الأربعاء ٢٠ حزيران (يونيو) ٢٠١٢
بقلم صادق جواد سليمان

الدولة المعاصرة.. والدولة العصرية

إجمالا، الدولة العصرية هي تلك التي تتسم، بنيةً ونظاماً، بسمات هذا العصر. بذلك هي تتمايز عن الدولة المعاصرة التي تعيش في هذا العصر وتستفيد من معطياته، لكنها لا تزال تركد في نمط بنيوي ماضوي، وتعمل بنظام حكم غير ديمقراطي. على الوجهين، الدولة المعاصرة، خلاف الدولة العصرية، تقصر عن تحقيق طموحات شعوب هذا العصر.

شاهد على ذلك ما نشهد من تطورات بنيوية دستورية، وأخرى تنظيمية إصلاحية، في بلدان الربيع العربي. ما نشهد هي صميما ثورات لا تخلو من ربك وخبط تطمح إلى الخروج من ضيق الدولة المعاصرة إلى سعة الدولة العصرية. مجتمعات عربية أخرى – كمجتمعنا العماني - بدورها تسعى، تطوريا وليس ثوريا، للإنتقال من قصور الدولة المعاصرة إلى وفور الدولة العصرية بغية إدارة أمثل للشأن الوطني. ثوريا كان النهج أو تطوريا، القصد هو التحقق الوطني ليس حداثيا فقط، بل حداثيا وحضاريا معا في ترافد. على الوجهين، الهدف هو تجاوز فردية الحكم ووصاية العادات والتقاليد إلى ديمقراطية النظام ومرجعية المبادئ والأعراف.

(وقفة وجيزة هنا لتعريف بعض المصطلحات التي وردت في المقطع الأخير: العادة هي ما يعود لها المرء دون مراجعة. التقليد هو ما يقلد فيه المرء دون تفكير ذاتي. العُرف هو ما يتعارف الناس على صلاحه. لا العادة ولا التقليد يقبل التطور: فإما أن يصطحب على علاته أو يتخلى عنه. العُرف يقبل التطور بالمراجعة والاستدراك. المبدأ هو الفكرة الأولى التي منها تبدأ وبها تنضبط جميع الأفكار الفرعية التي بها يكون التطبيق والتفعيل.)

الدولة المعاصرة، إذا كان لها مورد اقتصادي زاخر مستدام، تستطيع أن تستورد كماً جماً من منتجات العصر، فتنجز تقدما حداثيا بمعايير العمران والخدمات وخلق اليسر في الأرزاق. لكنها على مسار التطور الحضاري تتعثر. إنها تستعيض بالتوسع الحداثي عن التطور الحضاري، بدعوى أن الأول يغني عن الآخر. في المقابل، الدولة العصرية، أيا كانت معطيات وضعها الاقتصادي، تُعنى بالتطور الحداثي والحضاري معا، فتنجز تقدما شاملا وفق منهاج متكامل. معالم هذا التمايز بين الدولة العصرية والدولة المعاصرة تتضح أكثر ما تتضح بالمعايير الثمانية التالية التي نجد بلورة مطردة لها في الدولة العصرية، ونجد عثارا مزمنا إزاءها في الدولة المعاصرة:

المعايير الثمانية:

1) نظام ديمقراطي 2) مواطنة متساوية 3) سيادة القانون 4) اقتصاد منتج منصف 5) نماء معرفي مطرد 6) استقرار سياسي ووئام اجتماعي 7) ردع الفساد 8) مواكبة حضارية

أولا: نظام ديمقراطي

أقصد به نظاما ديمقراطيا راسخا في مبادئ العدل، والمساواة، وكرامة الإنسان. ذلك أن الديمقراطية بمعنى اعتماد المرجعية الشعبية في حد ذاتها لا تكفي لضمان سلامة سير الأمور. بعبارة أخرى، الديمقراطية لا تفي صميما بالمطلب الحضاري إن هي بقت مجرد إجرائية نظامية تمكّن من المشاركة العامة في صنع القرار العام عن طريق الآلية الانتخابية. لكي يكون النظام الديمقراطي سليما في جوهره وأمينا في أدائه، وجب أن يؤصل في مبادئ خلقية ثابتة واضحة: تحديدا، مبادئ العدل، والمساواة، وكرامة الإنسان. من هذه المبادئ الثلاثة تتفرع جميع حقوق الإنسان، وتباعا تستمد جميع حقوق المواطنة المتساوية.

تأكيدا لأهمية هذا التأصيل لنظام الدولة وأداء الحكومة ضمن إطار ديمقراطي، تُستهل الدساتير العصرية بديباجة تلزم الدولة والحكومة معا بالتثبت المبدئي. بذلك يلزم التأصيل الدستوري الدولة بتبني النظام الديمقراطي، ويلزم النظام الديمقراطي بالرسوخ المبدئي، مانعا الدولة وأيما حكومة تنتخب لإدارة الشأن الوطني، من التنكر للمبادئ، أو تجاهلها، فيما تُشرَع في الدولة من قوانين، تُصاغ من لوائح، وتُنفذ من إجراءات. المعيار، إذن، ليس نظاما ديمقراطيا فحسب، بل نظاما ديمقراطيا راسخا في مبادئ العدل، والمساواة، وكرامة الإنسان.

ثانيا: مواطنة متساوية

المواطنة هي المشاركة في الانتماء للوطن الواحد، وقوامها العقد الاجتماعي الذي يساوي بين المواطنين كافة أمام القانون، غير مجيز أيما امتيازات بناؤها حسب أو نسب أو جاه اجتماعي أو موقع سلطوي. في إطار المواطنة المتساوية تترتب حقوق واستحقاقات وواجبات لأهل الوطن كافة، دون أيما تمييز محابٍ أو مؤثرٍ لبعض منهم فيما هم جميعا فيه سواء. الحقوق لا تتفاوت. أما الاستحقاقات، فلكونها تنبني على الأهلية، فتتفاوت، لكنه تفاوت موضوعي لا ينطوي على غبن أو حيف إزاء أي أحد. الواجبات بدورها تتفاوت حسب الاستطاعة، إذ لا تكلف نفس إلا وسعها.

في سياق هذا النسق، المواطنة صميما تعنى المواطنة المتساوية بين المواطنين كافة، رجالٍ ونساء، وحقوقها، بذلك، تتوازى مع حقوق الإنسان المفصّلة والمعترف بها عالميا. بتعبير آخر: حيثما تُضمن حقوق المواطنة المتساوية على نحو غير منقوص تُضمن أيضا حقوق الإنسان. كما وأن مدى الوفاء بحقوق الإنسان أضحى اليوم المسطرة الرئيسة التي تقاس بها جدارة الدول عالميا، وضمن الدول تقاس بها جدارة الحكومات. المعيار، إذن، ليس المواطنة فحسب، بل المواطنة المتساوية التي لا تشوبها أيما امتيازات خاصة ببعض دون السواد الأعظم من المواطنين.

ثالثا: سيادة القانون

أمام القانون، في أية مقاضاة عدلية، يتساوى الجميع: الغني والفقير، القوي والضعيف، العالم والجاهل، الكريم واللئيم، الذكر والأنثى، المواطن والوافد. ضمان ذلك يتطلب قضاء مستقلا، مصانا من أي تأثير خارجي، أكان من شخص أو أشخاص، أو من السلطة التشريعية أو السلطة التنفيذية ضمن الدولة. يتطلب أيضا أن لا تفرض علي المحاكم، من الابتدائية منها تدرجا إلى المحكمة الدستورية التي ينتهي عندها الفصل، أية هيئة سياسية أو إدارية، مثلا، كمجلس أعلى للقضاء. من وجه آخر، سيادة القانون تعني أن المواطنين كافة، وليس بعضا منهم حصرا، في وطنهم سواسيةً أسياد.

رابعا: اقتصاد منتج منصف

أيما اقتصاد سليم يُعنى بزيادة الإنتاج وعدالة التوزيع معا، موازنا بين الشقين بقسطاس مستقيم. حيثما يختل التوازن يختل الأداء الاقتصادي، فيجر الخلل إلى اضطراب سياسي اجتماعي. يتحقق التوازن بانتهاج ما أضحى يعرف بالتنمية الإنسانية. معايير التنمية الإنسانية تتجاوز مجرد الكم والحجم بالقياس الرقمي، إلى إحداث نقلة حضارية مجتمعية شاملة. طبعا، للتنمية الاقتصادية دورها الأساس في توفير لوازم الصحة والتعليم والمسكن اللائق وفرص العمل ويسر المعاش. لكن التنمية الانسانية، تتويجا لذلك، تُعنى صميما بتحقيق اللوازم الحضارية المتمثلة في عدالة توزع الناتج الاقتصادي، المشاركة السياسية، ضمان حقوق الإنسان والحريات الأساسية، تعزيز الهوية الثقافية، النماء المعرفي، وانتهاج اقتصاد رصين غير مبدد للمال العام في مظاهر بذخ، وغير مجيز سوء التصرف به في إشباع رغبات شخصية.

خامسا: نماء معرفي مطرد

الحياة العصرية جلها يُدار، وكل احتياجاتها تُلبى، بالمعارف والنظم والتقنيات المتفتقة محضاً من خبرة الإنسان. غذاءً كان أو صحة أو تعلميا أو تنقلا، أو إعلاما، أو دفاعا عسكريا، أو تبادلا تجاريا، أو نظاما اقتصاديا، أو عمرانا في الأرض أو ضبطا للأمن، أو تمكينا لفعاليات ثقافية، أو تيسيرا لأداء فرائض دينية ... جميع ذلك وأكثر ممكّن بالمعطى المعرفي الإنساني ونتاجه التقني المتطور المتنوع منذ بزوغ العصر الحديث.

في الحاضر الراهن أبحاث معمقة جدا تُجرَي في دور العلم عالميا توسع نطاق المعرفة الإنسانية باطراد. الدولة العصرية ليس فقط ترصد هذا النماء المعرفي وإنما أيضا تسعى للإسهام فيه. خلاف الدولة المعاصرة، الدولة العصرية لا تتحقظ على سلامة الاجتهاد الإنساني، بل تعتمد معطاه، أكان في فهم الكون أو الحياة أو الشأن الإنساني أو البيئة الطبيعية، أو سوى ذلك، وتعمل به. بالمجمل، الدولة العصرية تتخذ المعرفة الإنسانية المتبلورة مرجعية مستدامة للنظر والتقرير.

سادسا: استقرار سياسي ووئام اجتماعي

مجتمعات هذا العصر، في غالبية الدول، تعددية من حيث العرق واللون والدين والمذهب والمنشأ الوطني، وسوى ذلك من خلفيات سائر الناس. مع ذلك، في غالبية الدول، مجتمعات العصر تعيش استقرارا سياسيا ووئاما اجتماعيا تصونهما مواطنة متساوية. حيث لا يتساوى الناس على أرضية المواطنة تراهم يتراجعون من عمومية الانتماء الوطني إلى خصوصية انتماءات فئوية. بذلك يتداعى الوسط الوطني، وتتنشط الأطراف الفئوية: كل فئة جارّةً النار إلى قرصها، مؤثرة المصلحة الخاصة بها على الصالح المشترك. الدولة العصرية تعنى صميما بتوطيد المواطنة المتساوية كحاضنة للجميع، دون تفريق في الحقوق، ودون تخصيص امتيازات من أيما نوع لقلة دون الكثرة. إنها بذلك توطد الوسط الوطني فتصون الاستقرار السياسي معضدا بالوئام الاجتماعي.

سابعا: ردع الفساد

للفساد وجوه شنيعة متعددة، سياسية، اجتماعية، اقتصادية، تجعله من أخطر الأسقام التي تبتلي بها الشعوب. سياسيا، الفساد يأخذ شكل استغلال نفوذ سلطوي للاستئثار أجحافا بما الناس فيه سواء. اجتماعيا، الفساد يستعمل الوجاهة التقليدية لاجتلاب منافع دونما حق أو استحقاق. اقتصاديا، الفساد يسري بالتراشي، أي بدفع الرشوة وقبضها. التراشي، من وجه آخر، مرارا ما يجري بتبادل منافع عينية سرا بتحايل على القانون.

الدولة العصرية صميما تُعنى بردع الفساد. مؤسساتها التشريعية والتنفذية والقضائية تعاضديا ترصد قنوات تسرب الفساد إلى الحياة العامة. إعلامها الحر يقف بالمرصاد، متقصيا وكاشفا كل ما يريب. النظام الديمقراطي للدولة العصرية بطبيعته يرفض الفساد أيا كان شكله، لذا يتعقبه، يعريه، ويعاقب عليه بصرامة رادعة. الدولة المعاصرة، خلاف ذلك، لا تُعنى صميما بردع الفساد، كونها قائمة على الفردية أو الفئوية، وفي الحالتين طبعها تكريس الامتيازات وإيلاء أصحابها نفوذا وحظوة مقابل ولاء سياسي.

ثامنا: مواكبة حضارية

مصطلح الدولة العصرية، وعبارة مواكبة مسيرة الحضارة في جميع الميادين، كلاهما ورد في نطق سلطان البلاد. لكليهما دلالة جلية على المرتسم في منظور القائد حول طبيعة توجهنا الوطني. المواكبة تعني عدم التخلف أو التباطؤ، مسيرة الحضارة تعني وحدة التوجه الحضاري أمميا عبر العالم. أما عبارة في جميع الميادين فترفع التحفظ عن تبني كل ما يتبلور معرفيا في الخبرة الإنسانية، مما ينفع الناس، ويرتقي بالأمم جميعها إلى صعد حضارية متراقية باطراد.

خلاصة وختاما، إذن، الدولة المعاصرة هي غير الدولة العصرية. نحن في عمان لا زلنا أقرب إلى الدولة المعاصرة منا إلى الدولة العصرية. لكن طموحنا كشعب ناهض هو إلى استكمال سمات الدولة العصرية. طموحنا يروده طموح القائد. حرصه وحرصنا جميعا هو الحفاظ على ما تحقق في وطننا حتى اليوم خلال هذا العهد الميمون. ونهجنا، استطرادا لهذا الذي تحقق، أن نبني لغد أكثر إشراقا، أكثر نضجا، أكثر تحققا حداثيا وحضاريا معا في ترافد ... نهجنا أن نبني دون كلل دولة عصرية بامتياز.

*** ملخص الأسئلة التي طرحت بعد العرض، ولاحقا في مقابلة إذاعية، وكانت الأجوبة عليها في نسق العرض، مع قدر من التفصيل:

*مايزت في محاضرتك بين الدولة المعاصرة والدولة العصرية. ما الذي ولد لديك هذا التنظير الذي نسمعه منك لأول مرة، وأيضا ماذا تقصدت من عرضها على النحو الذي فعلت؟

*بالمعايير التي حددت أسمعك تزعم أن الدولة العصرية لما تستكمل في الخبرة الدستورية الخليجية عامة، أو العربية عامة، وأنك لا تستثني بلدنا عمان من هذا التوصيف؟ هل ترانا في وطننا على مسار استكمال سمات الدولة العصرية حسب ما وصفت؟

*من بين المعايير الثمانية التي ذكرت، لمسنا تأكيدا خاصا على معيار " المواطنة المتساوية ". ماذا تقصد تحديدا بهذا المصطلح؟ ألا يكفي مصطلح المواطنة وحده للدلالة على انتمائنا المشترك للوطن؟

*قلت في محاضرتك أن ما نشهد من تطورات في بلدان الربيع العربي هي ثورات تطمح إلى الخروج من ضيق الدولة المعاصرة إلى سعة الدولة العصرية. كيف ذلك؟

*من خلال عديد من أطروحات عرضت في منتدى الاعتصام بساحة الشعب الربيع الماضي، جرى شرح مصطلحات محورية تتصل بالبناء الدستوري للدولة العصرية: منها تحديدا منظومة مصطلحات الوطن، الدولة، الوطنية، المواطنة، الحكومة، المجتمع المدني. استأثرت الشروح باهتمام كبير تمثل في حوار مستفيض حول فحوى كل منها، وحول نسق التعالق ما بينها، كعناصر أساسية في البناء الدستوري للدولة العصرية. ولأنك شاركت في تلك الآطروحات، هل لك أن تعيد علينا تعريفك لكل من المصطلحات المذكورة؟

*** وملخص الإجابات كان:

*الوطن سابق على الدولة، كونه المستقر الأصل والبيت الكبير الآويَ للجميع على أساس سواء، أيا كانت مواقع أهل الوطن في ساحة العمل أو في النسيج الاجتماعي.

*الدولة سابقة على الحكومة، كونها الإطار المنظم للشأن الوطني، لذا وجب أن يكون لها دستور وحكومة ومؤسسات تشريعية وقوانين منظمة لمختلف نشاطات المجتمع، كما وأن تكونَ لها علاقات تعاونية مع الدول الأخرى، عضوية في االمنظمات الأممية، ومشاركات في المواثيق الدولية. شكل الدولة قد يتغير بإرادة أهل الوطن، لكن الوطن أصل ثابت.

*الوطنية هي الشعور الإيجابي الفاعل تجاه الوطن والصالح الوطني المشترك، وأهم معاييرها الولاء والوفاء والإخلاص

*الحكومة، كسلطة تنفيذية، تأتي لأجل وترحل، كون استمرار عهدها مرتهنا بحسن الأداء بمعيار الكفاءة والأمانة معا. أما الحكومة كسلطة تشريعية فيتجدد عهدها بإعادة انتخاب الأعضاء دوريا. مبدأ التداول هكذا يمكن من تعميم خبرات ممارسة مهام الحكم ديمقراطيا، بدل حصرها في فئات معينة أو أشخاص معينين على أساس امتياز سياسي أو اجتماعي تقليدي.
*أن المجتمع المدني هو المواطنون والمواطنات أنفسهم بما يقومون تطوعيا من نشاطات حميدة، متنوعة، رائدة، غيرِ ربحية وغيرِ حكومية، لأجل إنماء الصالح العام.

*محاضرة في ولاية سمايل، سلطنة عمان- 7 يونيو 2012، القاها الأستاذ صادق جواد سليمان، وهو سفير عُماني سابق، وحالياً يرأس في مسقط رابطة الكتّاب العُمانيين.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى