الاثنين ١٢ آب (أغسطس) ٢٠١٣

بلقاسم بن عبد الله وشجون الكتابة

محمد هواري

عندما جمعتنا مؤخرا جلسة ثقافية مفيدة وممتعة مع الأستاذ بلقاسم بن عبد الله بمدينة تلمسان، تذكرت ملحق النادي الأدبي لجريدة الجمهورية، ذلك المنتدى الأسبوعي الذي أشرف عليه مدة عشر سنوات، كان يحمل بين طياته إسهامات من سيصبحون كتاب الجزائر البارزين. كان متنفسا للتعبير عن الإرهاصات الإبداعية والمتابعات النقدية، وركحا تتبارى فيه الأقلام بين رزانة الشيوخ وحماسة الشباب.

كنت أواظب على قراءة النادي الأدبي وجمعت باقة من الأعداد ما زلت أحتفظ بها إلى اليوم. توقف هذا الملحق عن الصدور عام 1988 فانفرط عقد الأدباء، وكأنما انهار جدار كانوا يستندون عليه، حينها ظهرت ملاحق أدبية عديدة في معظم الصحف، لكن لم تستطع أي منها أن ترقى إلى مستوى " النادي الأدبي " بل أكاد أجزم أنه لم تظهر إلى الآن صحيفة تستطيع لم شمل الأدباء بمختلف تياراتهم مثلما فعلت " الجمهورية " يومئذ. فما هو السر يا ترى؟..

لعل لطيبة قلب هذا المثقف المشرف عليه دور، أو لتفتحه وتسامحه و نبل علاقاته العديدة بالأدباء بعيدا عن الحساسيات المثيرة دور. لكن الذي أعرفه عنه أنه مستمع جيد يغلب عليه التواضع والطيبة، وهو يجاريك في ما تقول من غير أن يحرجك بل لا تكاد تشعر بتوجيهاته التي يضمنها حديثه بطريقة لبقة وذكية. ذلك هو الكاتب الصحفي بلقاسم بن عبد الله كما عرفته دوما بطلعته البشوشة ومحياه الوديع وحديثه الهادئ الذي ينفذ إلى أعماق القلب مباشرة.

من حين الى حين أتصفح و أطالع كتبه المفيدة القريبة مني: مفدي زكريا شاعر مجد ثورة. في طبعته الثانية. و دراسات في الأدب و الثورة. و حرقة الكتابة. و بصمات و توقيعات ..والبقية الباقية تنتظر دورها لتأتي مع الأيام معززة في الأمد القريب.كما أتابع أحيانا مصافحته الأدبية التي ينشرها حاليا بكل من يومية الخبر و ملحق النادي الأدبي لجريدة الجمهورية و مجلة أصوات الشمال.

تعودنا أن نلتقي في مناسبات متفرقة منذ عقد من الزمان، أحيانا في بيته الأنيق وأكثر الأحيان في مقهى باب الخميس بمدينة تلمسان. نتجاذب أطراف الحديث في شؤون الأدب وشجون الحياة، أبادر بالحديث متحمسا متدفقا مثل الشلال، أصول وأجول مدافعا عن أفكاري وألتمس لها سبل الإقناع بكل وسيلة. بينما يظل الأستاذ صامتا متأملا ويتدخل أحيانا للتعليق وتوجيه دفة الحديث نحو الاعتدال والموضوعية. كان من رأيي دائما أن واقع الكتابة في احتضار، وأنه من الغرور الاعتماد على الأدب لتغيير موازين الحياة، وبالتالي تبقى الكتابة مجرد هواية هدفها التسلية في أوقات الفراغ.

فالكاتب ينفق سنوات من عمره في إعداد نفسه لتحمل مشاق هذه المهنة الصعبة التي لها تأثير على الصحة والأعصاب، وعلى العلاقات الأسرية وأسلوب الحياة. تصور أن تمضي حياتك بكل زخمها وعنفوانها وأنت تسعى لتجسيد أحلامك على أرض الواقع. تريد أن تصير كاتبا فتتلقى تكوينا أكاديميا. تقرأ كميات هائلة من الكتب. تسعى للتجريب والاحتكاك بالخبرات.و بعد ذلك تكتب ما تراه يصلح للقراءة وتلقي به إلى الناس في زمن فقدت فيه القراءة فاعليتها أمام منافسة وسائل الاتصال المختلفة، وانصراف الناس عن شراء الكتاب لانشغالهم المحموم بتوفير متطلبات العيش والرفاهية.

وكنت أقول دائما أن الهدف ليس هو نشر كتاب، ولكن السؤال المهم هو: هل هذا الكتاب صالح للقراءة؟.. حتى لا نغامر بنشر كتاب يكون مصيره الإهمال فوق رفوف مكتبات القراءة العمومية!.و يظل الأستاذ بلقاسم متفائلا كعادته ثابتا على رأيه لدرجة تثير حواسي النقدية. فأزعم أن في بلادنا يوجد أدباء كثر ولكن لا يوجد أدب. وأن أكثر ما ينشر من أدب لا يجد طريقه إلى قلب القارئ.

كان الأستاذ يرى أن المجال مفتوح أمام المبدعين الجادين مهما كانت التحديات. فالمبدع الحقيقي هو الذي يؤمن برسالته، ويستمد قوته من الأمل والاجتهاد، وكان يضرب لذلك مثلا بنفسه؛ رغم تقدمه النسبي في السن؛ فإن قلمه لم يتوقف عن النزيف، ولا يزال ممتلئا بالحيوية والنشاط، لا يكل و لا يمل. لأن الحياة بالنسبة إليه تستمد معناها من فعل الكتابة التي تعيد للنفس توازنها.ربما تكون متعة أو قدرا، ولكنها قبل ذلك قناعة ذاتية لا تنال منها العقبات.

كنت أرى أن الظروف الاجتماعية لها تأثير مدمر على مردود المبدع في غياب الحياة الكريمة التي توفر المناخ المناسب للكتابة، بعض الزملاء كان يحدوهم حماس منقطع النظير للمساهمة في تفعيل الحركة الثقافية وضخ الدم الجديد في أوصالها، من خلال مشاريع طموحة أنفقوا في سبيلها زهرة الشباب بين الكتب والأوراق. لم يعيشوا حياة طبيعية مثل كل الناس. كانت لهم عوالمهم الخاصة الغارقة في المثالية وأحلام اليقظة. وذات يوم يستفيق أكثرهم من أحلامه الجميلة عندما يصطدم بجدار الواقع. ماذا تنتظر من مبدع ما زال يبحث عن فرصة عمل. أو يعيش أزمة سكن. أو كاتب ترهق كاهله هموم الحياة بمتطلباتها وتحدياتها.

لأمر ما تجد تعلق أكثر الكتاب بالوظيفة لقناعتهم أنه يستحيل الاعتماد على الكتابة كوسيلة للعيش. وتحول بعضهم إلى التجارة والأعمال من أجل تحسين مستوياتهم الاجتماعية، فجرفهم تيار المادة ليرتادوا شواطئ مجهولة محفوفة بالمفاجآت. بينما تحول آخرون لخوض غمار السياسة من أجل اكتساب مكانة اجتماعية وامتيازات مادية لن يجدوها أبدا بين أحضان الأدب شعرا كان أم نثرا!..

وكان من رأي الأستاذ بلقاسم بن عبد الله أن المبدع صاحب مبادئ لا يمكن أن ينساق وراء المغريات ويحيد عن الرسالة التي خلق لأجلها، بل يجب عليه أن يناضل من أجل فرض وجوده من دون أن يرضخ لتحديات الحياة التي تحاصره وتحاول أن تخنق طاقته الإبداعية. يجب أن يظل متوهجا بالأمل والعطاء متألقا بالاجتهاد و الإبداع. وأن لا تزيده هذه التحديات إلا إصرارا على مواصلة النضال حتى يحقق أهدافه النبيلة .

محمد هواري

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى