الأحد ١٣ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١١
بقلم أحمد بلكاسم

الهواء كئيب

الهواء كئيب، الزقاق كئيب، عار من الفرح، إلا من الحفر والنفايات، البيوت الواطئة استسلمت للحزن، خالية من أصوات البشر، وجوهها شاحبة كوجوه العجائز في حفلات التأبين، يلفها الوجوم من كل جانب، كأنما انتشلت من مخلب إعصار عنيف. سعيد في يوم عطلة، ما كان له أن يكون نغمة نشاز في هذه الأجواء الكالحة، فيخرج من البيت وهو يدندن أنشودة لا تخلو كلماتها وموسيقاها من شجن دفين، ويترك الكتيب الذي أهدي له بمناسبة تفوقه في الدراسة، سيما وأنه أشرف على نهايته، وهو يعي جيدا أن الأمور بخواتمها، لولم تسخره أمه لإحضار الخبز من المخبزة.

هذا الصباح الحالك، وهو في طريقه إلى حيث أمرته أمه، صلى سعيد لربه وابتهل، كي يعثر على ضالته، عله يجدها أمام عتبة باب ما، أو عند البقال، و لم لا تكون بانتظاره في المخبزة. لقد تاقت نفسه إلى قراءة كتيب، أو مجلة، أو صحيفة، أو حتى وريقة من وريقاتها. لكنه لا يملك جيبا يساعده على اقتناء الكتب من المكتبة، فقط يجمع ما يجود به عليه الرصيف تارة ، والبقال تارة أخرى من أوراق الصحف والمجلات. ويكون سعيد سعيد الحظ، إن كان القرطاس ملونا .. ذلك هو دأبه كلما تأهب للخروج من المنزل، لقد تعود على التقاط الأوراق الملقاة في الشارع، ليشبع جوعه إلى القراءة إن حالفه الحظ.

وكأن باب السماء كان مشرعا على مصراعيه؛ فلقد لفت نظره ما لم يتصوره قط، لفة من الجرائد وضعت بعناية عند قدم عمود الكهرباء، على عجل التقطها سعيد، أحس بأنها ثقيلة شيئا ما، تحسسها بأنامله الفتية، فإذا هي تلف علبة في حجم كتاب الجيب، طار سعيد فرحا، تأبط اللفة واشترى رغيفين، وأقفل راجعا إلى البيت، لا يلوي على شيء.

بعد أن سلم والدته التي كانت تنتظره عند باب البيت الرغيفين، تسلل إلى حيث تقبع محفظته، ودس فيها العلبة المنمقة، واكتفى بقراءة الجريدة. سيقرأ سعيد كثيرا، وسيظل يقرأ بشهية ملء النهار، وربما زاد طرفا من الليل، ولكن عقله، كان يهفو إلى العلبة ويفكر في من صنعها، وماذا تضم بين حناياها، وكم هي رقيقة وفنانة الأنامل التي أبدعتها، قال سعيد في قرارة نفسه.
لم يقاوم رغبته الجامحة في معرفة ما بداخل العلبة، فتسلل مرة أخرى إلى حيث تقبع محفظته في هدوء، وأمن وسلام، واستل العلبة المنمقة، كم هي جميلة، رائعة المنظر، بديعة الصنع، لا شك أن ما بداخلها أجمل وأروع وأبدع، همس لنفسه، وأضاف: قد يكون ما تضمه بين ثناياها كتابا وديعا، قد تكون ساعة نفيسة، انبسطت أسارير سعيد، وهو يداعب العلبة بلطف، ورقة، وحنان، ونعومة، ابتسمت لها شفتاه، وخفق لها قلبه، اعترته قشعريرة من الفرح الجامح، وهو يتأملها، فرح لم يحس به منذ زمن طويل، طويل طويل، منذ أن استشهد أبوه. استهوته هذه الفاتنة، وسحرت لبه بثوبها الناعم الزاهي، وخيوطها الذهبية، التي توشحها، كما تحتضن ذراعي صبية دميتها. في كل لحظة كان يهم فيها لفك هذه الخيوط، كان يستفزه سؤال خفي: ويحك ألا تكفيك هذه الألوان الخلابة؟ وهذا الشكل الجذاب؟ وهذه التنميقات الباهرة؟ التي تنضح بألف ابتسامة وابتسامة؟لم يقاوم سعيد رغبته الجامحة هذه المرة، تسللت أنامله الفتية الوديعة إلى الخيوط الذهبية العجيبة، لتفك العقدة، انفتحت أسارير محيا العلبة، فانبجست منها اثنتا عشرة ابتسامة، كل ابتسامة تشبه سابقتها، إلا الابتسامة الأخيرة، فكانت عبارة عن دوي انفجار فظيع، حطم قلب سعيد الذي طالما احتضن العلبة في شوق وحنان، ورقة وسلام، تمزقت أوتاره، وتناثرت ذراته، وتلاشت ألوان العلبة المنمقة البديعة، تاركة وراءها جرحا عميقا، ينزف دما، وطهرا، وبراءة، وثأرا


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى