السبت ٢٧ نيسان (أبريل) ٢٠١٣
بقلم محمد وهيب قطيش

أيتام اللغة... أيتام الحضارة

في فترة عملي على مشروع التخرّج في فرنسا، في مدينة تولوز تحديداً، وفي دردشة مع زميلي الألماني أثناء «إستراحة القهوة»، أخبرني بأنّ أستاذ الرياضيات الذي درّسه في الثانويّة (في ألمانيا) كان يحدّثهم كثيراً عن إنجازات العرب في علم الرياضيّات، وأنّه كثيراً ما كان يقول لهم أنّ هذه النظريّة أو تلك المعادلة المنسوبة لليونان هي في الواقع تعود للعرب. حتّى إنّه كان يعلّمهم بعض المصطلحات الرياضيّة كيف تُلفظ باللغة العربيّة...

للوهلة الأولى فاجأتني كلماته... وانتابتني مشاعر متناقضة؛ فخرٌ وخجل، فرحة وحسرة... فخرٌ وفرحة بماضٍ مشرّف، وخجل وحسرة لحاضرٍ مخزي. أنا نفسي، الشاب العربي الذي يدرس في فرنسا، لم أتعلّم يوماً مصطلحاً رياضيّاً باللّغة العربيّة، ودراستي العلميّة كانت بالفرنسيّة والإنجليزيّة. كلماته العفويّة جعلتني أمعن التفكير في المأزق الحضاري الذي نحن فيه اليوم. لقد بتنا ننظر إلى أجدادنا العظماء، الذين قامت على أكتافهم النهضة الأوروبيّة، على أنهم أساطير، وإلى هذه الهوّة الزمانيّة التي تفصل بيننا وبينهم على أنّها حاجزٌ غليظٌ يحول دون انتسابنا إليهم.
احتفاء العالم باللغة العربيّة

18 كانون الأوّل/ديسمبر يوم اللغة العربيّة
في 18 كانون الأوّل/ ديسمبر 2012 احتفت الأمم المتحدة باللغة العربية وأعلنت هذا التاريخ (18 كانون الأوّل) يوماً عالميّاً للغة العربيّة، وذلك نظراً لما "للغة العربية من دور وإسهام في حفظ ونشر حضارة الإنسان وثقافته، وأنّ هذه اللغة هي لغة 22 عضواً من الدول الأعضاء في اليونيسكو، وهي لغة رسميّة في المنظّمة ويتحدّث بها ما يزيد على 422 مليون عربي، ويحتاج إلى استعمالها أكثر من مليار ونصف مليار من المسلمين". بذلك تنضمّ اللغة العربيّة إلى زميلاتها الخمس: الإنكليزيّة، الفرنسيّة، الصينيّة، الإسبانيّة والروسيّة التي تحتفي بهنّ الأمم المتّحدة سنويّاً. هذه اللّغة التي احتفى بها العالم واعترف بفضلها... بأيّة حال أصبحت اليوم بين أبنائها؟ إنها في تراجعٍ مستمرٍّ ومخيف. وأنا لا أهوّل في هذا، وإليكم البراهين.
وقبل الدخول في التفاصيل أودّ أن أشير إلى حقيقة خطيرة، وهي أنّ موقع اللّغة (الأمّ) في الأمّة الناطقة بها هو انعكاسٌ طبيعيّ للرقيّ الحضاريّ لهذه الأمّة، ازدهاراً أو انحداراً. ولم يشهد التاريخ على أمّة ارتقت وتقدّمت بلغات غيرها، إنّما كانت الترجمة هي دوماً الخطوة الأولى في الطريق الطويل للبناء الحضاري، والخطوة التالية لها هي إنتاج العلوم والفنون باللّغة الأمّ. والأمثلة على ذلك كثيرة وبيّنة. أمّا الأمم التي تعتمد على لغات غيرها في ميادين العلوم والمعرفة والثقافة دون اعتبار للغتها، فهي لا ترقى، في أحسن الأحوال، إلى مسخ أمّة.
المناهج التعليمية والدورة الجهنّميّة

سيبويه: شيخ النحاة
يوجد العديد من الأسئلة التي لا بدّ من الإجابة عنها، وإن كان الجواب مؤلماً (لمن يهمّه الأمر) أحياناً. كم منّا – وخصوصاً "النخب" الجامعيّة - يعتبر نفسه متمكّناً من اللغة العربيّة الفصحى؟ كم منّا يستطيع التحدّث بالفصحى لمدّة نصف ساعة فقط، دون أخطاء لغويّة فادحة؟ كم منّا يعرف إعراب جملة بسيطة مثل "صباح الخير" (والأحرى السؤال كم منّا ما زال يستعمل "صباح الخير" ولم يستبدلها بالـ"بونجور" أو الـ"هاي") ؟!
من أهمّ أسباب تراجع اللغة العربيّة بين أبناء حضارتها المناهج التعليميّة. لقد استطاعت اللغات الثانويّة، كالفرنسيّة والإنجليزيّة، أن تستأثر باهتمام الأهل والمدرسة معاً على حساب العربيّة. الأمر الذي أدّى إلى ظهور جيل "متمكّن" من اللغة الأجنبيّة، وضعيف في اللغة العربيّة. هذا الجيل بدوره خرج منه أساتذة للّغة العربيّة (غالباً ما يختار بعض الطلاب هذا الإختصاص نظراً لسهولته ويسر تحصيل شهادته... ولك أيّها القارئ العزيز أن تخمّن كفاءة حاملي شهادات اللغة العربيّة) يدرّسون في المدراس إيّاها، ليخرّجوا أجيالاً جديدة، وهلمّ جرّاً... دورة جهنّميّة تشهد فيها اللغة العربيّة موتاً بطيئاً.
إذا وضعنا جانباً المشكلة الجوهريّة للمناهج التربويّة والتعليميّة التي نعاني منها، وهو حديث ذو شجونٍ أيضاً، فلا يمكن أن نغفل هذا التساهل من قبل الأهل والمدرّسين. إنّ الإنسان الذي لا يتقن لغته الأمّ هو إنسانٌ في حضيض الحضارة، ولو أتقن كلّ لغات العالم. الإنسان الفاقد للهويّة أعجز من أن يصنع أو يبني حضارة. وممّا يدعو للأسف في مجتمعنا هو عقدة النقص التي نعيشها، كأنّ لغتنا وحضارتنا باتت "وصمة" نستحي بها، فنفاخر بتحصيل اللغات الأخرى التي هي "لغات العصر".
لا يمكن أبداً أن نتسامح مع مفاخرة الأهل بأولادهم المنتسبين إلى مدارس تنمّي لديهم اللّغة الأجنبيّة، فيدفعون في سبيل ذلك ما لا يطيقونه أحياناً، ولا يتكلّفون مشقّة السؤال عن اللغة العربيّة والحرص على تمكّن الطفل من قواعدها منذ الصغر. لا شكّ أنّ من الضروري لكلّ متعلّم ومثقّف أن يتقن لغات أخرى ما استطاع، ولكن ليس على حساب لغته الأمّ. ما أبشع الصورة التي نعطيها للعالم عنّا ونحن نقلّد الغرب ونتنكّر لأصالتنا. لن نصبح (أو نعود) أصحاب حضارة ونحن على ما نحن عليه من إهمال للغة العربيّة (هذا لا يعني أنّ إحياء الّلغة العربيّة وحده كافٍ للنهوض).
الفصحى والعاميّة
يؤكّد الباحثون على أهميّة الرسوم المتحرّكة في بناء لغة الطفل (فضلاً عن شخصيّته بشكلٍ عام). وقد ساهمت الرسوم المتحرّكة الناطقة بالعربيّة الفصحى في تربية جيل من الشباب العربي أكثر تمكّناً من لغته، قواعدها ونطق مخارج حروفها. ولكن في الآونة الأخيرة شهدنا ظاهرةً خطيرة على الصعيد التربوي، هذه الرسوم المتحرّكة بات الكثير منها يستخدم لهجات عاميّة، كالمصريّة مثلاً. بل وحتّى المسلسلات المدبلجة التي كانت دوماً بالفصحى، باتت اليوم باللهجة السوريّة أو اللبنانيّة أو غيرهما.
الموضوع لم يقتصر على الرسوم المتحرّكة والمسلسلات المدبلجة، بل ذهب أبعد من ذلك. في الموسوعة الإلكترونيّة الحرّة الأكثر انتشاراً في العالم "ويكيبيديا"، والتي تعرض مواضيعها بلغات مختلفة يختارها القارئ من قائمة إلى جانب النص، وأنت تقرأ الخيارات المتاحة للّغة تجد: "عربي – فارسي – مصري ..."!!! وإذا اخترت "اللّغة المصرية" لن تجد النصّ مكتوباً بالهيروغليفيّة بطبيعة الحال، ولكن للأسف أصبحت العاميّة المصريّة لغةً مكتوبة للموسوعات العلميّة... هذا فضلاً عن فقر المضمون العربي عموماً بالمقارنة مع سائر اللغات على ويكيبيديا. ولكن هذا بحثٌ آخر ذو شجون أيضاً. وليس بعيداً عنّا، ففي لبنان ظهرت حركة تدعو إلى ترك العربيّة واعتماد اللبنانيّة المحكيّة (فضلاً عن استخدام الحرف اللاتيني كما سنرى في الفقرة التالية).
لغات ممسوخة
قد يستغرب البعض هذا التهويل على اللغة العربيّة، والمبالغة في أهميّة الحفاظ عليها. الواقع انّ التاريخ سجّل لنا العديد من حالات "المسخ" للغات وثقافات، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
  تركيا: بعد انتهاء الحرب العالميّة الأولى وما رافق ذلك من أحداث أفضت إلى سقوط السلطنة العثمانيّة، ثمّ قيام الجمهوريّة التركيّة التي نعرفها اليوم على يد مصطفى كمال أتاتورك، مرّت تركيا بفترة مخاض صعب. اعتبر الأتاتوركيّون أنّ سبب تخلّف الدولة هو الدّين وما يتعلّق به، فأقاموا نظاماً علمانيّاً متشدّداً، واستبدلوا الحرف العربي بالحرف اللاتيني. والنتيجة: إذا أراد شابٌّ تركي، دارسٌ للتاريخ، أن يتصفّح في أحد المتاحف مخطوطات تركيّة تعود لأقل من قرن، لن يستطيع قراءتها... باختصار، إنّها أمّة انسلخت عن ماضيها القريب حتّى. بغضّ النظر عن تقييمنا للنظامين الجديد والقديم في تركيا.
  فيتنام: في الفيتنام، ونتيجة الإستعمار الفرنسي، استبدل الفيتناميون الحرف الصيني-الفيتنامي بالحرف اللاتيني أيضاً. فبات باستطاعة الفرنسي التجوّل في المدن الفيتناميّة بسهولة أكثر، إذ إنّه يستطيع، على الأقلّ، تهجية أسماء الشوارع والأحياء والمطعم... بينما يستعصي ذلك على مواطني دول جوار الفييتنام، رغم كلّ التاريخ المشترك.
  المغرب العربي: في مغرب العربي لم يستطع الإستعمار الفرنسي تغيير الحرف العربي، ولكنّه استطاع إدخال لغته في الحياة اليوميّة للشعب (التونسي، الجزائري والمغربي) من خلال اللغة المحكيّة، التي باتت مزيجاً فجّاً يصعب على العربي (الشامي أو المصري مثلاً) فهمها.
هذا غيضٌ من فيض، ولا ننسى بالتأكيد بلدنا أيضاً، لبنان، ودعوات التغريب التي ظهرت في فترات ماضيّة على الطريقة التركيّة والفيتناميّة، ولكنّها فشلت حينها. ولذا نرى أنّنا في دول المشرق العربي (الشام والخليج ومصر)، علينا مسؤوليّة أكبر للنهوض باللغة العربيّة، لأنّنا لا زلنا نحتفظ بها، فصحى ومحكيّة، أكثر من دول المغرب. دعوات الكتابة بالحرف اللاتيني طالت عدة دول أخرى، عربيّة (كالصومال...) وغير عربيّة (كإيران) في حقبات مختلفة من الإستعمار أو حكم أعوان الإستعمار.

ولكن هل انتهى "تغريب" لغتنا؟! لم نعد نسمع دعوات لكتابة العربيّة باللاتيني (أو كتابتها بالمحكيّة اللبنانيّة بالحرف اللاتيني)، فهل زال الخطر؟؟ الجواب: حتماً لا. ففي ظلّ تطوّر وسائل الإتصال، ودخولها في تفاصيل تفاصيل حياتنا اليوميّة (مواقع التواصل الإجتماعي، الدردشة عبر الهواتف الذكيّة...) ظهر خطرٌ جديد على لغتنا: إنها "لغة الإنترنت". لقد بات معظمنا، دون أن يشعر، يكتب اللغة العربيّة بالحرف اللاتيني، ويكتبها عاميّة دارجة بدل الفصحى أيضاً. وإذا تسامحنا في استخدام العاميّة في التواصل الإلكتروني، فلا يصحّ أن نتسامح باستخدام الحرف اللاتيني. إنّ الغالبيّة العظمى لمواقع التواصل الإجتماعي وبرامج الدردشة باتت مدعومة بالحرف العربي، فلماذا الإصرار على الحرف اللاتيني؟ قد يجيب البعض بأنه بات متعوّداً أكثر على ذلك، وبأنّه أسرع في الكتابة بالأحرف الأجنبيّة... وهل الثقافة إلا نتيجة "تعوّد" !!
خلاصة
لن أخوض غمار الحديث عن جمال اللّغة العربيّة وفضلها، فيطول المقال. وحسبي من هذا أنّ اللّغة العربيّة كانت وعاء العلم في العالم منذ فترة، حسبنا لبعدها أنّ عودتها مستحيلة... وعلى أكتاف لغتنا قامت الحضارة الحاليّة.
يؤسفني جدّاً أن أرى بين أبناء قومي من يتبجّح بالتحدّث باللغة الإنجليزيّة في حياته اليوميّة، و"يفاخر" بركاكة لغته العربيّة!!... هذا الإنسان ممسوخ الثقافة والهويّة هو من نتائج انحطاطنا الحضاري، وفي نفس الوقت عاملٌ مساعد فيه.
إنّ اللّغة العربيّة هي لغتنا "الأمّ"... فلنحافظ عليها كي لا نصبح أيتام لغة، وبالتالي أيتام حضارة.


مشاركة منتدى

  • شكرا لحرصك ولن يكون حريصا على اللغة مثل أصحابها.
    ريمه الخاني-مؤسسة موقع فرسان الثقافة

  • الاخ العزيز محمد وهيب قطيش

    نعم الدعوة دعوة العرب إلى التمسك بلغتهم، ونعم الأسلوب الأسلوب الذي كتبت به مقالتك هذه. فأنا وبعد انتقالي إلى دول الغرب منذ أكثر من عشرين عاماً بدأت منذ شهرين دراسة اللغة العربية من جديد مستهلاً مشروعي هذا بحفظ متن الآجرومية، فأرجو من الله تعالى أن ييسر لي سبيلاً لنشر هذه الرسالة بين صغارنا وشبابنا الذين بات الغرب موطناً لهم وفقدوا بذلك زيادة على لغتهم وحضارتهم فقدوا هويتهم وكيانهم ولم تعد لديهم آمال تدفعهم لاستعادة حضارة أجدادهم.

    عزيزي، مثل رسالتك هذه لا بد من نشرها في جميع وسائل الإعلام ولجميع طبقات ومستويات المجتمع العربي عساها تكون دافعاً لجيل فتي يبحث عن ماض مشرف كما تفضلت ليجد حاضراً ومستقبلاً مشرقا.

    ودي لو تكتب رسالة ثانية تذكي الأولى وتقترح فيها سبلاً يستطيع العربي اليوم اتباعها ليسترد ما ضاع من لغته ويتفادي ما يضيع ما بقي عنده من آثارها. نريد اقتراحات نستطيع تبنيها لنعلم انفسنا وأولادنا اللغة العربية كما ينبغي. كما أرجو ان تكرر دعوتك هذه على كافة الصعد والمنابر دون ملل.

     

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى