الأربعاء ٢٩ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٤
بقلم عادل عامر

الجذور الفكرية لاستقطاب السياسي

أنّ للحركات والأنظمة القومية تأثيرات متعددة على الحركات والجماعات الإسلامية، في فترات تصالحها، وفي فترات التصادم. ونشير هنا إلى أهمية التأثير الخفي للحركات القومية على ثقافة التدين الجهادي، بعد تصدير الشوفينية القومية الغربية إلى العالم العربي، للإجهاز على بقايا الحكم العثماني وتصدير الشوفينية الوطنية القُطرية، لعرقلة مشروع الوحدة العربية. وتأثَّر بعض الضباط والمثقفين في اليمن، بهذا المدّ القومي، ونجحوا في التواصل مع النظام المصري في منتصف القرن الماضي، لإسقاط النظام الإمامي، وإقامة النظام الجمهوري. وعند تدهور العلاقة بين النظام والحركة الإسلامية في مصر، وتورّط النظام الناصري في ممارسات قمعية وحشية، تبلوَرَ الفكر التكفيري للأنظمة الحاكمة والجماهير المحايدة، في دهاليز السجون وتحت سياط التعذيب القومية الشوفينية. وكما نجحت الشوفينية القومية في تصدير مشاريع الثورات والانقلابات العسكرية وأساليب القمع دخلت الجماعات السلفية بقوة إلى ملعب السياسة العربية والإسلامية اعتبارا من سنة 1996 وعلى رغم انسجامها الفكري مع السعودية، موئل المرجعية السلفية، فإن الحركات الجهادية بدأت تتمرد عليها سياسيا، وفي مقدمتها تنظيم "القاعدة" الذي كانت أكثرية قياداته تحمل الجنسية السعودية. ومع أن المالكية هي مرجعية التيارات الإسلامية الرئيسة في المغرب العربي منذ قرون، بل مرجعية المجتمع الذي اتسم بإسلامه الوسطي النابذ للشطط والتزمت، اجتاحت الحركات التي باتت تُعرف بالسلفية الفضاءين السياسي والديني في شمال أفريقيا خلال السنوات الأخيرة، محاولة نشر رؤية غير مألوفة عن الإسلام.

ويُعتبر مُنظر الدولة السعودية محمد بن عبد الوهاب (1703 – 1792) مؤسس المذهب الوهابي المتسم بالصرامة والتشدد، إلا أن العلماء المغاربيين أمثال التونسي محمد الطاهر بن عاشور والجزائري عبد الحميد بن باديس رفضوا هذا المذهب صراحة. مع ذلك وفدت السلفية الجديدة إلى شمال أفريقيا من آسيا على إثر مشاركة متطوعين مغاربيين في حروب أفغانستان والعراق واحتكاكهم بدعاة سعوديين ومصريين وفلسطينيين وأردنيين.

أن العاطفة الإسلامية الموجودة في العمق القبلي "كانت إحدى الوسائل التي تستغلها القاعدة في تقديم نفسها كمنقذ للوضع المتردي" ووجدت في ذلك منفذًا لتوسيع نشاطها واستقطابها لنوعيات متحمسة من الشباب بغض النظر عن مدى خلفياتهم الفكرية أو التربوية.، فالقاعدة "وجدت في القبيلة مركزًا مهمًا للاستقطاب.. فهناك أفراد من تنظيم القاعدة يعرفهم المجتمع لم يكونوا من ذوي الالتزام الديني حتى قبيل انضمامهم إلى القاعدة حسب شهادات العديد ممن لهم صلات قبلية أو صداقة بتلك الشخصيات" ، ويأتي هنا الحديث عن جيل جديد للقاعدة لم يعد التدين يمثل عائقًا أمام انضمامهم إليها اتساقًا مع مرحلة التوسع القاعدي لعناصرها في الاتجاه الأفقي. واستفادت السلطة- سلطة علي عبدالله صالح آنذاك - من ملف القاعدة في إرضاخ قبائل "إقليم الصحراء" باعتبارها قريبة إلى السعودية وتمثل مناطقها امتدادا جغرافيا صحراويا مشابها للنسيج الاجتماعي المرتبط بعلاقات قديمة ومتينة مع السعودية، وتوجد فيها مراكز قوى غير عادية لكنها ما زالت خارج الأضواء الإعلامية، واستطاعت السلطة تحييد القبائل من الانضمام إلى محاور خارج إطارها أو المشاركة في أية تحالفات سياسية. ع انهيار الاتحاد السوفيتي بدأت ملامح نظام دولي جديد بالتكون، ثم جاءت أحداث الحادي عشر من أيلول لتتضح هذه الملامح أكثر فأكثر، ولتقوم على سيطرة شبه كلية للولايات المتحدة التي اجتمعت لديها جميع عناصر مركب القوة: القدرات السياسية والدبلوماسية، الاقتصاد الهائل، التطور التكنولوجي والقوة العسكرية، والمساحة الواسعة، والعدد الكبير نسبياً من البشر، والتماسك الإيديولوجي.

هذا التحول السياسي رافقه تغير نوعي واسع في العلوم والتكنولوجيا ووسائل الاتصال، وأدى هذان العاملان (التحول السياسي والتطور العلمي) إلى انخفاض تدريجي في درجة سيادة جميع الدول بمستويات مختلفة، لدرجة أصبحت معها السياسة الأمريكية حاضرة داخل كل دول العالم، وتتحدد إزاءها المعسكرات والاستقطابات السياسية والاقتصادية.
أصبحت نتيجة ذلك العلاقة بين الداخل والخارج مسألة مركزية داخل كل دولة من الدول، وتحكم موضوعياً جميع القوى المجتمعية، السياسية والاقتصادية، سواء اعترفت بذلك أو أشاحت بوجهها عن هذه العلاقة. كما تحولت هذه العلاقة إلى إشكالية ممزقة للجسد السياسي، وهي لذلك واقعية، وليست زائفة كما يرى البعض، إذ إنها تعيد اليوم تشكيل القوى السياسية، وتعيد اصطفافها من جديد، وتلغي تحالفات طويلة الأمد، وتحطم تسميات وصفات عديدة لازمت العديد من القوى، خاصة في المنطقة العربية، ومنها سوريا.

هذا الأثر الكبير لهذه الإشكالية يجعل منها موضوعاً أساسياً من موضوعات الحوار وإعادة بناء رؤانا وتصوراتنا للذات والآخر والعالم، وإذا كان البعض ينظر لهذا الأمر بوصفه من المحرمات التي ينبغي عدم تناولها، أو يسبغ صفة القداسة على رؤاه التي اعتادها في الماضي، خاصة فيما يتعلق بالتصنيف السهل للبشر إلى معسكر أعداء وآخر للأصدقاء، فإننا نرى أن أهم سمة لهذا العصر هي أنه يعلن لنا يومياً نهاية المقدسات من جهة، ويخبرنا أن مناهجنا السابقة وطرائقنا السابقة ما عادت قادرة على تحليل ما يحدث أو الاستفادة منه.

بدأ هذا العصر مع انهيار الاتحاد السوفيتي والغزو الأمريكي للعراق في العام 1991، وترافقت هذه البداية في المنطقة العربية مع أولى محاولات خرق المقدسات واقعياً أي فكرة عدم جواز الحرب بين العرب أو بين المسلمين، بحكم مؤثرات دينية وقومية في ثقافتنا السياسية السائدة، وقد جاء هذا الخرق على يد سلطات عربية عديدة. بعده جاء الخرق من قبل المعارضة السياسية في العراق عندما استعانت بالقوى الخارجية لإنهاء النظام الاستبدادي في العراق، وبعد أن كان ما كان انفتحت المنطقة المغلقة لعقود على سلسلة من التغيرات التي مازالت في بدايتها، ولتطرح إشكالية العلاقة مع الخارج بقوة في جميع دول المنطقة.

في سوريا تكاد تصبح هذه الإشكالية المسألة المركزية التي ستعيد ترتيب واصطفاف القوى من جديد، فمع بدء الحراك السياسي كانت القوى السياسية في المعارضة مليئة بالشكوك وبحالة من عدم الثقة فيما بينها، وتدريجياً (بعد مخاضات وحوارات عديدة وبتأثير تجارب عربية أخرى) بدأت هذه القوى تعتاد على ما لم تعتد عليه في الماضي، إذ اقتربت القوى الدينية والعلمانية من بعضها بعضاً، واقتربت القوى الليبرالية من القوى ذات التوجه الاشتراكي، واقتربت القوى القومية العربية من القوى القومية الكردية، وهو بالطبع اقتراب سياسي بين هذه التيارات المختلفة إيديولوجياً، ولعل محركاته تكمن في حدوث تطور جزئي نسبي عند جميع القوى التي اقتنعت بعد تجارب مأساوية عديدة بأن كلا منها لوحده لا يمكن له أن يدعي تمثيل الشارع السوري. أما الإشكالية الباقية في الساحة فهي إشكالية العلاقة بين الداخل والخارج، وهي التي ستحدد، على ما يبدو، الاصطفافات الجديدة.

أعلم في البداية ما يكتنف مقاربة هذا الموضوع من مخاطر، أقلها التعرض لاتهامات بالعمالة أو الخيانة الوطنية، ومن جهات عديدة قد لا تلتقي فيما بينها إلا حول هذا الموضوع. ليس هناك مشكلة في المحصلة في هذه الاتهامات، فهذا يمكن مناقشته والتعاطي معه، ويمكن أن يحدث تعديل أو تغيير في الآراء والمواقف من خلال الحوار، أو قد لا يحدث، لكن المشكلة هي في قرار الإعدام المرافق للاتهام عندما يحدث خلاف في الرأي حول هذا الموضوع، والذي قد يكون إعداما أخلاقياً أو وطنياً أو سياسياً، أو حتى جسدياً.

يمكن القول أن السياسة الخارجية الأمريكية خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وحتى سقوط الاتحاد السوفياتي، ونسبياً خلال الفترة الانتقالية ما بين عامي 1991 ـ 2001، قد ارتكزت في المنطقة العربية على محورين أساسيين، الأول دعم الأنظمة الاستبدادية، والثاني تشجيع التيارات الإسلامية المتطرفة، من أجل الحفاظ على مجموعة مصالحها الواضحة، والمتمثلة في منع القومية العربية من التشكل والتكون، وقطع الطريق على المد الشيوعي في المنطقة، وتأمين النفط، والحفاظ على وجود إسرائيل وأمنها.

هذه الثوابت في السياسة الأمريكية، سواء ما تعلق منها بالأهداف أو الوسائل، بدأت تتعرض لتغير نسبي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، لكنها بدأت بالتبلور فيما بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، عندما تحول ((الإرهاب)) إلى قوة عالمية مؤثرة في حياة المجتمعات والدول. وعلى الرغم من تحول ((مكافحة الإرهاب)) إلى ذريعة أمريكية تبتز من خلالها الدول، إلا أن ذلك لا ينفي حقيقة الخوف الأمريكي من ظاهرة ((الإرهاب))، الأمر الذي يفسر وضع مكافحته كأحد مرتكزات السياسة الخارجية الأمريكية. الاستبداد الذي حمته ورعته الولايات المتحدة في المنطقة طوال نصف قرن، أفرز الكثير من الغضب والكراهية للغرب وحضارته، وكان الحاضنة الحقيقية للعنف والإرهاب والسبب الرئيسي في تفجره ونموه وانتشاره، الأمر الذي جعل التخلص من الاستبداد أحد وسائل مكافحة ومحاصرة الإرهاب، فضلاً عن الحاجة الاقتصادية إلى فتح الأسواق العالمية التي لا تلتقي مع وجود الاستبداد.

تحولت السياسة الخارجية الأمريكية إذاً، على صعيد التوجه العام، من دعم الاستبداد نحو السير في تقويض دعائمه، والهدف في الحالتين واحد هو المصالح الإستراتيجية للولايات المتحدة والأمن القومي الأمريكي. في مرحلة دعم الاستبداد ساندت الولايات المتحدة شكلين من الأنظمة العربية، أو بالأحرى شكلين من الاستبداد، الاستبداد الموالي أو المتوافق معها صراحة وعلانية، والاستبداد المعارض لها، أو الذي يتوهم أنه معارض لها أو الذي يعارض في العلن ويوافق في السر. هل يعني هذا التحول من دعم الاستبداد إلى تسهيل التخلص منه، أن السياسة الخارجية الأمريكية أصبحت مع ((نقيضه))، أي مع الديمقراطية؟.

بداهة لا يمكن أن تكون أمريكا مع ديمقراطية متوافقة مع تصوراتنا، لكن يمكن القول إنها تقف مع شكل ما من الديمقراطية يتوافق مع ((التعددية السياسية))، وهذه الأخيرة شرط للديمقراطية، لكنها لا تتماثل معها، وهي محكومة بدرجة أو بأخرى بالمانح أو المعطي وعرضة للاستغلال من قبله، لكنها من جانب آخر قابلة للتطور والاغتناء، ومحكومة بشروط ومعطيات من الداخل. يوجد اليوم إذاً تقاطع محدد بين المصلحة الأمريكية في المنطقة ومطالب المعارضات الديمقراطية، وهذا يحدث دون سعي أو تأثير هذه الأخيرة. التوافق أو التقاطع في بعض المصالح لا يعني التطابق، كما لا يعني بالضرورة حدوث تنسيق أو تعاون بين الطرفين. من البديهي القول أن المشروع الأمريكي في المنطقة أكبر من دعم دمقرطتها وتحقيق التعددية. إنه أكبر مساحة وحجماً وامتداداً، وهو ليس من أجل سواد عيون شعوب المنطقة، لكن ينبغي الاعتراف أنه مهما كانت صدقية الخطاب الديمقراطي الأمريكي، ومهما كانت الدوافع الأمريكية، فإن لهذا الالتزام العلني أثر كبير في شق جدار الاستبداد، وفي خلق مناخات مناسبة للتحول الديمقراطي، لكن ليس هناك حتمية في حدوث ذلك، فهو رهن بنخب المنطقة وشعوبها التي قد تستطيع تحويل ((الديمقراطية العرجاء)) إلى ديمقراطية حقيقية. مهما كانت القدرات الأمريكية، سلباً أو إيجاباً فإنها تبقى محكومة بشروط الداخل، بما يعني أنها ليست كلية القدرة، من هنا نقول إن تعميم التجارب خطأ سياسي فادح، فقد تشترك التجارب في بعض العناصر، ولكنها بالضرورة لا يمكن أن تكون ذاتها في كل مرة. يضرب البعض مثلاً على السياسة الأمريكية الخرقاء في العراق، لكن هذه السياسة تعاملت، أو بالأحرى كانت مرغمة على أن تتعامل، بشكل مختلف في لبنان، وستكون مرغمة على التعامل بشكل آخر في مناطق أخرى.

أياً يكن فعل الخارج، فإنه سيبقى محكوماً بالمكونات الواقعية المختلفة من مكان لآخر. قد يسأل أحدنا: هل يعقل أن تكون الولايات المتحدة مع التوجه الديمقراطي في المنطقة، في الوقت الذي يمكن لهذا التوجه أن ينقلب ضدها؟. لقد دعمت أمريكا في السابق الاستبداد الذي حقق لها العديد من المصالح، ومنع شعوب المنطقة من التطور، لكنه تحول في المآل إلى منتج لأهم عقبة، أي الإرهاب، أمام المشروع العالمي للولايات المتحدة في دمج اقتصاديات العالم. ودعمت الولايات المتحدة في السابق التيارات الإسلامية المتطرفة، ولم تكن تدري أنها ستحول سلاحها ضدها في يوم من الأيام. إن مجمل هذه السياسات، بما فيها سياستها الداعمة للتوجهات الديمقراطية اليوم تتوافق مع الفهم الصائب للممارسة السياسية بوصفها من أقل الأفعال البشرية وثوقاً، وبوصفها تتضمن العديد من المراهنات على المستقبل، وربما من جانب آخر تريد الولايات المتحدة استغلال موجة التحول الديمقراطي في المنطقة والتحكم بها بعد أن تأكدت ملامحها وظهرت أجندتها. من جانب ثالث يبدو هدف دمج العالم في وحدة اقتصادية محورها الولايات المتحدة، أنه يتقبل وجود شئ من المعارضة لسياسة القوة الأكبر والأعظم، الواثقة من نفسها ومن قدراتها على التحكم بها عند الحاجة، خاصة أن الديمقراطية تسمح بوجود قوى سلمية على حساب القوى العنفية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى