الأربعاء ٨ أيار (مايو) ٢٠١٣
بقلم مهند النابلسي

بحث وتطوير ام عبث وتجميد!

كان مفهوم البحث والتطوير يعتمد سابقا على ظاهرة «وجدتها»، حيث يكتشف الباحثون فكرة جديدة بالصدفة، ويذهبون للشركات ومراكز الصناعات بحثا عن المشاكل، التي يمكن ان تساعد هذه الفكرة الجديدة على حلها!

وكما حدث مع ارخميدس عندما اكتشف نظريته المشهورة بالصدفة في الحمام، وخرج فرحا وهو يصرخ: وجدتها...وجدتها! فقد اختلف مفهوم البحث الآن، وأصبح المفهوم العصري يعتمد على الدراسة المتأنية والمناقشة المستفيضة، حيث تجري مناقشات بناءة بين الباحثين من جهة، ومدراء التصنيع والتسويق وخدمات الزبائن من جهة اخرى، يقومون خلالها بدراسة امكانية طرح افكار مبتكرة ملائمة في مجالات معينة بغرض تسويقها صناعيا وتجاريا.

ويسعى المخططون في الدول المتطورة لتحقيق اجتماعات عمل مستفيضة ما بين الكفاءآت العلمية والبحثية القادرة، وبين مدراء الأعمال وأصحاب التمويل وذلك بهدف تسويق الأفكار الجديدة المبتكرة بصورة واقعية دقيقة. وخلال هذه المناقشات الجادة يقومون بتحديد متطلبات السوق الجديدة، واضعين نصب اعينهم تطوير التقنيات الملائمة والكفيلة بالانسجام مع توجهات السوق.

أما التحدي الزمني الجديد الذي طرا على مجال تطبيق الأفكار الجديدة فهو حقا ملفت للنظر: فالأفكار الجديدة سابقا كانت تستغرق فترة زمنية تتراوح من 7—12 سنة حتى تتمثل بتطبيقات صناعية عملية قابلة للتسويق، أما الان فقد تم اختزال تلك الفترة لتصبح بحدود سنتين الى ثلاثة فقط!
وحتى نتبين الأهمية القصوى التي تعطيها الدول المتطورة للبحث والتطوير، نلاحظ انه يتم في المانيا انفاق حوالي 25 بالمئة من مخصصت البحث والتطوير على الأبحاث الصناعية، بينما تنفق امريكا أقل من 5 بالمئة على نفس المجال، وفي العام 1990 خصصت اليابان حوالي 105 بليون دولار للبحث والتطوير، وتجاوز الرقم ال200 بليون في العام 2010، وارتفعت مخصصات الانفاق في فرنسا لتتجاوز ال 35 بالمئة، وتضاعفت عدة مرات في المانيا لتتجاوز ال 40 بالمئة.

وقد اقترحت دراسة جديدة أن تقوم دول السوق الاوروبية المشتركة (وما يسمى حاليا الاتحاد الاوروبي) بتركيز قدراتها في مجالات البحث والتطوير على أربعة مجالات هامة هي: المحفزات، التقانات الحيوية، حماية البيئة وتصنيع مواد جديدة، فماذا اقترح جهابذة البحث والتطوير العرب؟ وما هي الأولويات والمهام والأهداف المنوي تحقيقها؟ تسعى امريكا لمضاعفة مخصصات الأبحاث الجامعية لتتجاوز العشرين بليون دولار سنويا، ومع كثرة جامعاتنا ومعاهدنا العربية، فما هي قيمة مخصصات البحث والتطوير؟ وما زالت اساليبنا التعليمية قاصرة وتعتمد على الحفظ والتلقين؟ وعلى اسلوب النسخ واللصق الذي لا يشجع على الابداع والابتكار...وبعض اساتذة الجامعات العربية ما زال يسطو على المراجع المتقدمة وينسبها لنفسه بلا اي مراعاة للملكية الفكرية وحقوق النشر والاستخدام، وكذلك تفعل دكاكين التدريب الكثيرة المنتشرة في طول الوطن العربي وعرضه، وطبعا ساعد الانترنت وثورة الاتصالات الشبكية على تفشي هذه الظاهرة الخطيرة والتي ما زالت تستفحل بشكل سرطاني بلا ضوابط او مساءلة او مسؤولية!

يعتمد البحث والتطوير على التعاون المتبادل والوثيق الفعال ما بين المؤسسات الحكومية والمؤسسات التعليمية الأكاديمية والمنشاءآت الصناعية وحتى الخدمية، وكذلك العنصر الرابع المنسي تماما في الحالة العربية وهو العنصر البشري المستهلك لهذه المنتجات، وكالعادة فقد تفوقت اليابان في هذا المجال لأنهم الأقدر على تفعيل ديناميكيات العمل الجماعي البناء، فقد انفقت المؤسسات اليابانية بسخاء على البحث والتطوير، ليس بغرض التجديد والابتكار وحسب، وانما للمحافظة على التفوق التنافسي في ميدان السلع الكمالية التي تحولت لسلع ضرورية للانسان العصري، وكذلك تفعل بذكاء دول مثل كوريا والصين وماليزيا...هكذا أصبح "البحث والتطوير" عملا حيويا لازما وضروريا وليس خياريا، فالشركة التي لا تطور منتجاتها باستمرار معرضة للخسارة ولفقدان زبائنها والتفوق السوقي، ولناخذ سوق الهواتف الخلوية والسيارات على سبيل المثال.

وبهدف تطوير تقنيات جديدة رائدة فقد لجأت الصناعات الدوائية اليابانية لاسلوب التعاون التضافري مع الجامعات والمؤسسات الأكاديمية: فشركة أشاي اليابانية قامت بانشاء خمسة مشاريع دوائية بالتعاون مع خمس جامعات امريكية، ومشروعين بالتعاون مع جامعات اوروبية، واكثر من ثلاثين مشروعا داخل اليابان، وللمقارنة فما زال التعاون بين الصناعة والجامعات في العالم العربي شكليا وفي حده الأدنى، وان كانت هناك محاولات مخلصة جادة لتفعيله ولكنه يصطدم بعراقيل تشريعية وبيروقراطية ونفسية، ومنها فوقية الأكاديميين وتبجحهم الغير واقعي بامتلاك المعرفة، ورغبتهم بايجاد وسائل رزق وتكسب جديدة ولاغناء السيرة الذاتية وايجاد فرص عمل جديدة، وبلا رغبة جدية بالتعاون والتنسيق الحقيقي والثقة المتبادلة الضرورية بين الأكاديمي والصناعي، كما يلام الأخير لعدم جديته ورغبته الكاسحة بتحقيق الأرباح وعدم اقتناعه بالبحث كمنهج حقيقي واقعي لتطوير منتجاته وزيادة تنافسيتها!

...وبالرغم من بعض النجاحات في مجالات البحث والتطوير التي انجزت على طريقة أرخميدس "وجدتها "! او طمعا باحراز جوائز التميز والجودة كمتطلب اساسي، الا ان مفهوم البحث والتطوير العربي ما زال غامضا على مستوى العالم العربي، حيث لا توجد استراتيجية ثابتة ومجدية لتطبيق المفاهيم العصرية للبحث والتطوير، بالرغم من الفائض المالي لدى بعض الدول النفطية والغازية، ولا يوجد بالطبع سياسات تكامل تستغل الموارد المالية الهائلة مع الكفاءآت والقدرات البشرية العربية الموجودة في دول اخرى غنية بالكفاءآت وذات فائض سكاني، فيما تدفع الأموال بسخاء على الانفاق الاستهلاكي والحكومي وفقاعة التطور المعماري الهائل وكذلك على مشاريع طموحة ضخمة بلا جدول زمني واقعي لانجازها (على سبيل المثال برجي ام اذينة بعمان اللذين لم يتم تشغيلهما بعد وتجاوزهما المتكرر الغير مفهوم لتاريخ بدء التشغيل المقرر!)، وكذلك على جلب الخبراء والشركات من كافة انحاء العالم، والذي ثبت ان بعض أوجه هذه الانفاقات الهائلة مضيعة للأموال والجهود ولا تساعد حقيقةعلى التنمية الحقيقية والانماء الوطني القومي! يلزمنا تأسيس مجالس عليا حقيقية للبحث والتطوير تعمل بواسطة فرق عمل ميدانية واقعية فعالة، وتنسق ما بين مؤسسات الحكومة والمؤسسات الصناعية والخدمية والجامعات ومراكز البحث، لوضع سياسات استراتيجية ملزمة ذات جدوى حقيقية في كافة مجالات البحث والتطوير، مع ضرورة الارتقاء بالوعي الوطني الشامل حتى لا تتحول العملية برمتها لعمل افتراضي وهمي، وتصبح هذه الدوائر مركزا للبطالة المقنعة والرواتب الضخمة والعبث والتجميد!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى