الجمعة ١٩ نيسان (أبريل) ٢٠١٣
بقلم حميد طولست

الحــــــــــــــــــدود

مساند المقاعد وأذرعها، كمثال.

لقد راودتني مند مدة ليست بالقصيرة، فكرة الكتابة عن الحدود، وتحينت الفرصة السانحة لإفراد مقالة خاصة عنها، وقبل الخوض في موضوعها، والغوص في غمار مضمونها، لابد من الإشارة إلى أن ما سأتناوله في مقالتي هته، هو صنف خاص، ونوع يخرج عن سياق تلك الحدود التقليدية المتعارف عليها، رغم أنها مثلها مثل غيرها من الحدود الأخرى، لكنها تظل هامشية، ولا تحظى بالاهتمام الذي تحظى به تلك المشهورة بين غالبية الناس وسوادهم الأعظم، والتي كلما ذكرت لفظتها "حدود" إلا وتبادرت إلى الأذهان، ومباشرة، تلك الحواجز والخطوط الوهمية السياسية أو الجغرافية، البرية منها والبحرية والجوية، التي اخترعها الإنسان -ولم يكن لها وجود في الواقع- للفصل بين أشيائه وأشياء غيره، وجعلها وسيلة لتسلط بعضهم على بعض واستحلالهم واستباحتهم حرمات وممتلكات الغير، وتبدت أمامهم تلك الفواصل، التي كانت سببا في الكثير من مشاكل الأشخاص، وذريعة لجل مآسيهم الجماعات ؛ وحتى تزول علامات الاستغراب والاستفهام التي لاشك أنها اعتلت وجوه الكثير من القراء الكرام، أمام لغز هذا النوع الخاص من الحدود التي، والتي لا علاقة لها لا بالحدود السياسية، ولا بالحدود الشرعية، أو العقوبات المقدرة شرعًا، التي وضعها الله وقدرها وحذَّر من اقترافها بقوله تعالى: "وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه"الطلاق1. وقال أيضًا: "ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها" النساء 14. وقال جل شأنه: "تلك حدود الله فلا تقربوها" البقرة 187.

ولا تمت بأي صلة، لا من قريب ولا من بعيد، للفيلم السوري الكوميدي الحامل لاسم "الحدود" الذي كتب نصه السينمائي وسيناريوه وحواره الكاتب السوري محمد الماغوط، عام 1982، وقام بإخراجه وتمثيل الدور الرئيسي فيه الممثل المقتدر دريد لحام بمشارك التمثيل كل من الممثلة رغدة، والذي يدور موضوعه، حول السخرية من الوحدة العربية، والتعاون العربي، من خلال سائق مسافر بين بلدين، تدعى الغربية غربستان والشرقية شرقستان، تشاء الصدف أثناء مروره في المنطقة الواقعة بين البلدين أن تضيع أوراقه الثبوتية وجواز سفره، فلا يستطيع العودة إلى بلده المنشأ ولا دخول البلد الآخر، فيضطر للتخيم في منطقة تتوسط المسافة بين البلدين على خط الحدود..

وحتى اوصل الفكرة بوضوح أكثر، حول هذه الحدود الخاصة التي قررت الكتابة عنها، والتي عادة، ما لا ينتبه الكثيرون إلى دورها الخطير في الفصل بين الناس كلما اعتلوا الكراسي أو الكنبات، في الفصول الدراسية الابتدائية والجامعية، أو في قاعات المحاضرات، أو في صالات المسارح والسينمات، وفي المقاهي والمطاعم الشعبية منها والمصنفة، وفي كافة وسائل النقل العمومية القديمة والحديثة، كالسيارات، والقطارات، والطائرات، والتي غالبا ما يكون السفر ممتعا و مسليا على متنها، إذا كانت من الدرجات الأولى، و من صنف رجال الأعمال، التي تقدم لزبنائها كل وسائل الراحة والمتعة، وتكون جحيما اذا كانت الوسيلة من الدرجة الاقتصادية، والتي غالبا ما تكون الجلسة على كراسيها، متعبة للغاية، ويزيدها تعبا، حينما يكون الجالس بجانبك والمشارك لك في مساند مقعدها، راكب بدين، ميت الذاكرة عاطل الضمير، يرسم لنفسه وحسب مزاجه الشخصي، الصورة التي تعجبه للحدود التي تروقه، دون اعتبار لغيره.

لذلك سأسرد تفاصيل التجربة الطريفة التي أوحت لي بالكتابة عن هذا النوع من الحدود، والتي عشت أطوارها خلال إحدى رحلاتي الطويلة على متن إحدى الطائرات، وبالضبط على مقعد من مقاعد درجتها السياحية أي الاقتصادية، التي يقبل أغلب متوسطي الحال، على الحجز على متنها، لتمنها المناسب، رغم ما تتسم به من قلة الراحة، بل وانعدامها في أغلب الأوقات، والذي يجعل أكثرية مستعمليها، مكسوري الظهر والرقبة والخاطر، مدغدغي المؤخرات، وكلهم رغبة وحلما في سفرية على الدرجات الأولى، والتربع على مقاعدها المخصصة للميسورين ورجال الأعمال، لما تضمنه من راحة مطلقة، وتقدمه من خدمات مميزة، بما تحويه من شيكة و رفاهية، والتي لم ينسى مصمموها المتعة والتسلية التى يجب ان يتمتع بها الركاب حتى لا يملوا من رحلاتهم الطويلة، حيث زودوها بمساند عريضة تعمل باللمس وتمكن الراكب من التحكم بها بسهولة وتشغيل اى نظام ترفيهي يرغب به، من خلال أزرار تبتت بها..

ترى هل يعلم القارئ الكريم، ما معنى أن يجاورك راكب سمين، تتحرك فيه جميع الاجزاء، وفي جميع الجهات، وبسرعة متناهية، ابتداء من الرأس إلى أخمص القدمين ؟..

طبعا من الصعب أن يتصور من لم يعش التجربة ما أصابني من الحرج والضرر، عندما أسعدني الحظ، واستقر بالمقعد المجاور لي في الطائرة التي استقلتها منتشيا من الرباط، إنسان، بملامح لا تعطي أى إجابة عن حالته، فلا تعرف إن كان تعيساً أم سعيداً، كل شيء فيه سريع الايقاع، حركته، كلامه - إلا بديهته، فقد كانت جد بطيئة، وربما معطلة، ولا يستشف أي ملمح لوجودها - لقد كان كتلة لحم متحركة باضطراب شديد، لم تتوقف مند انغرازه بجانبي، عن لكز ذراعي بمرفق ضخم، وكأنه مرفق "الرجل الأخضر" العظيم، وإبعاد مرفقي من على مسند المقعد المشترك بيننا، حتى استولى عليه كلية، دون أدنى اعتذار.
موقف يتطلب الكثير من الصبر، وملكة التحكم في الأعصاب، وقدرة تحمل خارقة، خاصة حين كان يتملل لطلب شربة الماء، من المضيفة، والذي كرره خلال الرحلة، لمرات لا تحصى لم تسمح لي بالاسترخاء.. إلى درجة عدت معها لا اتحمل ما حاصرني من الألم، جعلني اتعرّق حتى نزل العرق من تحت أباطي ومن أكمام قميصي ومن أعلى جبيني.

كم تمنيت لو كنت امتلك جناحين، لأطير بهما بعيدا عن مرافق ذلك البدين الجالس بجانبي.. وكنت حينها على استعداد لدفع أي مبلغ إضافي مقابل ترك هذا المقعد لأية مكان فارغ يزيح عني ذلك الذي أثقل وجودي، ونغص علي سفريتي، ويتيح لي الشعور بالراحة، والتمتع بحقي في مساند مقعدي، حتى ولو كان ذلك في قبو أمتعة الطائرة؛ غير أنني كنت مرغما على قضاء بقية الرحلة التي دامت أكثر من خمس ساعات على نفس الحال وفي نفس المقعد الذي لم يكن بوسعي انتقاؤه، لأن الطائرة كانت ممتلئة عن آخرها، ولأن الجاري في السفريات على طائرات الدرجات الاقتصادية، ألا يخير المسافرون ولا يؤخذ برأيهم في ذلك مطلقا....

ولقد تيقنت أن هنالك شيئا ما أقوى مني، ومن اليد التي خطت رقم مقعدي , وأن سوء حظي هو من خطط لإتعاسي في هذه السفرية، واختار اليد، عفوا، المرفق التي امتدت إلى ضلوعي باللكز طيلة الرحلة..

ومباشرة بعد النزول من الطائرة –الذي كان انعثاق من جحيم- وقبل تسلم حقيبة سفري، رحت أتحرك في أرجاء المطار بلا هدى، وعلى غير هوادة، في محاولة للتخلص من آلام كدمات لكز مرافق من كان شريكي في حدود المقعد..

ما رأي القارئ الكريم أليست هذه حدود كباقي الحدود الأخرى، لكن لا ينتبه إلى ما تسببه من ازعاج للمشتركين فيها..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى