السبت ٤ أيار (مايو) ٢٠١٣
رواية «ناصية باتا» لحسن عبد الموجود

الرؤية ... والتحولات السردية

أحمد كُريِّم بلال

يقول الشاعر الألماني الكبير جوته : "لكي تريد أن تقول شيئًا فلا بد أن تقوله نثرًا، وإن لم يكن لديك موضوعٌ محددٌ فالأجدر بك أن تكتب الشعر" . قد تكون هذه العبارة - التي قيلت في سياق ساخر – منطوية على الكثير والكثير من الجديّة، فالكاتب – بالفعل – يجب أن يكون لديه ما يقوله، وهو حريص على نقل موضوع ما، بينما يحرص الشاعر على نقل شعور وصورة وإيحاء في المقام الأول.

قد يجوز لنا أن نجعل هذا التصور مدخلا للحديث عن الرؤية التي يمكن أن تحملها أدبية الرواية بشكل عام، والتي تحرص – بدورها – على نقلها للقارئ. ولا ينبغي علينا أن نجعل من هذه الرؤية رسالة أخلاقية أو تعليمية، لأن الفن إنما يكون فنًّا حين تكون القيم الجمالية والتعبيرية هي هدفه الأول والأكبر، أما القيمة الموضوعية والأخلاقية التي يحملها فمن الواجب ألا يكشف عنها بشكل فج ومباشر، وإنما تتسلل إلى القارئ من بين السطور دون إشارة صريحة.

ومن هذا المنطلق نطرح سؤالاً مؤداه: هل يجوز لنا أن نبحث عن موضوع تقوله الرواية؟ لقد أصبح هذا السؤال غير مشروع إلى حد كبير مع تيارات الحداثة والتغريب الوافدة، فالتيار الروائي الحديث يحرص على تغييب الموضوع في انحرافات وتحولات سردية حادة ومتنوعة، بحيث يصعب الإمساك بخيط دلالي ممتد يتقدم – من خلاله – الحدث ويتطور مع تنامي الزمن، فمثل هذه الراويات لا تحتفي بالوحدة أو التناغم أو التحديد.

إن الكاتب في هذا النوع من السرد الروائي مدفوع بالرغبة المطلقة في القصّ المحض المتتابع، وهو – إذ ذاك – أشبه بالشاعر المدفوع بالرغبة في التصوير. وربما كان كلاهما مشغولا بالرغبة في تقديم رؤية مختلفة للعالم، وتَصَوّر جديد له. وهذه الرغبة مألوفة في الشعر، لكنها مُستحدثة في الرواية، التي تحرص بدورها على عدم قطع الوشائج التي تربطها بالواقع، فالرواية – من بين كل الفنون الأدبية – حريصة بشكل كبير على أن تكون واقعية ومعبرة عن عالم مألوف.

وفي رواية: " ناصية باتا " للقاص حسن عبد الموجود (ميريت، القاهرة 2011م ) لا نجد الانحراف السردي عن ألفة العالم الواقعي مبالغًا فيه من ناحية طبيعة الأحداث، فالأحداث التي تقدمها الرواية (في معظمها) واقعية تمامًا وقابلة للتصديق. غير أن انحراف هذه الرواية عن السرد التقليدي وتجاوزها له يمكن رصده في عدة ملامح.

أولها وأهمها: غياب الموضوع الكلي الذي يمكن أن نعتبر الأحداث الفرعية تشكيلاً له. فالسرد التقليدي يجعل الرواية قصة أو حكاية كبيرة تشكلها مجموعة من الأحداث الجزئية، وقد يبدو الحدث الجزئي العارض – في السرد التقليدي - غير واضح للوهلة الأولى، غير أن القارئ يتبين له – فيما بعد – ما يمكن أن ينشأ عن هذا الحدث الجزئي من تطور في الحكاية الكبيرة التي تنقلها الرواية. أما "ناصية باتا" فهي مجموعة من الأحداث المشتتة التي لا يمكن اختصارها في فكرة رئيسية أو حكاية كبيرة تضمها. بل إن حذف بعض الأحداث أو تقديم بعضها وتأخير الآخر لن ينتج عنه خلل كبير يؤثر في بنية الرواية، أو يغير من تكوينها، إذ لا تدور هذه الرواية في إطار زمني تقليدي يبدأ من نقطة معينة ثم يواصل الامتداد لينتهي بعد حقبة معينة، وإنما يكون الزمن في هذه الرواية شذرات متناثرة ترحل ما بين الماضي والحاضر، لنرى من خلال السرد الروائي لقطات منفصلة أحيانا ومتتابعة أحيانا أخرى، لقطات من حيوات جميع الشخوص الرئيسية التي تتشارك البطولة. ملامح من ماضيها الطفولي البعيد. وملامح أخرى من حاضرها الشقي الذي تناضل فيه لتهتبل بعض الرضا والسعادة من واقعها الاجتماعي المرير.

إن التلاعب بالزمن، والتنقل بين الماضي والحاضر هو عنصر آخر جديد من العناصر التي تتجاوز من خلالها "ناصية باتا" السرد الكلاسيكي. وهذه التنقلات الزمنية بين الماضي والحاضر ليست سمة سردية جديدة، فمن أوائل الروايات الشهيرة التي استخدمت هذه التقنية منذ عهد بعيد "موسم الهجرة إلى الشمال" التي صدرت سنة 1966 م للروائي السوداني الطيب صالح، غير أن هذه الرواية الأخيرة – رغم انفلات السيرورة الزمنية فيها – تحمل رؤية فكرية ودلالية واضحة تجعل التنقل الزمني فيها دالاً وموحيًا، بحيث يمكن من خلاله نقل إيحاء بسيطرة الماضي على الحاضر، وإحكام قبضة الحدث المُنْقضي على الحدث المضارع الذي يتشكل لتوه، وهذه الدلالة قد لا يجوز تعميمها وفرضها على كل الروايات التي تنحى هذا المنحى الزمني المشتت، فقد أصبحت هذه الطريقة السردية سمة غالبة على كل الأعمال الروائية الحديثة، بحيث تلاشت دلالاتها، وأصبحت غير قادرة على الإيحاء. وسلبية هذه التقنية السردية وحيادها الجمالي قد يكون بزيادة أكبر عندما يغيب الموضوع الكلي الذي تطرحه الرواية – كما هو الحال في رواية ناصية باتا – فلا يجد القارئ مبررا لهذا النكوص نحو الماضي ثم الوثوب إلى الحاضر، لأن الحدث الماضي لا يُقدِّم على أنه من الرواسب النفسية التي أفضت إلى هذا المسلك أو غيره، ولا يقدم على أنه نوع من التداعي الذهني –مثلاً – الذي تولَّد نتيجة حدث معين يقع في الحاضر. (على نحو ما نجده في رواية: رجال في الشمس لغسان كنفاني –مثلا-) إنها مجرد أحداث وأحداث تتداعى بين الماضي والحاضر دون رابط بنائي مُحكم يجمع بينها على نحو دلالي بعينه.

ومن النقاط التي تجعل هذه الرواية منحرفة ومتحولة بعيدا عن السرد الكلاسيكي – أيضًا – تعتيم وتعمية بعض الأماكن الجوهرية فيها، فالرواية تفيض بذكر أماكن محددة تماما ومعروفة مثل: شارع فيصل، شارع شريف، نجع حمادي، أسوان .. إلخ. غير أنها تتعمد تعتيم وتعمية بعض الأماكن فيها من خلال إخفاء اسمها، وإخفاء معالمها الجغرافية. فثمة مكانان مهمان في هذه الرواية أحدهما يعرفه الكاتب على أنه: (مؤسسة 1 أغسطس)، والآخر هو مكتب ( 30 مارس)، والمكان الأول يقع على ناصية باتا (التي اتخذها المؤلف عنوانا للرواية)، وهو أشبه بمؤسسة تربوية، هي - فيما يُفهم من سياق الرواية – تكاد تكون مدرسة داخلية شديدة الحزم والصرامة، تقع في مكان مجهول من القاهرة. والمكان الثاني مكتب (30 مارس) هو – يقينًا – مكتب أمن الدولة، لأن أعضاء جماعة التبليغ والدعوة الإسلامية يجدون أنفسهم مضطرين لإبلاغه بتحركاتهم وتقديم تقرير عن نشاطهم الديني.

والواقع أن تعمية المكان – على هذا النحو – ليس مقصودًا به الحيلولة دون الصدام مع النظام الحاكم، أو ما شابه ذلك. فالأمر شديد الوضوح رغم هذه التعمية. وهذه التعمية ليست إلا محاولة للتمرد على السرد التقليدي، وربما جاز لنا أن نطرح بعض التأويلات الإيحائية الثرية التي تقف من وراء هذه التسميات الغريبة وغير المبررة، فالمؤسسة التربوية هي قاعدة رمزية للقهر الاجتماعي السلطوي الهادف إلى استنساخ نماذج بشرية (من المفترض أن تكون ناجحة عند مواجهتها للحياة)، وتعمل على هذا الأمر من خلال غرس قيم مصطنعة تبرزها قائمة طويلة من النواهي (لا تفعل، لا تفعل، لا تفعل .....إلخ). ومع ذلك نجد أن الأبطال الثلاثة الذين جمعت بينهم هذه المؤسسة (قاسم / أحمد السعيد الشهير ببيكاسو / طارق الشهير بتمساح) يعيشون بعد تخرجهم حياة شهوانية، ولا نكاد نلمح عند ثلاثتهم مبدأً من مبادئ النضال والإرادة الإنسانية القوية التي تجعل لهم دورًا اجتماعيًا يبعث على الاحترام والتقدير.

وقد يكون اختيار اسم أغسطس إشارة إيحائية إلى عصر الإمبراطور الروماني أغسطس قيصر، الذي ساد فيه الانحراف الخُلقي (فضلاً عن الاستبداد السياسي للإمبراطور)، وقد طال التلوث الخُلقي بيت الإمبراطور نفسه، ولم يجد هذا الإمبراطور وسيلة إلا التشدد في إصدار تشريعات تُجرم الانحرافات الخُلقية وتحارب الزنا، دون أن يكون لهذه التشريعات أي جدوى في ذلك. وعلى النحو نفسه يمكننا اعتبار في مكتب (30 مارس) الدال على جهاز أمن الدولة القمعي إيحاء بالعنف والتعطش إلى الدماء اللذين ارتبطت بهما شخصية مارس (إله الحرب عند الإغريق).

وفي كلا النموذجين إبراز للعنصر الزمني (مارس / أغسطس) كأداة قهر وتعذيب، فالأبطال المتعددون في هذه الرواية هم ضحية للزمن، يقعون تحت سطوته وجبروته، وينقادون لعبثه فيهم، وهذا ما تعكسه عنونة قسمي الرواية: (الحياة) (لعبة). فالحياة – كما نفهم من أحداث الرواية المتعددة - لعبة عشوائية يتبادل فيها القاهر والمقهور الأدوار، بحيث يغدو كل مقهور قاهرًا لغيره، ويحاول كل الأطراف الخلاص من القيود الاجتماعية من خلال مُسكِنات الجِنْس والحب والهروب من الواقع. وهذا القهر يجعل من معظم الشخصيات التي تقدمها الرواية شخصيات شاحبة ومهزومة من داخلها، فهي(والاستثناءات محدودة للغاية) تعاني نقصا وحرمانا، وتعجز عن مواجهة العالم من خلال مبدأ تؤمن به، كائنا ما يكون هذا المبدأ.
ومن الطريف أن تكون المؤسسة التربوية القهرية (1 أغسطس) [ التي يمكن أن نعمم من دلالتها لتعبر عن نموذج القهر الاجتماعي بشكل عام ] مجاورة لناصية باتا (الشركة التي تبيع الأحذية الشعبية الرخيصة)، وأن الجماهير التي تُراسل هذه المؤسسة لا تستطيع تحديد عنوانها بدقة إلا من خلال كتابة (بجوار ناصية باتا)، مع أن المفترض أن تكون مثل هذه المؤسسة ذائعة الصيت وشهيرة بحيث لا تحتاج إلى تعريف. وحين استشعرت هذه المؤسسة (من خلال مديرها) الحرج من هذا الأمر سعت لهدم شركة باتا (كنوع من التعالي الارستقراطي)، غير أن مديرها قد فوجئ (بعد هدم شركة باتا وإزالتها من الوجود) بالرسائل الجديدة تصل إلى المؤسسة وقد كتبت على مظروفها: (بجوار ناصية باتا القديمة). وهذا الحادث ربما دل بشكل إيحائي على عدم قدرة هذه المؤسسة على التخلص من دونيتها وحقارتها. غير أن اتخاذ (ناصية باتا) عنوانا للرواية يربط بين هذا الحدث والرواية في مجملها، وربما جاز اعتبار هذه الدونية تعبيرًا عن الانحطاط الخُلُقيّ أو الخضوع والهزيمة الداخلية التي تعاني منها أغلب شخصيات الرواية.

وكما سبق أن ذكرنا أن الرواية لا تندرج أحداثها في إطار موضوع عام محبوك ومتنامٍ بحيث تكون الأحداث المُتتابعة أو المتوازية معبِّرة عنه، ومن ثمّ نحاول تعويض غياب الموضوع الكلي في تأويلنا وفهمنا لهذه الرواية من خلال البحث عن موقف عام نربط – من خلاله – بين شذرات الأحداث المتناثرة المفككة، ولعل موقف السقوط والهزيمة الداخلية التي تكتنف معظم الشخصيات هو الأصلح لأن يُتـَّخذ من قبيل الرؤية العامة التي تعبر عنها هذه الرواية.
ومما يعين على استشفافنا لهذه الرؤية كون الرواية رواية أصوات متعددة. وهذه النوعية من الروايات هي لون من ألوان التمرد الفني الحداثي على رواية : البطولة المنفردة. فقد كانت الرواية التقليدية في أبسط نماذجها الكلاسيكية تعكس رؤية المؤلف من خلال بطل يواجهه بطل مضاد، وتنتهي الرواية بانتصار الخير الذي يمثله – في الغالب – بطل الرواية الخيِّر النبيل. أما رواية الأصوات المتعددة فالبطولة فيها مُشْتَرَكة بين الكثير من الشخصيات، وقد يكون الصراع في مثل هذه الروايات بين (اتجاه ما) يشترك فيه بعض الشخوص و (اتجاه آخر مضاد). وقد لا يسهل رصد صراع بين اتجاهين متناقضين، وإنما يُلاحظ أن الشخوص في مجموعها تعكس رؤية معينة أو إيحاء عام يريد الكاتب أن ينقله من خلال بطولة جماعية تضم العديد من الشخصيات المتعددة والمتنوعة، بما تحمله هذه الشخصيات من توجهات متناقضة، وملامح نفسية ووجدانية متنوعة. ورواية (ناصية باتا) من هذا النوع الأخير.

وفي رواية (ناصية باتا) شخصيات متعددة قد تصل إلى الثلاثين، أغلبها شخصيات ثانوية بسيطة يقتصر دورها على تحريك الأحداث، غير أن البطولة الجماعية تتوزع على عدة شخوص محدودة يعاني كل منها مشكلة أخلاقية أو نفسية معقّدة تجعل منه شخصا غير منضبط، وتجعل في سلوكه الاجتماعي نوعا من الانحراف.

وعلى جانب آخر تبدو في لغة السرد الروائي مجموعة من الظواهر اللافتة، ونشير – أولا – إلى أن الانتقال من لغة السرد (الفصحى) إلى لغة الحوار (العامي) يتم بسلاسة وتلقائية دون أن يشعر القارئ بانعطافة حادة أو تغير كبير، لعل السر في ذلك الأمر كون لغة السرد الفصحى – في حد ذاتها – لغة سهلة وبسيطة وقريبة المأخذ. غير أن اللافت للنظر بشكل مبالغ فيه هو الجرأة اللغوية التي يستخدمها الكاتب، حين تتجاوز اللغة حدود المحظور اللفظي، فتدخل في دائرة التعبير اللفظي المباشر عما يتعلق بأشياء من قبيل: (التبرز، وممارسة العادة السريّة، أو العلاقات الجنسية) دون أن تحوم حولها أو تشير إليها بشكل غير مباشر. وهذه الظاهرة ليست فردية تتعلق بهذه الرواية وحدها، نشير مثلا إلى روايتي: (التلصص) 2007م ، و (العمامة والقبعة) 2008م للقاص المصري: صنع الله إبراهيم، وهذه الأخيرة قد لا يستطيع القارئ إحصاء المرات التي يذهب خلالها البطل إلى (الكنيف) للتبول أو التبرز.

والحق أن اتجاهات ما بعد الحداثة في الأدب بشكل عام قد سمحت للأديب بهدم كل الحواجز الاجتماعية والفنية التي تعوق حرية التعبير، ورأت أن من حق الأديب التعبير عما يشاء كيفما شاء. ومن ثمّ أصبحت كثير من الأعمال الأدبية والروائية تفيض بالمشاهد التي قد تصل إلى إثارة الاشمئزاز والنفور، وكثيرًا ما تصبح مثل هذه المشاهد مُفتعلة وغير نابعة من سياق الحدث، وليس ثمة ما يدعو إليها على المستوى الفني. غير أننا نحسب أن رواية ناصية باتا تندفع – في الغالب - نحو هذه المحظورات لإضفاء جو من الفكاهة والظُرف تحاول شخصيات الرواية المُحبطة أن تُجابه من خلاله عالمها الكئيب.

أحمد كُريِّم بلال

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى