السبت ١٨ أيار (مايو) ٢٠١٣
بقلم عبد الزهرة شباري

قراءة في مجموعة الشاعر يحيى السماوي

في مجموعة الشاعر يحيى السماوي (تعالي لأبحث فيك عني ) متوالية دلالية للحب والشوق وصراع مع النفس تتمظهر بشخوصها وصراعها الضروس مع الذات المعذبة للشاعر!
سأصلح من سفينتي وأنشر شراعها وأبحر في لجيً هذه الأمواج الصاخبة، لأحصد ما تيسر لي من مويجاتها بعضاً من ورد الماء الطافي عليها، ولأخلد أخيراً إلى رؤيا واضحة لنصوص شعرية ذات انسيابية مدهشة للدخول في ذات المتلقي بحيث تجعل منه طيراً محلقاً في أجواءها والنظر إلى العالم السفلي من خلال البساط المتربع على عرشه وهو في أعالي التعمق في مدلولات هذه الصور البلاغية المبدعة!

فالقصيدة عند الشاعر يحيى السماوي هي لب اللب من خلاصة عين الحقيقة المخفية عن عين القارئ والمتتبع في بعض تفاصيلها، أو لنقل التي غابت في حين من الأحيان عن بصيرته لدخول شتات من ضغوط الزمن المباح على الفكر عند اختلاجه لتفاصيل الحياة وانبعاثها!
وهي رؤية عميقة للمعنى الحياتي وتفصيله، بل تسوية معناه وتشريح نواظره للمتتبع وسكبها في قدح زجاجي شفاف كي يرى تماماً ما بداخله من شوائب!

إذن هي مجهر مكبر يضع السماوي تحته تفاصيل الحياة والمعاناة التي يعانيها أبناء شعبه، ويحاول صبها في قالب جديد مفهوم لدى الجميع بنوع من الأبداع وهو مكلل بالإنسانية ومترجم بكل المعاني السامية، عليه نرى قصائده تعلل عن نفسها لما يميزها عن غيرها بخلاصتها الإنسانية والصدق الذي يغلف مفرداتها، لما يكتنفها من البساطة العفوية التي ينطلق شاعرنا السماوي من خلالها، ليرسم لنا شكل الصمود والترفع نحو الحرية والتوق لها، لما لها من إرهاصات في هذا الجانب وما ألمت الغربة القسرية عليه، فجاءت قصائده جميلة معبرة غنية بموسيقى الشعر وتخيلاته وصفائه، بعيدة عن الغموص والحشو لما تحمله من رؤية وإيحاء ذاتي منوط بصوره الشعرية الخلابة التي تنقل القارئ إلى مفازات بعيدة غير مبتكرة ولا مغلفة بوابل من الخرافات والإبهام!

فالسماوي ينسج لنا من خلال خياله المرهف المتعمق بالحياة وآلامها ومرارة عيشها تحت سياط الجلادين الذين عاثوا في بلاده ظلماً وقتلاً، مما حدا بالكثير من جيله إلى الغربة والتشرد والحياة في ديار بعيدة، فجاءت قصائده معبرة عن تلك الإرهاصات والآلام، لأنه يكتب بمداد القهر والتصدع في تلك الديار الغريبة عنه!!

المتتبع لقصائد مجموعته التي أسماها (( تعالي لأبحث فيك عني )) يجد مادة غنية على مستوى عال من الإنسانية والحب الذي يغلف بها السماوي قصائده مما يجعلها تتوهج نوراً وإبداعاً بين الآلاف من نظائرها في الشدو والسبك، و يجعله أيضاً سفيرا للشعر العربي الأصيل النابع من عين الشمس التي يتغنى السماوي بها ولها، يتغنى بنخيل العراق بظلال السماوة وفيء نخيلها وشواطئ أنهارها، فجاءت قصائده محملة بعطر الوطن الذي تغرب عنه قسراً، الوطن الذي شغل كل حواسه ونثر حبه وشوقه في قصائده له، ففي قصيدته ( حكاية التي صارت تسمى ) يقول:

((قبل ست ٍ،
طرقت جفني التي صارت
تسمى نخلة الله
ببستان عيوني.. ) ص 5

إنه يمزج حبه الذي ينبض في فؤاده بحب وطنه ونخيله، فهو هاجسه الذي يعيش في وجدانه، الغربة التي جعلته يحلم بالوطن والناس والهموم، ثم يهيم في أعماق أحلامه أن يرى وطنه المنهوب والمسلوب حقه فيقول:

(( قلت كيف الشعر.. والطين و الفرقان؟
تعثرت بصوتي..
أرتجف القلب..
الضحى كان دجيا،
فتساقطت على ظلك
مغشياً عليا،
قال لي الهدهد بشراك لقد صرت نبيا،
قلت ما معجزتي؟
قال فراديس التي صارت
تسمى نخلة الله ببستانك،
فاخلع أمسك الداجي تعش فيها فتيا )) ص 13
ثم ينتقل في قصيدة أخرى ( كل دروبي تؤدي لها ) يقول:
(( فأنا لست أنا
صرت ظلالاً للتي أضحت
بقاموسي نخلة الله تسمى )) ص 25

ألم أقل لك أنه مغرم بوطنه ونخيله وطينه وفراته، فهو يحلم لو أن الهدهد يبشره بالرجوع من غربته والحياة مع شعبه الجريح، فهو إذن مولع بالفكر والشعر المنبثق من صميم هاجسه الذي يتمثل بالبيئة والحياة الدامية التي يعيشها وأمته!

ثم يقف كالطود الشامخ في قصيدته (إسراء ) ليرسم لنا صبره وما ألم به من المحن في ليل لم ير فيه شمساً ولا قمراً في عراق لبس السواد والحزن طيلة عقود ثلاثة تحت حكم جلاوزة لا تعرف معنى للإنسانية ولا الرحمة، فتشابكت المقابر في بلاده وأصبح الظلام الدامس يغطي نواظره، فشد أوزار الرحيل وأصلح من أشرعة سفنه معلناً إلى الأقدار أن تلم منه ما أستنطق في خياله المتعب، وتاه في أرض الغربة رغم ما وقف في وجهه كل المحبين الذين حاولوا منعه عن ما خطط له لكن دون جدوى!

(( أضناه ليل صبابة.. فسرى
لم ينتظر شمساً ولا قمرا
ألقى إلى الإعصار أشـــــــرعة
مســــتنفراً لم يتخذ خدرا
نصـــــــــحوه أن يلقي إلى قدر
أمراً فقال ســــأقحم القدرا
فاســـــــــتخبلوه.. فقائل نزق
لا يرعوي فاســتعذب القترا
قد كان يعرف مســــــلكاً رفهاً
فاختار درباً موحشــــــاً خطرا )) ص 14

وهكذا كان ديدنه عندما شد أشرعة الرحيل وغامر في الإقلاع إلى شمس الحرية في الدروب التي صمم أن يعيش في أغوارها النيرة ويرسم لنا معاناته هناك، رغم ما لاقاه من عذاب ووحشة البعد والشوق إلى أهله ووطنه!

(( عقدان والبلوى رديفته ---- طحنت حشاشته وما ضجرا

بين الضلوع تقوم نخلته ----- أنى مضى وأقام أو حضرا ))

ثم يشكو من زمنه الذي سطر عليه هذا البعد وفرض عليه الغربة فيقول:

(( سلواه جرح راح ينبشه ---- ليطيل في أوجاعه السهرا

ولربما يغفو على أمل ----- أن يلتقيها في سرير كرى)) ص 16

وهكذا يستمر في شكواه واحلامه التي يتمنى بها أبسط ما يتمنى المرء أن يرى محبوبته حتى ولو في المنام وهذا أضعف الأيمان!

فهو مغرم كما قلت لك في البدء بعراقه ونخيله وناسه ـ فجاءت قصائده صارخة بهذا المعنى، لم تشغله أصوات الموسيقى ولا الرقص في الحانات وصالات الرقص إنما يسمع هسيس الرياح وهي تداعب ذوائب نخيل السماوة على جرف دجلته الغناء، وينفي تماماً سماعه في الصالة رجع الطبل والجيتار فيقول:

(( إنني أسمع حتى هسهسات الريح
إن مرًت على سعف التي تدعى
بقاموس فؤادي نخلة الله
ببستان عيوني )) ص 19
ويتابع قوله الذي يقطر لوعة وشوق فيقول:
(( ولماذا لم أعد أسمع في الصالة
رجع الطبل والجيتار..
صوت المطرب الأشقر..
عزف الغادة النافرة النهدين..
ركض الموج..
أو قهقهة الغيد على الساحل... )) ص 20

ولأنه شاعر مبدع عليه أن يغرف من شوقه العميق ونافورة شعره المتدفق ليرسم صوره لنا وهي ممزوجة بعذابات نفسه التي تحمل معه ارتباك ذاته الشاعرة التي تدلل على اندماجها مع سبك السيل والفاعلية بينه وبين النص الذي يندلع من بين أنامله الخرساء، فيقول في قصيدته (قناعة المضرج بجمر العشق ):

(( ما حاجتي للخاتم السحري؟
عندي نخلة الله المباركة الجني
والسعف والأفياء
والشمس والغيوم..
البحر.. والوعد المبشر بالفسيلة
وانبهارا تي بمملكة من الأحلام
ليس يحدها عشق،
وعندي من مداد ٍ ما سيكفي
لألف قصيدة أخرى
عن السفر الطويل! )) ص26

وهنا يبدأ بقصيدته هذه بالنفور والنفي وعدم اكتراثه بالمعجزات الخرافية التي تدلل على الأعمال الخارقة بفعل خواتم السحر التي تكللت الحكايات عنها كثيراً!

فهو ليس محتاجاً لها ما دام يملك هذا النخل المبارك ذو الأفياء والظلال الوارف، الشمس والغيوم، والوعد المبشر بالفسيلة، وانبهارات الروح في تلك الأحياء المتميزة في بلاده، فهو شبه قول شاعرنا الكبير بدر شاكر السياب عندما تغنى بليل بلاده والظلام وهو في بلاد الغربة:

((الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام ))

نعم والسماوي هنا راح يقتنص هذا المعنى من قول السياب العميق، فلا حاجة للسماوي إذن من هذه الخواتم السحرية ما دام له هذه الأجواء في بلاده والعيش فيها!

هذه الصورة تضعنا أمام تخيلات كثيرة، تأخذنا إلى عمق الشوق والحب إلى الأرض التي نحيا عليها، ويبدو أن السماوي أدرك هذا المعنى وأراد من القارئ أن يبحر بين خلجات تلك الصور المقدسة والمحملة بنفس الوجع الذي يحمله لوطنه!!

فالصور في قصائد هذه المجموعة تنبض بالموسيقى والإيقاع الذي يدخل إلى مسامع ومشاعر المتلقي بدون إستأذان، بالرغم من كونه يموسق هذا الوجع الذي يكلل ذاته المنطوية في غربتها ويعج فكره طيراً محلقاً على أجواء بلاده البعيدة عنه، فهو يعكس لنا عن ألمه وشوقه لأهله فيقول:

((... ولدي من طين السماوة من دمي
ولدي بثينة من جميل،
فأنا يتيمك في الهوى
والعاشق المسكين..
والصب المضرج باللظى
وابن السبيل ْ!! )) ص 29

ويستمر في عزف موسيقاه وسرد بوحه ليغني تركيبة بوحه الدلالي وصوره الراقصة على أكتاف هذا الوجع وهذا الشوق الذي يتأجج في ضلوعه ليصل إلى المتلقي من خلال هذه الصور الجميلة!

وهذا بالطبع إن دل على شيء إنما يدل على نقل حواس المتلقي المتفحص إلى كون هذه الخلجات تدل على اندماج الشاعر بقيمه الإنسانية وتعاطيه للحياة وانسكاب لواعجه فيها مما يتيح له البوح من تلك المحسوسات ليناغي أفكار ومشاعر القراء وهو يوعز بصولجانه معبراً عما يجول في ذاته المعذبة!

لاحظ لو أعطى القارئ شيء من التأني وهو يجول في حدائق هذه المجموعة لوقف على متوالية إبداعية ذات دلائل بنائية تتمظهر في مداعبة حواس المتتبع لما يوظفه على أوتار معزفه من ذاك الشوق والحنين الذي يكنه السماوي لبلاده وشعبه، وهذه المتوالية هي ذكر النخلة،السماوة، الفرات، الهدهد، الشمس، الغيوم ومظاهر بلاده الأخرى التي لا تحدها حدود، مرة في الشمال وأخرى في الجنوب ماراً بأرضه في الوسط، عازفاً بمعزفه ألحاناً شجية، مستمطراً دموعه فوق سفوح بلاده!

في جل قصائد هذه المجموعة أثراً بارزاً لتلك التي كانت تسمى في عقله وروحه وذاته الشاعرة فكأني به يرسم لنا هذه الصور بريشة الفنان المبدع على لوحته المتفردة فيقول:
((طرقت جفني التي صارت تسمى نخلة ببستان عيوني)) ص 5

((كل ما أعرفه عني، به أسير وجد الحرية في قيد التي صارت تسمى نخلة الله ببستان عيوني)) ص 7

((قلت ما معجزتي؟ قال فراديس التي صارت تسمى نخلة الله ببستانك..)) ص 13

((بين الضلوع تقوم نخلته – أنى مضى وأقام أو حضرا)) ص 15

((هي نخلة الله أستقيت لها --- نبضي ودمعي والندى مطرا)) ص 18

((.. إنني أسمع حتى هسهسات الريح إن مرًت على سعف التي تدعى بقاموس فؤادي نخلة الله ببستان عيوني )) ص 19

(( لا أرى غير التي تدعى بقاموس فؤادي نخلة الله.. ) ص 22

(( أنا لست أنا.. سرت ظلالاً للتي أضحت بقاموس فؤادي نخلة الله تسمى.. )) ص 25

(( ما حاجتي للخاتم السحري؟ عندي نخلة الله المباركة الجني والسعف والأفياء.. )) ص 26

(( حملت أميرتي والليل سر --- وعدت بركبها والصبح جهر

دخلت بها من البلدان شتى --- فأرض طينها مسك وتبر )) ص 34

(( فأنا كنت ربما لم أكن أعرف للمحراب معنى.. وكؤوس لم أكن تنهل إلاً من ينابيع الظلال )) ص 40

(( يا نخلة الله السلام عليك يوم ولدت من قبلي بتولا... )) ص 46

(( وأغوتني نضائد الله البتول... )) ص 50

((... أكنت جمعتني قاعدت جذوي للغصون.. وللنخيل قلائده)) ص 63

(( عيناي زائدتان إن لم تطبقا جفناً عليك، ورحلتي إن لم تكوني يا مقدسة البداية والنهاية زائدة )) ص 64

(( تقضي البصرة السهرة في أربيل، والموصل في ذي قار، والأنبار تمضي العيدين في الدجيل، وأنت تستدفئ ظل نخلة الله تهزها فيساقط دفء الفرح الصوفي.. )) ص 69

(( فأنا معصومة الأعذاق سري طوع جهرك، ومياهي طوع واديك، وطيني طوع جذرك )) ص75
إذن ماذا تعطيك وأين تأخذك أيها القارئ الكريم هذه الصور الجذابة، أراها تسري في العروق كما يسري الماء القراح في جذور النباتات وهي تغرس أناملها البيضاء في الطين!

إنه حقاً طيراً يحلق على أجواء بلاده ذاكراً طينه ونخيله وما عليها من الأطيار وهي ترفل بتلك الأودية والسفوح، هكذا هو السماوي طوداً يمسرح للقارئ عن متواليته ومحبوبته النخلة ذاكراً فراديسها وهي تعانق السماء بطولها، تطاول المدى والريح والعنفوان، فهو يصب عصارة فكره النير والمبدع على صخور وطين ونخيل وظلال بلاده، ذاكراً كل ما يلفت إليه نظر القارئ وهو يتابع قراءته لهذه المجموعة التي لا أريد أن أتوغل في تشريح جسدها والخوض في مضامينها تاركاً المجال لذوي الاختصاص الغوص بين ثناياها والتفرد في شرح صورها المبدعة!

القافية الجميلة والموسيقى التي تسري في عروق المتتبع لهذه السمفونية هدفاً جعلها السماوي في تلوين هذه الصور وأطر لوحاتها الجميلة، فكانت نخلته وسماتها وطينها وجذورها مكررة في جل قصائده وهذا إن دل على شيء إنما يدل على روح الشاعر وذاته المذابة في تلك الأرض التي ولد عليها وغادرها قسراً!

أخيراً أجد في هذه المجموعة كقارئ متفحص نحوية عالية وإيقاع مكثف حاول السماوي عرضها بمعرضه التشكيلي هذا!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى