الاثنين ٢١ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٣
ثورة التنمية الاقتصادية
بقلم محمد متبولي

والتحول الحضارى

تحدثنا فى المقالين السابقين عن الثورة الفكرية وثورة العلم والمعرفة، ولكن السؤال الهام هو كيف لإنسان يلاقى الأمرين فى إيجاد قوت يومه سيلقى بالا لمراجعة أفكاره، أو حتى الاهتمام بنتائج هذه المراجعة ونتائج الثورة الفكرية، أو سيكابد فوق مرارته مرارا آخر لينمى نفسه علميا ومعرفيا أو يعلم أبناءه، وكيف وهو يعتمد على مساعدات الآخرين له سيتركه هؤلاء الآخرين ليتقدم ويتفوق عليهم، ثم يستغنى عن مساعداتهم ويفقدوا سيطرتهم عليه بهذه السهولة، إن كل ذلك يفرض وجود عملية تنمية اقتصادية واسعة النطاق، ولكنها أيضا ستضع ضمن أهدافها علاوة على أهداف الاقتصاد المعتادة، أهداف تكون بمقتضاها دعامة أساسية لإنشاء بناء حضاري شاهق والمضى قدما فى ثورات الفكر والعلم والمعرفة الذين تحدثنا عنهم فيما قبل، إن هذا ما نسميه ثورة التنمية الاقتصادية، والتى سنحاول فيما يلي تصور بعض أهدافها تاركين الجوانب الفنية للمتخصصين في علم الاقتصاد.

بداية إن أهم أهداف هذه الثورة الاقتصادية هى أن تكفى الإنسان البسيط شر العوز والحاجة، حتى يتمكن من التفكير فى أشياء أخرى أبعد من توفير احتياجاته الأساسية، فلو فرضنا جدلا أن هناك إنسان بسيط دخله لا يكفى احتياجاته، فسيكون من الطبيعي هنا أن توجه كل طاقاته لسد هذه الاحتياجات، وسيكون نوع من الترف أن نطالبه بزيادة معرفته أو مراجعة أفكاره أو المشاركة فى بناء نموذج حضارى جديد، وسيصبح هذا الإنسان عرضة أكثر لتقبل الأفكار المتطرفة، والانغلاقية، ورفض التقدم خوفا من مجهول قد يزول فيه ذلك القليل الذي يتحصل عليه، وربما يصبح عرضة لاخراج ضيقه وكبته فى صورة عنف تجاه المجتمع أو الآخر أو الانزلاق لمنحدر الفتنة الطائفية، ولكن على النقيض لو توفر لهذا الإنسان الدخل المناسب سيكون أمامه فرصة أكبر للأنفاق على زيادة معرفته والتعليم الجيد لأبناءه، خاصة لو أستغل أبناء من أطلقنا عليها طبقة النهضة هذه الظروف، وأرسوا لديه ثقافة تخصيص جزء من دخله للصرف على المعرفة، لا ثقافة الاستهلاك من أجل الاستهلاك، وهو جانب هام يجب أن تهتم به الثورة الفكرية.

إن أهم الأدوار التي يجب أن يقوم بها الاقتصاد هي قيادة التحول الحضارى، فمهما بلغت قدرة الأفراد على الصرف فى مجالات الفكر والعلم والمعرفة، فلن تؤدى إلى التحول المطلوب، وهو ما يستلزم أن تتحمل الدولة والمؤسسات الاقتصادية الكبيرة هذا العبء وهو ما لن يتحقق دون اقتصاد قوى، فالاقتصاد هو الذي سينفق على المطابع ووسائل نشر المعرفة المتقدمة والمتطورة، وإنشاء الجامعات والمدارس الحديثة والمعامل البحثية ومراكز الأبحاث، وهو الذي سينفق على إشاعة قيم الجمال سواء بالتخطيط الجيد للمدن، أو زيادة المساحات الخضراء أو الطراز المعماري للمباني، وهو الذي سينفق على تحسين البيئة والخدمات بشكل عام، ويجب أن تضع العملية الاقتصادية صوب عينيها استيعاب ما ينتجه العلم والمعرفة، فببساطة يجب أن يتحول ما ينتجه العلم من نظريات وبحوث تطبيقية إلى صناعات وخدمات متطورة تدر دخلا اقتصاديا جديدا وتعظم قيمة الاقتصاد وتزيده.

ولكن سيظهر هنا تساؤل هام فالتحول من مرحلة الضعف والوهن الاقتصادي إلى مرحلة القوة تلك سيعنى ببساطة أن هناك أصحاب مصالح فى الداخل والخارج، أفراد كانوا أو دول سيفقدون قدرتهم على التدخل في القرار الوطني عن طريق تأثيرهم في الاقتصاد، سواء عن طريق تقديمهم لمنح أو مساعدات أو ضخهم لاستثمارات، ومن الوارد جدا أن لا يقبل البعض ذلك بسهولة إما لتأثيره على مصالحهم، أو لرفضهم فكرة أن نصبح مؤثرين مثلهم وربما أكثر، وقد يدفعهم ذلك للتدخل لإبطاء تقدم الاقتصاد أو إثناءه عن تحقيق الأهداف التى سبق وذكرناها، وهو ما يعنى أن الاقتصاد يجب أن يضع صوب عينيه أن يكون عمادا لعملية تحرر وطني شامل، يتخلص بمقتضاها الوطن من كافة أشكال التبعية والتدخل في اقتصاده وبالتالي سياسته، وكذلك فعلى الاقتصاد أن يوفر التدابير المالية اللازمة لحيازة القوة المناسبة لحماية عملية التطور الاقتصادي والتحول الحضاري تلك.

وننتقل إلى جانب هام ومن جوانب العملية الاقتصادية، وهو جانب ربما لا يعيره الاقتصاديون أنفسهم اهتمام كبير، وهو البعد الثقافي للاقتصاد، فالسؤال الهام دائما هو كيف سنسوق ثقافاتنا وإنتاجنا الفكري والحضاري، فقد يكون لدينا كاتب أو مفكر حاصل على جائزة نوبل فى الأدب، ولكن ذلك لا يعنى شيوع ثقافتنا وانتشارها فى العالم، وفى المقابل قد تنتشر ثقافة ليس لديها ما لدينا من مقومات ثقافية وذلك لمجرد أن الدولة التى تحتويها متقدمة اقتصاديا، فالمعادلة بسيطة عندما يرتفع المستوى الاقتصادي ترتفع قدرتك على إنتاج الفكر والثقافة، وعندما تغزو منتجاتك العالم، سيتساءل الناس كيف نجحت فى إيصال تلك المنتجات إليهم وبينك وبينهم آلاف الأميال، ثم يبدءون في السؤال عن ثقافتك وعاداتك وتقاليدك وتاريخك، وسيسعون لزيارة وطنك خاصة لو أن أحد جوانب التنمية الاقتصادية لديك هى تعظيم دور السياحة، وسيسعون لقراءة ما تنتجه من كتب وأفكار، ومشاهدة ما تصنعه من أفلام ومسلسلات وموسيقى، كل ذلك للإجابة عن سؤال واحد، كيف صنعت تلك المعجزة ودخلت بيوتهم مرحبا بك دون أن يدعوك أحد، قد يستغرب البعض مما أقول، لكن أكبر دليل على ذلك هو انتشار مشروب الكوكاكولا والوجبات السريعة، فالولايات المتحدة تسوق ثقافاتها مع علبة الكوكاكولا، وكثير من الكتابات والترجمات العربية عن الصين واليابان حاليا لم تظهر إلا مع التقدم الاقتصادي الرهيب لهم، وحتى ظاهرة انتشار المسلسلات التركية لم تتصاعد إلا مع الصعود الرهيب للاقتصاد التركي، ببساطة الاقتصاد يقوى من القوة الناعمة للمجتمع ويدعمها بالإمكانيات وفى الوقت نفسه يجعلها تنتشر فى العالم، فالتأثير الثقافي للاقتصاد أمر لا يمكن إغفاله تحت أى ظرف من الظروف.

وأخيرا فلو أردنا تلخيص أهداف الثورة الاقتصادية كما نعتقد فيها سنقول، إنها ثورة تهدف إلى تحقيق قدر من الرفاهية للمواطن البسيط تجعله أكثر اهتماما بالثقافة والمعرفة والعلم، وتدعم التحول الحضاري بكافة جوانبه، وتستوعب ما ينتجه العلم، وتعمل على تحقيق الاستقلال الوطني، وأخيرا تسويق المنتجات الاقتصادية والفكرية للمجتمع ونشرها فى العالم، ببساطة الثورة الاقتصادية هى أكبر محرك للثورة الشاملة وفى الوقت نفسه أكبر دليل على نجاحها.

عن الحضارة «12»


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى