الثلاثاء ٥ آذار (مارس) ٢٠١٣
مصر .. خطوة للأمام
بقلم أحمد الخميسي

وعشر خطوات للوراء

في عام 1902 ظهرت في مصر أول ترجمة مطبوعة لمسرحية شكسبير«هاملت». على غلاف الكتاب برز اسم المترجم «طانيوس أفندي عبده الكاتب المجيد» وجاءت صفة الكاتب المجيد الملحقة بالاسم من طانيوس أفندي لتعريف القراء بنفسه. وطانيوس أفندي أديب وصحفي لبناني كان من رعيل المنورين الأوائل في مصر. وكان قد ترجم المسرحية قبل طباعتها بخمسة أعوام وقدمها على المسرح عام 1897.

وحين عرضت المسرحية لاحظ طانيوس أفندي عبده الاستياء الذي عم بين المتفرجين في الصالة وغضبهم من الظلم الذي تعرض له هاملت وموته في نهاية العمل! وقرر بينه وبين نفسه أن لشكسبير الحق في أن يؤلف مايشاء لكن هناك، أما في مصر فإن طانيوس أدرى بأحوالها، وكل واحد بحريته لكن في بلده وفي حدوده، وشكسبير على العين والرأس بس ما يتنططش بقى. وهكذا قام طانيوس أفندي بتعديل نهاية المسرحية وجعل هاملت يواصل حياته بل وينتزع عرش والده ليهدأ المتفرجون بانتصار العدالة. على هذا النحو ألف طانيوس أفندي نهاية مختلفة تماما للعمل الشهير. ولم يكن كاتبنا المجيد عابر طريق في الثقافة، فقد كان مترجما عريقا أصدر سلسلة "الروايات القصصية" وظهر منها أربعون عددا، وجريدة "الشرق اليومية" ومجلة "الراوي" الأسبوعية وقدم أعمالا عديدة للمسرح، لكنه بتأليفه تلك النهاية الجديدة لهاملت كان يسقط على العمل أماني الجمهور البسيط وربما أمنيته هو أيضا بإنصاف المظلوم. حادثة أخرى حين بدأت الثقافة العربية في عشرينات القرن الماضي تتعرف إلي الفكر الاشتراكي بفضل رواد أوائل مثل شبلي شميل ونقولا حداد وسلامة موسى، وأخذ مثقفون عرب في ترجمة الكتب الماركسية من الانجليزية إلي العربية.

وكان من ضمن الأعمال التي ترجموها حينذاك مقال كتبه لينين زعيم الثورة البلشفية بعنوان "خطوة للأمام.. خطوتان للخلف"، تناول فيه ظاهرة الانقسام داخل الحزب الواحد. وحين قرأ المترجم عنوان المقال ألح عليه سؤال: إذا كانت الثورة - حسب العنوان - تتقدم خطوة واحدة وتتراجع خطوتين، فلابد أنها في المحصلة النهائية ستتراجع! وظن صاحبنا أن عنوان الطبعة الانجليزية تشويه متعمد لأفكار لينين الثوري والذي يستحيل بداهة أن ينادي بهزيمة الثورة في نهاية المطاف! من ثم جعل المترجم للتقدم خطوتين ونشر المقال بعنوان" خطوتان للأمام.. خطوة للخلف"! لتنتصر الثورة! مرة أخرى يسقط المترجم تصوره وأمانيه على الواقع. على أية حال تم استدراك تلك الأخطاء لاحقا، عندما ظهرت "هاملت" في ترجمة دقيقة لشاعر القطرين خليل مطران، وعندما نشرت ترجمة مقال لينين بحذف الخطوة الزائدة من تقدم الثورة! وبقيت لنا من تلك الأعمال الأدبية والسياسية قيمتها الحقيقية وما تطرحه من أسئلة. بقي من هاملت حيرته وتساؤلاته الفلسفية العميقة، وبقي من لينين ملاحظته حول أن التقدم خطوة والتراجع خطوتين ظاهرة نلمسها" في حياة الأفراد وفي تاريخ الأمم.. وأن الشعب رغم جميع التعرجات والخطوات إلي الوراء سيرص صفوفه أكثر فأكثر".

وعندما يدور الحديث عن ثورة يناير التي أسميناها انتفاضة أوانتفاضة يناير التي أسميناها ثورة، فإن النظرة الأعم والأشمل خلال الحديث هي أن ثمة تعرجات وخطوات للوراء لكن مصر لن تلبث بعدها أن تندفع إلي الأمام نحو أهدافها. وخلال ذلك الجدل أسأل نفسي في صمت: هل أن ما تشهده مصر هو خطوات مؤقتة للوراء.. استعدادا للتقدم؟ أم أنها خطوات للخلف في اتجاه ثابت نحو التراجع؟. بمعيار التفاؤل يمكننا أن نقول إن وصول الأخوان للحكم خطوة للخلف، وأن الغضب الشعبي على حكمهم خطوتين للأمام. لكن هناك الكثير من الظواهر التي تثير القلق. على سبيل المثال كيف يمكن لانتفاضة – ثورة أن تبدأ لنحو عام تقريبا متخذة شعار "إسقاط حكم العسكر" وترتد منادية بحكم الجيش مرة أخرى؟. كيف يمكن لانتفاضة – ثورة أن تهب لخلع رأس الطغيان وتنتهي بتكريس رأس طغيان آخر؟ كيف يمكن لحركة شعبية أن تثور تحت شعار الحرية فتحصد الاستبداد مجددا؟ كيف يمكن لحركة شعبية تبدأ بالدفاع عن الوطن أن تنتهي بتلك المساحات الشاسعة من الفوضى التي تهدد الدولة والجيش بالتفكك لتصبح مصر لقمة سائغة لأمريكا وإسرائيل؟ كيف يمكن لانتفاضة – ثورة أن تقوم لتطوير الدستور وانتزاع المزيد من الحريات فتنتهي بتقليص الحريات وبدستور يكرس الفاشية؟.

كيف يمكن لحركة شعبية تنتفض على الفقر والتخلف أن تمضى لمزيد من الفقر والتخلف؟ هل يمكن النظر إلي كل ذلك باعتباره "خطوتين للخلف" تندفع بعدها الثورة إلي الأمام؟ أم أن ذلك التراجع سمة أصيلة لتلك الانتفاضة لن يعقبها تقدم أو خطوة للأمام؟. هل أن كل ما نفعله هو أننا نسقط أمنياتنا على الواقع ونغير النهاية على الورق بينما تمضى القصة بنهايتها الحقيقية في اتجاه آخر؟

إن أكثر ما يثير القلق في كل ذلك أننا لا ندري من الذي يحدد شعارات وتوجهات وحركة الانتفاضة الثورة. من الذي بلور ذات يوم شعار إسقاط حكومة أحمد شفيق ليحل بدلا منه عصام شرف؟ من الذي طالب بإسقاط حكم العسكر لينادي الآن بعودة العسكر؟ من الذي رفع الآن، وكيف، وبأية آلية سياسية، شعار العصيان المدني؟ وإلي أي شعار آخر سيقودنا لاحقا؟. في كل ذلك لم يؤد التراجع إلي خطوة للأمام، بل إلي مزيد من التراجع: من أحمد شفيق لعصام شرف وصولا إلي هشام قنديل. ومن مبارك وصولا إلي مرسي، ومن هامش حريات إلي قبضة فاشية مقنعة بالدين، ومن دستور سيء إلي الدستور الأسوأ. هل أن كل ذلك التراجع أمر من صميم الثورة التي لم تبخل بالدماء وبخلت بتوجه اجتماعي واقتصادي حاسم؟ هل أن كل ذلك التراجع من صميم انتفاضة بذل أبناؤها لأجلها أرواحهم بدون أن تبذل الجهود اللازمة لتنظيم حركتها؟

أظن أن أولى الدروس وأكثرها وضوحا أن الثورة الانتفاضة التي تدور في فلك الإصلاح السياسي – بعيدا عن المطالب الاجتماعية – لا تحصد في نهاية المطاف حتى الإصلاح السياسي، وأن الثورة الانتفاضة التي تهب من أجل الديمقراطية بمعزل عن برنامج اقتصادي ووطني، لاتحصد حتى الديمقراطية. كانت الشعارات الأساسية ليناير هي الإطاحة برأس النظام، وتعديل الدستور، والانتخابات النزيهة، وبرلمان يمثل الشعب، ولأن كل تلك الأدوات كانت منفصلة عن علاج مأساة الفقر والتفاوت الصارخ في الدخول، والبطالة، والتبعية، وأزمة السكن، والعلاج، فإن الثورة لم تضع يدها حتى على تلك الأدوات. وعجزت القوى المستنيرة، الوطنية، عن تشكيل مجلس شعبي ووطني لقيادة الثورة، وعجزت حتى عن التنسيق فيما بينها خلال ردود أفعالها على حكم الأخوان، وظلت شعارات مثل "عيش. حرية. عدالة اجتماعية" في حدود الشعارات العامة المطاطة التي افتقدت أية قوة أو نفوذ في الواقع الفعلي. ولا يكفي هنا تكرار أن "الثورة مستمرة"، لأن تلك العبارة تصبح خالية من أي معنى بدون العمل من أجل برنامج يضمن استمرارية تلك الثورة – الانتفاضة. لذلك يطرح د. رؤوف حامد مبادرة جديدة ينادي فيها بضرورة بلورة مؤسسات الثورة، وضرورة الوصل إلي جماعية القرار الوطني لمفكريها. هذا أو أننا سنظل نسقط أمنياتنا على الواقع، ونرى في خيالنا أن "هاملت" مستمر يواصل الحياة، وأنه انتزع عرش والده وأن العدالة قد انتصرت، بينما تمضي المسرحية الحقيقية في اتجاه آخر، أو أننا نكتب "خطوتان إلي الأمام" لأن هذا ما نتمناه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى