الجمعة ٢٤ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٤
بقلم فيصل سليم التلاوي

ليس الشاعر نحويا

ليس الشاعر نحويا و لا ينبغي له أن يكون كذلك، و إلا فارقه إلهام الشعر الذي لا يرتضي (ضرة )، ولا يقبل المنافسة مع سائر الفنون الأدبية. و عندها يستبدل دفقاته الغزيرة الصافية الصادقة بنتاج صانع محترف، كأنما ينحت كلماته بإزميل نحات ماهر، فتأتي بديعة الشكل و القوام، لكنها جسد خالٍ من الروح، و من النفس المتوهجة الوثابة.

و قد اختلف الشعراء منذ القدم في طريقة معاودتهم النظر في قصائدهم بعد فراغهم منها، و ذلك منذ البدايات الأولى للشعر، فقد وجدت فئة قليلة من شعراء العصر الجاهلي تعاود النظر مدققة فاحصة لقصائدها،مطيلة التأمل و المراجعة حتى سُمّوا (عبيد الشعر)، و منهم من كان يمضي حولا كاملا في مراجعة قصيدته، حتى سميت قصائدهم بالحوليات، و من أبرز هؤلاء زهير بن أبي سلمى.

و من الشعراء من يعاود النظر بعد الفراغ من البيت الواحد أو من القصيدة كلها، مدققا في سلامة كلماتها، و في مطابقتها للقواعد النحوية خاصة رويّها،و يكتفي بهذه المراجعة السريعة.و منهم من لا يلقي بالا لذلك، و يترك الأمر على عواهنه، و على الصورة التي تفتقت عنها قريحته، و تدفقت على لسانه للوهلة الأولى.

و تبعا لذلك و لأن الغيث لا يخلو من العيث، فإن المتتبع المدقق لا بد و أنه ملتقط لدى كبار الشعراء قبل صغارهم هفوات نحوية و لغوية أحيانا، مَرَدُّ بعضها للغفلةوالتسرع و عدم الانتباه، و ذلك وارد حتى عند شعراء المعلقات في العصر الجاهلي.فقد روي في كتب تاريخ الأدب أن النابغة الذبياني لما أنشد قصيدته (المتجردة)،التي وصف فيها زوجة الملك النعمان بن المنذر، و التي مطلعها:

من آل ميةَ رائحٌ أو مغتدي
عجلان ذا زادٍ و غير مُزوَّدِ

مضى فيها إلى قوله:

زعم البوارحُ أن موعدنا غدا
و بذاك خبرنا الغرابُ الأسودُ

ولم ينتبه إلى ما في ذلك من إقواءٍ برفع الدال في كلمة الأسودُ على عكس سائر القصيدة، التي رويها دال مكسورة ( مُزودِ)، و لاحظ سامعوه ذلك و تهيبوا أن يُخَطِئوه مباشرة، فأوعزوا إلى جارية أن تتغنى بالقصيدة على مسامعه، و تطيل المد في كلمة (الأسودُ) حتى انتبه لخطئه، و استدرك هفوته فقال:

زعم البوارح أن موعدنا غدا
و بذاك تنعابُ الغرابِ الأسودِ

و مثله في ذلك مثل بشر بن أبي خازم الذي نبهه أخوه سوادة: إنك تقوي. قال: و ما الإقواء؟ قال: قولك:

ألم ترَ أن طول الدهر يُسلي
و يُنسي مثلما نسيت جذامُ

ثم قلت:

و كانوا قومنا فبغوا علينا فسقناهم إلى البلد الشآمِ
فلم يعد بعد للإقواء.

و ذكر أن بعض شعراء العصر الأموي كان يلحن، و منهم الفرزدق الذي هجا عبد الله بن يزيد الحضرمي البصري، الذي كان ينتقده و يتعقب لحنه، فقال:

فلو كان عبد الله مولى هجوته
ولكن عبد الله مولى مواليا

فقال له الحضرمي: لحنت. ينبغي أن تقول مولى موالٍ. وذلك بحذف ياء الاسم المنقوص عند تنوينه رفعا أو جرا.
و بعض قمم الشعراء يخطئون في استخدام بعض المفردات، لا تدري أكان الباعث على ذلك سهوا و زلة، أم أن قيد القافية يرغمهم على اختيار الكلمة و لو كانت غير مناسبة، فتأمل قول المتنبي في مطلع إحدى مدائحه لسيف الدولة و هو مطلع ذائع الصيت، حيث يقول:

لكل امرئٍ من دهره ما تعودا

و في ذلك حكمة جرت مجرى الأمثال، لأنها مطابقة لطبائع البشر،حيث أن كل إنسان يسير على ما اعتاد عليه، و من الصعب تغيير عادات المرء التي ألفها و تعايش معها، لكنه في شطره الثاني الذي أراد فيه أن يخص سيف الدولة بعادة مُشرِّفة، تتسم بدوام الشجاعة و البطولة، و مواصلة مقارعة الأعداء، اختار أن يكمل قائلا:

و عادة سيف الدولة الطعن في العدا

فإذا عدنا إلى معنى طعن في ( معجم المعاني الجامع ) فإننا نجد:

طعن بالرمح و نحوه: و خز بهبغرض القتل
طعنه بلسانه: عابه، شتمه، أساء إليه بالكلام

و في التنزيل الحكيم ( و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم و طعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر ) - الآية 12 من سورة التوبة -. و طعنوا في دينكم: أي عابوه و انتقصوه.

طعن فيه أو في حكمه أو نسبه: عابه و ذمه، و يقال : طعن في الانتخابات بالتزوير. طعن في الشاهد: اعترض على شهادته
طعن في الأمر: اعترض عليه، و أثار حوله الشبهات. طعن في السن: هرم و شاخ.

فهل كان سيف الدولة يطعن في الروم بمثل هذه المعاني التي تقدمت لكلمة طعن في؟

الصواب أن يقال طعن سيف الدولة العدا دون حرف الجر في، أما قولنا طعن في، فلا تستخدم إلا للسان، بمعنى ذمه و ذكره بسوء، و نحو ذلك طعن في عرضه، و طعن في شرفه، و طعن في صدق حديثه.

فهل هذا ما أراده المتنبي؟ و هل كان سيف الدولة يطعن في أعراض الروم و أحاديثهم بلسانه، أم كان يطعنهم برمحه و سيفه؟

كيف كان صدر البيت يمثل افتتاحية مدوية، و كيف انتهى عجزه ركيكا هزيلا حتى عند شاعر كل العصور، الذي ملأ الدنيا و شغل الناس؟ إنها الزلات التي لا يفلت منها حتى الكبار.

فإذا انتقلنا إلى أمير شعراء العصر الحديث، و هو المبدع الفرد في تدفق قوافيه، و جمال صوره و سلاسة أسلوبه، و كلماته المنتقاة جزالة أو رقة تبعا للمقام، و انسياب موسيقاه, مع كل ذلك لا نستبعد أن نجد هفوة، كالتي وردت في بيته الذي يحث فيه الشباب على صحبة الكتاب، و تفضيله على غيره من الصحاب في قوله:

أنا من بدَّل بالكتب الصحابا
لم أجد لي وافيًا إلا الكتابا

و قد أراد أن يقول: إنني اخترت الكتب أصدقاء، و تخليت عن صحابي و أنني لم أجد صاحبا وفيا إلا الكتاب.
لكن المعروف أن حرف الجر الباء يدخل على الشيء المتروك، و ليس على المأخوذ،و إن أجاز بعض أهل اللغة دخول الباء على المأخوذ، لكن الأبلغ دخول الباء على المتروك لأنه أسلوب القرآن الكريم. و مثال ذلك قوله تعالى: ( أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ) - الآية 61 سورة البقرة-و قوله تعالى ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى و العذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار) - الآية 175 سورة البقرة -.فهو يوبخهم في الأية الأولىلتركهم الذي هو خير، و استبداله بما هو أدنى منه، و في الآية الثانية يتوعد الذين تركوا الهدى و أخذوا الضلالة، و تركوا المغفرة و أخذوا العذاب، يتوعدهم بالنار.

و بالعودة إلى صدر بيت شوقي فإن معناه يصبح تبعا لذلك،( أنا من تخلى عن الكتب، و اتخذ الصحاب بدلا عنها ) و هو عكس المراد. و كان الأنسب أن يقول لو أنه تروى و أعاد النظر في قصيدته:

أنا من بدَّل بالصحب الكتابا
لم أجد لي وافيا إلا الكتابا

ما سقناه من أمثلة ليس سوى غيض من فيض، و إذا كانت هذه الهنات قد صدرت عن عمالقة الشعراء في مختلف العصور، فما بالك بغيرهم من سائر الشعراء؟

ومن يتتبع شعراء المهجر مثلا، يجد عندهم ما لا يحصى عده من الأخطاء النحوية و العروضية. و شفيعهم أنهم شعراء فقط و ليسوا نحويين، و أنهم قدموا لنا شعرا يتدفق عاطفة بفعل التشوق و الحنين إلى الوطن، الذي أكسبتهم إياه غربتهم الطويلة في الأمريكتين، و تلك الروح الإنسانية و النظرات المتفائلة التي تحملها قصائدهم، بفضل اطلاعهم على الآداب الأجنبية و تأثرهم بها، و شفيعهم أنهم لم يحرزوا قسطا وافرا من الدرس و التحصيل، بل اغتربوا مكافحين وراء لقمة العيش، فرققت الغربة و المهاجر أحاسيسهم، فأنطقتهم بالشعر العذب، و قد عبر عن ذلك أحدهم، و هو الشاعر إلياس فرحات، في قصيدته التي سنثبت معظم أبياتها لجمالها و صدقها :

يقولون عمن أخذت القريضَ
و ممن تعلمت نظم الدُرر
و أين درست العروض و كيف
تلقفت هذا البيان الأغر
و ما كنت يوما بطالب علمٍ
فإنا عرفناك منذ الصغر
فقلت أخذت القريض صبيا
عن الطير و هي تغني السحر
و عن خطرات عليل النسيم
يمر فيشفي عليل البشر
و عن ضحكات مياه الجداو
لِ فوق الجلامد تحت الشجر
و عن زفرات المحب الأديب
يزاحمه الموسر المقتدر
و عن نظرات الحسان التي
يكدن يغلغلنها في الحجر
و عن عبرات الحزانى الضعاف
ففي عبرات الحزانى عِبَر
كذاك تعلمت نظم اللآلي
لفرط الغرام و طول السهر
لئن كنت لم أدخل المدرسات
صغيرا و لا بعدها في الكبر
فذا الكون جامعة الجامعات
و ذا الدهر أستاذها المعتبر
فمن يحي يوما و لا يستفيدُ
فأعمى البصيرة أعمى البصر

فما انتقص شيئا من جمال قصيدته أنه لم يتقن النحو، فلم يجزم الفعل المعطوف على فعل الشرط في صدر البيت الأخير (ولا يستفيدُ) فيجعله (و لا يستفدْ) مع أن الوزن يبقى سليما على البحر المتقارب (فعولن فعولن فعولن فعو) بدلا من (فعولُ) في التفعيلة الأخيرة.

لكننا نختم حديثنا بمثل ما ابتدأنا به، فليس من لوازم الشاعر أن يكون نحويا، و إلا قدم لنا تماثيل صماء بكماء باردة لا حياة فيها، و إن كانت بديعة الصنعة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى