الثلاثاء ١٨ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٢
بقلم الشربيني المهندس

بين الوادي والنهر وقصة وطن بشري

في البدء كانت الكلمة وستبقي اللغـة نبراس الهوية والوطن وثقافته وحاملة الأفكار وراصدة الأحداث ومحركة المشاعر وتحية خاصة للغة الكتابة عند بشري أبوشرار فهي البطل
قال الشاعر

لغتي الجمال وأنت صرح باذخ
بك يعرف الإنسان والأوطان
أهواك في نطق الحروف فصيحة
نبراتها في مسمعي ألحان

.. ومع إشكالية تجنيس العمل الأدبي شهب من وادي رم، هل هو رواية تاريخية وقـد استدعت سطورها صفحات من التاريخ والحضارات.. أم هي رواية مكانية وقد احتل المكان الصدارة بدءا من العنوان وهو وادي رم.. ويستمر مع توالي الرحلات بين النهر والوادي.. أم رواية زمكانية.. ولم لا تكون رواية أشخاص وقد احتوت بين ضفتيها شخصيات رئيسة هن فدرا وأخواتها وهي أسماء تاريخية لها دلالتها ولا اعتقد أنها من قبيل المصادفة، وهي عنونت بهن فصولها أو شهبها فضلا عن الشخصيات المساعدة والثانوية.. ويبقي النص بأساليبه السردية المختلفة عارضا الصراع الإنساني الفكرة والمحتوي لا خلاف عليه.. ومن فاروس علي البحر إلي وادي رم والنهر حيث تحرك التاريخ والأفراد وخصوصية وطن.. وتحية من علي جبل النار للأديبة بشري أبو شرار أو شمس مضفرة شهبا بكف الجدة،في قوتها وحنانها عطرا وحكايات تتدحرج معها الصور، لفـدره وأخواتها وأمل يتخطي أعواد الثقاب إلي رحابة السماء الزرقاء،وآفاق شفافة رقراقة سواء هرب منها حرف الضاد ودلالته وقد نامت أهدابها وتربع حرف الخاء فهو لا يوجد في اللغات الأجنبية بدلالته أيضا.لتبقي ذاكرة المقاومة ضد أعمال المحتل لتزييف التاريخ وتزوير المكان وتدمير الإنسان قلادة تستحق التمسك بها مع كل التقدير وموجة تقدير سكندرية..

الأدب إنسان والمكان هو ظله علي الأرض يتركه فيتحرك التاريخ.. قد يبدو سؤال الواقعية والتاريخ في الرواية بدهيا، بيد أنه إشكالي نظريا وتطبيقيا وكيف يتوفر للأديب إمكانية اقتراح نماذجه مستندا على تعددية الأشكال السردية في علاقتها بالكتابة.. وقد استخدمت الكاتبة أساليب تيار الوعي والفلاش باك والمونولوج والديالوج أيضا.. وهنا يأتي سؤال الإبداع فنحن أمام أدب يستدعي رموز تاريخية وحضارة بدءا من العنوان شهب من وادي رم الدلالة والمكان وهي بعيدة عن رام اللـه بالضفة الغربية.. ويختلف المعني عن شهب إلي الوادي التي فضلها الناقد محمود زكريا في دراسته المرفقة بالرواية ودلالتها من القرآن الكريم وسورة الجن (وإنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا وشهبا، وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا ونميل إلي اعتبارها للبطلات كشهب أو جنود ضد الشر في الوادي فللشهاب معني آخر من سورة النمل (إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (النمل 8-9.. وهي تناسب طريقة الكاتبة وعنوان روايتها أو المتوالية بعنوان أعواد ثقاب.. وتأتي النار من مستصغر الشرر..او صراعات الحياة اليومية) وهي تستعرضها مع شخصيات آنية نسائية غالبا حيث أنهن رمز للخير وهريدية زوجة الأب ومحور الشر والجدة تطحن القمح رمز الحياة وتهبط عليه الشهب..

كيف استدعت الكاتبة التاريخ وان احتاج إلي قارئ غير عادي وهل تم إقحامه بين السطور أم كان السهل الممتع.. وكيف نوعت أساليبها السردية ولم تكتف بالفلاش باك، ومن ثم البناء الدرامي الذي جاء في خطوط أفقية تتواصل مع الشخصيات والأحداث كلها مرتبطة بالمكان ففدرا استلقت بجسدها علي صخرة ملساء، بينما الاستهلال مع شقيلة علي صخرة جانبية يجلس راع.. ومع مرمرة عاثت الأمواج بالسواحل ليضع المكان بصماته وتبدأ الملحمة حين تقطع العربة المسافات في ربوع حوران المكان وبشري الشهيرة بفدرة الإنسان تغوص في دهاليز التاريخ لمدن أموات سبقت مدن أحياء.. بل تجد الرمزية مع طاس من الذهب نقش كنعان لملك خرج لنزهة صيد يطارد غزالا وبعض الثيران الوحشية وخلفه أسد جريح يحاول اللحاق بالعربه.. إنها ترتب الأحداث وتستقي الرموز التاريخية من الواقع المرصود ولترقص الدلالات بين التراث والواقع والسؤال أيكون أبي هو ذاك الأسد الجريح..

ويتوالي الرصد إنسانيا ومنمنمات الحياة اليومية حين تصرخ هجرو تنادي جدتها وأمها طالبة العون ووالدها يقيدها بسلسلة لرفضها الزواج من عون..لكن التاريخ يصمت وصرخاتها ترتد إلي حيث صدرها توشوش لها أنفاسها أنها باتت وحيدة.. استدعاء التاريخ تلقائي والأب يسأل عن عون وترد الزوجة هو من أبناء عمومتي من أبناء داوود وطالوت لهم بطولات عديدة حيث قاتلوا البربر من الجبارين..

وهنا تفرض جماليات اللغة نفسها مع الكتابة الأدبية ومهرجانها بين التاريخ والإنسان والمكان، وسؤالها عبر الواقع والتخييل والأسلوب والرؤية الجمالية، التاريخ هو المجتمع ذاته كتعيين أنطولوجي قائم بين الأدب والحياة.. والإنسان بمكانه وإحداثه بؤرة العمل الأدبي ولا تتركنا اللغـه الرصينة والنتيجة ذبلت البطلة الثالثة أو برعمة الوادي كما يقول النص ومالت من علي غصنها تنتظر السقوط والعريس في الانتظار حيث تهرسها الأقدام..

وتنكس ريحانة رأسها حيث صمتها الموجع لقلبها الذي ينزف القهر ويتلوي كمدا علي أختها وتتوالي الصور والماشطة تشق الجبال تحمل قماشتها المطعمة بالورد لنرفع القبعة تحية للغة ترسم صورا جمالية للمجتمع وعاداته في العرس والولادة وغيرها ولمشاهد إنسانية وحتي المكان تؤثر في القارئ ليتابع مع سؤال الكتابة، إمكانية إدراك بعض مستويات التشخيص الأدبي للواقع ودوره المحتمل في إثراء منحاه المعرفي وهنا مشروع الكاتبة بإحياء ذاكرة المكان المسلوب..

ونعود للتذكير بإصرار الكاتبة علي تسجيل نقوش المكان ووصف العادات في كل أعمالها وكأنها تتحدي عمليات التهويد وطمس الهوية التي يمارسها المحتل الغاصب للوطن.. وتنتهي الرواية وبنات كنعان كلهن عائدات.. ستعدن تخضرن الأرض وتوشوشن الريح بموعد الحصاد.. وتحملن تراب عائد بطل المقاومة والذي كان يستحق الكثير من الكاتبة لكنها يبدو قد فضلت جعله رمزا حتي النهاية..

وهكذا نرصد كيف نجحت لغة الكاتبة ومفرداتها الثرية وقدرتها علي الوصف لقصة أبناء وطن في الحياة والمقاومة وحتي الممات في وطنهن وليسقط الأسد الجريح وتمضي العربة عنه وتبقي الغزلان حول عين الماء يزداد التحامهن حول عين الحياة في جعبون وكأنها رواية دائرية تحقق ما سجلته الأسطورة والتراث من نقش علي الطاس الذهبية ببساطة في مشاهد متغيرة وشخصيات متنوعة ودراما الأحداث وتضعك إمام كادرات تصويرية متحركة لتعود وتبحث وتفكر في دلالات النص المعرفية بعبقرية المكان وثراء التاريخ ومعارك الخير والشر ومقاومة الإنسان التي نحني لها الرأس لوطن وإنسان يستحق كل منهما الآخر...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى