السبت ٣١ آب (أغسطس) ٢٠١٣
سردية الوهم في رواية

«رجال وكلاب» لمصطفى لغتيري

عبدالرحمن التمارة

يعد التفكير في الرواية، من زاوية المداخل التيماتية، إقرارا بسلطة التنوع الذي يفرز قضايا يحكمها، حينا، قانون التجديد و التطوير، رغم تكرار الاشتغال داخل نفس المجال الدلالي، و يؤطرها، حينا آخر، قانون الجدة المحكوم بجمالية الإضافة، و من منظور تصنيفي عام، يمكن القول إن الخلفية النفسية كانت أرضية هامة لتشييد العوالم السردية لكثير من النصوص الروائية، تشييد يروم تأسيس جماليتي الكشف و الإفراغ: الأولى تتخذ الرواية آلية فنية فكرية و قادرة على كشف العوالم السيكولوجية المركبة و المعقدة والمضمرة للكائن البشري1، و الثانية تعتبر الرواية "مجالا" إبداعيا تتسامى2 عبره الذات، لتتخلص من إكراهات و اختلالات نفسية فردية كانت أم جماعية.

بناء على هذه المعطيات نتساءل عن المحمولات الدلالية التي تؤكد أن رواية "رجال وكلاب"3 للروائي مصطفى لغتيري انبنت على خلفية سيكولوجية. و ما هي القضية النفسية التي تم تسريدها داخل الرواية؟ و هل تتعالق هذه القضية مع غيرها من قضايا نفسية أخرى؟ و عبر أي خصائص جمالية تم تسريد هذه القضايا؟

1. الوهم يبني الحكاية:

تستند أحداث رواية "رجال وكلاب" على خلفية تخييلية متصلة بالنسق السيكولوجي، الذي أفرز تيمة نفسية أساسية هي "الوهم" حيث تعد هذه الموضوعة نقطة انطلاق أحداث الرواية، و تطورها و نموها.

هكذا، تحكي الرواية عن الذات الساردة "علال" الذي شعر باضطراب نفسي وفكري، جراء الانشغال بقضية تاجر، كان يتبضع منه،تم القبض عليه من لدن رجلين، تنطبق على فعلهما صفات المخبرين، فقرر هذا السارد الاستفسار عن أمر الرجل، بيد أن جهله باسم "المختطف" كان كافيا ليعتبر شرطي الاستقبال فعله مضيعة للوقت:"اذهب إلى حالك، إنك تضيع وقتي"4 بهذا استشعر السارد بداية خلل نفسي:" شككت للحظة في حالتي هاته. تساءلت أليس ما أعيشه الآن وهما؟". وهنا، بدأت معالم تسرب الوهم إلى الذات الساردة:"ترسخت قناعة في ذهني بأن ما عشته هذا الصباح لم يكن سوى وهم". كان "الوهم"،إذا، مدخلا للاختلال النفسي، حيث حاولت الذات الساردة تغيير أمكنة الاستقرار علها تتجاوز أزمتها النفسية، التي صارت مشكلة معقدة ومركبة، بل حالة مرضية مستعصية"تجعل المريض يحيا في ظل أوهام بلا حصر"5.

و تطرح الرواية المرض النفسي، الوساوس و الأوهام، أمام القارئ المفترض للنص الروائي كي يشارك في حل أزمة السارد المريض، وقد عمد هذا الأخير إلى كشف ما يعتبر بداية لهذا الإشكال النفسي، وهي بداية ذات جذور وراثية، لأنها قد تكون متولدة عن الحالة التي لزمت جد السارد من أبيه حينما فر كلبه الحميم، بعدما أصيب بالسعار، فظل الجد "يتوهم أن الكلب،لابد، عائد إلى كوخه"6، و بدأ يكلم نفسه و كأن الكلب أمامه فعلا، بل سيتماهى مع كلبه المختفي سلوكا و حركات و أكلا و سكنا، محققا "تماهيا كلبيا" ناذرا،انتهى بوفاته،بيد أن وفاة الجد لم تعط الحرية لأبنائه و أحفاده،بل سجنتهم داخل لقب مستفز"بني كلبون"، مما دفعهم للرحيل من قريتهم الصغيرة نحو مدينة الدارالبيضاء، و الاستقرار في أحد أحيائها الهامشية. وقد كانت ذكرى"الحياة الكلبية" لجد السارد مؤثرة في حياة أبيه الذي اشتغل في معمل "الفاسي"،و ثابر في عمله، وتزوج وسكن في منزله الجديد، لكن اللعنة ستظل تطارده بسبب حمق أخته،عمة السارد،وجنونها الكلبي" الذي استعصى على العلاج. كل ذلك جعل الذات الساردة متأثرة في نشأتها و محيطها بحالة"الجنون الكلبي" لأفراد الأسرة، فصارت ذاتا هشة وضعيفة النفسية، لولا التعويض الذي وجدته في الكتابة والقراءة، لكن ذلك لم يخف اختلالاتها السيكولوجية المتعددة: التبول اللالإرادي،و الاضطراب النفسي،الخجل، كثرة أحلام اليقظة، الاكتئاب...إلخ، مما دفعها إلى إطلاق أحكام يؤطرها القلق الوجودي، والتيه الروحي و الفكري:"إنني اعتبرت نفسي،دائما، مجرد خطأ.. ولادتي خطأ.. حياتي خطأ..كل شيء يحيط بي خطأ.. إنها أخطاء يصعب تصحيحها أو محوها. أخطاء قدرية "7. إنه قانون الشك الذي يمس الكثير من الثوات، ويغلب فعل التخطيء ويجعله خارج الذات، وإن كان منبثقا من داخلها،لكن قانون الشك أفضى بالذات الساردة في النهاية إلى اكتشاف مفاده أن"المرض النفسي" الذي تعيشه هذه الذات نابع من تغليب سلطة "الوهم" على السلوك والتفكير، يقول السارد متحدثا عن مرضه: "يجعلني ضحية لوقائع وهمية تصيبني بالإرباك والحيرة، حتى أنها في كثير منها صعبة التصديق تزداد وطأة يوما بعد يوم.."8 لكن هذا المرض تمكن السارد من تجاوزه عبر الكتابة و الإبداع.

يتضح أن رواية "رجال وكلاب" تسعى إلى نأكيد حقيقة أساسية هي:إن الكتابة تعد وصفة علاجية هامة لكثير من الأمراض النفسية المستعصية،سواء كانت ذات جذور وراثية يمكن إدراجها ضمن "اللاوعي الجمعي"، بلغة كارل يونغ،"كاستعداد نفسي خاص عملت على تشكيله قوى الوراثة"8، أم ذات أصول ذاتية،جراء التنشئة الاجتماعية والتكوين المعرفي وتراكمات التجربة الحياتية. ومنه فالرواية تستبدل المنطق الذي حكم متخيل حكايات "ألف ليلة وليلة" المتمثل في "احك و إلا قتلتك" بمتخيل سردي قوامه منق جديد هو:"احك و إلا قتلت نفسك". هذا يؤكد أهمية السرد في تخليص الذات الساردة من إكراه الاختلالات النفسية المتنوعة، حيث يصلنا من داخل الرواية"نداء" واضح مفاده:أيها المريض النفسي، أو الذي يتوهم أنه مريض، و الممتلك لأدوات الكتابة، إن علاجك مرهون بالكتابة، فاكتب كي تحيا حياة نفسية مستقرة، وتتجاوز كل اضطراب نفسي، وبالتالي فالعلاج هو داخل الذات لا خارجها، يقول السارد:"كل شيء موجود في نفسي، وليس خارجها،ولأن انعتاقي لن يتأتى إذا لم أسع إليه بنفسي"9، يظهر أن"السعي" يؤكد أن الذات الساردة في الرواية ليست ذات مريضة،بالمعنى الذي يتعذر معه التحكم في فعل الكتابة، بل هي ذات تتوهم المرض،وتتوهم انعكاسات"الماضي الكلبي" على الحاضر المعيش،لأنها ذات تبدو في عمقها الفكري واعية بكينونتها وبمحيها وبمسارها الفردي والجماعي،بل ترسم استراتيجية سردية للتأثير على المروي له، ومن خلاله على القارئ الضمني بصفة عامة.

2. الوهم بوابة لخلل متعدد:

يفتح تسريد الوهم في رواية "رجال وكلاب" الأبواب أمام تجلي اختلالات نفسية للذات الساردة المحورية،التي تبدو أنها تعيش داخل حالة نفسية ومضربة،حيث يصير الوهم سببا رئيسا في ممارسة إكراه نفسي عليها،ويغدو عتبة هامة للدلالة على خلل نفسي متنوع العناصر. و بالتالي فإذا كان الوهم محور السرد الدلالي،فإنه يعد تيمة مبنية وظيفيا وفق إطار جمالي ودلالي قوامه التضعيف والتفجير،لأنه يولد تيمات نفسية فرعية كاشفة لهشاشة الذات الساردة و البطلة.

يشكل القلق النفسي، إذا، أحد التيمات المتفرعة عن إشكالية الوهم، باعتباره"تجربة انفعالية مؤلمة تتولد عن الإثارات في الأعضاء الباطنية للبدن"10. ويقدمه متخيل الرواية قلقا متمفصلا إلى مستويين: الأول تحقق عبر جمالية الاستعادة،و نقصد به عدم ارتياح الذات الساردة أثناء استعادة"تاريخ" الأسرة"الجد،الأب،العمة" الموسوم بالبلاغة الكلبية، التي جعلت الذات تتجاوز عتبة الراحة النفسية نحو عالم القلق بمختلف امتداداته و تجلياته. والثاني تجسد عبر جمالية الإفصاح: أي الإفصاح عن قلق يخترق الذات بقوة، فيتركها متلبسة بالدهشة و التيه، ويضعها أمام فكر عدمي هدام. يصير القلق حالة نفسية مولدة لنمط فكري سلبي تجاه الكينونة والوجود والنفس، بدل التفكير في انتشال نفسها من عالم التيه و الانهزام، مما يؤكد التعالق الوظيفي بين الفكر والنفس، وكأن الرواية تهجس بشكل مضمر بأن الاستقرار النفسي هو المدخل الحقيقي لتوازن الفكر، في حين أن الاضطراب السيكولوجي يفضي للتيه الفكري.

فضلا عن ذلك، تشخص الرواية متخيل الوهم باعتباره صورة راسمة كينونة الذات الساردة وهي موشومة بحرمان متنوع، بدءا بالحرمان من الاستقرار النفسي، باعتباره حالة متعالقة بالقلق من زاوية السبب و النتيجة من جهة، و متعالقة بالظرفية التاريخية للواقع التجريبي الذي يؤطر الذات الساردة من جهة ثانية:" الطفل الذي كنته، لم ينعم بالاستقرار في حياته، وهذا يحول دون تحقيق توازنه النفسي.. إن هذه الطفولة البئيسة اشتركت فيها مع كثير من أبناء جيلي، لقد عشنا في ظل مرحلة انتقالية. كان الاستعمار الفرنسي قد غادر المغرب بسنوات قليلة، وكان الطموح قائما لبناء دولة مستقلة..بيد أن اختلالات قوية حدثت"11. مرورا بالحرمان من امتلاك حيوان أليف أي كلب، لأن الثقل الرمزي للكلب في المسار التاريخي لسيرة السارد، الذي جعله معادلا لمأساة الأسرة ومعاناتها. هو ما ولد هذا النوع من الحرمان، وصولا إلى الحرمان من ممارسة بعض الهوايات المفضلة"الرسم"، وذلك جراء الاكتئاب الذي استوطن النفس وعمق جراحها، يقول السارد:" الاكتئاب وجد لنفسي سبيلا ممهدا، في غفلة مني،استوطن دواخلي.ز هجرت الرسم و انكفأت على ذاتي.."12، وهو اكتئاب ناجم عن التأمل في التاريخ الأسري المميز باللعنة الكلبية، بانعكاساتها الشعورية و اللاشعورية، انتهاء بالحرمان من حياة نفسية متوازنة نتيجة اضطرابات في البصر، خاصة أثناء النوبات النفسية الحادة:" فلقد كنت أعرف حق المعرفة أن ما يحدث لي سببه مشاكلي النفسية التي تراكمت حتى أصبحت غير قادر على تحملها. دليلي على ذلك أن الحول الذي يصيبني، يذهب عني بمجرد أن تهدأ نفسي و تنعم بالسلام"13.

3. الوهم و استراتيجية المواجهة:

إذا كان الوهم يتموقع في نواة السرد باعتباره كشفا عن "اللامرئي في الحياة الداخلية"15 للأنا الساردة، بلغة كونديرا، فغنه وهم مولد لحركية سردية تمفصلت إلى مستويين: الأول يبني الاختلالات النفسية للذات و البطلة.والثاني يفككها ويؤسس بدلها وصفة علاجية تتأسس على سلطة اللغوس والثقافة، القائمة في البدء على القراءة والتحصيل، والمؤسسة في الختم على الكتابة والحكي. هكذا، يغدو الحكي و الكتابة معادلا رمزيا و فنيا للعلاج النفسي، وفعلا هازما لشبح المرض النفسي المستعصي، مما يجعل الوهم يؤدي وظيفة الشحن، شحن النفس باضطرابات متعددة، والسرد يقوم بوظيفة الإفراغ باعتباره وظيفة علاجية ووقائية من "صرع" مدمر واضطراب كلي للذات. خاصة وأن الذات الساردة تنطلق من فرضية نفسية تؤمن بأن كل ذات تعاني من "مركب النقص":"أعرف أن لا أحد بمنأى عن الأمراض النفسية، تأمل نفسك جيدا،لترتسم أمام عينيك أكثر من علامة استفهام"16. وهذا يعني أن الذات الساردة تنهج استراتيجية مضادة لمواجهة التدمير الذي يلحقها، جراء خضوعها لسلطة الوهم: حيث تتجلى معالم الاستراتيجية في المراحل التالية:

• مرحلة توريط القارئ الضمني: تفتح الرواية متخيلها على ذات أخرى افتراضية كي تساهم في تخفيف الأزمة. وتشاركها في التعاطي الإيجابي مع ما تتوهم أنه مرض نفسي. ويتحقق ذلك عبر مستويين جماليين: يتجلى الأول في جمالية التوريط، حيث يصير القارئ الضمني جزءا من الذات الساردة، على مستوى التلقي، يشاركها أزمتها ويسمع صوتها المأزوم. ويظهر الثاني عبر جمالية التحفيز، حيث يتعلق الأمر بتحسيس القارئ بنبل المهم المزمع القيام بها: ووظيفتها البيداغوجية و الإنسانية:"سوف لن أستغرق في استعطافك، فلعلك - قارئي المفترض-مقتنع بنبل المهمة.فأن نساعد إنسانا على الانعتاق من ربقة حالة مرضية كتلك التي حكيت لك بعض أعراضها، لابد أن يكون عملا نبيلا بكل ما تحمل الكلمة من معان سامية"17.

• مرحلة اكتشاف "الحروف": تعد مرحلة هامة في مواجهة الضعف النفسي، الذي يترك جروحا داخلية عميقة في الذات. هكذا، ستتفتق الموهبة من قلب الأزمة النفسية في بداية المسار الدراسي لذات الطفل، مما جعل الانشغال "بلعبة الحروف" مدخلا هاما للتغلب على الاضطراب، وتغليب الفرح على سلطة القلق، مع ما يعنيه ذلك من انفتاح على عالم جديد، يمنح أدوات معرفية تمكن من بناء كينونة قوية، يكون باستطاعتها أن تغلب منطق المواجهة مع المرض بدل الاستسلام و الانهزام:"الحقيقة إن دنيا جديدة انفتحت أمام عيني. لعبة الحروف استغرقتني بما يشبه الهوس. لقد وجدت فيها تعويضا عن عدم قدرتي على مجاراة الأطفال في أمور أخرى. كنت أستوعب الكلمات بشكل لافت. وحين كان المعلم ينوه بقراءتي للحروف،يتملكني فرح عارم.."18.

• مرحلة البناء الفكري: تتوافق مع التقدم العمري للذات الساردة، ومع الدراسة الجامعية، التي شكلت مرحلة نوعية في بناء الذات في مستويات متعددة، يقول السارد: "انتقالي إلى الجامعة غير مجرى حياتي.. قدمت لي الجامعة فرصة للاطلاع على كثير من الكتب.. تدريجيا أخذت اقتناعاتي تتغير، وحتى ميولاتي طالتها ثورة جذرية، إنني إنسان جديد، أتنفس أجواء الحرية، وأكتسب رؤيا جديدة للتعامل مع الحياة، دشنت مسلكا جديدا اخترته بنفسي، لا فضل فيه لأحد غير الكتب.. علاقتي بالناس تغيرت، بكلمة واحدة أصبحت سيد نفسي.. وإن كانت حالتي المرضية استمرت.. و اهم شيء استغرقني هو إعادة بناء ذاتي على أسس قوية.."19. يتضح أن مرحلة التعليم بالجامعة تعد عتبة فاصلة بين عالمين: الأول كانت فيه الذات منغلقة على الحياة الرتيبة، و الأفكار البسيطة، والعلاقات الإنسانية المحدودة، والاستلاب الأسري، والكينونة الهشة. والثاني صارت فيه الذات الساردة، بفعل القراءة والمطالعة، مندمجة في عالم جديد قوامه إخضاع الحياة الخاصة لمنطق السؤال والخلخلة، حيث انفتحت أمام الذات حياة جديدة تستلذ فيها المطالعة مع الذوات الأخرى والمؤثثة للمشهد المجتمعي.

تعبر، إذا، هذه المراحل عن أهمية الآخر والمعرفة في بناء الذات الإنسانية بشكل متوازن، حيث يصير الآخر، هنا، حاجة وطرفا فاعلا في تخليص الذات من الإكراهات النفسية المختلفة. وبذلك لم يعد الآخر، في متخيل الرواية، جحيما مدمرا للذات، بل صار جزءا هاما في بنائها و إعادة التوازن إليها. وتغدو المعرفة، بما تمنحه للذات من إمكانية للتأمل والتفكير والفهم والتحليل... أداة هامة تمكن من الانفصال عن عالم التيه الذي يسببه الوضع النفسي المضطرب، ومجالا للوعي العميق بالذات و بكينونتها وعلاقاتها.

4. البناء السردي للوهم:

إن متخيل رواية"رجال وكلاب" المتمركز حول الوهم، انبنى على جملة من العناصر و الأدوات الفنية و الجمالية، يمكننا، على سبيل التمثيل فقط، ان نتناول عنصرين جماليين هامين:
• جمالية التأريخ.

تولدت هذه الجمالية جراء الانشغال بمحكي الأصول الأولى:" قد ينفع في هذا الأمر أن أحكي لك بعض الأمور التي تتعلق بالأصول، أعني أصولي أنا، فقد تسلل جرثومة المرض من الأقارب القريبين أو البعيدين، فما هو وراثي لا يمكن استبعاده في هكذا حالة"20. يظهر أن المتخيل الروائي يركز على الأصول الاجتماعية، بدءا من الجد، مرورا بالأب، لهذا يولي متخيل الرواية الأهمية للتاريخ الخاص، دون أن ينفصل عن التاريخ العام، لأن التاريخ، على حد قول بول ريكور" يتقدم علي و يسبق تأملي. أنا أنتمي إلى التاريخ قبل أن أنتمي إلي"21. و تعد الحياة الأسرية الممهورة بسلطة اللعنة الكلبية تاريخا سابقا على الكينونة الفعلية للذات الساردة، مما يجعل الجمالية التاريخية يؤدي وظيفتين دلاليتين: الأولى تؤطرها مقولة التحرر، حيث تبدو الذات في استعادتها للتاريخ الأسري اللعين وكأنها تحاول التخلص من ثقله النفسي، وجعل فعل الحكي وسرد اللحظات المظلمة، من هذا التاريخ، نوعا من التنفيس والبحث عن التوازن المفقود. والثاني تحكمه مقولة التبرير، وكأن الذات الساردة تحاول إعطاء المشروعية لاختلالاتها النفسية، و التنبيه إلى أنها إشكالية وراثية، قبل أن تكون ذاتية، أو تعمقها الذات، مما يوحي بالنزوع صوب محاكمة التاريخ وليس الذات.

• جمالية التفاعل الحواري:

يرى "جان إيف تادييه" أن" الروائي الحديث يريد أن يصنع من القارئ شريكا، ورفيق طريق"22. وهو ما راهنت عليه رواية "رجال وكلاب"، حيث يظهر جليا انفتاح السرد داخل المحكي على المسرود له، و من خلاله القارئ الضمني، بل إن هذا الانفتاح والتفاعل بين الكاتب الضمني و القارئ الضمن 23 هو المؤسس الفعلي للمتخيل، حيث نستشعر أن الرواية تأسست على هذه العلاقة التفاعلية بينهما، و كأن أي اختلال في المتلقي الضمني،في سياق تفاعله مع الكاتب الضمني، داخل متخيل الرواية وضعين: الأول يكون في مقام التفاعل مع السارد وهو يحكي تاريخ أسرته، ويعرض الأسباب الكامنة وراء أزمته النفسية، و النتائج المترتبة عنها:"أصدقك القول، قارئي المفترض.. ص12.. أيها القارئ المفترض أورطك ص 14.. عزيزي القارئ المفترض أجدني مضطرا لمخاطبتك مباشرة ص 23..اسمعح لي، قارئي المفترض أن اعود إليك، لنفكر سويا فيما حدث..ص53.." ويبدو القارئ الضمني، في هذه الوضعية، شخصا سويا يمكنه مساعدة الذات السردة على تخطي عتبة المرض النفسي. أما الوضع الثاني فيصير في مقام التفاعل مع السارد وهو يرشده ويوجهه وينصحه:" فما عليك سوى تتبع ما سأخطه..ص 14.. بادر إلى الوقوف أمام نفسك، وخذ قلما وورقا، وابدأ في سرد تفاصيل حياتك. ثق بي. إن ذلك لا يخلو من فائدة.. ص87. وتعتبر هذه الوضعية مفارقة حوارية، لأن الذات الساردة التي لا تتورع في الإعلان عن مرضها، تبدو متموقعة في محور الذات التي تقدم الوصفات العلاجية، وتقترح الحلول الممكنة لكل قارئ ضمني يجد نفسه محاصرا بمرض أو خلل نفسي.

• على سبيل الختم:

يقدم متخيل رواية" رجال وكلاب" لمصطفى لغتيري مادة هامة للتأمل في العلاقة الممكنة بين الإبداع و الأمراض النفسية، سواء على مستوى التفاعل مع المرض من زاوية تحبيره فوق الورق مستثمرا استيطيقا البوح و التفريغ، أم على مستوى جعل المتلقي يدرك أن الإبداع صيغة علاجية مرنة تمكن من امتصاص كل مرض استعصى حله عبر العلاج الكلينيكي. وهذا يوحي بانبناء النص الروائي وفق منطق فكري و فني أساسه التحريض على "اقتراف" الإبداع، مما يبرر إمكانية الحديث عن الطابع البيداغوجي للرواية.

المراجع:

1. نفكر هنا في قول فرويد وهو يتحدث عن الشعراء و الروائيين قئلا:" هم،في معرفة النفس البشرية، معلمون و أساتذتنا، نحن معشر العامة، لأنهم ينهلون من موارد لم نفلح بعد في تسهيل ورودها على العلم" انظر سيغموند فرويد، الهذيان و الأحلام في الفن، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، ط2، 1981، ص 7.

2. نوظف التسامي، هنا، بمفهومه الفرويدي.

3. مصطفى لغتيري، رجال وكلاب،رواية، أفريقيا الشرق، الدارالبيضاء. 2007.

4. نفسه ص11.

5. نفسه ص11.

6. نفسه ص12.

7. نفسه ص 13.

8. نفسه ص18.

9. نفسه ص 68.

10. نفسه ص86.

11. د سامي الدروبي، علم النفس و الأدب، منشورات جماعة النفس التكاملي، دار المعارف، مصر، ط2،دون تاريخ، ص 143.

12. رجال وكلاب ص 79.

13. كلفن هال، أصول علم النفس الفرويدي، ترجمة د محمد فتحي الشنيطي. دار النهضة العربية بيروت. دون تاريخ. ص 72.

14. رجال وكلاي ص 53.

15. نفسه ص 70.

16. نفسه ص 75.

17. ميلن كونديرا، فن الرواية.ترجمة بدر الدين عركودي، المجلس الا‘لى للثقافة، مصر 2001. ص22

18. رجال وكلاب ص86-87.

19. نفسه ص15.

20. نفسه ص43.

21. نفسه ص79.

22. نفسه ص15.

23. بول ريكور، من النص إلى الفعل، ص 68.

24. جان إيف تادييه، الرواية في القرن العشرين، ص 149.

25. نعتمد في هذا التصنيف على النمذجة التي يقترحها "جاب انتفيلت" انظر:
Japp LINTVELT. ESSAI DE TYPOLOGIR.JOSE CORTI ;PARIS ;1981 ; P 32.
ملاحظة: صدر هذا المقال ضمن كتاب "السرد و الدلالة6 دراسة في تأويل النص الروائي" للناقد المغربي عبد الرحمن التمارة. منشورات اتحاد كتاب المغرب، 2012.

عبدالرحمن التمارة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى