الاثنين ٢٣ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٦
بقلم إدريس ولد القابلة

هيئة الإنصاف والمصالحة والحقيقة المعوقة

تقديم

لقد عرف العقد الأخير انفتاحا ملحوظا للحياة السياسية المغربية وبروز الرغبة في المضي نحو اتجاه احترام أكثر وأكبر لحقوق الإنسان ودرجة من الاستجابة مع حركة حقوق الإنسان المغربية والدولية. وذلك بفضل نضال مرير خاضته قوى ديمقراطية مختلفة المشارب، وبفضل صمود آلاف المعتقلين السياسيين وضحايا الاختطاف والاختفاء القسري والمعتقلات السرية وعائلاتهم، وعائلات المختفين وضحايا الشطط والتعذيب، وبفضل الجمعيات الحقوقية والهيئات الوطنية الديمقراطية ووسائل الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني. إلا أنه لا يمكن الجزم بأنه هناك قطيعة فعلية وكلية مع ممارسات الماضي، فإن انتهاكات حقوق الإنسان والدوس على الصفة الإنسانية، سواء من حيث التشريع أو الممارسة أو الجواب على الأسئلة المطروحة في هذا الصدد والتي لازال عدد كبير منها ينتظر، لذلك كان أمل كبير معقودا على ما سيسفر عليه عمل هيئة الإنصاف والحقيقة.

قدمت هيئة الإنصاف والمصالحة تقريرها للملك وبرزت من جديد أهوال ما حدث وجرى بالمغرب منذ السنوات الأولى من الاستقلال السياسي من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان والدوس على الصفة الإنسانية، ومن شطط في استعمال السلطة وعنف تجاوز الحدود في تدبير الصراعات والخلافات السياسية لتطرح من جديد ذات الأسئلة التي طُرحت بالأمس القريب: لماذا وقع ما وقع من أهوال وتشريد العائلات والظلم الممنهج وتهميش وإقصاء مناطق من الوطن ومن حرمان من الحق في الحياة؟ وكيف يمكن ضمان عدم تكرار ما جرى. وفي هذا الخضم تساءل البعض حول هل يمكن تحقيق مصالحة بحقيقة معوقة؟

انتظر المغاربة ولازالوا تقرير الهيئة بشغف كبير، منذ أن بدأت "نقيطات" فحواه تتسرب، وحتى قبل الإعلان الرسمي والشفاف عن مضمونه بدأت الأسئلة تتناسل حوله على جميع الأصعدة: هل هو فعلا أجاب على الأسئلة الحقيقية المطروحة؟ وهل يمكن اعتبار حصيلته قريبة من الصور التي تكرست في الذاكرة الجماعية المغربية استنادا على المعاينة ومن موقع ركح الواقع الفعلي أم أنها مازالت بعيدة عن ذلك الواقع كما عايشه وعاينه المغاربة؟ وهل تقرير الهيئة هو فعلا محاولة للإجابة على الأسئلة المطروحة أم هو في واقع الأمر محاولة للتملص بطريقة ذكية عن مسؤولية الجواب على الأسئلة المطروحة وتسليط الأضواء على مختلف النقط السوداء؟ وهل التقرير تمكن من الكشف عن حقائق جديدة وأزاح مناطق الغموض أم أنه أعاد إنتاج المعلومات المعروفة ؟

هذه تساؤلات تناسلت وسوف تتناسل أخرى مع المزيد من كشف حيثيات وتفاصيل تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة.

الاختفاء القسري

التقرير... كان محكما في إطار واضح

الحصيلة

الوثائق التي اعتمدت عليها

لمن استمعت الهيئة؟

الهيئة وأرشيف الدولة

التعذيب

تحديد المسؤولية

كشف الحقيقة ورد الاعتبار

طي الملف....ما بعد التقرير....هل من مهمة جديدة ؟

انتظر المغاربة تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة

الحقيقة المعوقة

انتهاك من نوع جديد

العفو... انتهاك واضح في حقي

قالت " ليا ويتسن"

منظمة هيومن رايتس ووتش

لقاء حميمي مع جمعية ضحايا معتقل تازمامارت وأصدقائهم

الاختفاء القسري

من القضايا التي شكلت أحد المعايير الأساسية في نظر أغلب المغاربة للحكم على عمل هيئة الإنصاف والمصالحة حالات الاختفاء القسري الذي كان الهدف منه حرمان الضحايا من أية حماية قانونية.

و فعلا أقرت الهيئة في تقريرها وبوضوح، أن الاختفاء القسري كانتهاك جسيم حصل فيما بين 1956 و1999 وهو انتهاك لجأت إليه أجهزة الدولة كنهج ونمط للقمع والترهيب والتخويف في مواجهة المعارضين والمجتمع وأحيانا مست هذه الممارسة أشخاص لا تربطهم أي علاقة لا من بعيد ولا من قريب بالعمل السياسي أو النقابي أو الجمعي، وذلك لخدمة مصالح ذاتية بحتة وهنا تبرز بجلاء خطورة عدم خضوع الأجهزة الأمنية للحكومة وبالتالي تأكد القائمين عليها أن فوق المساءلة والمحاسبة وأن ما يقترفون من انتهاكات لن تعرف.

كما أقر التقرير أن أجهزة الدولة اعتمدت هذا الانتهاك الجسيم، ودرست الهيئة بهذا الخصوص ما قدره 808 ملفا خاصا بالاختفاء القسري. وتمكن من استجلاء الحقيقة عن مصير 742 مختفي، وبقيت 66 حالة لم تتمكن من التوصل بصددها إلى الحقيقية، وبالتالي سيظل ملف الاختفاء القسري مفتوحا.

التقرير... كان محكما في إطار واضح

اعتبارا لطبيعة هيئة الإنصاف والمصالحة ومهامها والصلاحيات المخولة لها، فإن التقرير جاء محكما في هذا الإطار. وكل تقييم يجب أن يأخذ بعين الاعتبار جملة من المحددات القبلية، وايجابياته ونواقصه، وجب تقييمها في هذا الإطار وليس خارج عنه أو بعيدا عنه.

إن نشأة الهيئة كانت نتيجة لسيرورة بدأت منذ 1990، سنة إحداث المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، ثم كان إحداث هيئة التحكيم سنة 1999، وفي سنة 2002 خضع المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان لإعادة الهيكلة بمبادرة ملكية قصد احتواء النقاش بخصوص الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بالبلاد وانعكاسات سنوات الجمر والرصاص. واكتملت حلقة الاحتواء مع إحداث هيئة الإنصاف والمصالحة.

و بذلك يتضح أنه، إذا كانت انطلاقة المسلسل كان بفضل المجتمع المدني، فقد تم احتواؤه من طرف القصر الذي أعطى للمسلسل نفسا آخر بعد الفشل الذي ارتبط بهيئة التحكيم.

و تظل هذه الميزة مغربية خاصة وفريدة، باعتبار أنه في القاعدة العامة (عبر تاريخ الشعوب)، هيئة التحكيم أو المصالحة تُؤسس في مرحلة انتقالية من وضع إلى آخر مخالف بعد الخروج من حرب أهلية أو نزاع مسلح وسقوط الديكتاتوريات. لكن المغرب لم يعرف هذه الوضعية، ولم تحدث أي قطيعة، وهيئة التحكيم ثم بعدها هيئة الإنصاف والمصالحة نشأتا في ظل استمرار النظام، وفي ظل نفس النهج الحكومي واستمرار المؤسسات.

هذا هو الإطار العام الذي وجب أن يكون فيه تقييم تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة حتى لا نطالبها بما لا طاقة لها به.

الحصيلة

عدد الملفات المعروضة على الهيئة: 16861

تصنيف الملفات التي اتخذت بشأنها قرارات إيجابية
القرار المتخذ عدد الملفات النسبة

التعويض المالي 6385 38,7%

التعويض المالي مع توصية بجبر باقي الأضرار 1895 11,5%

توصية وحدها 1499 9,1%

المجموع 9779 58%

تصنيف باقي الملفات

القرار المتخذ عدد الملفات النسبة

عدم الاختصاص مع إحالة على الجهة المختصة 66 0,4%

الحفظ 18 0,1%

الرفض 854 5,2%

صرف النظر 150 0,9%

عدم القبول 927 5,6%

عدم الاختصاص 4877 29,6%

المجموع 6892 41,7%

المتوفون رهن الاحتجاز: 89 مفصلة كالتالي:

أمــاكن دفنهم تازمامارت 31
أكدز 32

فلعة مكونة 16

تاكونيت 08

كرامة 01

سد المنصور الذهبي 01

المتوفون على إثر مواجهات مسلحة 11

منهم 07 سنة 1960

و 04 سنة 1964

الوفيات رهن الاعتقال التعسفي 173 مفصلة كالتالي:

قبل 1960 39 بمعدل 4 شخص كل سنة

الستينات 14 بمعدل شخصان كل سنة تقريبا

السبعينات 109 بمعدل 11 شخصا في السنة أو شخص في الشهر تقريبا

الثمانينات 09

التسعينات 02

مجهولو المصير 325 مفصلة كالتالي
أحداث 1965 50

أحداث 1981 114

أحداث 1984 49

أحداث 1990 112

الوثائق التي اعتمدت عليها

جمعت الهيئة مختلف المعطيات الصادرة من مختلف الجهات وطنيا ودوليا.
  لوائح المنظمات الحقوقية الوطنية

  تقارير

  لائحة منظمة العفو الدولية

  وثائق فريق العمل الأممي المعني بالاختفاء القسري

  أجوبة الأجهزة الأمنية

  أجوبة القوات المسلحة الملكية

  وثائق اللجنة الدولية للصليب الأحمر (حالات الأقاليم الجنوبية)

لمن استمعت الهيئة؟

استمعت هيئة الإنصاف والمصالحة في المقام الأول للضحايا وعائلاتهم ومعارفهم وكذلك أشخاص أشرفوا سابقا على حراسة أماكن الاحتجاز السري.

كما استمعت لمسئولين في القوات المسلحة الملكية، بخصوص الانتهاكات في الأقاليم الجنوبية، لكن جملة من المسئولين السابقين، أغلبهم، رفضوا للاستجابة للهيئة وبذلك فوتوا عليها فرص استجلاء جوانب من الحقيقة.

و أغلب الذين استمعت لهم الهيئة، من العاملين لمؤسسات دولية، هم تابعين لوزارة الداخلية من مختلف الرتب والدرجات الإدارية وموظفو المديرية العامة للدراسات والمستندات العامة للأمن الوطني.

و حسب التقرير، يبدو أن الذين طالت يدهم في ارتكاب الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في سنوات الجمر والرصاص والمسئولين المركزيين والرئيسيين عنها لم تتمكن الهيئة من الاستماع إليهم قصد توضيح الأمور ومساعدتها على كشف الجوانب التي مازالت مغيبة من الحقيقة. وهذا ما ساهم في تفويت الفرصة على الهيئة لكشف الحقيقة، كل الحقيقة. ورغم أن المساءلة والمحاسبة غير وارد أصلا في حسبان الهيئة، جملة وتفصيلا، فإن العديد من المسئولين امتنعوا عن مساعدة الهيئة وكرسوا نهجا جماعيا يروم التستر على ما وقع وهذا أمر لن يغفره لهم التاريخ، باعتبار أن صمتهم يدينهم أكثر في نظر الذاكرة الجماعية.

الهيئة وأرشيف الدولة

عندما عين الملك محمد السادس إدريس بنزكري على رأس هيئة الإنصاف والمصالحة أعلن جلالته على ضرورة انخراط كل الأطراف في المساهمة في تسهيل مهمة الهيئة، ولاسيما المؤسسات الدولية. وفي هذا الصدد كان من المفترض أن مختلف مؤسسات الدولة تعمل في هذا الاتجاه. كما أنه كان من المفترض أن الهيئة سوف لن تلق صعوبات الاطلاع على أرشيفات مختلف المصالح المعنية ولاسيما وهي مؤسسة تعمل بجانب الملك. لكن الأمر كان غير ذلك وهذا ما لم يستسغه الكثيرون.

فقد أقر تقرير الهيئة بالحالة المزرية لأرشيفات رسمية للمؤسسات الدولية، وسجل بوضوح التعاون غير المتكافئ لبعض الأجهزة. كما أقر برفض المسئولين المحالين على التقاعد المساهمة في الكشف عن الحقيقة، واقتصار البعض على أجوبة ناقصة لم تمكن الهيئة من التوصل إلى المراد.

و يستشف من جزء التقرير الذي كُشف عنه أن بعض الأرشيفات الرسمية المهمة ربما قد لحق بها إتلاف أو إهمال مقصود ( كما حصل لأرشيف الكاب 1 والديسطي بالأمس القريب)، ولاسيما تلك الأرشيفات المرتبطة بحالات الاختفاء القسري.

و إذا كان التقرير أكد بوضوح أن جهات رفضت تمكين الهيئة - العاملة بجانب الملك- من الإطلاع على الأرشيف التي في حوزتها، لكن الجزء المنشور من التقرير لم يشر إلى تلك الجهات وطبيعة الأرشيف الذي حجبته عنها، كما أن لم يبين كيف بررت هذا الرفض، ولاسيما وأنه يُعتبر عدم امتثال لأمر ملكي صدر بهذا الخصور بنسابة تعيين أعضاء الهيئة. فهل يعقل والحالة هذه، قبول عدم الامتثال لأمر ملكي صريح من طرف إدارة أو مؤسسة دولية أو موظفين عموميين كيفما كان موقعهم وكيفما كانت المهام التي يضطلعون بها؟

لقد اهتم البعض كثيرا بهذا الموضوع واعتبروه غير مقبول، بل قالوا أنه لا يمكن القول أن هذه الجهة أو تلك التابعة للدولة، أو هذا المسئول رفض تسليم الأرشيف. ففي نظر هؤلاء هذا أمر غير مسموح به إطلاقا باعتبار أنه بالمغرب لا يمكن عصيان أمر الملك؟ فهل يمكن لجنرال أو موظف سامي أن يقول: لا أسمح للهيئة للإطلاع على الأرشيف أو أمتنع عن إمدادها بالمعلومات التي طلبتها رغم أنها في نطاق اختصاصي؟ فهل وزير العدل أو غيره يمكنه أن يقول ذلك؟ هل الدرك أو الديسطي أو غيرهما يمكن أن يقولا ذلك لمؤسسة تعمل بجانب الملك وكلفها بمهمة محددة وأمر بتسهيل عملها؟. اعتبارا لما ذكر يخلص أصحاب هذا الرأي إلى أنه يمكن للمرء أن يعتقد، وبقوة، أنه ربما كانت هناك خطة للكشف عن جزء من الأرشيف والامتناع عن الباقي.

التعذيب

أقر التقرير بتنوع أساليب التعذيب التي كان يستعملها الجلادون في مختلف أماكن الاعتقال فيما بين 1956 و1999، ومن ضمنها "التعلاق" بجميع أنواعه من "طيارة" وغيرها، المصحوب بالضرب المستمر، والكي بالسجائر واقتلاع الأظافر، والخنق بالماء والإرغام على شرب مواد ملوثة والإرغام على الجلوس على القنينة والصدمات الكهربائية والتهديد بالقتل والتهديد بالاغتصاب والسب والقذف والحط بالكرامة ووضع الأصفاد باليدين وعصابة على العينين ليل نهار وباستمرار، والمنع من الحركة مهما طالت مدة الاعتقال والعزل من أجل الإحساس بانعدام الأمان والحرمان من النوم وتعذيب أحد أفراد العائلة أمام أعين المعتقل أو التهديد بذلك.

و بخصوص النساء، كان يُفرض عليهن أن تبقى عاريات أمام جلاديهن وكذلك التهديد بالاغتصاب.

كما أقر تقرير الهيئة أنه لم يكن التعذيب يمارس من أجل انتزاع الاعترافات بالقوة فقط، وإنما كان يستعمل من أجل المعاقبة والانتقام والإذلال الجسدي والمعنوي.

تحديد المسؤولية

يستفاد من فحوى تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة ( الجزء المكشوف عنه) أن الهيئة لم تستطع تحديد درجة مسؤولية الأجهزة والأطراف بخصوص الانتهاكات الجسيمة المرتكبة. وذلك اعتبارا لتعدد الأجهزة الأمنية وتداخل صلاحيتها وتشابك تدخلاتها في مختلف الأحداث، وكذلك بفعل امتناع بعض الجهات من تمكين الجهة من الأرشيف ورفض المسئولين السابقين من الإدلاء بشهادتهم في الموضوع..

و اعتبرت الهيئة أن مقاربتها الشمولية لجبر الضرر تتضمن جانبا كبيرا من إقرار الدولة في مسؤوليتها قي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان منذ فجر الاستقلال وعلى امتداد سنوات الجمر والرصاص وإلى حدود 1990. وتعتبر الهيئة هذا الإقرار صك ضمانة من ضمانات لعدم السماح بتكرار ما وقع بالمغرب.

في حين ترى أغلب مكونات الحركة الحقوقية بالمغرب أن هذا لا يرقى إلى الحد الذي يصطلح عليه بضمانات عدم تكرار ما حدث من جرائم في حق الصفة الإنسانية والدوس عليها وانتهاكات حقوق الإنسان. وهنا تكمن، حسب الكثيرين، الحلقة الأكثر ضعفا بخصوص عمل الهيئة اعتبارا لما قد يترتب عليه مستقبلا.

كما يرى فيه البعض دليلا آخر على قوة استمرار جيوب المناهضة للتغيير الفعلي بالمغرب.

كشف الحقيقة ورد الاعتبار

اعتبرت الهيئة أن الكشف عن الحقيقة مكون من مكونات مفهوم رد الاعتبار، ومدخله الأساسي لأن ذلك الكشف إلى الحفاظ على جوهر رد الاعتبار ويسهل محو أثار الانتهاك الظاهرة منها وغير الظاهرة وكذلك حفظ الذاكرة الجماعية في اتجاه أخذ العبرة.

هذا موقف نبيل، وكلام لن يختلف بصدده شخصان. لكن السؤال الجوهري: هل تم فعلا كشف الحقيقة، كل الحقيقة ولاشيء إلا الحقيقة، باعتبارها نقطة الانطلاق، وباعتبارها حجر الزاوية لرد الاعتبار وجبر الضرر ومن بين الضمانات لعدم تكرار ما وقع وجرى من أهوال إنسانية، وباعتبار أنها لبنة من اللبنات الأساسية لحفظ الذاكرة الجماعية.

طيب، وفي حالة عدم كشف الحقيقة، كل الحقيقة ولا شيء إلا الحقيقة، وفي حالة بقاء تساؤلات لم يتم الجواب عليها واستمرار جوانب غامضة، في هذه الحالة هل يمكن محو آثار الانتهاكات وحفظ الذاكرة والشعور بالأمن والاطمئنان أنها لن تتكرر؟ هذا هو السؤال.

طي الملف....ما بعد التقرير....هل من مهمة جديدة ؟

يبدو أن طي الصفحات المؤلمة في تاريخ المغرب الحديث لا يمكن أن تتم بالشكل الذي يخدم المستقبل إلا عبر إعادة الكشف على مناطق الظل الكامنة بالذاكرة الجماعية، وهذا على أساس الحقيقة ، كل الحقيقة ولا شيء إلا الحقيقة، ولاسيما بخصوص الملفات الوازنة والتي ظلت تحتل حيزا مهما في الذاكرة الجماعية، مثل قضية المهدي بن بركة وعمر بنجلون والمانوزي وغيرها والتي لازال يطالها الكتمان والتكتم عن خفاياها وحقيقتها المرتبطة بالمؤسسات الدولية، لأن عدم الكشف سيدفع إلى إنتاج وإعادة إنتاج حقيقة معوقة.

و اعتبارا لتجربة هيئة الإنصاف والمصالحة والنهج الذي اتبعته في اضطلاعها بمهمتها، يبدو أنه سيكون من الأفيد للبلاد والعباد التفكير في التعاطي بنفس النظرة وانطلاقا من نفس الفلسفة وذات النهج والمنهجية لفتح ملفات الفساد الإداري والاقتصادي والقضائي باعتبارها، هي كذلك، من أخطر القضايا على آن ومستقبل البلاد وعلى تنميتها وعلى تكريس الديمقراطية بها. واعتبارها كذلك خلفت ضحايا كثيرين وساهمت، هي كذلك في خلق أجواء انتهاك جملة من الحقوق بمختلف تنوعها. كما خلفت من لحق بهم الظلم والجور البين وتشردت عائلاتهم وتحطمت كل آمال أبنائهم ومستقبلهم. وهذا أمر حاصل، أراد من أراد وكره من كره.

و لن تكتمل المصالحة مع التاريخ إلا بأخذ بعين الاعتبار هذا الجانب كذلك، ولو بالرد الاعتبار الرمزي للضحايا لأن هناك فعلا ضحايا بامتياز انتهكت جميع حقوقهم.

معركة الغد...ستكون معركة تأويل

على سبيل المثال لا الحصر...إذا كانت عبارة المصالحة وردت كثيرا على الألسن بمناسبة النقاشات الدائرة هنا وهناك بخصوص جزء التقرير الكشوف عنه، فإن فهمها وتأويلها يختلف حسب التحاليل. وهذا ما دفع محمد الصبار غلى القول بأن المعركة المقبلة للحركة الحقوقية بالمغرب ستتمحور بالأساس حول تأويل ما سيرد في التقرير النهائي بخصوص أهم القضايا، ولاسيما منها التوصيات ونهج تكريسها على أرض الواقع.

و بخصوص المصالحة، هناك تباين في التأويل، فهناك من يرى أنه لن تكون لها معنى إلا بالمساءلة والمحاسبة والاعتذار الرسمي. وهناك من يرى أن المصالحة حدثت بمجرد فتح ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان واعتماد مبدأ جبر الضرر، وهذا يعني أن الدولة اعترفت بتلك الانتهاكات وستعمل على عدم تكرارها. لكن هذا الرأي التبسيطى لا يُدخل في اعتباره لا الضحايا ولا الجهة المسئولة عن تلك الانتهاكات الجسيمة، وهما في واقع الأمر، من المفروض أن يكونا طرفي المصالحة. لكن أصحاب هذا الرأي التبسيطي بلوروا تخريجة خاصة لحسم إشكال طرفي المعادلة، إذ أن المصالحة كما يفهمونها، هي في نظرهم مصالحة أهم من مصالحة بين طرفين وتتعالى عنها كثيرا، إنها المصالحة مع الذات كأن الضحايا سبب فيما جرى لهم، وهو عدم مصالحتهم مع ذواتهم، ويكفي اعتماد هذه المصالحة وينتهي الأمر لفتح صفحة جديدة.

و تعدد التأويلات بصدد المصالحة حاليا هو يدعو إلى استبصار معركة تأويل مستقبلا بخصوص جملة من القضايا. وهكذا فإن القضية، بعد التقرير سوف تتحول من الردح الحقوقي إلى الردح السياسي، باعتبار أن أهم توصيات الهيئة هي توصيات مرتبطة بالتغيير. وبالتالي فإن الصراع سيكون بخصوص أي اتجاه سيغلي في التأويل، اتجاه التأويل نحو الحد الأدنى أو اتجاه التأويل نحو الحد الأعلى.

و هكذا فإن معركة الغد ستكون معركة تأويل أكثر منها معركة نهج وتصور.

انتظر المغاربة تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة

كُشف عن بعضه...و تزايدت التساؤلات

رغم تباين المواقف بصدد هيئة الإنصاف والمصالحة، وبالرغم من كل التحفظات وكل المؤاخذات، ظل المغاربة على امتداد سنتين ينتظرون تقريرها آملين أنه سيكون الشافع لكل النواقص السابقة التي راكمتها في مسارها فمن المعلوم أن عدة جهات ظلت تطالب بإحداث لجنة وطنية مستقلة للحقيقة والمساءلة بدل الهيئة الحالية. وذلك لأن هذه الجهات ظلت تعتبر أن هيئة الإنصاف والمصالحة مجرد لجنة وظيفية منبثقة عن توصية المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، والذي – في نظر تلك الجهات- هو كذلك يفتقد صفة الاستقلالية.

و اعتبارا لما توصل إليه التقرير، بدأت تلك الجهات تؤكد أن توقعاتها كانت مصيبة وأن تخوفاتها تحققت فعلا. بل هناك جهات صرحت أن دور الهيئة كان محددا مسبقا، وهو تهيئ الظروف لاتخاذ قرار طي ملف الانتهاكات الجسيمة، وليس الكشف عن الحقيقة، كل الحقيقة.

و للتدليل علة هذا القول تشير تلك الجهات إلى محطات بارزة في مسار الهيئة، بدءا بنهج تجميع المعلومات والتقصي في مصداقيتها.

و في هذا الصدد يبدو أن الهيئة التقطت من الضحايا وعائلاتهم، ومن الجمعيات والهيئات الحقوقية والإنسانية مختلف المعلومات الممكنة، لكنها في الأخير لم تستجب للأسئلة المطروحة ولمنتظرات الذين أدلوا بتلك المعلومات من اكتووا بنيران سنوات الجمر والرصاص.

كما أن التقرير جاء ليؤكد من جديد الانتقادات التي سبق وأن وجهتها أكثر من جهة إلى الهيئة بخصوص جلسات الاستماع التي دفعت دفعا أطرافا أخرى لتنظيم جلسات استماع مضادة.

و من المعلوم أن جلسات استماع الهيأة، التي قيل في البداية أنها ستكون جلسات عمومية مباشرة تحولت إلى جلسات "مخدومة" مسبقا. هناك جلستان فقط تم نقلهما بشكل مباشر، أما الجلسات التي تلتها كانت غير مباشرة. ومن المؤشرات التي أثارت انتباه الكثيرين، هي أن الهيئة لم تهتم إلا بالموافق والآراء والتصريحات والكتابات التي تشيد بها وبنشاطها، أما الانتقادات والمؤاخذات فلم تأخذها بعين الاعتبار. فالزائر لموقع الهيئة على شبكة الانترنيت مثلا لا يجد إلا ما يشيد ويثمن ويصفق لها، وهذا منذ إحداث الموقع إلى يومنا هذا، فلا وجود لأي إشارة لتصريح أو مقال أو موقف ينتقدها ويخالفها. لم تستشهد الهيئة في موقعها إلا بمن يصفق لها، ولم يسبق أن تمت الإشارة بالقمع لرأي مخالف لرأيها على سبيل تبيان تعددية الرأي على الأقل. والزائر للموقع يخرج بفكرة كأن هناك إجماع 99 فاصلة 999 في المائة في الأمر كما كان الحال في استفتاءات مختلف المراحل التي تتحقق بخصوصها الهيئة نفسها. وهذا كذلك دعا إلى التساؤل.

... وجاء التقرير وكُشف بعض من محتواه، واتضحت جملة من مضامينه، فتذكر الكثيرون أجواء البرامج الإعلامية التي اعتنت بالقضية، وبذلك تأكدت الانتقادات واتضحت الصورة أكثر. وتبين بجلاء لماذا كان يتم اختيار المشاركين في تلك البرامج بدقة متناهية واستنادا لشروط "حديدي" ( علما أن كل تلك البرامج بُثت بشكل غير مباشر)، أي لم يشارك فيها إلا من بيّنت التحريات حله، والاستشارات المتعددة والمتكررة بخصوصه أنه لن ولم يتجاوز الخطوط الحمراء المرسومة مسبقا.

و للإشارة غالبا ما كان يُقام حفل عشاء قبل البرنامج، وخلاله تُعقد "صفقة" الخطة التي سيسير عليها البرنامج من بدايته إلى نهايته.

كل هذه المؤشرات مجتمعة كانت، في نظر الكثيرين، كافية للاستبصار جوهر الذي انتظره المغاربة كمحطة مهمة في تاريخ البلاد.

الحقيقة المعوقة

عبر جملة من القراءات التي قدمها بعض النشطين الحقوقيين المغاربة بخصوص ما تم الكشف عليه لحد الآن من تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة المقدم للملك يتبين أن هناك البعض يعتقد، عن قناعة، أن الهيئة المذكورة لم ترد أن تذهب إلى أقصى الحقيقة.

و في هذا الصدد يقر أصحاب هذا الرأي أنه إذا كانت بعض الأبواب قد أُقفلت في وجه الهيئة، كان الأولى على أعضائها الانسحاب منها لأنه لا يمكن للإنسان أن يتواطأ بخصوص التاريخ أو بخصوص الذاكرة الجماعية للمغاربة وأمام عائلات الضحايا وأمام الضحايا أنفسهم. ولاسيما، يقول ذوو هذا الرأي، أن عدد لا يستهان به من أعضائها ذاقوا حر سنوات الجمر والرصاص وسُجنوا وعاينوا ما كان يُمارس بالمعتقلات السري، لذلك غير مقبول من طرفهم الاكتفاء بجزء من الحقيقة فقط.

كما أنه كان في إمكانهم الكشف، وبوضوح عن الجهات التي امتنعت أو التي رفضت، وكذلك عن طبيعة المعلومات التي رفضت الإدلاء بها.

و يخلص أصحاب هذا الرأي إلى أنه، اعتبارا لطبيعة المهمة التي كلفت بها، ليس من حق الهيئة الاكتفاء بأنصاف الحقيقة وإلا فسيكرسون حقيقة معوقة لي تفي بالغرض المطلوب.

انتهاك من نوع جديد

إن تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة ساهم في إبراز انتهاك لم يسبق أن تم التداول بشأنه رسميا بوضوح إلا نادرا جدا وفي الكواليس وبطرق ملتوية، وهو انتهاك يخص التهميش والإقصاء الممنهج والمستدام لمناطق عن قصد وكشكل من أشكال عقاب سكانها، وذلك إما لأحداث كانت ركحا لها دون غيرها من المناطق، وإما لمواقف قوية وشديدة اللهجة ضد الاستبداد والظلم والقهر.

و هكذا أقرت الهيئة في تقريرها بوجود مناطق مغربية عرفت، علاوة على الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي هي سمة سنوات الجمر والرصاص على الصعيد الوطني، كانت ضحية "كوحدات ترابية بمجمل ساكنتها وعلى امتداد جيل لحرمانها الممنهج والمخطط له، الشيء الذي حرمها من المشاركة في مواكبة مسار البلاد، بما لهذا المسار وبما عليه. وبسبب ذلك حُرِمت تلك المناطق وساكنتها من الاستفادة من مخططات التنمية على علّتها، وبذلك ألحقت بها أضرارا لا يزال الجميع يعاين انعكاساتها إلى حد الآن وبجلاء.

لحسن أو صياد أحد الناجين من جحيم تازمامارت: العفو... انتهاك واضح في حقي

من المعلوم أن معتقلي تازمامارت استفادوا من العفو، الأحياء منهم والأموات. وبهذا الخصوص يتساءل لحسن أوصياد، أحد الناجين من آكل البشر تازمامارت قائلا: ماذا ينفع العفو في وضعية مثل وضعيتي؟

علما أن لحسن حكمت عليه المحكمة بثلاث سنوات سجنا في إطار ملف الطائرة الملكية، وبعد قضى ما يناهز سنتين منها أُختطف من السجن المركزي بالقنيطرة وقُذف به إلى آكل البشر تازمامارت ليقضي فيه 18 سنة إضافية.

يقول لحسن... عندما كان في العناية الطبية بمصحة مدرسة هرمومو العسكرية قبل الإفراج عنه جاءه الكولونيل فضول بمعية مدنيين وأخذ يتلو عليه نص العفو، وقبل أن يتمها قاطعه لحسن قائلا: لماذا تقرا علي الورقة التي بيدك فأنا محكوم بمدة قضيت أضعاف أضعافها بتازمامارت؟ تقرأ علي العفو فأنا معفى عني من لدن الله سبحانه وتعالى لأنني مظلوم وبامتياز.

لذلك ظل لحسن أوصياد ولازال يعتبر أن هذا العفو هو شكل من أشكال الانتهاك الجسيمة من نوع خاص وقل نظيرها عانى منها كذلك. وربما هذا النوع من الانتهاك غير وارد في المرجعيات والمواصفات التي اعتمدتها هيئة الإنصاف والمصالحة في القيام بالمهام الموكولة لها وفي إعداد تقريرها النهائي، وهناك حالات أخرى من ضحايا تازمامارت ومن ضنها، مع الأسف الشديد من لقي حتفه هناك بعد سنوات كثيرة من قضاء العقوبة المحكوم عليهم بها من طرف المحكمة.

قالت " ليا ويتسن"

قالت -سارة ليا ويتسن - المديرة التنفيذية لقسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في هيومن رايتس ووتش (منظمة مراقبة حقوق الإنسان):

يبدو أن هيئة الإنصاف والمصالحة قد أنجزت عملاً كبيراً في مجال تقصي انتهاكات الماضي ورد الاعتبار للضحايا، ويعود للدولة الآن ضمان تحقيق جانب مهم من جوانب التعويض: اتخاذ الخطوات اللازمة لضمان أن معاناة الضحايا لن تتكرر في المغرب أبداً.

وقالت - ويتسون - كذلك:
تستخلص هيئات الحقيقة دروس الماضي من أجل تطبيقها في المستقبل. وما من شيء يكرّم عمل هيئة الإنصاف والمصالحة أكثر من تحرك الدولة المغربية الآن للحيلولة دون الإفلات من العقاب لانتهاكات الماضي والحاضر".

منظمة هيومن رايتس ووتش.. بعد الهيئة... وبعد الكشف عن الحقيقة

نشرت - منظمة هيومن رايتس ووتش - تقريرا تحت عنوان: المغرب: بعد هيئة الحقيقة، على الدولة معالجة استمرار الإفلات من العقاب، جاء فيه... أن على الحكومة المغربية أن تتحرك الآن لوضع حد لإفلات قوات الأمن من العقاب ولتعزيز استقلال القضاء إذا كانت جادة بترسيخ النتائج التي وصلت إليها هيئة الحقيقة.

وبعد قرابة عامين من التحقيق في الانتهاكات المرتكبة بين 1956 و1999، قدمت هيئة الإنصاف والمصالحة تقريرها النهائي وتوصياتها إلى الملك محمد السادس في نهاية شهر نوفمبر 2005.

وتمثل هذه الهيئة المغربية، وهي الأولى من نوعها في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، خطوة تاريخية في ميدان الاعتراف بالانتهاكات التي ارتكبت خلال 38 عاماً من حكم الملك المتوفى الحسن الثاني، والتي تشمل مئاتٍ من حالات "الاختفاء" وآلاف من حالات الاحتجاز التعسفي.

وسوف تقرر هيئة الإنصاف والمصالحة، التي قالت أنها تلقت ما بين 25 ألف و30 طلبا طلباً بالتعويض، في شكل ومبالغ التعويضات التي يجب على الدولة تقديمها للضحايا.

وقالت - سارة ليا ويتسن - المديرة التنفيذية لقسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة هيومن رايتس ووتش: "يبدو أن هيئة الإنصاف والمصالحة قد أنجزت عملاً كبيراً في مجال تقصي انتهاكات الماضي ورد الاعتبار للضحايا، ويعود للدولة الآن ضمان تحقيق جانب مهم من جوانب التعويض: اتخاذ الخطوات اللازمة لضمان أن معاناة الضحايا لن تتكرر في المغرب أبداً".

وقد قدمت السلطات المغربية هيئة الإنصاف والمصالحة بوصفها واسطة العقد في عملية تعزيز الديمقراطية وسيادة القانون. لكن استمرار بعض أشكال انتهاك حقوق الإنسان يلقي بظله على هذا الادعاء، رغم التقدم العام الذي حدث خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة. فما زالت السلطات تخضع الصحفيين للملاحقة القضائية بسبب كتاباتهم النقدية، وتواصل تفريق المظاهرات السلمية. وما زالت الاعتقالات التعسفية تجري بحق من يشتبه بأنهم من الناشطين الانفصاليين في الصحراء الغربية المتنازع عليها. وفي أعقاب التفجيرات الانتحارية في الدار البيضاء عام 2003، ألقت قوات الأمن المغربية القبض على مئات الإسلاميين المشتبه بهم وأخضعتهم للمعاملة السيئة أثناء الاستجواب. وقد صدرت بحق هؤلاء أحكام بالحبس بعد محاكمات غير منصفة.

حتى ولو لم تكن انتهاكات اليوم بحجم انتهاكات الستينات والسبعينات، فهي تبين أن الآليات التي سمحت بحدوث انتهاكات الماضي (تصرف قوات الأمن دون خوف من العقاب، وافتقار المحاكم إلى الاستقلال، ووجود تشريعات قمعية) ليست مجرد ذكرى من الماضي. تقع الانتهاكات التي تحدث اليوم خارج نطاق صلاحيات هيئة الإنصاف والمصالحة، لكنها تلقي بثقلها على مهمة الهيئة في مجال التوصية بوسائل تحول دون حدوث الانتهاكات في المستقبل.

...أما مقدار ما سيكشف منه علناً فلم يتضح حتى الآن. ولم تقتصر تحقيقات الهيئة على التاريخ العام للقمع في المغرب بل تناول الحالات الفردية أيضاً، وخاصة آلاف الأشخاص الذين تسببت قوات الأمن "باختفائهم" في الستينات والسبعينات والثمانيات والذين لم يعرف مصيرهم. وسوف يكون مدى تقديم المعلومات الدقيقة بشأن مصير "المختفين" إلى أسرهم أحد معايير نجاح الهيئة في مهمتها.

أما الاختبار الثاني الذي تواجهه هيئة الإنصاف والمصالحة فهو موقفها من إفلات من ارتكبوا الانتهاكات الخطيرة في الماضي من العقاب، وقد عُلم أن من بينهم عدداً ممن يتولون مناصب حكومية حالياً. ورغم أن الهيئة ممنوعة من الإعلان عن أسماء المرتكبين، فإن عليها تقديم توصيات للسلطات بتوجيه الاتهام إلى مرتكبي الانتهاكات الخطيرة أو إيقاع العقاب بهم عندما تتوفر الأدلة الكافية. كما عليها أن تكشف علناً عن مدى تعاون المسئولين الحاليين والسابقين مع تحقيقاتها، والكشف عن جميع حالات عدم التعاون أثناء بحثها عن الحقيقة.

وفي تقريرها المكون من 48 صفحة بعنوان "هيئة الحقيقة المغربية: رد اعتبار ضحايا الماضي في حاضر غير مؤكد"، توجه هيومن رايتس ووتش القدر الأكبر من توصياتها إلى السلطات المغربية، فهي المسئولة في المقام الأول والأخير عن الحماية من الانتهاكات في المستقبل وإحقاق حقوق ضحايا الماضي من ناحية التعويض.

وبناء عليه يتعين على السلطات المغربية:

• تشكيل مكتب رفيع المستوى لمراقبة وتقييم تنفيذ الدولة لتوصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، وذلك بصفة علنيةٍ ومستمرة.

• الالتزام بتقديم رد علني على كل توصية من توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، بحيث يحدد الرد خطة تنفيذ التوصية والبرنامج الزمني لذلك، أو بحيث يتضمن توضيحاً لسبب عدم نية الدولة في الأخذ بها.

• ضمان تسليم كل الأدلة التي جمعتها الهيئة إلى السلطات القضائية مع دراسة مسألة توجيه الاتهام إلى من تكفي الأدلة لاتهامهم.

• محاكمة من توصلت الهيئة إلى أنهم قد ارتكبوا انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان، وذلك عند توفر الأدلة الكافية لمحاكمتهم.

• الامتناع عن إصدار أي عفو أو أي إجراء مماثل من شأنه إعفاء الأشخاص المتورطين في تنفيذ "الاختفاءات" أو غيرها من انتهاكات حقوق الإنسان من الملاحقة القضائية؛ ويجب أن تكون أي إجراءات للرحمة لاحقةً لتحديد مسؤولية الأفراد لا سابقةً له.

• دراسة فرض العقوبات غير القضائية بحق الموظفين الذين تتوفر أدلة قوية على مشاركتهم في الانتهاكات الخطيرة، مثل إعفائهم من مناصبهم عندما يكون من شأن تلك المناصب أن تمكنهم من مواصلة انتهاك الحقوق الإنسانية لأشخاص آخرين.

• التذكير العلني للضحايا وورثتهم باستمرار حقهم بالتماس العدالة في القضاء، وهو الحق الذي لا ينتقص منه وجود هيئة الإنصاف والمصالحة كما لا ينتقص منه قبولهم للتعويضات التي قدمتها.

• ضمان وجود إطار قانوني وإداري يحفظ المادة الأرشيفية الناتجة عن عمل هيئة الإنصاف والمصالحة ويضمن سهولة وصول الجمهور إليها، إلا إذا كانت ضرورة إبقائه سرياً أمراً مشروعاً.

• الاعتراف بأن الانتهاكات الخطيرة المرتكبة ضمن الفترة التي تدرسها هيئة الإنصاف والمصالحة كانت انتهاكات منهجية تمت بموجب أوامر صادرة عن أعلى مستويات الدولة، وتقديم اعتذار رسمي إلى الضحايا وعائلاتهم.

لازال السؤال مطروحا...و تخوفات ضحايا تازمامارت وأسرهم قائمة
لقاء حميمي مع جمعية ضحايا معتقل تازمامارت وأصدقائهم

أجرت جريدة المشعل جلسة حميمية مع السيد صالح حشاد (أحد ضحايا تازمامارت) رئيس جمعية ضحايا تازمامارت وأصدقائهم والسيد الديك (نجل المرحوم جيلالي الديك المتوفي بالمعتقل) الكاتب العام للجمعية والسيد لحسن أوصياد (أحد الضحايا) أمين مالها، حول قراءتهم لما كشف عنه من مضمون تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة المقدم للمك في نهاية شهر نوفمبر 2005.

و للإشارة فإن جمعية ضحايا معتقل تازمامارت وأصدقائهم، جمعية حديثة الولادة الرسمية، أي منذ شهرين فقط، وهي جمعية إنسانية تدافع على حقوق الضحايا وأسرهم وتسعى لتحقيق مطالبهم وتقوية أواصر التواصل بينهم وحفظ الذاكرة الجماعية حتى لا يتكرر ما عرفه المغرب على امتداد سنوات الجمر والرصاص من انتهاكات جسيمة ودوسا على الصفة الإنسانية وكرامة المغربي.

القراءة الأولية لفحوى تقرير الهيئة

في هذا الصدد أكد الضيوف الثلاثة على أنه لحد الآن لم يتوصل الضحايا بأي شيء بخصوص مطالبهم، لكن ما يمكن ملاحظته هو أن الهيئة قامت بعمل جبار. وفيما يخص ما توصلت إليه بخصوص الرفات والمقابر الجماعية شيء يثمنوه، لكن لا زالت هناك بعض النقط لم توضح بعد ولازال بلفها الكثير من الغموض. وفي هذا الصدد ودوا لو طالبت الهيئة بإحداث مقبرة خاصة بضحايا تازمامارت وإجراء مراسيم رسمية وتهيئ القبور على الطريقة الإسلامية، خصوصا وأن الأغلبية الساحقة للضحايا أُطمروا بجوف الأرض دون اعتبار أدنى ما هو معترف به كحقوق للمتوفى وبطريقة لا تتماشى مع نهج التعامل الشريعة الإسلامية وما ينص عليه الدين الإسلامي بهذا الخصوص. كما ودوا لو حرص التقرير على الاحتفاظ بالسجن أو على الأقل بعض زنازينه كنماذج ولاسيما وأنه اندلق إلى سمعهم أن السلطات العسكرية قد سلمت ثكنة تازمامارت للسلطات المدنية المحلية قصد تحويلها لمرافق اجتماعية في إطار برنامج التنمية البشرية (مرافق صحية، مدرسة، بناء مسجد مكان الزنازين....). وفي هذا الاتجاه يعتبرون أنه لن يستقيم مطلب رد الاعتبار والكرامة للضحايا إلا باعتذار الدولة وتسوية وضعيتهم الإدارية والمادية (التغطية الصحية، التقاعد...). أما بخصوص المصالحة، فقد أكدوا على أن الضحايا على كامل الاستعداد للمصالحة، لكن هذه الأخيرة تستوجب طرفين لذلك وجب كشف كل الحقيقة لتظهر كل الأطراف لكي تتم المصالحة بين هذا الطرف والطرف الآخر. ولكي لا يتكرر ما جرى بالمغرب مستقبلا وجب استصدار كل القوانين اللازمة لتحديد المسؤوليات حتى لا يجرؤ أحد في المشاركة أو القيام بالانتهاكات الجسيمة، وهذا السبيل الذي سيمكن من استرجاع الشعور بالأمن والاطمئنان.

مدى كشف الحقيقة بخصوص تازمامارت

أقر الضيوف أن ما تم الكشف عنه إلى حد الآن مهم، لكن من جانب الضحايا وذويهم، أما جزء الحقيقة المرتبطة بالمؤسسات الدولية ما يشكو نقصا كبيرا ولاسيما أن التقرير أشار إلى أن بعض المسئولين لم يستجيبوا لدعوة الهيئة وأن جهات رفضت تمكينها من الأرشيفات أو ماطلت في ذلك أو لم تكشف إلا جانب من الحقيقة التي تخصها.

الشعور بحضور كشف الحقيقة، كل الحقيقة

أكد الضيوف أنه لحد الآن لم تكشف الهيئة على كل الحقيقة بخصوص ملف تازمامارت. لأن هذه الحقيقة تستوجب أولا توضيح لماذا اختطفوا؟ ومن أمر باختطافهم؟ ومن قام بتنفيذ الاختطاف واعتمادا على أي تعليمات. وباعتبار أنهم اختطفوا في كبد الليل من السجن المركزي بالقنيطرة وهو تابع للقضاء ولوزارة العدل، فما هي درجة مسؤوليتهما في الأمر؟ ومن قام باختطافهم وهم لأي جهة كانوا تابعين؟ هذه كلها أجزاء من الحقيقة وجب الكشف عنها، وإلا ستظل الحقيقة مبتورة.

ضحايا النظام السياسي أم ضحايا القضاء...

يعتبر الضيوف أنهم أولا وقبل كل شيء ضحايا القضاء لأن الأغلبية الساحقة أبرياء، براءة الذئب من دم يوسف (لاسيما بخصوص المتورطين في حادثة الطائرة الملكية)...فمنهم من لم يقص 6 أشهر بالقاعدة الجوية فوجد نفسه مقذوفا به إلى جحيم تازمامارت، ومن ضمنهم المرحوم ميمون الذي يتساءل لما حصل له ما حصل وظل يتساءل إلى أن فقد صوابه وقام بشنق نفسه بالزنزانة. وهذا علاوة على اختطاف من كان متبقيا له سنة لقضاء عقوبته لكن زج به 18 سنة إضافية بالجحيم دون سبب. على هذا المستوى تبرز المسؤولية الأولى للقضاء في النازلة.

توصيات الهيئة والشعور بحضور الرغبة الفعلية لتكريسها على أرض الواقع

عموما أكد الضيوف أن توصيات الهيئة ايجابية، لكن السؤال المطروح حاليا، هل سيتم فعلا وفعليا إحداث لجنة أو هيئة لمتابعة تكريس تلك التوصيات على أرض الواقع وتفعيلها في نطاق فلسفة الهيئة.

و هذا لاسيما فيما يرتبط بالتغييرات الواجب إحداثها على صعيد المؤسسات والنصوص والقوانين والقضاء.

و هذا الصدد فإن الضحايا لا يطالبون بمحاكمة لا فلان ولا علان، بل لا تخامرهم أدنى ذرة لأي انتقام، وإنما هدفهم هو كشف الحقيقة كاملة غير منقوصة ولاسيما ذلك الجزء من الحقيقة المرتبط بالمؤسسات الدولية، وهدفهم كذلك أن تعترف الدولة بتلك الحقيقة كاملة وبعده تقديم اعتذار للشعب المغربي بخصوصها، وهذا أمر ليس بالمستحيل مهما كانت الصعوبات التي صادفتها الهيئة في الكشف عن الحقيقة بفعل امتناع بعض الأطراف التعاون معها. وعلى كل الهيئة الآن على علم بالمؤسسات الدولية التي ارتبط اسمها وربما أنها أقرت بذلك بوضوح في التقرير التفصيلي. لأكن يظل هناك مشكل الأشخاص، وفي هذا الصدد أقرت الهيئة بصعوبة تحديد درجة المسؤولية باعتبار التماهي السائد بين المؤسسات الدولية وتطبيقها لنفس المخطط وفي نفس الوقت، وبالتالي وجدت نفسها أمام استحالة تحديد درجة مسؤولية الجيش أو الداخلية أو القضاء أو جهات أخرى. وبذلك يكون ما هو واضح في هذا الشأن هو إقرار بمسؤولية الدولة بخصوص ملف تازمامارت.

رغبة في طي ملف الانتهاكات (و ليس طي ملف الماضي) ولو بحقيقة مبتورة...

و يرى الضيوف أن طي ملف الماضي هو في الواقع أمر غير وارد إطلاقا مادام أنه غير ممكن، أراد من أراد وكره من كره، باعتباره أنه سيظل مفتوحا على الدوام ويجب أن يظل كذلك خصوصا وأن هناك حقائق لا زال مطلوبا كشفها.

أما طي ملف الانتهاكات فهو ليس قرار تتخذه هذه الجهة أو تلك وإنما هذا الطي هو سيرورة تتقدم كلما قطعت البلاد أشواط في تقوية تكريس أسس دولة الحق والقانون والديمقراطية الحقة واحترام حقوق الإنسان اعتبار صفة المواطنة في كل وقت وحين. على هذا الدرب، وهذا الدرب وحده يمكن تسريع وثيرة طي ملف الانتهاكات الجسيمة.

... وماذا بصدد اعتذار الدولة؟

أولا القضية واردة وبوضوح في التقرير، كما يُقال أن الأمر سيتم بواسطة الوزير الأول وعن طريقه. كما قيل كذلك ربما سيتم اعتماد صيغة الاعتذار الموجه لكل واحد من الضحايا، أي اعتذارات فردية كتابية.

...و هكذا ختم اللقاء الحميمي

مما لا شك فيه أن تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة جاء بعد مجهودات جبّارة، لكن الضحايا مازال يمتلكهم تخوف بيّن، ومازالوا يتساءلون هل سيكونوا ضمن مجموعة رد الاعتبار؟ وهل سيشملهم استكمال التعويض؟ وهل سيستفيدون من التغطية الصحية؟ طبعا لا يمكن إصدار حكم قيمة الآن وبالتالي وجب انتظار التوصل بشكل رسمي بما تقرر في هذا الشأن، وآنذاك يمكن القول هل الهيئة أنصفتهم أم أنها لم تنصفهم؟ كما أن الحكم لم يكتمل ويستقيم إلا بعد توضيح فحوى الإجراءات التي سوف يتم اتخاذها لسد كل الثغرات للإفلات من العقاب بخصوص الانتهاكات مستقبلا حتى لا يتكرر تازمامارت.

و بالتالي السؤال مازال مطروحا إلى حين.


مشاركة منتدى

  • بعث أحد |أقربائي بملفه لهيئة الإنصاف والمصالحة إلا أنه لم يتلق أي رد يبدو أن ملفه لم يؤخذ بعين الاعتبارمع العلم أنه يقيم خارج البلد

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى