السبت ٢١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٦
بقلم سليمان نزال

السنديانة

في صبيحةِ يوم ٍ بارد ٍ من فصلِ التيهِ و العواصفِ و المنحنياتِ, اتفقَ أن اجتمعَ سبعة شبان داخل منزل تعود ملكيته الأصلية إلى شجرة زيتون.

كان المنزلُ كبيراً. و كان رغم التصدعات و الإصابات جميلاً في عنفوان..غير أن الخلافات التي وقعت بين الشبان, خلعت المزيد من نوافذه الكثيرة, تعاونها رياح التخبط و الأهواء.

حين تحطَّمَ بعض الأثاث الثمين و النادر.. بفعل اعصار غريب دخيل.. تدافعوا و زعمَ كلٌّ منهم أنه ورثه عن الزيتونة الأم..و أن جذور أحفادها تشهد له على ذلك..

اقترحَ أحدهم أن يتشاركوا في تصليح الأثاث المُهشّم و الأبواب المتطايرة و الشبابيك المختنقة و الجدارن الأيلة للسقوط و السقف الذي تتدافع منه زخات الخوف..

راقت لهم الفكرة , لكن أحدا منهم لم يتمكن, رغم المحاولات البائسة, من دق مسمار بوضع صحيح, في طاولة مهشمة..تشتاق الوقوف المريح على أربعة أرجل أو حتى ثلاثة..

فعادوا إلى خلافاتهم المستديمة, التي كانت تتوقف, أحياناً , بسبب الثلوج المتساقطة, و نظراً لارتعاش أجسادهم أمام الأعاصير و دبيب القرِّ و هجمات الصقيع.

سارعوا إلى نزع الستائر المتبقية, التي طالتها يدُ التمزيق..التفّوا بها , و ظلّوا يرتجفون و يتصايحون..إذ كان البرد القارس شديدا..

قال أصغر الشبان عمراً : - خذوها مني يا جماعة! الحل الناجع يكمن في استخدام خشب النوافذ و المقاعد و الطاولات كوقود نتدفىء به.. فنشعر بالأمان.

استحسنوا الاقتراح .. و اضرموا النيران في الحطام..احسّوا بالتحسن, و أخذوا يتسلون في لعب الورق و يطلقون النوادر.. و في الخارج كان كل شيء ينذر بعواصف أكبر و أقوى و أشد تخريباً..

بقوا على حالهم هذه عدة أيام , حتى وجدوا أنفسهم في مواجهةِ الرماد.. و البرد الذي عادَ ينخر اجسامهم بسهامه المتجمدة.

ساد صمتٌ.. و اشتعلَ الترقبُ, و رمتِ المخاوفُ ظلالها..إلى أن سمعوا أكثرهم نزقاً يقول:- اسمعوا يا شباب! ما عاد لنا سوى شجرة السنديان الكبيرة , نجعلها حطباً في موقد.

قال أحدهم:- لا..هل تقصد شجرة السنديان التي في الحديقة..أنا أخاف الاقتراب منها, سمعتُ من جدتي أنها شجرة مباركة و مقدسة.. و قيلَ أنها كانت تخفي في احشائها المطاردين...

 لا تخف.أنا أخرج إليها..اعطوني هذه الفأس..

ترددَ النزقُ قليلا , تمتم بكلمات غير مفهومة ثم َخرج , و هوى على الشجرة بفأسه.. و ظلَّ يضربها حتى وقعَ مغشياً عليه دون أن يظفرَ سوى باقتلاع بعض أوراقها..

حين تأخَّرَ صاحبهم, ذهبَ ثلاثة من الشبان لتفقده..حملوه إلى داخل المنزل.

لما أفاقَ الشاب النزق, سردَ لهم ما وقع من أمره مع السنديانة العنيدة..

كان غاضباً و عصبياً إلى درجة أنه أسرعَ إلى القبو و أحضرَ من هناك, كميات ٍ كبيرة ٍ من "الديناميت" و عادَ يزعق:- سأنسفها نسفاً .. تتركنا للعواصف و لا تستحق النسف!

اعترضَ أربعة شبان على موضوع تفجير الشجرة الحارسة.. لكن الهواء البارد الذي كان يصفع وجوههم و أطرافهم..جعل أصواتهم غير مسموعة..مما جعل الصراخ الفتي الأهوج يختلط مع صرخات خضراء,

الصوت الوحيد الواضح الذي انطلق مدوياً, و اهتزَّت له أرجاء المكان و صوره و ملامحه كان صوت الانفجار الحزين..

تساقطت الأغصان النبيلة, و أُزيلَ الجذعُ الصلبُ .. و أُدخلت السنديانة الكبيرة, بعد مشقة منهم في حمل كنوزها, لتغدو حطبا في مواقد الفلتان..

سبعة شبان يتكومون حول النار الموقدة...يتحلقون حولها بعد نسفها من جذورها..بعضهم أعلن ندمه, و كابر البعض الآخر..

هدأت العاصفة قليلا..فقرروا ترك المنزل لقضاء حاجاتهم و تفقد عوائلهم..و لم تنقطع صيحات الخصومة على الطريق.

.لكنهم, عندما وضعوا أولى خطواتهم خارج المنزل وقفوا متسمرين مذهولين , لا يلوون على شيء..!

كانت السنديانة في مكانها, نفس المكان في الحديقة ..لم ينقص الاخضرار شيئاً.. النسغُ المشرئبُ يضيىءُ الصدورَ, كلها كانت هناك منتصبة و شامخة تتوهج.


مشاركة منتدى

  • أستاذ سليمان
    تحيتي لك, ياابن السنديانةالبار.. جميل ما قرأت.. رغم الألم.. ولكن, ليس هذا فقط ما دفعني للتعليق. أحلف أني منذ أكثر من أسبوع أعمل على قصة قصيرة(أرجو أن تقرأها قريبا إنشاءالله هنا)كنت سأعنونها, بالسنديانة ومن جميل الصدف صديقي وبسبب .. قرابتناالروحية مع السنديان..تبين أن سنديانتي هي .. سنديانتك!.!
    نرجو معاً, من الله تعالى, أن يعود الأبناء, كل الأبناء..إلى حضن السنديانة.

    سلم قلمك.

    أكرم حسن (منصورة)

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى