السبت ١٠ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٢
بقلم توفيق الشيخ حسين

شعر شاكر العاشور

إذن ْ فافتح ْ أيا ليل َ الضنى والويل ِ
كل َّ نوافذ ِ الأفق ِ
لتعلم َ أن ّ جرحا ً صاح َ في الدنيا
ومات غريب ْ
أيا وطني لو اعتصرت ْ
جراح ُ الكون ِ كل ّ الناس ْ
سنُطعمـُها ذرى النخلات ِ والأنهار
والأحجـار ْ
ولن نيأس

شاكر العاشور شاعر من البصرة لم يغب ذكره عن الأنظار والشهرة، ولم تغفله أقلام الدارسين.. ولكنه لم يحظ بدراسة مستقلة..وقد آن الأوان لأن تظهر هذه الرسالة لشاعر مختبئ بين قوافيه، متسلح بسلاح العواطف الإنسانية النبيلة والدفاع عن كرامة الإنسان وعن التراث العربي الأصيل.. فهو شاعر وناقد ومحقق.. ومن جسد ذابل ضعيف يتحمل أكثر من طاقته إلى روح تنحتها الأوجاع وتزحف فيها الآلام..

عن دار تموز في دمشق صدر كتاب " شعر شاكر العاشور، دراسة موضوعية وفنية " للباحث جواد محسن سالم الباهلي".. وهو في الأصل رسالة ماجستير أجيزت من كلية التربية بجامعة البصرة وبإشراف الدكتور صدام فهد الأسدي..
لقد اشتملت الدراسة على ثلاثة فصول، تناول في الفصل الأول موضوعاته الشعرية دارسا ً الظواهر الآتية:

(الشعر الاجتماعي – وصف البحر – وصف الريح – ظاهرة الغربة – موضوعة الحرب).. وفي الفصل الثاني تناول الدلالات الشعرية (دلالة المكان – دلالة الزمان – التناص في شعره - دلالتا الحزن والصمت – جدلية الموت – جدلية الحلم).. أما الفصل الثالث تناول الدراسة الفنية وتضمنت (اللغة – الصورة الشعرية – الموسيقى – بناء القصيدة)..

يقول الدكتور صدام فهد الأسدي " أن العاشور صاحب خبرة وحرفية وناضج التجربة في عمله الشعري كله وقصائده تستحق التأمل والقراءة وماهي كما يكتب البعض بخواطر تأتي على البال وإنما الشعر الخلاق يأتي من شاعر مبدع "..

عندما يقترب ويتعمق القارئ أكثر في تجربته الشعرية يجد الرقة في شعره والدقة في اختيار الكلمات وكذلك قدرته على الإيحاء.. حيث نطق ألعاشور بكل ما هوصادق ومؤثر، متغلغلا ً في أعماق النفس الإنسانية.. ولقد أجمعت القراءات النقدية حوله على ما يتمتع به من ثقافة عالية.. إذ دائما ً ما تراه ُ غائصا ً في أعماق مكتبته ولائذا ً بقوافي شعره.. ينتمي ألعاشور إلى جيل السبعينات كما يقول الناقد محمد صابر عبيد " وينتمي الشاعر شاكر ألعاشور إلى جيل السبعينات الذي عُدَّ مغايرا ً، سعى إلى الخروج من أسر تجربة الجيل الستيني ومقاربة الحداثة الغربية العالمية "..

له خمس مجموعات شعرية جمعها مؤخرا ً تحت عنوان " تلاوته في ما قالته ريما للشمس " وهي:
المجموعة الأولى (أحببت الجارة يا أمي) البصرة – 1969، مطبعة حداد
المجموعة الثانية (تسعة أصوات) مجموعة شعرية بالاشتراك مع ثمانية من شعراء البصرة -1971، مطبعة حداد.

المجموعة الثالثة (الإنذار الأخير إلى أزهار الحدائق) البصرة -1972، مطبعة حداد.

المجموعة الرابعة (في حضرة المعشوق والعاشق) بغداد – 1975، دار الحرية للطباعة..

المجموعة الخامسة (دم ُ البحر أزرق) بغداد-1979،دارالحرية للطباعة..

المجموعة السادسة والمعدة للطبع (مرثية لأول العمر)..

نظر الشاعر شاكر العاشور إلى المرأة كونها تمثل لديه مجموعة من الصور وهي (الأم، المرأة الأولى، المرأة الحبيبة، المرأة القضية)..

فالأم تأخذ في شعره مكانة كبيرة وتحتل المكان الأكبر والواسع الذي لا يفارق خياله صورتها.. فهو يفيض بذكر آلامه ومعاناته لها محاولا ً التنفيس عن تلك الآلام.. وافتقاده لأمه أثر فيه كثيرا ً فلا يسـد ّ وحشته ولا يعو ّض عن أمه سوى الليل الذي يذكره دائما ً في شعره..

عل َّ من ْ في الركب
رق َّ لقلبه الصـّديان ْ
لعل َّ فؤاد َ والدة ٍ
لعل َّ الصحب َ والإخوان ْ
سـدى ً
ما لاح غير ُ الليل
يلمع، ثم ينطفئ

يعتبر الشاعر شاكر العاشور المرأة الحاملة لكل المعاني الإنسانية والتي تشارك الرجل في حياته وهي التي تنجب الأجيال وتغذيهم من الروح الإنسانية العالية وتربي ّ فيهم هدف الدفاع عن الأرض التي نشأ عليها..

ألا إنها المرأة البكر ُ
.. تـُنجب أطفال َ جيل ٍ
وتـُّرضعُهم من عصير تراب الجبين ِ
وتـُّطعمهم سعفات ِ النخيل ِ
وتـُّجلسهم تحت شمس النهارات ِ
كي تتسلقـَهم أرض ُ هذا الذي اسمه ُ
وطن ُ الأنبياء
وتـُطلقهم في مياه الخليج

يذكر العاشور المرأة في شعره بوصفها الحبيبة التي يرفض التخلي عنها ويقرن حبه بحرقة القلب الذي يعانيه العشاق وإنها تظل تدوي في أعماق نفسه.. لأنها تعيش معه في القلب حبيبة ً ووطنا ً..ويتعرض لجرحين هما جرح قلبه وجرح وطنه ومما يخفـّف عنه هذين الجرحين عينا محبوبته..

لا اعرف إلا أن ّ العينين ِ
معي كانت ْ حلوة ْ
صارت أحلى
وغدت في جرح القلب ِ
وجرح الوطن المغتصب ِ
الأحلى

تعامل ألعاشور مع المرأة بوصفها قضية مهمة كما يقول د. فهد محسن فرحان " عندما تتحول المرأة إلى قضية، يتـّسع الحب ليشمل الوطن كله"

فنراها تحمل بـُعدا ً رمزيا ً من أجل إيصال ما بداخله إلى المتلقي..

يحتل البحر لدى ألعاشور مكان يطرح فيه همومه ويتأمل ما يبغي ويمثل له أشياء متعددة.. وهذا ما يشير إلى نفسيته الصامدة أمام عواصف الزمان.. فهو لم يتغير شأنه في ذلك شأن البحر، الذي لا تغيره الدهور..حيث يصنع المستحيلات في سبيل الدفاع عن كلمته وأرضه وشعبه وعن المحبين وكان ذلك بفعل ٍ من البحر الذي أعطاه كل تلك المعاني النبيلة.. ويؤنسن البحر جاعلا ً له خاصرة وقلبا ً.. أن عواطفه موزعة بين المرارة التي يعيشها من جراء الظروف القاسية والتي جعلته ساهرا ً إزاء ما يحدث أمامه وبين مرارة الحب الذي لم يدركه وهو يسعى جاهدا ً في سبيل الوصول إليه..

انغرزَالسيف ُ
في خاصرة ِ البحر ِ
فسافر َ عن مرفئه ِالساحل ُ
وانقد ّ القلب ْ
نصفين ْ
.. نصف ٌ يسهر ُ، مغصوبا ً في حفلة ِ شاي ٍ مُرّ ٍ
والنصف ُ الآخر ِلم يُدركـْهُ الحـُب ْ
لا يعرف ُ إلا ّ كيف َ يسير ُ من المنبع ِ
أو كيف َ يعود ُ إلى منبعه ِ الدم

نجد الشاعر شاكر العاشور يُفعـَّل جانبه الرومانسي متجها ً نحو الطبيعة متفاعلا ً مع كل ما فيه، وخاصة ً الريح التي يراها حاملة ً للمشاعر الإنسانية ومؤدية ً لغرضها الروحي.. ونجده يتفاعل مع الأمكنة تفاعلا ً عجيبا ً وكل ما يبعث في نفسه من مواطن حملت أفكاره وعواطفه وغذته بالحنان..

فما غير ُ الرياح سيسمع الصّوتا
رياح ُ دون أمطار ٍ
تـُهوّمُ في دجى جيكور
تقلع للصدى بابا ً

تظهر ظاهرة الغربة لدى الشاعر شاكر العاشور تعبيرا ً عن نفسية تملؤها أحزان وأوجاع مستوحاة من وطنه الجريح.. حيث يرى الدكتور فايز الدّاية

(تمنح دلالة الغربة الحديثة إضاءة جديدة للصور القائمة على التشبيه، فهي غربة في الزمان والمكان وبين الناس تتعدد ولكنها تؤول إلى حالة لا تتغير)

فكثرة أسفار ألعاشور جعلته يعيش حالة من حالات الضياع النفسي، لأن فراقه لوطنه صعب عليه..

أيا وطني ما عرفت ُ النوى
بقربك َ، لكنْ عرفت ُ ببعدك ْ
تحرّ قت ُ حتى حسبتُ الجوى
قريني، وأني صنوُ لسَهدك ْ
فخذني لزنديك، خل ّ النوى
فاني ظمئت ُ، ظمئت ُ لوردك ْ
وهات ِ اسقنيها
مياها ً بدجلة ْ
فكم ْ اشتهيها
وفي الروح ِ غـِلة

يرمز العاشور إلى الحياة وفضائها بوصفهما مكانا ً روحيا ً معنويا ً يستطيع من خلاله أن يصل إلى الحرية، والحياة هي مكان رحب وخاصة تلك التي يبحث عنها كل إنسان والمتمثلة بالراحة والسكون بعيدا ً عن مشاكل الحياة.. وعلى المكان أن يستوعب كل تفاصيل الحياة ويحمل معه المخلوقات جميعا ً بما فيها الإنسان الذي يكون من أكثرها صلة به مؤثرا ًومتأثرا ً به..

ولكنني أتساءل ُ بين فضاء ِ الحياة ِ
وبين حياة ِ الفضاء ِ
كما كنت ِ
مَن ْ ذا الذي سوف يملأ كل َّ الفراغ
الفضاء

أن لكل مكان زمانا ً ولكن تأثير الزمان قد يكون أقوى من المكان لكن قسما ً من الشعراء العرب قد ابتعدوا عن الزمن الشعري إلى الموضوع الشعري كما بين الناقد طراد الكبيسي: ( الذي نجده أن الشاعر العربي عبر المراحل التاريخية التي مر ّ بها قد استغرقته أشياء خارج نطاق الزمن أو استغرقته هموم غير زمنية، فالرثاء والمدح والهجاء والوصف والتكسب بالشعر والحماسة.. الخ هو ما عناه وشغله ) فالشاعر شاكر ألعاشور قد جعل شعره مكرسا ً لخدمة المرأة من خلال الزمان الذي يشير إليه في تعامله معها وعلاقته بها.. ويـُقسمُ بأن حبه لزوجته ولأطفاله يعيش في قلبه ولا ينفك عنه ويـُراوده إحساس بأن تلك الأيام التي قضاها معها في الحلم، كل يوم منها يساوي دقيقة واحدة.. أي أن الزمن ينقضي بسرعة إذا كانت اللحظات
التي يعيش فيها الإنسان هي لحظات حب وهو السعادة نفسها لأنه لولاه لما استطاع أن يتحسس ذلك الحب ونجد هنا واقعية الشاعر وعدم مبالغته في وصف مشاعره، ويخطفه الزمان كخطف البرق..

أحاولها:
الزمان ُ يمر ُّ خطف البرق ِ
والأحجار ُ أحجار ٌ
وعطر ُ البرتقال
من فجوة ٍ في الغصن يهرب ُ

لقد عـُني َ الشاعر شاكر العاشور عناية فائقة بالاعتماد على اللغة والغوص في أعماقها لأنها على حد تعبير الدكتور صدام فهد الأسدي "أساس العمل الشعري ودعامته الكبرى " وبدون ذلك الأساس لا نستطيع فهم الشعر فهما ً كاملا ً.. أما الرافد الذي أغنى لغة الشاعرونوّع المفردات في لغته هو التراث العربي الذي مال فيه إلى الاعتماد على القرآن الكريم، والذهاب إلى الرموز الأسطورية والدينية والاغتراف من رموز الطبيعة الواسعة التي يجد فيها راحته.. وأن أسلوب الشاعر وتركيبه اللغوي فيه من العمق والغموض ما يدعو الباحث إلى التأمل الطويل لمعرفة دلالات التراكيب والأساليب التي يستعين بها..

لقد تعددت الصور الشعرية لدى الشاعر شاكر ألعاشور، ويتخذ من أعضاء جسد الإنسان صورا ً جميلة مثل (يداك ضفاف) كما يُشبّه الصدر َ بالشباك يقول:

واجعل ْ من صدرك شباكا ً

وجعله من الصدر شباكا ً لأن فيه القلب ومنه ينطلق إلى العالم.. ونتيجة لتأثر الشاعر بالشعراء الرومانسيين وبالشاعر الاسباني (لوركا ) كونه شاعرا ً ورساما ً، يتخيل من خلال الماء صورة وجه الحبيبة يقول:

على صفحة الماء
كان لوجهك ِ ظل َّ

فهذه العبارات مثل: الظل وانعكاساته في المياه من عبارات الرسامين، وقد لاحظناه في بعض قصائده يقول:

اتـّسعي مثلما جسدي فوق هذي المياه
يدافع عن زرقة البحر ِ
إن ّ دم َ البحر ِ أزرق ْ

إذ ينقل لنا صورة اتساع جسده فوق المياه ويطالب محبوبته بذلك.. كما يؤكد أن ذلك الجسد يدافع عن بقاء لون البحر الأزرق، إذ يقرن حبه لها بحب البحر.. وقد يلجأ الشاعر إلى الطبيعة ليعانقها بصورته الشعرية، مؤنسنا ً تلك الطبيعة وكأنها وحدها التي تسمعه، وذلك يدل ّ على ظروف نفسية جعلته يلجأ إليها:

عيناي في الرمل ِ، وخلف الليل والنهار ْ
حبي يغني: يا ظلال الغار ْ
تاجي من الصبار ْ
وفي فؤادي نار ْ
وأنت لا طيفا ً، ولا صبحا ً
ولا عند الضحى تأتين، والأشعار ْ
في داخلي تنأى،
وأخشى، بغتة ً، أنهار ْ

وفي كل ما تقدم كان الشاعر شاكر العاشور يعيش مع الإنسان في معاناته وألمه وغربته، وما ينتابه من شعور بالضياع والحرمان،وهو يحاول في شعره طرح قضايا المجتمع.. فهو في كل نص من نصوص شعره يطرح قضية ومشكلة ولكنه لم يجد حلا ً لها ليتخلص من العناء والألم...


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى