف من الإحساس الذي انتابها بأنها مثل النبي موسى الذي رأى أرض الميعاد ولم يطأها .
إنها الآن في العمر الذي رأت نفسها تفارق الحياة به ، ثم أنه هو .. حبيبها الذي باح لها بمشاعر الحب يوم عيد ميلادها يجسد في ملامحه صورة الوجه الذي رأته في هاجسها ، فلماذا هو وهو بالذات يحمل ملامح رؤياها ، ولماذا لم تنس هذه الرؤيا مثل كثير من الأحلام والهواجس الي نسيتها ؟ سألت نفسها هل تصدق الرؤيا ؟ لم لا لقد تحقق منها أمران اثنان وجهه وعمرها بقي أن يتحقق المكان ، فكرت كثيراً واستعادت تفاصيل رؤيتها ، واستعادت كل لحظة من لحظات حياتها معه ، علها تكتشف شيئاً ما يخبرها أنها واهمة وأنها مجرد هواجس ، وأن الحياة أمامها طويلة ، وأن ما حصل بينهما مجرد مصادفات لا أكثر . لكنها شعرت أن مثل هذه المصادفات لا تحدث هكذا بعشوائية دون مبرر ، وكلما أمعنت في التفكير تيقنت أنها راحلة في يوم ما من أيام هذا العام لا محالة ، ولن تبلغ من عمرها عامها التالي .

عاشت ما يشبه الغيبوبة في الأيام التالية حاضرة وغائبة في الوقت نفسه خائفة من كل شيء وغير قادرة على التفكير ، لم تكلم أحداً من أفراد أسرتها ولم تغادر سريرها وغرفتها متعللة بالمرض .
ذهبت لمرشدها تسأله عن رؤيتها ، متوقعة منه أن يخبرها بأنها وهم لن يتحقق فلا يعلم الغيب إلا الله فتصدقه ، لكنه لم يقل لها مثل هكذا الكلام ، وبعد نقاش طويل وضعها أمام الأمر كأنه حقيقة واقعة وسألها :
* ماذا ستفعلين بحياتك الآن ؟ وماذا تريدين أن تحققي فيها وأنت على وشك فقدانها وكيف ستتعاملين مع نفسك ومع الآخرين وفق هذه الحقيقة ؟؟
غادرته مذهولة ومصدقة بأن هذا هو قدرها وليس عليها سوى الصلاة والانتظار ، وسكن الحزن عينيها .

-5-

حين رأته بعد أيام نسيت كل شيء وسكنها الفرح فجأة ، غرقت في عينيه ، في صوته ، ارتقيا صخرة مرتفعة قرب الشاطئ بعد أن ضرب الموج وجهيهما حينما كانا يلتقطان الحصى والأصداف كعادتهما . لم يتكلما كثيراً ، كان يغني بصوته العذب الجميل ، غابت في صوته وكأنها تكتشف مناجماً من الماس ، وطغى بريق الماس في صوته على صوت البحر المتخبط في أمواجه القلقة ، وحين ساد الصمت بينهما سألته وقد انتبهت لشروده :
 ما بك ؟
تردد قبل أن يقول دفعة واحدة :
= أنا آسف لما سأقول لكني افتقد هذا الشعور الذي كتبت لك به أول مرة ، أنا لا أفهم نفسي ، أعتقد أني حملّت مشاعري بأكثر مما هي عليه ، أعتقد أني أودعتها حلماً ما ، لكني أمام حبك
ونبض مشاعرك وكلماتك أجد نفسي عاجزاً عن مجاراتك وأجد نفسي غير جدير بهذا الحب .

صمتت ، شعرت بما يشبه النزف في روحها ، وكأن جرحاً يفتح فاه بأكبر من البحر ليبتلعها وينز بألم لا تدري ما تسميه .
رفعت عيناها إلى الأفق ، إلى السماء الملتصقة بالبحر ، ماذا تقول له ، كادت تنطق بكل ما يعصف بها من وهم تعتقده حقيقة ، ومن حقيقة قد تكون وهماً ، كادت تصرخ بآه جريحة يخشع لهول ألمها البحر الصاخب ، لكنها قالت بهدوء يشبه هدوء العرّافات :
 لم يتغير شيء ، أنا أحبك هذه حقيقة واضحة ، إن كنت لا تحبني هذا أمر يؤلمني ، لكني لن أخسرك وسأحبك دائماً ، فاسمح لي أن أحبك وحدي ، و ....
وبدا كأن الصمت الذي ساد بينهما ورافق خطواتهما كان ينصت معهما لصوت البحر ...

-6-

صارت تعيشه في غيابه أكثر مما تعيشه في حضوره ، في غيابه كان ملكها كما تشاء ، وفي حضوره كانت تلتصق به ، تتأبط ذراعه تلقي برأسها على كتفه ، تقبله وتحاول أن تضخ عبر شفتيه بعضاً من روحها في قلبه ، أن تمنحه كل مالديها من عشق وحب وعطاء ولم تكن تطلب منه شيء ، كانت ترغب فقط في أن يتلقى حبها ليفيض بهذا الحب على حياته هو كما يشاء ، وعلى من يشاء ، وكلما التقته يزداد عمق إحساسها بأنها ستغادر حياته في لحظة ما توشك أن تأتي ، وأنها تعيش معه بداية النهاية لذلك لن تمتلكه في حضوره ، تكفيها أوراقها ، هناك الحياة الحقيقية ، هناك خلودهما معاً ، على صفحة البياض تحبه كما تشاء ، ويحبها كما تشاء ، على أوراقها سيبقى إن غادرت هي ، لن يموت بموتها ، ستمنحه الحياة بعدها ، وسينال ما يشبه شهرة اللواتي عشقهن جبران أو نزار ، حين تعيش هي من خلال كلماتها .

كانت تهرب في حضوره من خوفها وهواجسها التي تحاول أن تدفنها في الالتصاق به ،وتستمد مما تعيشه معه ما يشبع نهم أوراقها ، لمنحه الحياة بعدها ولبقائها على قيد الحياة ، لذلك حين كان يسألها عن صمتها وشرودها تقول له :
 إني أبحث عنك ، وكلما بحثت عنك ، وجدتك منتظراً على أبواب كلماتي .
= كيف تبحثين عني ، وأنا هنا معك ، ولماذا تجعليني أنتظر على أبواب كلماتك ؟
 لأني ، لفرح يجاورني أرفع نخب الدهشة وأرتشف رحيق الصمت .
يصمت وينصتان متشابكي الأيدي لنشيد البحر .

-7-

كل ليلة كانت تصليّ ، وترفع من أجله صلاة خاصة إلى الله ، تسأله أن يلهمها ماذا تفعل ، هل تخبره عن هواجسها أم لا ؟ كانت تخشى أن يصدق نبوءتها ويحزن لأجلها ويعيش ترقباً مرعباً يزيد من هموم حياته .
كما أنها كانت تخشى إن غير من تصرفاته تجاهها بأنها ستفسر أي تصرف منه على أنه ليس نابعاً من قناعته وإنما مما قد تسميه شفقة . وأيضا كانت تخشى أن يكون وهمها حقيقة وشيكة الحدوث ، فيعيش في ندم عليها وفي حزن وأسى مرير ، ألا يكفيه الآن شعوره بالذنب تجاهها لأنه من بادرها بالحب ثم أحجم عنه .

الحيرة كانت تعذبها ، لقد غيرت كل نمط حياتها على أساس أن وهمها حقيقة واقعة لا محالة عملاً برأي مرشدها وارتاحت لهذا التغيير ، ستترك كل شيء بعدها مرتباً وآمناً وجميلاً ، لكل أفراد أسرتها ، وغيرت الكثير من تعاملها مع الجميع بشكل لا يشعرون أن أمراً مهماً قد حصل استدعى تغيرها المفاجئ هذا ، إلا معه فقد حاولت أن تبقى كما عرفها للمرة الأولى حين أحبها ،
لذلك كانت دائماً تحدثه عن لقائهما الأول ، وكانت تعيش معه يوماً بيوم ، تقبل من ما يقدمه لها، ولا تطالبه بأي شيء ، وأبداً ما كانت تقول له حتى ، اتصل بي غداً أو هذا المساء ، كانت هي من تتصل به ، وما عادت تقول له اكتب ، صارت هي تكتب وتجعل من كل لحظة لهما معاً قصة قصيرة ، تعجبه حين يقرأ بعض التفاصيل وقد صنعت منها عالما آخر يشبه الواقع أو يوازيه ، ويمتدح موهبتها وتقدمها في الكتابة ، ثم يضحك وهو يقول لها :

= أنت هكذا تغشين الناس ولا تقدمين الحقيقة لهم .
 الحقيقة قد تكون وهماً ، والوهم قد يكون حقيقة أقوى ، لذلك في الكتابة تمحى الحدود ويصبح كل شيء حقيقة .
= ما دمت تصنعين من الوهم حقيقة ، لماذا لا أجد في عينيك سوى الحزن و...
تقاطع سؤاله بقبلة ثم تقول له :
 لأن الوهم حين يصير حقيقة يصبح الفرح مؤجلاً ، ويحتل الحزن كل المسافات الصغيرة جداً والتي قد لا نحسبها مسافة ، لذلك دعني أجلس بقربك وأضع رأسي على صدرك ولا تسلني عن شيء ، هكذا أشعر بالراحة أكثر .
وكانت تشعر بأنه يجاريها ويتقبل تصرفاتها العاشقة له ليحاول تعويضها عن جملتها التي لم تكتمل ذات يوم هناك على الشاطئ .

-8-

سألها أحد الأصدقاء أن تزوره ، كان صديقها الكبير العزيز جداً ، عمر صداقتها له بعمر تجربتها في النشر والكتابة ، وكان أديباً رائعاً ، وكانت تحبه كثيراً ، أخبرته أنها ستزوره غداً ، ثم تنبهت إلى أنها أطلقت وعداً قد لا تستطيع تحقيقه ، وهي تحاول دائما تلافي إطلاق الوعود لأحد .

في اليوم التالي انشغلت عنه فاتصلت به واعتذرت لانشغالها فقال لها :
* لا بأس يا صغيرتي تعالي متى تشائين .
صباح اليوم التالي علمت بموته ، كان يقترب في عمره من الثمانين ، لكنها ذهلت لموته الذي لم تكن تتوقعه ، لم تبك ، وسألت نفسها عصر ذلك اليوم " كيف لم أفكر أن أحداً غيري يمكن أن يموت الآن ، لو كنت أعرف أنه سيموت هل كنت أعتذر عن لقائه لأي سبب ، هل كنت فارقته؟" .

بعد الجنازة ودفن صديقها الأديب الكبير ، غرقت بداومة كبيرة من الحزن والكآبة وعادت إليها هواجسها ماذا تفعل ، إنه ينتظرها ، اتصلت به لتعتذر منه وحدثته عن صديقها الذي ندمت أشد الندم لأنها لم تذهب للقائه قبل موته كما أراد منها . قال لها :
= تعالي أنا أنتظرك .

 لا لن آتي ، إني أشفق عليك من حزني وكآبتي .
= إن كان حزنك فقط ما يمنعك فلا تهتمي ، تعالي وحدثيني عن كل ما يحزنك وأنا أزيله عنك ، وتعالي لأني مشتاق إليك ،
ضحكت وصمتت ، فاستدرك قائلاً :
= إلا إذا كنت كعادتي أزيد من حزنك .
رجته أن يصمت ولا يتكلم بهذه الطريقة
= إذاً تعالي ، وإن كنت لا تريدين أن تحدثيني عن أحزانك فاكتبي عنها ، المهم أن لا تتركي الحزن يسيطر عليك بهذا الشكل ، والأفضل أن تتركي كل شيء الآن وتأتي ، أنا أخاف عليك من حزنك .
 إني أريدك أن تراني جميلة وفرحة كما رأيتني أول مرة ، والآن يبدو الارهاق والتعب على وجهي لذلك أعدك سنلتقي غدا بإذن الله .
= كما تشائين ... سأنتظرك .

أعادت سماعة الهاتف وغرقت في التفكير مجدداً ، أين الوهم وأين الحقيقة ؟ لقد أطلقت وعداً للتو فهل ستقوى على تحقيقه ؟ ألن تحصل كارثة أخرى ؟
لقد كانت دائما تصلي إلى الله وتسأله ماذا تفعل ، فهل يعقل أن يكون هذا هو جواب الله لها ، ألم تكن تتساءل كيف يمكن له أن يعيش شعوراً بالندم أو القهر لاحتمال رحيلها ، والآن هي اختبرت في قلبها هذا الشعور ، إنه مؤلم جداً ، فهي لو توقعت موت صديقها لم تكن ستشفق عليه إنما كانت ستعيش معه كل اللحظات بحب ثمين ، وهذا ما أكدته لها ابنة صديقها حين أخبرتها وهما يواسيان بعضهما :
* أعرف أن أبي مسنّ ورغم ذلك فاجأنا موته كالصاعقة لو مرض لساعات قليلة على الأقل لكنا شككنا بموته ، وقضينا هذه الساعات معه بقربه ، لأخبرناه كم نحن نحبه وكم كانت حياتنا معه رائعة ، لكن الحياة شاءت هكذا أن يرحل وحده وبصمت .
فكرت بحبيبها بأهلها بأصدقائها ، هل سيشعرون هكذا مثلما شعرت ابنة صديقها ، هل سيرغبون بذلك حقاً ؟ وهو هل سيشعر هكذا مثلما شعرت هي تجاه صديقها حينما تمنت لو قضت معه كل الوقت ؟ كيف لها أن تعرف ؟ وماذا ستفعل ؟
لقد قال لها اكتبي ، ستكتب له أجل ستكتب له وهم الحقيقة وحقيقة الوهم وستترك له أن يختار بنفسه ماذا يريد ، وهذا التفكير أعاد لها الأمل بالحياة ، ألم يقل لها مرشدها : " الحب والإيمان يصنعان المعجزات ، والحب هو معجزة الله "
طبعاً ستكتب ، إنها تخشى أن تخونها دموعها فيما لو تكلمت معه بهذا الموضوع ، ودموعها هي الشيء الوحيد الذي لا تريده أن يراه ، ستكتب له وحده فقط ، هو فقط من يهمها أن يعرف بهذا الأمر من بين كل الناس . قضت الليل كله تكتب رسالة عن رؤيتها وعن وهمها الذي تشعر أنه حقيقة ، وضعت أوراقها في مغلف أزرق جميل وذهبت في اليوم التالي إليه .

في الطريق عادت إليها شكوكها وفكرت ، إنه ليس مثلها ، إنها تعرف حقيقة مشاعرها
تجاه صديقها والجميع يعرفون كم هي تحبه وتجلّه وتحترمه ، ثم هل يمكن لحبيبها أن يفكر مثلها، ألا يمكن أن تكون كل علاقته بها وقلقه عليها شفقة منه أو شعوراً بالذنب ، ما دام استمرار عشقها له لم يجعله يعود لمشاعره الأولى تجاهها فهل ترضى لقلبها بحب قد يأتي إليه بمجرد أن يعرف حبيبها بأوهام قد لا تكون حقيقة كما يقول مرشدها في بعض الأحيان ، وهي وحدها فقط تحس أنها حقيقة ، هي وحدها تختبر مثل هذا الشعور ، هل تقبل بحب كهذا ولو لساعات قليلة ؟ إنها لعبة القدر معها والحدس الذي يصيب أحياناً ويخطئ أحيانا أخرى .

وصلت إليه والحيرة مرسومة على وجهها ، استقبلها فاتحاً ذراعيه واحتضنها بحنان دافئ قبّلته بشوق وحزن عارم ، هل تنبض شفتيه بالعشق تحت وطأة قبلتها أم هكذا توهمت ..؟
كانت تفكر أثناء كلامه بالمغلف الأزرق في حقيبتها ، ماذا تفعل به ؟ ثم حسمت أمرها ما دام الأمر برمته لعبة القدر ومصادفات الحياة فلماذا لا تترك نفسها لها بل لماذا لا تترك نفسها للعناية الإلهية ؟ أليست هي من تثق دائماً بالعناية الإلهية وما تنفك تخبر عن حضور الله في حياتها فلماذا تقود حياتها بنفسها ؟ ولماذا تصادر حق الآخرين بمعرفة مشاعرها واختبار مشاعرهم وردات فعلهم تجاه وهم أو تجاه حقيقة ؟

أخرجت المغلف من حقيبتها ، ألصقته ثم تناولت قلمها ووقعت على طرفيه اسمها وناولته إياه .

-9-

المغلف في يده ... وعلى استدارة فمه كان طعم شفتيها يتعمد بملوحة الدمع.

انتهت


مشاركة منتدى

  • ليلى
    هل عشت الأم ملوحة الدمع الذى يعمد وجنتى انسان سبب نزوله هو وهم الحقيقة ولمادا الدمع مالح الطعم فهل هو مطهر لألام وهم الحقيقة..... لا تقولي نعم ياسيدتى لانك لم تعرفي وهم الحقيقة بعد ولم تعرفى حقيقة الوهم فوهم الحقيقة مرض لم يخوض بحاره غيري اما حقيقة الوهم فهو موجود فى كثير من المغلفات التى ربما بعضها ازرق..ز فوهم الحقيقه هو أن يؤسر الإنسان فى قفص بحجم الكون إلا انه لا يتعدى مساحة المخ فهو وهما يقود الى انتحار العقل وتكفير التفكير وللحديت بقية

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى