الثلاثاء ٢١ آب (أغسطس) ٢٠١٢
مصافحة..
بقلم بلقاسم بن عبد الله

قدور بن عاشور الشاعر المتصوف

..وإلى أي حد يمكن العودة إلى شعرنا الشعبي الثري باعتباره وثيقة أدبية تجسد ملامح و ملاحم مرحلة محددة؟.. تساؤل مثير للجدل، واجهني هذه الأيام الأخيرة من شهر رمضان المعظم، وأنا بصدد مصافحة شاعرنا الشعبي المتصوف: قدور بن عاشور الزرهوني، والكتابة عن حياته وإنتاجه الشعري الغزير، ضمن مشروع كتابي المنتظر عن: رموز تلمسان في الأدب و الفكر.

قد يكون من الصعب تقديم نبذة وافية عن هذا الشاعر، لندرة المعلومات والكتابات عن حياته وأعماله، ومع ذلك لا بد من كلمة تعريفية موجزة، بالاعتماد على مقدمة الديوان الذي قام بتحقيقه وطبعه الأستاذ الفاضل: محمد بن عمرو الزرهوني وزير سابق للاتصال، ومستشار حاليا بديوان فخامة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة.

قدور بن عاشور من مواليد بمدينة ندرومة التي أنجبت مجموعة من أعلام وفطاحل تعتز بهم جزائرنا العزيزة في دنيا الأدب والفكر والفقه والعلم، ويعتبر من بين رواد الشعر الملحون في العصر الجزائري الحديث، فقد ولد سنة 1850 في مدينة ندرومة، واستقر بمدينة تلمسان من 1926 إلى سنة1930 قبل أن يعود إلى مسقط رأسه وموطن أسلافه، حيث توفي رحمه الله يوم الإثنين 6 جوان 1938.

و هذا الشاعر أقل أمثاله الذين برزوا في تعاطي الشعر الملحون ووصلت إلينا آثارهم، كما ورد في مقدمة الكتاب، حيث نبغ في الجزائر في غضون القرنين التاسع عشر والعشرين، وبلغ فيه منزلة القدامى الفحول، وقد تداول العديد من المطربين المتعاطين للون الشعبي عندنا على أداء الكثير من قصائده التي نجت من الضياع.

ولعل شاعرنا الشعبي لم ينل حقه من الدراسة والعناية، و يعود الفضل في جمع و تحقيق وطبع ديوانه الكبير إلى ابن مدينته وعشيرته الكاتب المرموق محمد بن عمرو الزرهوني الذي حرص على إصدار الطبعة الأولى من هذا الديوان سنة 1996 لتمتد عبر 828 صفحة من الحجم الكبير، قبل أن يعود لتنقيحها وإصدارها في طبعتها الثانية سنة 2011 متوجة بكلمة تصدير من فخامة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، حيث ركز على مضاعفة الجهود بتراثنا الأدبي الأصيل، ولا سيما رصيد الأمازيغية والعربية العامية الذي ظل مهملا ومسكوتا عنه عهودا طال أمدها، فهو رصيد تراثي رفيع القيمة، ما يزال مغمورا ينتظر إخراجه من حيث هو ونشره وتوظيفه في تفعيل قدراتنا الثقافية.

ويحتوي هذا الديوان الضخم على قصائد مطولة من نوع الزجل وشعر الملحون تشمل مجموعة من الأغراض والموضوعات، من مديح لخير الأنام وسراج النور الى الابتهال والرثاء والوعظ والتوسل، إلى قصائد العشق والحنين. ولعل أشهر قصائده تلك التي أداها الفنان الندرومي الأصيل الحاج محمد غفور، وهو الذي لا يمكن أن ينسى تأثره الكبير بشعر وعزف وصوت الشيخ قدور بن عاشور رائد الأغنية الندرومية، ومن شدة إعجابه وتأثره غنى بعض قصائده المطولة، واشتهر خاصة بقصيدة: حلة مريم، ومطلعها:

آي والله عذراء محضرة طلت من سرجم
عارم زلالة باهية بقد مخنث في قوامه
وبالحسن الفايق يفتخر عن ذرية سام
بهضتني يا عشاق صرت من وجدي ندمم
وأنادي من شوقي وليعتي قلبي هاج غرامه
حين نظرت الكاوية دليلي داعجة الأنيام.

ومن قصائده الغزلية الرائعة التي نالت حقها من الشهرة والإنتشار تلك القصيدة التي يناجي فيها طائر القمري ويوصيه خيرا بمحبوبته الغالية، حيث يقول في مطلعها:

ربي يهديك يا القمري
تعمل وحد الجميل في
رفرف جنحيك يا القمري
توصل للتايهة علي
قل لها إذا فنات عمري
ما نعشك أحد غير هي.

لقد كان الشيخ قدور بن عاشور صورة ملخصة لرموز النبوغ الأدبي والفني في عصره، في كل من ندرومة وتلمسان، أمثال: سعيد المنداسي، محمد بن مسايب، بومدين بن سهلة، محمد رمعون، مصطفى بن ديمراد. ظل الشيخ قدور فنانا مطبوعا يعشق الأدب ويهوى الموسيقى، كما ورد في مقدمة الديوان، وقف جانبا من حياته على هوايته، فأخذ عن السابقين وسار على نهجهم، وأنشأ في ندرومة فرقة موسيقية، ما لبثت أن اشتهرت بإتقان أداءها وبإبداع رئيسها في نظم القصائد، وحسن إختياره للنصوص وفق المناسبة والمقام والساعة.

و خصص الشيخ قدور بن عاشور السنوات الأخيرة من حياته للعبادة والتصوف، حيث كان يعتزل عن الناس ويطيل الخلوة ويبيت أحيانا في مقام سيدي احمد البجائي، إلى أن رحل إلى مدينة تلمسان، ليمكث فيها مقيما من 1926 إلى سنة 1930، وقد وافته المنية رحمه الله سنة 1938 وهو في الثامنة والثمانين من عمره.

وقد جاءت مبادرة نشر الطبعة الثانية من ديوانه الضخم سنة 2011 ضمن فعاليات تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية، لتتزامن مع إنتاج فيلم وثائقي عن حياته وأعماله عرض لأول مرة منتصف مارس 2011 أمام جمهور نوعي من الصحفيين والكتاب والمثقفين غصت بهم قاعة العروض بدار الثقافة عبد القادر علولة بتلمسان.

وهذا الفيلم القصير من إخراج محمد نزيم قايدي، وتأليف وسيناريو الأديب عبد الوهاب بن منصور، يبرز شخصية هذا الشاعر المتصوف و مدى تأثـره بكبار شيوخ الطرق الصوفية، و يلقى المزيد من الأضواء على الجانب الفني من حياته. ويحتوي على شهادات حية، من أبرزها شهادة الوزير الأسبق محمد بن عمرو الزرهوني، الذي كشف أن الشيخ قدور خلّف وراءه أكثـر من 3000 قصيدة، لم يتم جمع سوى 200 منها. وظلت البقية الباقية مطموسة مغمورة، تنتظر الأيادي البيضاء الكريمة لتبحث عنها وتنتشلها من الضياع والإهمال، خدمة لتراثنا الشعبي وثقافتنا الوطنية.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى