الثلاثاء ٧ أيار (مايو) ٢٠١٣
بقلم سراته البشير

«فرسان الأحلام القتيلة» لإبراهيم الكوني

صدرت عن دار الصدي بالإمارات العربية المتحدة رواية جديدة للكاتب الليبي الكبير إبراهيم الكوني بعنوان: «فرسان الأحلام القتيلة» ضمن كتاب دبي الثقافية الإصدار 63 الذي وزع مجانا مع مجلة «دبي الثقافية» العدد 85 يونيو 2012. وقد جاءت الرواية في 234 صفحة من الحجم الصغير وضمت 30 مقطعا سرديا.

ومن المعهود لدى القارئ العربي تلك الحساسية المرهفة والجمالية في البناء والبراعة في التشكيل والعمق في الفكرة والرؤية التي تتسم بها كتابات الكوني بدءا برباعيته الشهيرة "الخسوف" ومرورا بـ" نزيف الحجر" و "المجوس" و "العقرب" وغيرها...وهي السمات التي انمحت عن هذه الرواية الجديدة "فرسان الأحلام القتيلة". وليس الأمر مجرد ملاحظة فردية أو انطباع شخصي مرتبط بذائقة المتلقي وميوله القرائية، بل إن الأمر يشمل مكونات هذا النص الروائي برمته بمستوييه الفكري- المضموني والشكلي- التعبيري.

المستوى الفكري – المضموني:

تفاجأ جمهور المتتبعين للشأن الروائي بظهور رواية عن "الربيع العربي" الذي لم تكتمل ملابساته ولم تنكشف تمثلاته ونتائجه بعد. والأغرب أن هذه الرواية تتناول الشأن الليبي الذي ما زالت الأوضاع فيه غامضة رغم مقتل رأس النظام والإطاحة ببعض رموزه، إذ ما زالت الأوضاع في هذا البلد العربي ملتبسة، ولم تبدأ عملية إعادة البناء السياسي والاجتماعي والاقتصادي بعد.

إن إصدار رواية عن الربيع العربي اعتبر من قبل الكثيرين فعلا متسرعا لا يمكن أن يجسد الوضع الإنساني والواقع الاجتماعي الراهنين، فما زالت التجربة جديدة في بداياتها الأولى، والأحرى بكل مبدع يضفي على عمله بعدا فكريا وجماليا التريث حتى اختمار التجارب، وتبين ملامحها وتفتح مستغلقاتها. إن الأمر لا يتعلق بحيازة صفة "السبق"، فهذا شأن التقرير الصحفي. وجدير بنا أن نتذكر أن نجيب محفوظ توقف عن الكتابة بعد "ربيع مصر" سنة 1952 المسمى آنذاك ثورة الضباط الأحرار، ولم يستأنفها إلا بعد سنوات مع رواية "اللص والكلاب"، حيث قدم تقويما للثورة بعد أن اكتملت أسبابها وبانت نتائجها التي كانت سلبية بكل معنى الكلمة.

*مضمون الرواية:

تتحدث رواية "فرسان الأحلام القتيلة" عن شخص كلف بهدم جدران البيوت المتراصة لتشكيل نفق يوصل الثوار إلى برج عال كان يتحصن به قناصة النظام الذين أبادوا كل من سولت له نفسه الحركة في مدينة مصراته ليلا أو نهارا. وقد وجد هذا الشخص المسمى "غافر" نفسه محاصرا في الطابق العلوي لإحدى الشقق بعد أن استولى عليها جنود النظام، وليس معه سوى مسدس بطلقة واحدة، ليقوم رفاقه بعد ذلك بطرد الجنود، فيواصل رفقة صديق آخر (بعد أن استشهد الأول) عملية هدم البيوت حتى وصول البرج وتحرير المدينة. إن الملاحظ أن أحداث هذه الرواية ليست بتلك الغزارة وذلك الثراء والتشعب الذي يضمن تواليها وتسلسلها في كل الصفحات (وربما يرجع ذلك لضعف في المعلومات ما دام الكاتب لم يشارك في الأحداث على أرض الواقع، ولعدم صدور يوميات أو مذكرات للثوار بعد، اللهم إلا ما تداولته الصحافة)، الشيء الذي دفع الكاتب دفعا إلى ركوب السرد التقريري الإنشائي تارة والتاريخي تارة أخرى، وهو ما أبعد القارئ عن عوالم المتعة والتشويق والفجائية والصدمة التي ألفها في روايات إبراهيم الكوني، وأدخله في المقابل في متاهات مملة ورتيبة. ولا شك أن الأمثلة على ذلك كثيرة نذكر منها:

— الحديث عن أصل السود بليبيا (من ص70 إلى ص 75)، والبحث في الأصل التاريخي لأسماء كـ "مصراته " و "سرت" و "مصر" (من ص 76 إلى ص 83)، وتحليل ظاهرة العنوسة وعزوف الشباب عن الزواج (ص 47)، وسرد بداية الثورة في ليبيا والتي كانت شرارتها الأولى مظاهرة تندد باعتقال محامي في بنغازي أثار قضية مجزرة سجن أبو سليم (ص 104)، حيث يقول: "" ففي حاضرة المنافي في الشرق، المغسولة بالدم، المجبولة بالألم، كانت الانطلاقة الأولى أيضا نحو ميدان المحاكم، نحو مجمع المحاكم، للاحتجاج على اعتقال مريد العدالة محامي أهالي ضحايا المذبحة التاريخية التي تقشعر لها الأبدان. الشرارة الأولى أيضا انطلقت من زند المسيرة المتجهة إلى صومعة المحاكم، المحاكم الناعية منذ عقود فحوى المحاكم. الناعية غياب العدالة، والمنتظرة استعادة روح المحاكم، المنتظرة عدالة تبرر وجود المحاكم، المنتظرة عودة العدالة المغتربة إلى بيتها، وطرد العدالة المزورة التي تلبست الهيكل طويلا"".

*أفكار عنصرية:

في أثناء إسهاب إبراهيم الكوني في السرد التقريري التاريخي، يحدثنا عن أصل السود في ليبيا، وعن طريقة قدومهم من جنوب الصحراء إلى هذه الأرض، فيبين بذلك عن موقف عنصري غريب، فهم-أهل السبخة- محط اتهامات عدة. بل لا يتورع الكاتب في كيل الشتائم لهم بسبب من أصلهم لا غير. يقول ص: 70: ""فمن هم هؤلاء الأوباش الذين استجابوا لصنوف التنكيل بأهل المدينة منذ أول يوم دون الأجناس جميعا؟ من هم هؤلاء الأنجاس الذين هبوا لتنفيذ الفظائع كما لم ينفذها مخلوق في أخوتهم من أهل الجوار، وفي نساء أهل الجوار الذين أطعموهم يوما من جوع وآووهم من خوف؟ إنهم من تلك الملة التي جاءت يوما من أعماق الأدغال برفقة تجار القوافل العابرة للصحراء. إنهم آخر دفعة من صفقة الرق.."". لينهي تحليله التاريخي بقوله قاصدا الحاضر: ""وها هو الحقد التاريخي المبيت والمقنع يكشف عن هويته الحقيقية في أول فرصة ليكشر عن أنياب الانتقام""، وكأن كل أنصار النظام الطاغي كانوا من هذه الطائفة فقط؟

المستوى الشكلي التعبيري:

ربما يصعب الفصل بين ما هو فكري دلالي وشكلي جمالي في قراءة أي عمل حكائي سردي، ولكن لا ضير أن نشير إلى مجمل سمات لغوية وسردية أنقصت من القيمة الفنية لرواية " فرسان الأحلام القتيلة"، وهي مؤاخذات بينة واضحة لا يحتاج المتتبع إلى كبير عناء ليلاحظ تكرارها المبالغ فيه وتواترها دون غائية ما، ومن ذلك نذكر:

صيغة الاستدراك بفعل القول: وقد تكررت بشكل كبير مبالغ فيه، ويكفي تقديم الأمثلة التالية: "ولكنها هاجس الجميع! هل قلت الجميع؟ "ص20 " طمعا في الفوز بكسرة خبز أو قطعة جبن..هل قلت قطعة جبن؟" ص: 29. "وأخيرا بالحدس. هل قلت أخيرا؟" ص:30. "نقتل شهوة ونشحذ بدنا. هل قلت بدنا؟" ص: 33. "أطلت من فتحة السلم استجابة لفضول. هل قلت لفضول؟" ص: 43. " زينة المرأة نقطة ضعفي.. هل قلت نقطة ضعفي؟" ص: 43-44. " ولكن ورمي كان في غياب الغاية. هل قلت الغاية؟" ص:61.

كثرة التكرار في الجملة الواحدة كشكل من الزخرف اللفظي المبالغ فيه والذي أضفى على النص تكلفا كبيرا وأبعده عن تحقيق كفايته التواصلية. ومن الشواهد على ذلك ما يلي: "هذا هو كل ما أحتاجه لأحلم. الهواء كل ما أحتاجه لأحلم. وأن أحلم يعني أن أحيا ". ص: 61. "وها أنا أخرج الآن من عريني بعد أن خلا المكان لأتفقد المكان بعد غياب أبالسة المكان" ص: 46. "البعض يقول إنه يورث اللا مبالاة ليته يورث اللا مبالاة فقط، ولكنه يورث ما هو أسوأ يقينا من اللا مبالاة. إنه يورث بلادة. يورث ذلك النوع من البلادة الذي يساوي بين الموت والحياة" ص:23. " ثم أتردد في قرع باب خشية.. خشية ماذا؟ خشية أن تنفجر أذني. تنفجر أذني؟ ينفجر قلبي قبل أذني.." ص:50.
كلمات مكتوبة بخط بارز عريض: ما هو سر الكلمات أو الجمل المكتوبة بهذا الشكل؟ لا وجود لعلاقة منطقية تجمعها. فلنتأمل هذه العبارة: "لأن هذا هو كل ما أحتاجه لأحلم. وأن أحلم يعني أن أحيا! الهواء والعزلة هما كنزا الحرية، وضمان السعادة!"" ص: 61، فإذا اعتبرنا أن الجملة الأخيرة بمثابة حكمة، فما هو مبرر كتابة كلمة "أحلم" الأولى بالخط العريض دون الثانية أو الثالثة؟ وما سر كتابة كلمات: "حي، ما زلت، نستعيد" بهذا الشكل في العبارة التالية: "لأكتشف قبل كل شيء أني حي، لأكتشف أني ما زلت على قيد الحياة. إحساس غريب أن نستعيد الحياة. هل هو ما يسميه دعاة الكتب بالبعث؟ "" ص: 35.. لقد تناثر هذا الشكل الطباعي بكثرة وكثافة على جسد النص الروائي دون وجود مبرر منطقي وواضح لذلك.

خلاصة القول:

هذه بعض ملاحظات لم نسع إليها في أثناء قراءتنا لرواية "فرسان الأحلام القتيلة" لإبراهيم الكوني، بقدر ما كشفت عن نفسها منذ الصفحات الأولى، وهو ما يجعلنا نقر بهزالة هذا العمل الإبداعي، وقصوره عن إدراك الأبعاد الجمالية والفكرية لثورة شعبية لم تعم ليبيا وحدها، بل ربوع الوطن العربي؛ ثورة أسقطت الخوف عن ظهرها، ورمت بالظلم عرض الحائط، وناشدت الحرية. ولعل هذا الضعف الروائي لدى الكوني قد لمس كذلك في روايته الضخمة ما قبل الأخيرة: "جنوب غرب طروادة.. جنوب شرق قرطاجة"، والتي صدرت ضمن نفس السلسلة قبل أشهر فقط.. فهل هذا زمن كاف لإنتاج نوعي يستجيب للظروف النوعية السياسية والاجتماعية والفكرية التي تمر منها ليبيا والوطن العربي. إن إبراهيم الكوني كاتب روائي عملاق، أتحف القارئ العربي والعالمي بروائع الأحداث والشخصيات والأزمنة والفضاءات. لقد كان وما زال ملك الصحراء بدون منازع، فهل خذلته الصحراء حين ابتعد عن طقوسها وتعويذاتها؟ بدون شك لا. إنها عثرة واحدة ضمن عشرات القفزات الرائعة في عوالم الحكي الممتزج يالسحر.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى