الاثنين ١٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٢
عن الحضارة «9»
بقلم محمد متبولي

إنسان جديد في مجتمع وعالم جديدين

استكمالا لسلسة المقالات التي كنت بدأتها منذ فترة، متحدثا عن أننا إذا ما أردنا إنشاء حضارة إنسانية جديدة أو تحقيق تقدم حضاري بارز علينا إعادة بناء تصورات الوحدة الحضارية الصغرى المسماة الإنسان، وقد قمت في هذه المقالات بتعريف تلك الوحدة، وما هي التصورات ذات الأولوية في إعادة تعريفها، وصولا إلى الحديث عن إعادة بناء التصورات حول فكرة الإيمان، مفرقا بين إيمان إيجابي يدفع صاحبه للأمام وآخر سلبي يقوض قدرة صاحبه على التقدم ويدفعه للتأخر، فسأقوم هنا بتقديم تصور حول كيفية إعادة بناء تصورات الإنسان حول نفسه ومجتمعه وعالمه، من أجل أن يصبح صانعا للحضارة، وأعود لأؤكد أن هذا التصور هو مجرد محاولة لا أفرضها على أحد ولكن أتمنى أن يكررها كل من يقدر.

فالإنسان المنتمى لواقع متراجع حضاريا عادة ما يرسم لنفسه صورة تسمح له بتقبل واقعه دون أن يشعر بالأسى تجاه ما يعانى، وحتى إذا ما شعر فى وقت من الأوقات بالسخط على ذلك الواقع فإنه يجد المبررات التى تقنعه بأن حاله أفضل من حال غيره أو أنه لا يستطيع تغيير شئ فيعود مرة أخرى لحالته الأولى، وعادة ما تعود عدم قدرة الإنسان على التغيير للهاثه خلف توفير إحتياجاته الأساسية وإبعاده أو إستبعاده من الحياة العامة، ويستتبع ذلك رغبة جامحة فى الاستقرار لديه حتى يحافظ على الحد الأدنى من المتطلبات الذى يتحقق له، ومع الوقت يتحول ذلك الاستقرار مع عدم الاهتمام بالشأن العام إلى جمود، ورفض أية أفكار جديدة أو تجديدية أو إبداعيه، ولأن حرية التفكير عادة ما تكون منبع تلك الأفكار والتى تعتبر فى حد ذاتها خطرا على الاستقرار المزعوم الذى يتشبث به هذا الانسان، فيكون من السهل أن يساوى بين مفهوم الحرية ومفهوم الفوضى، ومن المنطقى هنا أن تكون منظومة التعليم التى تساعد على إنتشار هذه المفاهيم قائمة على النقل والتلقى، لتقتل أية قدرات إبداعية لذلك الإنسان، وتسهل تقبل هذا الإنسان لوضع قيادة المجتمع فى يد سلطة أبوية تعتقد أنها الأكثر قدرة على تحديد مصلحته وإحتياجاته، ولها الحق أن تفعل به ما تشاء.

وهنا تظهر أهمية عملية إعادة بناء التصورات، والتي عادة ما تتم بناءا على عدة محفزات يأتى في مقدمتها الوعي وتصويب أفكار المجتمع المغلوطة، والتعليم المتطور وتحسن الأوضاع الاقتصادية والعدالة الاجتماعية وغيرها، حيث يمكن للإنسان إعادة تعريف المفاهيم وتسميتها بأسماءها الحقيقية، فيكون لدى الإنسان المقدرة على رؤية الحقائق كما هي، فتقبل الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الصورية هو مجرد تكيف مع الواقع، وعملية الإفقار العمدي التي تحدث له ما هي إلا عملية إبعاد عن الحياة العامة، والاستقرار الذى يأمن إبقاء كل شئ على حاله دون تقدم هو في حقيقته جمود، والتعليم القائم على النقل والتلقى هو شئ يتم بمقتضى الضرورة لإيجاد الكوادر التي تحافظ على هذا الجمود، ويعرف هذا الإنسان أيضا أن هناك فارق بين الفوضى والحرية التي يضبطها الضمير لا القمع، وان السلطة الأبوية التي تقود المجتمع ما هي إلا سلطة ديكتاتورية تحارب التقدم، ثم تتولد لديه بعد ذلك رغبة قوية فى تغيير ذلك الوضع، بعد أن فرق بين الأفكار التي يعتنقها من أجل التكيف مع الواقع أو تسهيل التكيف معه، وتلك التى يجب عليه أن يعتنقها من أجل تحقيق واقع أكثر تقدما وعدالة وتحضر.

ومدفوعا بما حقق من تصحيح مفاهيم، وإعادة تعريفه لنفسه من أنه خاضع لظروف وأفكار لا يملك تغييرها، إلى قادر على الفعل والتغيير، تتولد لدى الإنسان رغبة قوية في تغيير المجتمع من حوله بعد أن يغير من نظرته له، فلم يعد ذلك المجتمع هو الكيان الذي يلقنه الأفكار والعادات والتقاليد التي تتحكم في حياته دون أن يكون له الحق في أن يستبعد منها ما جاوزه الزمان، ويبقى منها ما هو قابل للاستمرار، وفى الوقت نفسه هو المجتمع الذي يغض الطرف عن الظلم الذي يقع عليه كل يوم دون أن يحرك ساكنا، بل أصبح مجتمعا يؤثر فيه ويتأثر به، فالعلاقة بينهما لم تعد تلقينية ولكن تفاعلية، وبناءا عليه فيسعى الإنسان لمراجعة كافة أفكار وتقاليد مجتمعه ونقدها، ومواجهته بما توصل إليه من نتائج، محددا ما هو قابل للاستمرار وما لم يعد له محل وما يجب أن يتبناه المجتمع من أجل دفعه للأمام، وان هذا الإنسان لن يقبل من مجتمعه الصمت على الظلم بعد أن قرر ألا يتقبله، فيسعى بكل ما أؤتى من قوة لنشر ثقافة رافضة للظلم ومقاومة له ساعيا لجعل المجتمع بأسره مقتنعا بها.

وهنا فمن المؤكد أن ذلك المجتمع الجديد الذي أنشأه هذا الإنسان الجديد سيتبنى رؤية جديدة للعالم من حوله، فلم يعد ذلك العالم مجموعة من المجتمعات الأقوى منه الذي يجب عليه الخضوع لها، أو الأضعف منه التي يستخدم تراجعها لتبرير جموده، أو مجموعة من الأصدقاء الذين يأتى من عندهم كل خير، أو مجموعة أخرى من الأعداء الذين يأتى من عندهم كل شر، بل أصبح العالم مجموعة من المجتمعات الأخرى التي يؤثر فيها ويتأثر بها بمقدار هو قادر على التحكم فيه، وله كامل الحق أن يعظم التشارك مع بعضها على أسس الاخوة أو التاريخ المشترك أو حتى المنفعة، وان يقلل التشارك مع بعضها الآخر إذا ما رأى مصلحته في ذلك دون أن يخشى من أحد، وله أن يأخذ من بعضها علما وسلعا دون ثقافة، أو ان يوسع تبادله الثقافي مع بعضها الآخر وفقا لما يحقق مصالحه ويتفق مع رغبته في التقدم، وان قواعد ومفردات اللعبة الدولية ليست قوالب جامدة، ولكنها يمكن أن تتغير إذا ما أراد ذلك شريطة أن يكون له تأثير كبير في مجال صناعة وتصدير الحضارة بكافة مكوناتها.

ببساطة أن عملية إعادة بناء التصورات لدى الإنسان هي العملية التي يتحول بمقتضاها من إنسان ينتظر جنة السماء لأنه لا يملك جنة الأرض، مستسلم لفكرة التكيف مع الواقع متقبل لما يفرض عليه من المجتمع والعالم، إلي إنسان يعتقد إن تحقيقه للجنة على الأرض طريقه لتحقيق جنة السماء، ساعيا لتغيير واقعه وتغيير معه مجتمعه وعالمه، انه إنسان كشف الغطاء عن عقله والعقل الجمعي لمجتمعه ولم يعد من السهل إعادته لحظيرة التأخر ثانية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى