الخميس ١١ نيسان (أبريل) ٢٠١٣
بقلم هيثم نافل والي

ضياع في غربة

لقد أخذنا بنصيحة جارتنا العراقية، وقلدنا ما فعلته صديقتي سميه، وخالتها رقيه،
وقلنا لأنفسنا لماذا لا نجرب أن نفعل مثلهم؟! ونحن نراهم يعيشون برفاهية، وبأحسن حال،
وكأنهم ملوك في قصورهم البهية الثرية!!

قرع جرس باب منزلنا بشكل متواصل مرعب، كصفارة الإنذار، وكأن القيامة قامت...
سألت زوجتي مرتبكاً: ترى من يكون الطارق وفي مثل هذا الوقت؟

 علمي لا يزيد عن علمك... افتح وستعرف!! (أجابت موجزة بتوتر)

نزلت من الطابق العلوي مهرولاً دون شعور وأنا في ملابس النوم، والفزع يركبني... أغمغم مع نفسي: اللهم رفقاً بنا، اللهم اجعله خيرا؟ ثم فتحت الباب...

وإذا بميسون زوجة حازم (أصدقاء العائلة) تدخل دون إذن صارخة، باكية، متشنجة، خائرة القوى، وهي تهذي وتزفر وتهز رأسها، قائلة:

لقد غلى مرجلي، ولم أعد أتحمله أو أطيق تصرفاته... الخائن، البشع، المقامر، المغامر الذي غدر بي دون رحمة، تباً له وليغدر به الشيطان، كما غدر بي!! وأتمت بتهالك:

رجل كثير الخداع، سريع النسيان، بلا مروءة ولا حياء أو وفاء...

نظرت لها نظرة رثاء، وقلت لها في إشفاق:

تفضلي، اجلسي هنا أرجوكِ... وبرفق أجلستها في غرفة الاستقبال؛ وهممت بمناداة زوجتي التي جاءت هي الأخرى بملابس النوم، لأن الوقت كان قد تأخر، والساعة قاربت الحادية عشر ليلاً...

قدمنا لها كأساً من الماء البارد، وجلسنا قبالتها، وقلت بلهجة الناصح، متثائباً، صريحاً وصادقاً، مبادراً في الكلام:

أرجوكِ ميسون، لكل مشكلة حل، اهدئي قليلاً، خذي نفسكِ وحديثينا عن السبب الذي جعلك تنهارين لهذا الحد؟ (وبخبث أردفت) وتستنجدين بنا في مثل هذا الوقت؟!

عندها انتقلت زوجتي من مكانها إلى ميسون حيث هي كانت جالسه، فمسكت بكتفها وهي تواسيها بلطف وعطف...

لكن صديقتنا انفعلت وتشنجت مجدداً وارتجفت أطرافها، وكأنها تشكو من نوبة حمى، ثم بكت بصوت عال مفضوح، فخفنا (أنا وزوجتي ونحن نتفرس وجوه بعضنا بقلق) من أن صوتها سيقلق الأولاد في نومهم ويوقظهم...

تعرفنا على عائلة حازم في الغربة عن طريق شخص عراقي ثالث، طالما تحدث عنهم بالخير والبركة، فزادنا شوقاً، وتقنا للقائهم، حتى حصل... ثم استمرت العلاقة فيما بيننا ونضجت وباتت متفتحة، زاهية، نقيه، صادقة، لا تشوبها شائبة.

تخرجت ميسون من جامعة بغداد كلية الصيدلة، في حين كان زوجها مهندسا ميكانيكيا، رزقا بولدين وبنت وهم الآن في سن الزواج؛ تجاوز حازم منتصف الحلقة الخامسة من عمره وظل محافظاً على لياقته وصحته، وقور المظهر وله شارب يعتني به كثيراً، وكأنه يعني له الكثير!! قليل الكلام، محايد الفكر والرأي، لا يحب التحزب ويميل إلى الانطواء ويرغب في الهدوء، يتمتع بثقافة مقبولة تساعده على إدارة الحوار أثناء الجلسات... في حين أطفئت زوجته قبل أيام معدودة- وبحضورنا وبغياب زوجها، والسبب كما قالت لنا كاذبة: عمله - شمعتها الثامنة والأربعين، طويلة القامة، عريضة الردفين، واسعة العينين، رقيقة الشفتين، كثيرة المدح لنفسها إن تحدثت، باردة الطبع، هادئة ومنطوية، كزوجها، لكنها كانت تفوقه في هذا المجال كثيراً، حتى يتخيل لبعض من يعرفها، بأنها تعاني من شذوذ ما، أو تتمتع بحالة من الكآبة المزمنة! قليلة الاهتمام بأولادها، وفيها شيء من التكبر والغرور وفي أحيان يتجاوز الحدود الدنيا، لكنها طيبة القلب، نقية السريرة، وتحب الأكل والنوم كثيراً وتفضلهما على كل الهوايات!! والحقيقة، كنا نستمتع بالحديث واللقاء مع زوجها أكثر منها...

وها هي تلمع جبهتها بالعرق، تنوح أمامنا الليلة نادبة، متجهمة، تبكي وتشتم زوجها وتقول ما لم نسمع منها من قبل مثل هذا الكلام، خاصة بغياب حازم... وهذا ما جعلني أتذمر وأصرح برأي جهرا:

يعني عذراً أخت ميسون... لا أظن من حقنا، أن نتكلم عن حازم بهذه الطريقة وبغيابه!!
 ماذا تقصد؟ ستجعلني أتضايق منك(قالت ذلك وهي غاضبة من وراء دموعها)

 كيف هذا؟ عجباً... فنحن لم نألف لحازم هذا طبعاً فيه!!

 بذعر، هادرة، متذمرة صاحت: ماذا؟ هل تكذبني؟!

 عفواً، أنا لم أقل ذلك... بل أردت أن أقول أننا وحازم أصدقاء، ولا نحب الحديث عنه بهذه الطريقة المشينة وهو غائب... هذا كل ما في الأمر.

فهمّت ميسون بالوقوف، وكأنها تنوي مغادرتنا غاضبة، لكن زوجتي تدخلت بسرعة فأجلستها وهي تقول: اصبري قليلاً، زوجي لا يقصد أهانتك أبداً، وأنت تعرفين كم نحن نحبك ونود خاطرك.

 انتفضت مندفعة بحنق مولوله: حازم لا ينقطع عن الصول والجول ولم يفد معه لا أسلوب الوعيد ولا التهديد!! ثم نوهت: ماذا أقول؟ غفر الله له! وألصقت في زوجها صفات مشينة، فظهر زوجها بهذه الصفات وكأنه الشيطان.

 رددت معقباً: لا أله إلا الله.

 أجابت باختصار: صدقت وهو لا يصدق!

 ومن هو الذي لا يصدق؟

 بتأفف زمجرت (فبدت وكأنها قد ركبها ألف عفريت): عجيب أمرك يا أخي، هو طبعاً، زوجي حازم، من يكون غيره؟

 خاطبت نفسي هامساً: غفر الله لكِ إذن!

 ماذا تقول؟

 لا شيء، أنها مجرد غصة، تأتيني كلما تجاوزت الساعة الحادية عشر ليلاً!! ثم همست مجدداً دون أن أجعلها تسمع: أي شيء وضع الله في رأسك بدل العقل؟! ثم سألتها بحرص:
أرجوكِ، حدثينا بهدوء عما حدث بينكما إن أردتِ، لعلنا نستطيع مساعدتكما، ولكن بصراحة( وشعرت وأنا أنظر إليها بأنها تضايقت وانزعجت من الكلمة الأخيرة) فأردفت مضيفاً، أقصد ما حصل بالضبط!!

ترددت لبرهة قصيرة، وهي زائغة النظر(اعتقدت من خلال ترددها وتأملها، بأن المسألة كانت كبيرة وخطيرة، بحيث توقعت من إنها ستخبرنا بالحقيقة كاملة، لأجل تدخلنا ومساعدتهما، وقد صدق حدسي) حيث عدلت من جلستها وبدت بمظهر الجد الحصيف، فرفعت حاجبها الرفيع المطلي بالصبغ الأسود، وقالت شارحة وهي تهز كتفها القريب من زوجتي:
لقد أخذنا بنصيحة جارتنا العراقية، وقلدنا ما فعلته صديقتي سميه، وخالتها رقيه، وقلنا لأنفسنا لماذا لا نجرب أن نفعل مثلهم؟! ونحن نراهم يعيشون برفاهية، وبأحسن حال، وكأنهم ملوك في قصورهم البهية الثرية!!

 قاطعتها زوجتي بفضول واستغراب: هل تقصدين بأنهم وجدوا عملاً لائقاً، يتناسب وشهاداتهم أو وضعهم الاجتماعي مثلاً؟!

 بمكر لعلعت غامزة: يا عزيزتي، وزوجة أخي، لا تكوني ساذجة إلى هذا الحد من التفكير المتواضع!! أي فرص عمل وأي شهادات تقصدين؟ أنا أتحدث عن شيء آخر تماماً... ثم استمرت بطلاقة ولباقة ودون تلكؤ:

لقد قررنا بجلسة خاصة، خلت من الأولاد... واتفقنا على كل الإجراءات التي يجب مراعاتها والأخذ بها، ومن ثم قمنا بتقديمها إلى الجهات المختصة في الدولة!!

 قلت وأنا أداري إغفاءه: جلسة سرية؟ دون أولادكم؟ وقرارات خطيرة؟ ومن ثم إجراءات ومراعاة... ثم انطلقت مستفسراً بحرارة ولهفة: أرجوكِ ميسون، لا داعي للرموز، قولي كل شيء دون ألغاز، فنحن في الحقيقة لم نفهم شيئاً!! ثم وجهت سؤالي إلى زوجتي: أليس كذلك يا عزيزتي؟

 أكدت زوجتي كلامي بقولها: هذا صحيح، ثم نظرت إلى ميسون وهي توجه الكلام لها: أنا لم أفهم ما يدور في خلدك، أو ما تقصدين!!

 فتراجعت ميسون إلى الوراء، ورصت ظهرها بالمقعد التي هي جالسة عليه، وقالت بغمغمة وتردد:

أردت أن أقول... في الحقيقة، قصدت إننا اتفقنا على الطلاق، فالمميزات والمنح والرواتب والمحفزات كلها كانت أمور مغرية، لم نستطع أن نمنع أنفسنا عنها... ثم انطلقت باكية بصوت مبحوح، مخنوق، خائف ومرتبك...

 بادرتها زوجتي بكلمات طيبة، رقيقة وحاولت تهدئتها بقولها:

لا تكدري نفسك، ولا تجهديها أكثر من طاقتها، إذا كان الأمر قد حصل، فلابد من الروية والتفكير قليلاً، لكي نستطيع أن نجد مخرجاً لهذه المشكلة الغريبة، العجيبة التي أسمعها، ثم أردفت بجد وخيبة:

أنا لم أسمع من قبل بأن هناك زوجين متحابين ينفصلا بالاتفاق لقاء منح أو رواتب أو أي شكل من أشكال المادة؟! ثم قست عليها بالتأنيب والتقريظ:

كيف طاوعتك نفسك؟ ألم تفكري بأولادك عندما يعرفون؟ ماذا لو تقدم أحدهم لخطبة ابنتك مثلاً، ماذا ستقولين له؟ مطلقة وتعيشين مع زوجك في دار واحدة؟ كيف هذا؟ وصاحت زوجتي بانفعال لم أتوقع حدوثه: لقد أفسدتنا الغربة والله!!

شعرت بأن ميسون أصيبت بانتكاسة بعد أن صدمت بقول زوجتي الحقيقي، الصادق الذي لم يعن سوى ترجمة لفعلهم الطائش ذاك، فتدخلت لتخفيف الوطء، واندفعت باستكانة، وكأني اخفي جرحاً، موجهاً الكلام إلى صديقتنا:

لكنك لم تقولي بعد، مادام الاتفاق كان برضا الطرفين، فما المشكلة؟ أقصد ما الذي استجد وجعلك تنهارين بهذا الشكل؟!

(برهة صمت) جففت من خلالها دموعها بكم قميصها، وربما رتبت فيها أفكارها رغم اضطرابها، وعدلت من جلستها وانطلقت بجرأة وبسطوة غير متوقعة، قائلة: هذا ما جئت من أجله... ثم تابعت بلوعة:

لقد عرفت وبطريقتي الخاصة!! أنه قد استأجر شقة، وبات يسكنها ويتغيب عن حضوره إلى بيته كثيراً، وبحجج واهية، منها عمله الجديد الذي لا أعرف عنه شيئاً (توقفت من جديد، وهي تغص بالعبرات والحسرات) ثم أضافت بصوت محشور، كالخوار:

لقد اكتشفت بأن هناك امرأة في حياته، وهو مشغول كثيراً هذه الأيام بها... بعد أن قرر الزواج منها! وهذا ما جعلني أنهار وانفجر؛ ألوم نفسي على مطاوعتي له وقبولي بفكرة الطلاق بالاتفاق، ثم علا نحيبها وبكاؤها دون شعور منها وهي ترتعد ومن بين شفتيها خرج صوتها قاصف، عاصف، كالريح:

كم كنت غبية، طائشة، معتوهة وجشعة ولم أفكر ببأس القرار ونتيجة المصير؛ لم أفكر لحظة واحدة في أولادي الذين هم في سن الزواج، وصرخت جزعة، متلعثمة ومنهارة:

لماذا وافقته؟! ليأخذني الشيطان، ولير زوجي الخائن جهنم في حياته وقبل أوانه...

ثم همّت بمغادرتنا بخطوات نادمة، ثائرة وقلبها يتمزق لوعة وندم وهي في حالة كانت أقل ما تكون بين الجنون والانتحار... دون أن نستطيع اللحاق بها... ولِمَ نلحق بها؟! وبقيت أحدق بخيالها الشارد، فغمغمت أودعها بكلمات خرجت من صدري ومن بين أضلعي حارة، ملتهبة، متوقدة بالغضب: إنكم كفر لا يطاق!! ثم همست لزوجتي وأنا أشهق وعيناي فائضتان بعد محاولات يائسة لكبح الدموع... ولا أعلم لماذا؟! بحسرة وغيظ قائلاً:

نحيا وكأننا لن ننتعش في الغربة إلا بالتنهدات؟! وساد الصمت الذائب، كالسحر، منزلنا وعم الهدوء أرجاءه من جديد، واعتبرت السكون المخيم، كالسحب في تلك اللحظات، صلاة وفضيلة...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى