الأربعاء ١٠ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٤
بقلم محمد خليل

نقـد النقـد في أدبنـا المحلـي ـ مقاربة عامة

* ملخص

تهدف الدراسة إلى الوقوف على واقع ((نقد النقد)) في أدبنا المحلي، في ضوء النقص الحاد الذي تعانيه مسيرة الحركة الأدبية والنقدية منها بخاصة. لم يحظ هذا الموضوع إلى الآن، باهتمام كتّاب النقد الأدبي المحلي، وخير دليل على ذلك، أن المتتبع لا يلحظ وجود كتاب خاص بنقد النقد.

تكمن وظيفة النقد الأدبي، في إضاءة جوانب النص الأدبي والكشف عنها من وجوه متعددة من أهمها: جمالية ومعرفية.
في حين، يمكن تعريف مهمة نقد النقد في الآتي: هو نشاط معرفي يقوم بمراجعة الأقوال النقدية كاشفاً عن سلامة مبادئها النظرية وأدواتها التحليلية وإجراءاتها التفسيرية والتأويلية.

في ضوء ذلك الواقع، تبدو الحاجة ماسة إلى وجود نقد النقد، وهذا يتطلب البدء بالتأسيس لهذا المشروع، لاسيما وقد مضى على عمر حركتنا الأدبية المحلية ما يزيد عن ستة عقود، علماً أن العمر الحقيقي للأدب لا يقاس بالزمن، لكنه بكل تأكيد لا يحدث خارجه.

تخلص الدراسة إلى: أن الطريق الأمثل للنهوض بالنقد الأدبي، هو وضعه موضع النقد والمساءلة.

قد لا يكون من نافل القول، التأكيد على أن هذه المقاربة تعرض لأحد روافد الثقافة الفلسطينية، تلك التي تطورت وتفاعلت على الرغم من التوزيع الديموغرافي القسري لشعبنا العربي الفلسطيني، المنتشر في الوطن المحتل وفي أقطار الوطن العربي، وسائر أرجاء العالم وبقاعه كافة، أما محصّلتها النهائية فتصب في نهر الثقافة الفلسطينية الواحدة والموحَّدة. فمهما تباينت هذه الروافد الأدبية أو تناسقت، سواء في داخل الوطن المحتل أو في خارجه فإنها ستظل تشكل وحدة واحدة، لأنها تصدر عن ذات واحدة، هي ذات الإنسان الفلسطيني أينما كان ومتى كان !

تتكشف، يومًا بعد يوم، الحاجة إلى ((نقد النقد)) لاسيما في ضوء النقص الحاد في هذا اللون، الذي تعانيه مسيرة الحركة الأدبية المحلية والنقدية منها بخاصة. الكتابة في ((نقد النقد)) ربما لم يتم التطرق إليها إلى الآن، بل إنها تكاد تكون شبه معدومة لدينا، فنحن لا نعثر لها على أثر تقريبا في مشهد أدبنا المحلي السائد، طبعًا باستثناء شذرات متفرقة ومبعثرة هنا وهناك، بين ثنايا الكتب أو المقالات، أو في الصحف والمجلات، لا تعدو كونها كتابات محدودة الجدوى، وغالبًا ما تنأى عن تقديم صورة صادقة للأثر الأدبي المنقود، كما تنقصها الشجاعة الأدبية والجرأة النقدية.

لم يحظ موضوع ((نقد النقد))، إلى الآن، باهتمام كتّاب النقد الأدبي المحلي، وخير دليل على ذلك، أن المتتبع لا يلحظ وجود كتاب خاص بـ ((نقد النقد)).

بقي ((نقد النقد))، لدينا، مغيّبا طوال هذا الوقت. فإذا كان النقد الأدبي، كما يبدو، لم يتطور بالمستوى الذي نرغبه جميعًا، ولم يشتدَّ عوده بعد كما يجب فكيف بـ ((نقد النقد)) ؟! إنه ما زال الحلقة الأضعف في المشهد الأدبي المحلي. كما لا نستبعد أن يكون سبب التأخير نابعًا من عدم إدراك أهمية الموضوع، وثمة سبب آخر، ألا وهو انعدام الجرأة التي
يتطلبها موضوع ((نقد النقد)) من جهة أخرى !

استأثر النقد الأدبي المحلي بنصيب غير قليل من الكتابات الاستعراضية والصور القلمية السريعة، التي يغلب الإعجاب على أكثرها. فقد أدلى كثيرون بدلوهم بكتابات جاءت في معظمها مقاربات أو عُجالات عامة، لم تلامس موضوع النقد الأدبي من الداخل بل آثرت ملامسته من الخارج فحسب، حيث طغى على معظمها أسلوب التعميم والتسطيح والتقريرية والمباشرة والإنشائية، ناهيك بإطلاق الأحكام المعيارية أي القيمية. علمًا أن النقد الأدبي الحقيقي يربأ بنفسه أو قل يتحاشى، قدر الإمكان، الخوض في ذلك، بغية الحصول على نص نقدي يشبه إلى حد كبير النص الأدبي لكل شيء، لا يقل إبداعًا عنه إن لم يكن يفوقه ! فإذا كان النص الأدبي يشتمل على التركيب أي البناء الإبداعي، فإن النقد الأدبي يشتمل على التحليل، والتفكيك، والتركيب، والبناء الإبداعي معًا، ناهيك بجوانبَ أخرى.

هكذا، لم ترقَ تلك الكتابات النقدية إلى المستوى الفني المطلوب، ولم تتحرّر من شرنقة النقد النمطي، بحيث تتمكن من توجيه مسارِ حركة النقد الأدبي المحلي الوجهة الصحيحة نحو صياغة رؤية نقدية واضحة المعالم، الأمر الذي قد يجعلها تقف في مصاف الظاهرة النقدية الحداثية، لكنها، بكل أسف، بقيت، في غالبيتها العظمى، تراوح مكانها.

وعلى الرغم من ذلك الواقع الصعب، فليس من الإنصاف أن يُنكر الباحث، على تلك المحاولات النقدية ما بذلته، وما تبذله من مجهودات محمودة المقاصد، وهي تشق طريقها الوعر الذي ما زال في بدايته. وحسب تلك النقود من ميزان حسناتها، أنها حرّكت ما كان ساكنًا، من مسيرة الحركة الأدبية والنقدية على حد سواء، فالحركة النقدية ليست خلوًا من النقود الأدبية المعتبرة، لاسيما ما ظهر منها في الثلاثة عقود الأخيرة تحديدًا.

إن المتتبع لمسيرة حركة النقد الأدبي المحلي في بلادنا، منذ بداياتها إلى الآن، يستطيع أن يلحظ محاولات نقدية مبكّرة جادّة، نشأت في أرض يباب، نهض بها، وأسّس لها نفر من الأدباء النقاد نذكر منهم، مثالاً لا حصرًا، من الرعيل الأول:
جبرا نقولا، وإميل توما، وعيسى لوباني، وحنا أبو حنا، وتوفيق زياد، وأحمد توفيق ريناوي، وطه محمد علي، ومحمود درويش.

ومن الرعيل الثاني: فاروق مواسي، ونبيه قاسم، ونعيم عرايدي، وحبيب بولس، وحسين حمزة، ورياض كامل، وعطا الله جبر، وآخرون.

ولا يُعدم، بإزاء ذلك، وجود الدراسات الأدبية التي تسير حسب المناهج الأكاديمية، وقد بدأت تتبوأ مكانة لائقة في الحياة الأدبية المحلية، نذكر من هؤلاء:

جورج قنازع، وفهد أبو خضرة، ومحمود غنايم، وسليمان جبران، وإبراهيم طه. هذه المجهودات الحثيثة يمكنها أن تقدّم دفعة قوية لأجل التسريع في نهوض الحركة الأدبية كافة والنقدية خاصة.

لقد نهض أولئك جميعًا بمحاولات لها قيمتها وأهميتها، لما تركته من أثر واضح في مسيرة الحركة الأدبية والنقدية المحلية، مع فهم لخصوصية واقعنا في مراحل معينة، حتى إنها تركت أياد بيضاء بارزة على طريق الحركة الأدبية والنقدية المحلية. إلا أن تلك الدراسات الأكاديمية منها والانطباعية تحديدًا، بقيت قاصرة عن مواكبة التطورات الجديدة في الأساليب والمناهج والمدارس النقدية، العربية والغربية سواءً بسواء !

وتتلخص وظيفة النقد الأدبي، في إضاءة جوانب النص الأدبي والكشف عنها من وجوه متعددة: جمالية ومعرفية، كما أجملها أحد الكتّاب قائلاً على النحو الآتي " تقويم العمل الأدبي من الناحية الفنية، وبيان قيمته الموضوعية وقيمته التعبيرية والشعورية، وتعيين مكانه في خط سير الأدب، وتحديد ما أضافه إلى التراث الأدبي في لغته، وفي العالم الأدبي كله، وقياسُ مدى تأثّره بالمحيط وتأثيره فيه، وتصوير سمات صاحبه وخصائصه الشعورية والتعبيرية وكشف العوامل النفسية التي اشتركت في تكوينه والعوامل الخارجية كذلك " (1).

ولا بأس أن تُعد، تجربة النقد الأدبي، فعالية إبداعية دينامية: اجتماعية وثقافية، مضيئة ومنتجة لا مستهلكة فحسب. بمعنى أن النقد الأدبي " يتفاعل مع النص ويحاول كشف أنساقه وعلاقاته الداخلية وتفاعلاته الذاتية والموضوعية، لكنه لا ينحصر بالنصوص بل يمتد إلى آفاق أكثر رحابة من أجل فهم أكثر للإنسان وفهم أفضل للعالم " (2).

في حين يمكن تعريف ((نقد النقد)) على النحو الآتي " هو نشاط معرفي ينصرف إلى مراجعة الأقوال النقدية، كاشفًا عن سلامة مبادئها النظرية وأدواتها التحليلية وإجراءاتها التفسيرية " (3).

ورأى آخر أن ((نقد النقد)) " يدور في معظمه حول نوع المعرفة التي يبتغيها الناقد، أو التي يمكنه الوصول إليها. ويتمثل ((نقد النقد)) في اتجاهات فكرية متعددة، أهمها ثلاثة: الاتجاه الفينومينولوجي… الاتجاه الثاني السيميولوجي (علم الرموز) الاتجاه الثالث النفسي " (4). وقد أُطلق عليه في النقد الغربي المعاصر (Meta-Criticism) ويُعنى بثقافة القارئ أو الناقد المختص وبمرجعياته المعرفية المتعددة من ثقافية ومهنية.

هكذا كثرت ((الأوراق النقدية)) لدينا حتى اشتبهت، واختلط الحابل بالنابل. فثمة من كتب في النقد الأدبي، وليس له شأن فيه، ذلك لأنه لا يملك من وسائله أو أدواته شيئًا. فكان كمن ينطبق عليه المثل الذي يقول ((يهرف بما لا يعرف)) ! ومنهم من كتب فيه، دون أن يفهم ظاهر النص وتفسيره كما يجب، فكيف له أن يفهم باطن النص، أو تأويله ؟! لاسيما لدى من يؤثر الرمز والإشارة على التصريح والعبارة، أو الانزياح مثلاً، أو أية مظاهر أخرى قد تعتري البِنية اللغوية لنص ما، كيف له أن يكتب في النقد الأدبي ناهيك بـ ((نقد النقد)) ؟! ومنهم من آثر أن يكتب المقالات الاستعراضية، التي تكاد تخلو من أي تفاعل أو تأثّر أو تأثير، ومنهم، وهم كثر، من كتب في تاريخ الأدب لا في نقد الأدب !

ولا يحتاج المتتبع، لبعض النقود الموجودة في متناول يدنا، إلى كبير جهد، حتى يتبين تلك المغالطات والتناقضات التي تعتريها، ما يؤكد على أن نقودًا كتلك، يمكن أن تُسيء للأدب أكثر مما تُفيد، لاسيما بعد أن تغيّرت الإجراءات النقدية تنظيرًا وتطبيقًا !

قد يكون النقص الحاد في النقد الأدبي الحقيقي من جهة، والحاجة الماسّة إليه من جهة أخرى، في مشهد الحركة الأدبية المحلية، هو الذي شكّل الدفيئة الحميمة، لمثل تلك الكتابات النقدية، وهو ما جعلها تطفو على السطح، على الرغم من أنها تفتقر إلى الحد الأدنى من مقاييس النقد الأدبي المنهجي، وآلياته الأساسية ! وتقف في جلّها عند مناهج النقد الاجتماعي والتاريخي والنفسي والتفسيري ولا تتخطاها، وتلك مناهج عفا عليها الزمن قد لا يصح الاكتفاء بها، لاسيما بعد التطورات والتحولات الكبرى، تلك التي أحدثتها وسائل الاتصال والتقنيات المعلوماتية الحديثة، والمدارس النقدية، ومناهجها المختلفة: الأسلوبية، والألسنية، والبِنيوية، والعلوم الإنسانية الحديثة الخ...!

إن الكتابة في النقد الأدبي مهمة ليست سهلة، ولا تنقاد بسرعة لكل من يطلبها. إنها فعالية إبداعية صعبة للغاية وبطيئة جدًا، لكن في غياب المراقبة والتحكيمِ يصبح كل شيء مباحًا ! هنالك حاجة ماسّة إلى توسيع حدود آفاق المرجعية النقدية بشقيها: المهني والثقافي بُغية إثراء هذه التجربة النقدية، كي تصبح تجربة ناضجة. علمًا أن كل كتابةٍ، هي التي تدل على كاتبها، وهي التي تتحدث عن نفسها بنفسها، وهي التي يجب أن تثبت نفسها وصاحبها، النقد الأدبي وبمعنى آخر النقد الثقافي يكشف، بالضرورة، عن وعي الناقد وثقافته ومعرفته وإبداعه !

يقول فولتير في الناقد " الناقد الممتاز هو الفنان الجزيل العلم، الغزير الذوق، البعيد عن الغرض والحسد، ولكن هذا صعب وجوده " (5) !

من هنا، لا نستبعد أن يكون أحد أسباب عدم تطور النقد الأدبي المحلي بالمستوى المطلوب، وما يعتريه من أزمة حقيقية تعيق تطوره، هو هو غياب ((نقد النقد)) ! أما فقدان المناخ الملائم من حريات الفكر والتعبير، فكان شوكة أخرى في خاصرة النقد الأدبي المحلي، كأن لسان الحال هذا السؤال: أنا أخشاك فكيف أجرؤ على نقدك ؟!

وبسبب الظروف القسرية التي فرضت على أبناء شعبنا في الداخل، مباشرة بعد وقوع النكبة عام 1948، وما تبعها من أنظمة الحكم العسكري الجائرة وسياسة العزل والحصار وإغلاق للحدود على أدبنا المحلي بما فيه النقد الأدبي، فقد حيل دون متابعته أو ملاحقة تطوره وتقويمه من الأشقاء في أقطار الوطن العربي خارج الحدود، ناهيك بأسباب أخرى، يضيق المجال هنا عن تعدادها !

في هذا السياق، ومن باب الإشارة فقط، لا من باب تعزية الذات يُشار إلى أن واقعَ حال ((نقد النقد)) لدينا، قد لا يختلف عنه في سائر أرجاء الوطن العربي، فمظاهر هذا الضعف موجودة أيضا على مستوى النقد الأدبي العربي، مما حدا بأحدهم إلى أن يشير " إلى تلكَ الثغرة المتمثلة في ضعف نقد النقد " (6) وأن يعلن في مرحلة لاحقة " إن وعيَ النقدِ لذاته ضرورة لازمة. ولعل لنا أن نتساءل عن الناقد العربي الذي جسّد تواضع وشجاعة النقد الذاتي حتى الآن ؟ " (7).

لم ينهض، إلى الآن، هذا اللون الأدبي، أعني ((نقد النقد))، بشكل قوي وواضح ولم تكتمل بعد معالم الكتابة فيه، لذلك يقول أحدهم بأن " خطاب نقد النقد، والتنظير في الثقافة العربية لا يملك قوة انتظامه الذاتية ولا يملك مرجعية، بل لا يملك فرضيات عمل نابعة من صميم الثقافة العربية ومن صميم الممارسة الإبداعية والفكرية الخاصة به " (8) ! ثم لا يتردّد أن يقرر بأن مفهوم ((نقد النقد)) ما زال في مرحلة النشوء أي البداية، حيث يقول " إن مفهوم ((نقد النقد)) إلى يومنا هذا ما زال ((مفهومًا)) يشيّد ويبنى " (9) !

وكان من الطبيعي في ظل مثل تلك الأجواء، لاسيما في غياب ((نقد النقد))، وما فيه من مساءلة أو ((محاكمة)) أن تسود النقود النمطية التي تكتفي بالتقليد والإتباع، بدل التجديد والإبداع !

فيما يأتي بعضُ الأمثلة، التي أزعم أنها تحتاج إلى المراجعة وإعادة النظر. وبما أنها تشكل جزءًا لا يتجزّأ من تجليات النقد الأدبي المحلي، فإنها يُمكن أن تقدّم صورة مصغّرة للإشكالية المطروحة.

* المثال الأول: يقول الأديب الراحل إميل حبيبي، في سياق تصوره للأدب الذي ينشده أو يدعو إليه في مرحلة ما بعد النكبة " إننا نستهدف أدبًا يخدم الشعب في نضاله نحو مستقبله، أدبًا يثير الوعيَ الذاتي في نفوس الشعب، ويمنح الشعبَ فهمَ دوره وفهم العالم المحيط به وفهمَ التناقض الأساسي القائم في المجتمع، بين غامسي اللقمة بعرق الجبين وسارقي هذه اللقمة " (10). من الواضح أن هذا الأدب الذي يدعو إليه حبيبي طبقي، فهو يدعو إلى مكافحة الطبقية ! تُرى هل كان الصراع في بلادنا، يومًا ما، طبقيًا ؟!

* المثال الثاني: عن الفصل بين النص وصاحبه، يقول الناقد نبيه القاسم " أنا ضد هذا التوجه... أنا لا أرضى بفصل الكاتب عما يكتب، وأعتقد أن الكاتب الذي يكتب شيئًا لا يمارسه ولا يؤمن به يجب أن يُكشف " (11) !

قد لا يختلف اثنان بأن موضوع النقد الأدبي هو النص الأدبي. ما يعني الناقد الأدبي بالدرجة الأولى هو عالم النص ومدى أصالته، لا عالم صاحبه ! أليست قيمة النص في ذاته لا في صاحبه ؟! ربّ تساؤل يتبادر: لماذا يُمنح الناقد الحق بأن يكشف عن هُوية الكاتب ويهتك دخيلته، في حين يُمنع منه الكاتب ؟! ألم يكن من الإنصاف والعدل المساواة بينهما، بشكل متبادل، فيتسنّى للكاتب أن يرفع الشعار ذاته، في وجه الناقد ويسأله: لماذا لا يمارس ما ينادي به في نقده الأدبي، على أرض الواقع ؟! الأدبُ الحقيقي والنقد الحقيقي يجب أن لا يخضعا لأي قيد أو شرط !

يقول الراحل جبرا إبراهيم جبرا في مرحلة ما من مراحل أدبياته " أما التقييم الحقيقي للعمل الفني فهو العمل نفسه. ليس المهم أن نعرف من هو ((هوميروس)) وإنما المهم أن نعرف ما هي ((الإلياذة))، لا يهمنا أن نعرف من هو شكسبير وإنما يهمنا أن نعرف ما ((هاملت)) " (12). من هنا أمكن القول: إن الناقد الحق يجب أن يُعنى، بالدرجة الأولى، بهُوية النص وإذا أمكن بسياقه، لا بهوية مبدعه ! لكن ليس إلى الحد الذي يدعو إليه ((رولان بارت)) في شعاره المتمثّل بـ ((موت
المؤلف))، أو ((لا شيء خارج النص)) !

* المثال الثالث: يقول شموئيل موريه، أستاذ الأدب العربي الحديث في الجامعة العبرية: " عندما تنبّه أدباء الدول العربية ونقادها إلى [على] هذا الأدب العربي...، أطلقوا عليه خطأً اسم ((أدب المقاومة)) لأن غالبه أدب سياسي، تناول عوامل وأحداثًا تزول أهميتها بزوال بواعثها. فالأشعار والقصص التي تحدثت عن الحكم العسكري، زالت أهميتها بإلغاء الحكم العسكري، إذ أن الأدب الخالد هو الأدب الإنساني الذي يلائم كل مجتمع وبيئة وعصر " (13) !

وليس هذا الرأي مما يحتمل الرد أو المناقشة، في تقديري، ومع ذلك أقول: تعدُّ الكتابة، شكلاً من أشكال المقاومة، وبالتالي فإن سلاح الكلمة لا يقل مضاءً عن أي سلاح. بالإضافة إلى أن الكلمة هي فعل المقاومة الدائم، يقول محمود درويش:

" لم نكن قبلَ حزيرانَ كأفراخ الحمامْ
ولذا، لم يتفتّت حُبُنا بين السلاسلْ
نحن يا أختاه، من عشرينَ عامْ
نحن لا نكتبُ أشعارًا،
ولكنا نقاتلْ " (14) !

مع ذلك، يحسب المرء أن الكاتبَ قد جانب الصواب، أيضًا حين تجاهل إحدى أهم سمات هذا الأدب وهي الخصوصية الزمكانية، أو أن تكون له دوافع أخرى ! وهذا ما نرجّحه ! فالأعمال الأدبية الخالدة لدى مختلف الشعوب، لاسيما تلك التي أبدعتها في ظل المقاومة، سواءً أكانت سرية أم علنية أم عشية الثورة، وخطتْها بمداد القلوب، وبأحرف من نور، قطعًا لم تفقد من قيمتها قيد أنملة، والعكس صحيح. مثال ذلك أدب الثورة الجزائرية وأدب عشية الثورة الفرنسية، الذي بشّر بها ومهّد لها، وكذا في روسيا، فهل زالت تلك الآداب مع زوال بواعثها ؟! الحق أن تلك الآداب ما زالت تدرّس، إلى الآن، في الجامعات والمعاهد العليا، وفي أرجاء المعمورة كافة ! فالأدب، كما هو معروف، لا يحدث إلا في سياق اجتماعي، يستحيل تجاوزه، وبالتالي لا يُمكن فهم هذا الأدب دون فهم الواقع الذي أفرزه ! لكن كما يبدو، فإن الكاتب كان مُحرجًا من هذا الأدب، وأثره القوي في كشف النهج القمعي الفاضح للسلطات الإسرائيلية وإدانتها الصارخة، أمام
العالم كله، فقلّل من أهميته، وبالتالي نحن لا نستغرب منه هذا الموقف !

ويلحظ المرء، وكل متمعّن لمسيرة الحركة الأدبية والنقدية لدينا أن محنة الحركة الأدبية المحلية، تكمن في النقد الأدبي، فطالما بقي النقد الأدبي قاصرًا سوف تبقى الحركة الأدبية بطيئة النمو والتطور ودون المستوى. إننا نلمس ملامح تدل على تقدم الأدب المحلي من حيث مستواه الفني. أقول ذلك على الرغم مما نشهده من إغراق الحركة الأدبية المحلية، لاسيما في الآونة الأخيرة، بالكتابات الهابطة والسيولة المفرطة وعلى الرغم من خلو معظمها من أي إبداع حقيقي، ذلك لأنها لا تلامس حياة الفرد ولا تخاطب روحه أو وجدانه.

إن جمال المضمون وجمال الشكل شرطان أساسيان للأدب الخالد ! وقديمًا قال الشاعر الروماني ((هوراس 65 ق. م.–8 ق. م.)) " إن للأدب وظيفتين: النفع والإمتاع، أما النفع في الأدب فهو في موضوعه، وأما الممتع فيه فهو شكله " !
ففي غياب المراقبة والنقد و((نقد النقد))، أصبحت تلك الكتابات ظاهرة فاشية بات من الصعوبة مكافحتها، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى أدب إبداعي ونوعي، شكلاً ومضمونًا، ينهض من دوائره الضيقة إلى دوائر أرحب، مستلهما حقيقة واقعنا ومستشرفًا أفاق المستقبل.
في ضوء ذلك الواقع كله، وبعد انقضاء ما يزيد على ستة عقود على عمر حركتنا الأدبية منذ النكبة إلى الآن، نحن بحاجة ماسّة إلى ((نقد النقد))، وبحاجة أيضًا إلى بدء التأسيس لهذا المشروع، على الرغم من أن العمر الحقيقي للأدب لا يُقاس بالزمن، لكنه بكل تأكيد لا يحدث خارجه. أخيرًا، إن وضع النقد الأدبي موضع النقد والمساءلة لهو الطريق الأمثل للنهوض به !

 هـوامش:

قطب، سيد: النقد الأدبي، أصوله ومناهجه، دار الفكر العربي، ص5، القاهرة، 1947.
ماضي، شكري عزيز: من إشكاليات النقد العربي الجديد، ص15، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1997.
عصفور، جابر: قراءة التراث النقدي، ص1، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، القاهرة، 1994.
عياد، شكري: دائرة الإبداع، مقدمة في أصول النقد، ص46-48، القاهرة، 1987.
عبود، مارون: دمقس وأرجوان، تعليقات على هامش الشعر المعاصر، ط3، ص292، بيروت، 1966.
سليمان، نبيل: مساهمة في نقد النقد الأدبي، ط2، ص5، دار الحوار للنشر والتوزيع، سوريا، 1986.
سليمان، نبيل: في الإبداع والنقد، ص155، دار الحوار للنشر والتوزيع سوريا، 1989.
الدغمومي، محمد: نقد النقد، ص295، منشورات كلية الآداب، الرباط، 1999.
نفسه: ص113.
(10 الجديد، مجلة، حيفا، عدد كانون الثاني، ص40، 1954.
11) الأفق، مجلة، شفاعمرو، السنة، عدد3، ص16، شباط/آذار 1988.
21) جبرا، إبراهيم جبرا: ينابيع الرؤيا، دراسات نقدية، ص74، بيروت 1979. لكن اللافت، أن جبرا لم يبق على رأيه فكتب يقول " مهما دعا الناقد الحديث إلى فصل النص عن كاتبه، كفصل الرقص عن الراقص. فإنه حين يعيد النظر في شعر بدر شاكر السياب، يجد أن هذه القاعدة تتمرد عليه، إذ يصعب عليه أن يفصل الشعر عن الشاعر، بل إنه يظلم كليهما إن فعل "، معايشة النمرة وأوراق أخرى، ص83، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1992.
13) موريه، شموئيل: فهرس المطبوعات العربية (1948-1972)، ص13 القدس، 1974.
14) درويش، محمود: يوميات جرح فلسطيني [إلى فدوى طوقان] الديوان، ط14، مجلد1، ص342، دار العودة، بيروت، 1994. يُنظر إلى ذاك الشعر في سياقه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى