الجمعة ١٢ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٤
بقلم محمد هيبي

ميسون أسدي تحمّل توت الأرض همومها الذاتيّة والجمعية

لا يُولد الإنسان كاتبا بالفطرة، ولكنّه بالفطرة يولد محبّا للحياة وعاشقا للحرية. لذلك، فور خروجه إلى هذا العالم، يصرخ صرخته الأولى رفضا للقيد واحتفاء بالحرية. والكتابة بشكل عام، هي وسيلة من وسائل التعبير عن الحرية. فما بالك عندما لا يبقى للإنسان غيرها؟! الكاتبة ميسون أسدي، بدأت مشوارها الأدبي بكتابة القصة القصيرة، لجأت إلى كتابة الرواية، لأنّها على ما يبدو من حيث المضمون، تريد للصرخة أن تكون مدوية بحيث تُسمع من بهم صمم، أمّا من حيث الشكل، يظهر أنّها أدركت أيضا أنّ قضايا مجتمع الأقلية العربية في إسرائيل، فيها من التعقيد أكثر من أن تتسع له قصة أو مجموعة قصص قصيرة. كما يظهر أنّها أدركت أنّ الرواية هي الجنس الأدبي الوحيد، الذي يلائم ذلك التعقيد. ورغم ذلك، وكما يظهر من روايتها، أرى أنّ الانتقال جاء مبكّرا، إن لم يكن متسرّعا، إذ لا أرى فرقا ملموسا بين ما قدّمته الأسدي في قصصها القصيرة، وما تقدّمه في روايتها، سوى حجم الدفقة أو الدفقات التي حاولت الكاتبة التحرّر منها مرة واحدة. فقد ظلّت الكاتبة تفتقر إلى حذق الصنعة الذي تعاني منه حتى في كثير من قصصها القصيرة التي لم تنضج بعدُ من حيث الشكل الفنّي بما فيه الكفاية. من هنا، جاءت الرواية حافلة بالسّقطات البنائية واللغوية بحيث لا يشفع للكاتبة كون "مثلث توت الأرض" هي عملها الروائي الأول.

النقد الأدبي مهمته أن يُعالج النص الأدبي ويبرز ما قدّمه الكاتب في نصّه سلبا أو إيجابا. ولذا، جدير بالذكر هنا أنّ النقد والتحليل هو للنص وشخصياته وأحداثه وليس للكاتب، ولكنّ الكاتب يُحاكَم من خلال معالجة نصّه ونقده وتحليله، أي في إطاره وليس بمعزل عنه: أين أبدع، وأين تعثّر إبداعه؟ لأنّ النص الروائي الذي كتبته ونشرته ميسون أسدي، كغيره من النصوص، أصبح بالنسبة لها نصّا مغلقا لا تملك له تغييرا بعدما طرحته بين أيدي القراء الذين بالنسبة لهم يظلّ النصّ مفتوحا إلى ما شاء الله. رواية "مثلث توت الأرض"، رغم ما فيها من أخطاء أسلوبية ولغوية، جاءت تعبيرا مضطربا، صادقا في كثير من جوانبه، فيه إبداع لواقع مضطرب، تبدو الحياة في ظاهره بسيطة بساطة أسلوب الكاتبة، ولكن في باطنه، تعتمل وتتضارب صراعات وتناقضات تفرض على السطح أقنعة مزيّفة، لامس النص الكثير منها وأسقطه.

الشكل الفنّي واللغة

يبدو أنّ المخزون المتراكم لدى الكاتبة تفجّر قبل نضوج قدرتها على بناء حبكة روائية متينة. لذا، جاءت أحداث الرواية في أكثر من موضع، تفتقر للترابط السببي والزمني. الرواية عادة تطرح أسئلة وليس مطلوبا منها أن تُقدّم أجوبة. لذلك، لا ينتقص من "مثلث توت الأرض" أن يظلّ سؤالها مفتوحا: ما الذي دفع بالبطلة إلى تلك الحالة النفسية التي وقعت فيها: هل هي الوراثة؟ فالبطلة تُؤكّد في أكثر من موقع أنّ معظم أفراد عائلتها مرّوا بحالات مشابهة؟ هل هو مقتل ابنة عمّها الذي يُحيل إلى ظلم المرأة في المجتمع الذكوري وسهولة ممارسته وتقبّله لقمعها؟ هل هو الحرمان العاطفي وعدم الزواج؟ هل هي السياسة العنصرية وممارسات الظلم والقمع التي تُمارسها السلطة في إسرائيل بحقّ الإنسان العربي؟ أم أنّ السبب هو كل ذلك مجتمعا؟

أمّا لغة الرواية، فقد جاءت مباشِرة تُعاني من الضعف والترهّل والتقعّر في أكثر من موضع، بحيث لم تُضف الكثير لجمالية الرواية. من المعروف أنّ الموضوع الواحد يمكن أن يطرقه عدد كبير من الكتّاب، فما الذي يبقى للتميّز؟ إنّه بلا شكّ أسلوب البناء، وكذلك اللغة، لغة الكاتب التي هي المادة الخام لذلك البناء.

السرد وتعدّد الأصوات

العنوان، "مثلث توت الأرض"، كعتبة أولى للسرد، عبارة موفّقة فيها الكثير من الإثارة والتشويق، يدفعان باتجاه النص لمعرفة الرابط الذي توحي به لغة الإضافة التي تربط بين مفردات العبارة الثلاثية للعنوان. لفظة "مثلث" تُحيل في ظاهرها إلى منطقة "المثلث"، ولكنّها في عمقها توحي بالتعقيد، فهي إشارة إلى ما في مشكلة البطلة من تعقيد اجتماعي واقتصادي وسياسي، سواء كان ذلك على المستوى الشخصي أو على مستوى المرأة العربية عامة أو مستوى الأقلية العربية في إسرائيل. بينما لفظة "توت" توحي بالشخصي والاجتماعي والاقتصادي: الشخصي يحيل إلى البطلة خاصة والمرأة عامة، فحمرة "توت الأرض" وتماثلها مع حمرة شفتي المرأة، فيها تعبير صارخ عن الأنوثة التي تحيل إلى الشهوة الجنسية، وكثرة حديث البطلة عن علاقاتها الجنسية تشهد بذلك. والاجتماعي يحيل إلى مصدر الرزق كرابط اجتماعي بين أفراد العائلة، أو الاقتصاد كرابط اجتماعي بين أفراد الشعب، والاقتصادي يحيل إلى الزراعة التي ما زالت تشكّل مصدر رزق أساسي في حياة الأقلية العربية في إسرائيل رغم كل تحوّلاتها، بما في ذلك اغتصاب حكومات إسرائيل للأرض. ولفظة "الأرض" تحيل إلى الجغرافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي، الخاص والعام. الأرض هي الوطن، وهي الهوية والانتماء، وهي مصدر الرزق، وهي المتنازع عليها مع السلطة. تمسّك العربي بها ودفاعه عنها هو دفاع عن الهوية والوجود. العنوان، "مثلث توت الأرض"، قريب لفظا من "مثلث يوم الأرض"، (القرى الثلاث في الجليل: سخنين وعرابة ودير حنا، التي قدّمت في يوم الأرض 1976، الشهداء الذين حرّروا بدمائهم أرض الملّ، أو ما يُعرف بالمنطقة 9). هذا القرب يشي بأنّ الاختيار لم يكن عشوائيا، وإنّما أملاه وعي سياسي واجتماعي لظروف الأقلية العربية ومشاكلها. و"مثلث توت الأرض"، المثلث الجغرافي والديمغرافي العربي في إسرائيل، منطقة "المثلث" التي اشتهرت بزراعة "توت الأرض"، هي أحد أضلاعه، فهي رابط جغرافي بين الجليل والنقب تُشكّل معهما المثلث الديمغرافي العربي الكبير في إسرائيل: الجليل والمثلث والنقب، أي المناطق أو التجمّعات السكانية الثلاث التي يقطنها العرب في إسرائيل، وما زالوا يحافظون فيها على ملكيّتهم الخاصة لجزء من أراضيهم.

اتخذت الكاتبة من تقديم قضيتها للقضاء ضد المجتمع، حاملا للسرد. لم تذكر تقديم القضية ضد دولة إسرائيل، كما فعل المعيد في نهاية الرواية. التصريح بتقديم القضية للقضاء في بداية الرواية وعدم القيام بذلك حتى نهايتها، يشي بأنّ الكاتبة أرادت التعبير عن حاجتنا لإدراك الظلم الذي نُلحقه بأنفسنا، ومقاضاة أنفسنا، أي مقاضاة المجتمع العربي لنفسه أولا. وثانيا، مقاضاة من يُلحِق بنا الظلم، الذي نسكت عنه نتيجة ظلمنا لأنفسنا، أي مقاضاة دولة إسرائيل كما صرّح المعيد بذلك في نهاية الرواية (ص 211).

قسمت الكاتبة روايتها إلى أوراق شبيهة بليالي "ألف ليلة وليلة"، وألحقت بها ملاحظات "المعيد" الذي يلعب دور "شهرزاد" كما سأبيّن لاحقا. كانت أحيانا تُلحق ملاحظات المعيد وتعليقاته في بداية الورقة التالية بدل أن تلحِقها في نهاية الورقة السابقة التي تعود إليها الملاحظات والتعليقات. بالإضافة إلى ذلك هناك الكثير مما يشي باختلال المبنى والتقسيم، خاصة في نهاية الرواية. الورقتان الأخيرتان لم تكونا ضمن الملف. هذا ما يُفهم من الحوار بين "رجاء" والمعيد الذي طلب مقابلتها ليستوضح أمورا لم يفهمها من أوراقها، أو لم تكن مكتوبة فيها. يقول: "أريد أن ألتقي بك فهناك بعض النقاط غير المفهومة" (ص 199). والمفروض أنّ "رجاء" قدّمت له قضية كاملة متكاملة، لأنّها، كما يظهر، كانت تستشعر نهايتها على نحو ما. يُؤكّد ذلك قولها: "عندما تنتهي من قراءة أوراقي فسأكون قد دلفت إلى عالم الظلام" (ص 211)، ودخولها الغيبوبة، كما جاء على لسان الراوي العليم في الصفحتيْن الأخيرتين من الرواية.

"رجاء"، أثناء لقائها بالمعيد، وضّحت له بعض الأمور حول الأمراض النفسية التي يُعاني منها أفراد عائلتها، ما يُؤكّد أنّ كل ما سردته في أوراقها حتى الآن لم يكن كافيا، بدليل أنّه "لم يعقب على ما قالته (في اللقاء) فهذا ما أراد سماعه، وهو غير مدوّن بأوراقها!!!" (ص 207). في اللقاء نفسه، تقصّ عليه حكايتي أختيها: "نهلة" (ص 202)، و"عواطف" (ص 207)، في ورقتين منفصلتين تحملان الرقم (50) و(51)، لم تبرزهما كما اعتادت إبراز الخط في السرد خارج أوراقها المقدّمة للمعيد، فتظهر القصّتان وكأنهما جزء من الملف الذي قدّمته للمعيد في بداية الرواية. وهما، كما ذكرت سابقا، ليستا كذلك، ما يدلّ على أنّ الملف المقدّم للمعيد كان ناقصا. بعد اللقاء يعود المعيد إلى متابعة الأوراق من "حيث توقّف بالأمس متأمّلا أن يجد شيئا يُؤكّد ما سمعه من رجاء ولم تكتبه بعد (أو لم يقرأه بعد)" (ص 208). هذا الكلام يتناقض مع ما سبق أن ذكره المعيد، "هذا ما أراد سماعه، وهو غير مدوّن بأوراقها!!!" (ص 207)، ويُؤكّد أيضا أنّ الأوراق لم تنتهِ، وإلّا فلماذا يطلب المعيد لقاء "رجاء"؟ قد يكون ما أراد معرفته، فيما لم يقرأه بعد! المنطق يقول أنّ المعيد كان يجب أن يُنهي قراءة الملفّ قبل طلب اللقاء أثناء قراءته للورقة رقم (49)، التي من المفروض أنها كانت الأخيرة في الملف المقدّم له. وعندما يعود إلى تلك الورقة، يقرأ فيها حكاية بعنوان "قصورهم هي قبورهم"، لم تحمل رقما، مع أنّها تستحقّ ذلك، فموضوعها بعيد عن موضوع الورقة التي تضمّنتها. وبعد الانتهاء منها "سجّل المعيد ملاحظته ... وانتقل إلى الورقة التالية" (ص 209)، ولم تكن هناك ورقة جديدة، وإنّما جزء من الورقة (49)، يحمل العنوان "لا بيت لي!"، ولا يحمل رقما كورقة، مع أنّه جدير بذلك أيضا. يبدو أنّ الكاتبة، في مرحلة من مراحل الكتابة، غاب عن وعيها الفرق بين أوراق الرواية وصفحات الملفّ. بالإضافة إلى ذلك، تعترف الكاتبة، على لسان بطلتها، بوجود أوراق يُمكن إهمالها. تقول في رسالة للمعيد: "يُمكنك إلقاء بعض الوريقات التي لا تهمّك، ثم الانتقال إلى لبّ الموضوع، وهو سقوطي في الهاوية وبلا رحمة" (ص 67). هذه الأوراق التي لا تخدم موضوع الرواية أو قضية بطلتها، لم تزد عن كونها حشوا أصاب الرواية بالترهّل الذي أرهق المعيد والقارئ. في الأوراق الأخيرة أيضا، هناك تداخل غير منطقي في الزمن، سأبيّنه لاحقا.
ومما ينتقص من الرواية شكلا ومضمونا أيضا، أنّ البطلة قدّمت للمعيد ملفا ناقصا لا يصلح لتقديم قضية للقضاء، وذلك باعتراف البطلة أنّ لديها وثائق رسمية تخدم الملف لم تقدّمها للمعيد. تقول للمعيد: "أمّا بالنسبة للوثائق الرسمية المتعلقة بما ستقرأه في الملف فسأجلبها فيما بعد إذا دخلنا في القضية أمام القضاء" (ص 19). هذا الكلام يتضارب ويتناقض مع ما قالته "رجاء" في الورقة (49) التي من المفروض أن تكون الورقة الأخيرة: "عندما تنتهي من قراءة أوراقي فسأكون قد دلفت إلى عالم الظلام" (ص 211). هل يُقدّم للقضاء ملف بدون وثائق رسمية؟ وكيف سيحصل المعيد على تلك الوثائق الرسمية وصاحبة الملف أصبحت في عالم الظلام؟ وأكثر من ذلك: ما هي تلك الوثائق؟ لماذا لم تورد الكاتبة تلك الوثائق، كلها أو بعضها، في أوراق البطلة؟ ألم تحرم بذلك روايتها من جانب توثيقي قد يرفع من أسهمها شكلا ومضمونا، خاصة إذا أحسنت الربط بين الوثيقة والشكل الفني؟ أم أنّ تقديم الملف للقضاء كان مجرد واجهة أو ذريعة أو خدعة أو خدعة فنيّة لتشويق المعيد والقارئ لضمان قراءتهما للأوراق والرواية؟

يتولّى سرد أحداث الرواية راوٍ عليم (كليّ المعرفة)، ولكنّه لا يستأثر بالسرد. فهو يُفسح المجال للمعيد لقراءة الأوراق وإبداء ملاحظاته حولها. ويُتيح للبطلة أن تسرد، بضمير المتكلّم، أوراقها التي هي لبّ الرواية، تضعها البطلة بين يدي المعيد، لتطلعنا بشكل مباشر على معاناتها. وتترك للقارئ مهمّة استخلاص الأسباب الحقيقية لتلك المعاناة.
ربما استطاع الراوي العليم أن يُشكّل حلقة وصل بين القارئ والكاتبة من جهة، وبين القارئ والنص من جهة أخرى، ولكنه عجز عن أن يقدّم لنا رؤية الكاتبة أو أيديولوجيتها، إلّا ما نستشفه من الصفحتين الأخيرتين، وهو أنّ المجتمع العربي في إسرائيل، ودولة إسرائيل كذلك، يحقنان المرأة والإنسان العربي عامة، وكذلك الأقلية العربية، بحُقن تشوّش تفكيرهم السليم وتُدخلهما في غيبوبة مقصودة تعمل على إلّا يُفيقان منها.

تعدّد الأصوات، وإن كان يعبّر عن حرية وديمقراطية تُؤمن بهما الكاتبة، إلّا أنّها لم تنجح في صقل شخصياتها، خاصة تلك التي تتولّى السرد، بشكل يتناغم مع الأهداف التي خُلقت لها. فالراوي العليم لم يزد عن كونه ساردا أو مُفتَتِحا لسرد لم نستطع استخلاص علاقته به إلّا من خلال توقّعنا أنّه يُمثّل صوت الكاتبة، ولكنّ صوت هذه الأخيرة نجد صداه أكثر في صوت البطلة، ما يدفعني للاعتقاد أنّ الأصوات الثلاثة هي صوت واحد، يتداخل وينفصل عند الحاجة. ودور الراوي العليم فيه لا يزيد عن افتتاح السرد وإغلاقه. أما شخصية المعيد كسارد لأوراق البطلة ومعلّق عليها، فقد ظلّت سلبية قتلها التردّد في القراءة وصعوبة اتخاذ موقف يكون له تأثيره بعد القراءة، خاصة وقد عبّر عن عجزه سلفا عندما قال لـ "رجاء": "مع أنني متأكّد من الآن (قبل قراءة الأوراق) بأنّ النصيحة (التي سيقدّمها لها بعد قراءة الأوراق) ستكون بالتنازل عن القضية" (ص 19). كما أنّه يجب الأخذ بعين الاعتبار أنّ البطلة هي السارد الحقيقي للأوراق، ولذلك جاءت لغتها مضطربة اضطراب نفسيتها، نتيجة وقوعها في تلك الحالة من الهلوسة والاكتئاب. ولكنّ اضطراب لغة الرواية ككل هو نتيجة اضطراب لغة الكاتبة.

لجأت الكاتبة إلى اٍسلوب "ألف ليلة وليلة"، لأنّها ترى أنّ حياتنا، والقصص التي تتناسل منها، لا تختلف بكثرتها وغرابتها وسرعة تناسلها، عن قصص "ألف ليلة وليلة". بعض الأوراق لا يربطها بالأوراق الأخرى إلّا شخصية البطلة، وشخصية المعيد كقارئ ومعلّق عليها. المعيد يأخذ في الرواية موقع "شهرزاد". لقد جعلت الكاتبة من "شهرزاد" حكاياتها ذَكَرا، رجلا وليس امرأة. المعيد يسرد قصص "رجاء" من خلال قراءته لأوراقها كما تسرد "شهرزاد" حكايات الليالي. على ما يبدو، الأمر نابع من لاوعي الكاتبة التي تريد للرجل أن يرى معاناتها الحقيقية من زاويتها هي. وليس عبثا جعلته متردّدا، كإشارة إلى تردّد المجتمع الذكوري في التعامل مع قضية المرأة والكشف عن أسبابها، لأنّه يعرف أنّه هو السبب. وتردّده نابع من كونه يعرف أنّ الاهتمام سيضعه في مواجهة اجتماعية وسياسية يرفضها أو يتهرّب منها، لأنّه عاجز عن تحمّل تبعاتها. ولذلك فهو لا يفعل إلّا ما دُفع لفعله دفعا.

الدمج بين أسلوب "ألف ليلة وليلة" وبين الأسلوب الصحفي، فيه شيء من الجدّة والتميّز. الأول أعطى للرواية بعضا من متعة السرد وروح المفاجأة، والثاني أعطى السرد حركته الدرامية السريعة. من هنا يبدو واضحا تأثّر الكاتبة، من جهة بحكايات "ألف ليلة وليلة" ومن جهة أخرى بعملها الصحفي. ولكن، الأسلوب الصحفي، الذي أعطى للأحداث حركتها الدراميّة التي تُمسك بالقارئ، سلب الكاتبة وبطلة روايتها القدرة على الحفر في أعماق الذات والبوح الذي يرجوه القارئ. فقد مرّت الكاتبة مرورا سطحيا سريعا، وبلغة صحفية مباشرة ورديئة غالبا، على القصص أو الأحداث التي لم نفهم الهدف من سرد بعضها. مثلا، تشبيه "رجاء" لأختها "سهام" بالخروف في الورقة (4)، أو قعود أختها "تمام" على الصاج وحرق قفاها في الورقة (12). وقد حملت كل قصة منهما عنوان الورقة رغم سرد كل منهما ضمن ورقة تضمّ قصصا أو أخبارا كثيرة، يصلح كل منها لحمل العنوان.

لم تستثمر الكاتبة "الراوي العليم" بشكل يتلاءم مع حاجة الرواية إليه. فهو من حيث السرد، كما أسلفت، لم يزد على افتتاح السرد وتقديم القليل الذي لم تتضمنه الأوراق، إلى جانب تقديم شخصية المعيد وعلاقته بـ "رجاء". لا شكّ أنّه ساهم إلى حدّ ما في إبعاد شبهة السيرة الذاتية، حيث تخلّلت الرواية إشارات كثيرة تقرّبها منها، وهي لا تخدم مضمونها كما سأبيّن لاحقا.
من تلك الإشارات:

تقسيم الرواية إلى أوراق عددها بعدد سني عمر الكاتبة.
بطلة الرواية، "رجاء المصري"، ولدت في العام نفسه الذي ولدت فيه الكاتبة، 1963.
. البطلة "رجاء"، هي "رجاء المصري"، و"ميسون أسدي" في الحقيقة هي "ميسون المصري" أيضا، إذا أخذنا بعين الاعتبار اسم عائلة زوجها.

مما تقدّم، أخلص إلى القول بأنّ تقسيم الرواية إلى أوراق عددها بعدد سني عمر الكاتبة، وكذلك التقرّب من الشكل السيري، لم يكن فعلا منطقيا، بل قصديا لا دافع له إلّا نرجسية الكاتبة، إذ لم يكن من الضروري أن تكون البطلة بعمر مطابق لعمر الكاتبة، كما أنّ انتماء البطلة لعائلة المصري، التي هي عائلة زوج الكاتبة، لم يكن ضروريا أيضا. هناك الكثير مما يُمكن قوله حول نرجسية الكاتبة، وهناك الكثير من العبارات التي يشي أسلوبها أو مفرداتها بذلك. سأتحدّث لاحقا عن أثر النرجسية في شخصية البطلة وسير الأحداث.

التقيّد بذلك التقسيم شوّش ترتيب الأوراق وترقيمها. عدد الأوراق في الرواية، (51 ورقة)، كان من الممكن اختصاره. كثير من الأوراق كان يُمكن دمجها في ورقة واحدة، وأجزاء من بعض الأوراق كان ممكنا جعلها أوراقا مستقلّة. كما أنّه وباعتراف البطلة، كما أسلفت، هناك أوراق غير مهمّة. توظيف التقسيم واستخدام هذا الكمّ الكبير من الأوراق نابع من ارتباط الكاتبة اللاوعي بالقصة القصيرة وخوفها من الرواية كعمل فنّي، ما أدّى إلى عجزها عن تقسيم روايتها إلى فصول قليلة يتشعّب فيها الحديث، خافت الكاتبة أن تفقد فيها السيطرة عليه وعلى الترابط السببي أو الزمني للأحداث. وهناك أيضا ما هو أهمّ من التقسيم وخوف الكاتبة من دمج الأوراق والربط بين أحداثها، وهو أنّ الكاتبة غطّت بهذا التقسيم على عجزها عن استخدام تقنيات بنائية أخرى مثل تقنيات تيار الوعي، كالمونولوج الداخلي والاسترجاع، التي تساعد على البوح، من خلال الحفر في طبقات اللاشعور. إذا اعتبرنا قراءة المعيد للأوراق استرجاعا، فهو لا يفيد بشيء، لأنّه لا يحفر في لاشعور البطلة، كما حدث ذلك قليلا، كمناجاة البطلة للموت في الورقة (43): تقول "أيها الموت أين أنت؟ تعال، تعال، خذني وأرحني من همومي. أو صرختها في نهاية الرواية: "أبتاه ... أنقذ ابنتك من هؤلاء الملاعين، لا أريد هذه الحقن القاتلة؛ إنّها تعشّش في دمي وتحرقني ... أريد العودة إلى بيت والدي" (ص 211-212). الكاتبة، وإن كانت بطلة روايتها جريئة في سرد الأحداث ودائمة التحديق إلى نفسها، إلّا أنّها أبقتها قليلة البوح بمكنونات صدرها، فلم يُؤتِ تحديقها النتائج المتوخاة منه. ويبقى ما قدّمتْه استعراضا لحالة نفسية من خلال ملفّ كملف المريض، وليس غوصا في طبقات اللاشعور. فالبطلة نفسها حاولت التعرّف على حالتها، من خارج ذاتها، من المعلومات التي قدمها لها الطبّ حول المرض في الورقة (26)، وليس من خلال الغوص في أعماق ذاتها، فظلّ سردها يفتقر إلى الحفر والبوح، خاصة وهي تطرح بالأساس قضية نفسية هي نتاج لواقع مأزوم، سواء كان شخصيا أو جمعيّا.

في مقال قرأته مؤخّرا للأستاذ إبراهيم طه عن "الأدب المجهري"، (ملحق الاتحاد: 19/09/2014)، يذكر فيها "التحديق" في النقد النسوي، كمرادف للتبئير. ولم أكن اصطدمت بمصطلح "التحديق" بهذا المعنى من قبل، وعند الرجوع إلى المصادر وجدت أنّ له أكثر من دلالة، أهمّها اثنتان ترتبطان بالأدب وعلم النفس، وهما التبئير وتحديق المرأة في نفسها خاصة في حين يحدّق فيها الآخر، الرجل عادة ولكن ليس بالضرورة. وعند الرجوع إلى "مثلث توت الأرض"، وجدت الدلالتين تتجليان في الرواية التي تنتمي، شاءت الكاتبة أم أبت، إلى الأدب النسوي: أولا بمعنى التبئير في السرد، حيث نرى أنّ البطلة في أوراقها، تُسلّط الضوء على نفسها جاعلة منها بؤرة السرد. وثانيا بمعنى التحديق في علم النفس، أي نظر المرأة المركّز إلى نفسها، فالبطلة، تظهر دائمة التحديق إلى نفسها، وإلى واقعها الاجتماعي أيضا، ليس بسبب تحديق الرجل أو غيره فيها، وإنمّا بسبب الحرمان الذي كانت تعاني منه كامرأة على المستوى الشخصي وكرمز للمرأة وللأقلية العربية على المستوى العام، الاجتماعي والسياسي. من خلال تحديق البطلة في نفسها كانت تُحاول الكشف عمّا فيها وفيما حولها من الأسباب التي اسلمتها إلى تلك الحالة النفسية شديدة الاضطراب والتعقيد. وهو في رأيي، ردّ فعل للحرمان وانعدام تحديق الآخر فيها، وهو سبب كافٍ لجنون المرأة أو فقدانها لتوازنها. والكاتبة نفسها تعترف على لسان المعيد أنّ "هذه المرأة رجاء المصري ينقصها الحب في جميع نواحي حياتها" (ص 120). هذا الأمر يشي بأنّ ادعاءاتها المتكرّرة أنّها "مرغوبة مطلوبة"، تفيد المعنى مقلوبا، أو أنّ ذلك ككل علاقاتها بالرجال هو تعبير عن المنشود وليس الموجود، وأنّ تلك الحالة التي صوّرتها من الحرية ورغد العيش، لا تشذّ عن الإطار نفسه.

أمّا نهاية الرواية، فلو تركتها الكاتبة فريسة لغيبوبة البطلة وكلام الممرضين لكان الخطأ قاتلا، على مستوى الشكل والمضمون، ولكنّها أنقذت الرواية ونهايتها معا، وعلى المستوييْن، عندما استدركتها بعبارتها الأخيرة "ولم تنتهِ القصة بعد ..."، وقد عكس إدراك الكاتبة لأهمية النهاية، النقاط الثلاث التي أنهت بها العبارة، والتي لا تبيّن فقط أنّ القصة لم تنته وحسب، بل أنّ نهايتها ظلّت مفتوحة على آفاق قد لا تكون لجيل الكاتبة، وإنّما هي آفاق أجيال ستأتي. فالورقة الأخيرة التي دوّنها العميد تُؤكّد حتمية التمرّد والثورة، عاجلا أم آجلا، على المجتمع الظالم والسلطة المستبدّة. يقول المعيد: "الورقة الأخيرة: ملف رجاء المصري ضدّ المجتمع العربي أولا وضدّ دولة إسرائيل ثانيا" (ص 211).

الزمان والمكان

تبدأ الرواية بتوجّه "رجاء"، بطلة الرواية، وهي في الخمسينات من عمرها، للقاء المعيد في كلية المحاماة لتسلّمه ملفّا فيه أوراق تحكي قصتها، طالبة منه، بعد قراءتها، تقديم قضية للقضاء ضدّ المجتمع. تقول: "توجّهت رجاء وهي امرأة عزباء في عقدها الخمسين (خطأ في اللغة، تقصد في عقدها الخامس) إلى المعيد في كلية المحاماة وطلبت منه استشارة قانونية" (ص 16). وتنتهي الرواية لحظة دخول "رجاء" في غيبوبة في الصفحة الأخيرة من الرواية. هذا الزمن الموضوعي الذي اعتمدته الكاتبة في الرواية، وهو فترة قصيرة لم تُحدّد بالضبط، ولكنّها لا تتعدّى حاجة المعيد لقراءة ملف "رجاء"، لا يكفي لدخول البطلة في تلك الحالة النفسية والغيبوبة التي تنبّأت بها في الورقة الأخيرة، خاصة وأنّها قابلت المعيد أثناء قراءته تلك الورقة، وكانت في حالة نفسية مريحة نسبيا تسمح بذلك اللقاء، في حين أنّ الورقة (49) تبيّن أن البطلة كانت على عجلة من أمرها، لأنّها تشعر بقرب نهايتها، إذ تقول: "عندما تنتهي من قراءة أوراقي فسأكون قد دلفت إلى عالم الظلام" (ص 211).

أمّا الزمن النفسي فنستشفّه من قراءة المعيد لملف "رجاء"، ويمتد امتداد أوراقها التي كتبتها كتقرير صحفي أو وثيقة تخدم ملفّ قضيتها، وليس كاسترجاع نفسي يحفر في طبقات اللاشعور ويُطهّر النفس من معاناتها. تأكيد ذلك أنّ المعيد هو الذي يقوم بقراءة الأوراق الجاهزة، التي لا تقدّمها لنا الكاتبة كاسترجاع تقوم به "رجاء" نفسها، أو مونولوج داخلي يعتمل في نفسها في لحظة نفسية راهنة. أوراق الرواية، أو أوراق "رجاء"، هي مجموعة قصص تختارها من حياتها، لا تتسلسل أفقيا، وإنمّا ترتّبها ترتيبا تراه مقنعا يُلائم ملفّ قضيتها التي تعتزم تقديمها للقضاء. من خلال تلك القصص أو الأوراق، تتناول الكاتبة فترة زمنية تمتدّ من عام 1963، عام ولادة البطلة، حتى يوم كتابة الملفّ في عقدها الخامس. ولهذا، قسمت الكاتبة روايتها إلى (51) ورقة تقابل عدد سني عمر الكاتبة نفسها، لأنّها هي أيضا ولدت في العام نفسه. وهو في نظري، سبب ليس مقنعا لذلك التقسيم.

الزمن النفسي الذي اختارته الكاتبة هو زمن عربي إسرائيلي، تفصله خمسة عشر عاما عن النكبة (1948)، يفترض فيه أن تخرج الأقلية العربية من همّ النكبة ومخلفاتها، لتبدأ حياة جديدة تندمج فيها بالحياة في "واحة الديمقراطية" وتسبح في "بحيرة الحليب والعسل"، وتنعم برغد العيش الذي يفتقده الفلسطيني الذي شُرّد خارج وطنه، إلّا أنّ بطلة الرواية، والكاتبة من ورائها، وجدت أنّ النكبة تستمرّ وتفرّخ، ويستمرّ علقمها يكوي حلق الإنسان العربي في إسرائيل بشكل عام، وبشكل خاص أولئك الذي لم يتخلَّوا عن كرامتهم الشخصية والوطنية وانتمائهم الذي يتمثّل بحبهم لأرضهم وشعبهم ولغتهم. وهنا، يتحول الزمن العربي في إسرائيل إلى زمن مزيّف بشكل مزدوج، إذ يحمل في ظاهره النعيم وفي باطنه الجحيم. أمّا بالنسبة للكاتبة وبطلة روايتها، فهو زمن مزيّف ومزدوج مرتين، إذ أنّ المجتمع العربي لم يتغيّر من حيث تعامله مع المرأة، ما جعل البطلة تعاني ظلم المجتمع لها كامرأة، وتعاني كذلك ظلم السلطة لها كإنسان عربي شاء له قدره أن يبقى في وطنه.
يبرز ضعف الكاتبة في التعامل مع الزمن الروائي في أكثر من موضع. ولكنّه يبرز بشكل جليّ في الأوراق الأخيرة. الورقة (49)، امتدّت قراءتها إلى ما بعد الورقتين: (50) و(51)، بسبب توقف المعيد عن القراءة ولقائه بـ "رجاء". في هذه الورقة، (49)، تقول "رجاء": "عندما تنتهي من قراءة أوراقي فسأكون قد دلفت إلى عالم الظلام" (ص 211). الورقتان: (50) و(51)، لم تكونا داخل الملفّ، فقد سمعهما المعيد من رجاء أثناء لقائه بها. قلت سابقا أنّ تقديمها الأوراق للمعيد يشي بأنّ البطلة كانت تستشعر نهايتها، ولكنّها في العبارة المذكورة، تحدّدها. ماذا لو أتمّ المعيد قراءة الورقة (49) قبل اللقاء؟ من أين كنّا سنحصل على الورقتين: (50) و(51)، وهما على جانب من الأهميّة كما صوّرهما المعيد؟ وإذا سلمنا بأنّ التقديم أو التأخير هو جزء من أسلوب السرد، فيجب على الكاتب أن يكون منطقيا في ذلك، لأنّ وضع "رجاء" النفسي أثناء لقائها بالمعيد وسردها للورقتين، (50) و(51)، لم يكن سيئا، ولم تكن قد عادت إلى المستشفى أو إلى الـ "عنبر رقم ستة" (ص 211) الذي يحيل إليه، بينما وضعها النفسي، كما وصفه الراوي العليم في الصفحة الأخيرة من الرواية، وتحديدا في الورقة (49)، كان على الأقلّ، من الصعوبة بحيث يدلّ على أنّها كانت تعاني أزمة حادّة لا بدّ أنّها استمرّت لأيام إن لم يكن لأسابيع؟!. لذلك، كيف يُمكن أن نفهم مقابلتها للمعيد قبل الورقتين، (50) و(51)، بينما من المفروض أن تكون قد دخلت في الغيبوبة قبل نهاية الورقة (49)؟ ودليل ذلك ما ذكرته سابقا، قولها: "عندما تنتهي من قراءة أوراقي فسأكون قد دلفت إلى عالم الظلام" (ص 211). قد لا يلتفت القارئ العاديّ إلى مثل تلك الهفوة التي تخلخل التطوّر الزمني للأحداث، وتنتقص من جمالية الرواية. من اللافت أنّ بين مكوّنات الرواية المختلفة، سلسلة طويلة من الهفوات.
رغم ما تقدّم، يظلّ الزمن في الرواية مرتبطا ارتباطا وثيقا بالمكان. فالإنسان العربي يعيش حياته محاصرا في مدنه وقراه التي نجت من مخالب النكبة وصُنّاعها، والباقية على القليل المتبقّي من الأرض، وإذا خرج من حصاره إلى المدن والمستوطنات اليهودية، فلا بدّ له من إخفاء وجهه تحت قناع آخر رغم كثرة الأقنعة التي يعيش بها في مجتمعه.
لا أعرف تحديدا، ما هو الدافع الحقيقي الذي دفع ميسون أسدي باتجاه "المثلث"، لتختار إحدى مدنه، لتشكّل المكان الذي تدور فيه أحداث الرواية أو تنطلق منه. ولماذا تركت الجليل رغم أنّها تعيش فيه ورغم كونه المنطقة الأكثر شهرة بين المناطق الثلاث الرئيسية التي يعيش فيها العرب. لهذا، لا أعتقد أنّ اختيار مدينة في منطقة "المثلث" مقصود لذاته، خاصة وأنّها لم تذكرها بالاسم، وإنّما لأنّه يُلبّي حاجة الكاتبة إلى اختيار مكان يعكس الرابط الجغرافي والوضع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للأقلية العربية في إسرائيل، وذلك لوقوع منطقة "المثلث" بين منطقتي "الجليل" و"النقب". وفي الوقت نفسه، يعكس القرب الجغرافي من الحياة اليهودية في مركز البلاد بما لذلك من تأثير اجتماعي واقتصادي وسياسي على حياة الأقلية العربية. من الممكن لأيّة مدينة أو قرية عربية أن تلعب الدور نفسه، إلّا أنّ زراعة توت الأرض، التي تعكس استغلال السلطة الإسرائيلية الاقتصادي للأيدي العاملة العربية، متمثلة باستغلال شركات التسويق الإسرائيلية لمزارعي توت الأرض، تلك الزراعة كانت وما زالت مستمرّة في منطقة "المثلث" حتى اليوم، ما يشير إلى أنّ الظلم والاستغلال مستمرّان أيضا، بينما زراعة الخيار في الجليل، التي كان من الممكن أن تقوم بالدور نفسه، قد انتهت، لا لأنّ استغلال العرب في الجليل انتهى، بل لأنّ الزراعة تطوّرت وظهر "خيار الدفيئات" الذي يمكن أن تتعامل معه المستوطنات الزراعية اليهودية، لأنّ قطفه أسهل بكثير من قطف الخيار (البلدي) الذي كان العرب يزرعونه. وهذا يعكس سياسة التمييز العنصري واستغلال الأيدي العاملة العربية في الأعمال الشاقّة.
اختيار المكان قريبا من مركز البلاد والحياة اليهودية، يعكس الازدواجية التي يعيشها الإنسان العربي في إسرائيل، ويعكس كذلك التعقيد الاجتماعي والاقتصادي الذي يُؤدّي إلى اضطراب شخصيته وحياته عامة، وإلى تلك الحالة النفسية التي عانت منها البطلة بشكل خاص، علما بأنّ حياتها هي صورة تُمثّل حياة الأقلية العربية. ولهذا، نجد المكان في الرواية يمتدّ أيضا إلى فضاءات أخرى خارج حدود المدينة العربية التي تسكنها البطلة، إلى مدن ومستوطنات إسرائيلية مختلفة، سواء كان ذلك للعمل أو التعليم أو للعلاج في مرافق غير متوفّرة في الوسط العربي. ويمتدّ كذلك إلى خارج البلاد، إلى ألمانيا وجنوب أفريقيا ومصر والأردن وغيرها. من الصعب تفهّم هذا الامتداد إلّا من باب المبالغة والسخرية من صعوبة الحياة والوضع الاقتصادي المزري الذي يعيشه الإنسان العربي في إسرائيل، والذي لا يسمح بتلك الرفاهية والنفقات التي تدّعيها البطلة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يُعبّر عن الاضطراب النفسي الذي تعاني منه البطلة والذي يمنعها من الاستقرار الذي ترغب فيه وتنشده. ينعكس ذلك بوضوح في العلاقات الجنسية وغير الجنسية، (الصداقة مثلا)، مع أول من تصطدم به في أيّ مكان تذهب إليه، تُحبّه ويُحبّها، مثل صداقتها مع "مارتينوس" المثلي الجنس الذي تعرّفت عليه فور نزولها في الفندق في "كيب تاون" جنوب أفريقيا. تقول: "قالت لي صاحبة الفندق: انتظري مارتينوس ليرافقك لأنّ الدنيا ماطرة ... وهكذا تعرفتُ عليه ومن يومها أصبحنا صديقين، كل ليلة نشرب النبيذ ونتحدّث" (ص 193). هذا التعدّد المكاني، وعلاقات البطلة الكثيرة والسريعة في الأماكن التي تختلف إليها، يشيان بحرمان البطلة التي لا تهدأ ولا تكفّ عن بحثها عمّا تفتقده، فتتفاقم حالتها لأنّها لا تظفر بما يُنهي حرمانها ويُهيئ لها الهدوء والسكينة.

الشخصيات

شخصيات الرواية كثيرة، معظمها عربية تتنوّع تنوّع الحياة الاجتماعية التي تعيشها الأقليّة العربية في إسرائيل، بكل ما فيها من تورّط بمشاكل لا حصر لها، سببها التخلّف المتأصل في المجتمع العربي، أو عسف السلطة التي تحرص، بالقمع والحصار والتمييز العنصري، على دوام التشرذم والتخلّف. لا تظهر الشخصيات بشكل مباشر، يتعرّف عليها القارئ من خلال سرد البطلة لحكايتها. ويجسّد كل منها مرضا من الأمراض الاجتماعية المتفشية في المجتمع العربي في إسرائيل، التي تعكس تخلّفه، أو سياسة السلطة الحريصة على فساده واستمرار تخلّفه وتفسّخه.
في الرواية عدد من الشخصيات اليهودية، أهمّها تلك التي تعكس الوجه الإيجابي للمجتمع الإسرائيلي وعلاقاته الإنسانية الحسنة مع العرب. "ماندي" كانت بمثابة أخت للبطلة، حيث كانت تُقيم أحيانا معها في بيتها (ص 70، 82)، والبروفيسور "أيتسيك" أحبّها وأحبّته رغم كونه مثلي الجنس. وقد اختارت الكاتبة لكليهما الموت: الأولى بالسرطان، والثاني بالأيدز، وذلك تعبيرا عن الأمراض، ليس العضوية فحسب، وإنّما الفكرية والسياسية والاجتماعية التي تفتك بالمجتمع الإسرائيلي وتشوّه وجهه وتقضي على ما فيه من عناصر طيبة. وقد يكون المرض والموت رمزا للسلطة الحاكمة في إسرائيل التي تحرص على تشويه المجتمع وتشكيله بشكل مصالحها. كما أنّ تلك السلطة، لا تؤمن بالتعايش بين اليهود العرب، بل ترفضه وتعمل على تدمير كل علاقة طيبة بينهما.

تبقى الشخصيتان الأهمّ في الرواية هما شخصيتا "رجاء" البطلة، والمعيد. أهمّ ما في شخصية المعيد هو أنّ الكاتبة، كما ذكرت سابقا، وضعته مكان "شهرزاد"، ولكنّها، للأسف، لم تستطع تطوير شخصيته بحيث يتحمّل ما ترجوه منه من المشاركة والمساهمة في حلّ المشكلة على كافة مستوياتها: الشخصي والاجتماعي والسياسي. هل أرادته إنسانا متعاطفا فقط؟ بالطبع لا، وإلّا لم تكن ثمّة حاجة في وضعه مكان "شهرزاد". لقد دفعته إلى قراءة أوراقها دفعا، وأرهقته بإسهابها وتكرارها اللذين لا مبرّر لهما، ولم تحظَ بتعاطفه إلّا بعد عدد كبير من الأوراق. ولذلك يبدو أنّ قراءته فرضها تعاطفه الإنساني مع حالة إنسانية وليس اقتناعا بما جاء فيها من مضمون، لأنّ الأهداف التي من أجلها خُلقت شخصية المعيد غير واضحة تماما. هل يكفي اعترافه بأنّ المجرم هو دولة إسرائيل وليس المجتمع العربي فقط؟ وذلك من خلال ما أغلق به قراءته للأوراق والوقوف عند هذا الحدّ: يقول: "الورقة الأخيرة: ملف رجاء المصري ضد المجتمع العربي أولا وضد دولة إسرائيل ثانيا" (ص 211)؟ هل كنّا بحاجة إلى معيد في الجامعة، رجل قانون له خبرة المثقّف المجرب، لكي نصل إلى هذا الاستنتاج، "ضد دولة إسرائيل ثانيا"، الذي لم تذكره الكاتبة أو "رجاء" في لقائها الأول مع المعيد في بداية الرواية؟ لو كان المعيد يهوديا لاختلف الأمر قليلا، ولكن الكاتبة لم تُصرّح بذلك كما سأبيّن لاحقا.

لقد ظلّت شخصية المعيد قاصرة عاجزة عن الفعل فيما تعدّى القراءة والتعاطف. معظم الرجال الذين توسّمت فيهم "رجاء" الخير ماتوا. والموت إشارة إلى العجز. هل أبقت الكاتبة على المعيد نموذجا للرجال الأحياء العارفين العاجزين؟ من الواضح أنّ اختيار "رجاء" ومن ورائها الكاتبة، للمعيد، يشير إلى تحميل المرأة للرجل مسؤولية قضيتها الاجتماعية، وهو بسذاجته، إن لم يكن بـ "غبائه"، يضيف إليها المسؤولية السياسية. هل كان الهدف من شخصية المعيد الاعتراف بالمشكلة والمسؤولية عنها فقط؟ ولكن، ما الفائدة من اعترافه بمعاناة المرأة بعد أن يفقدها، حيث دخول "رجاء" في غيبوبة لا يختلف عن القتل؟ بصيص الأمل الوحيد هنا هو أن يعمل الرجل على خروج المرأة من غيبوبتها، ولكنّ المعيد لم يكن مهيّأ لذلك، فقد كان قراره جاهزا وواضحا منذ البداية: "... إنني متأكّد من الآن بأنّ النصيحة ستكون بالتنازل عن القضية" (ص 19)، ولم نلحظ حتى نهاية الرواية أنّ موقفه تغيّر، إذا استثنينا اعترافه بأن دولة إسرائيل مسؤولة أيضا، ولكن ما دام العجز قائما في التنازل عن القضية ضد المجتمع فهو قائم أيضا في التنازل عنها ضد دولة إسرائيل. تبقى أمامنا شخصية المعيد بإنسانيتها في التعامل مع رجاء، وتعاطفها في قراءة أوراقها، التي، كما ذكرت، قد تكون الهدف المعلن الثاني للبطلة، والممكن التحقيق بعد الفشل في تحقيق الهدف المعلن الأول، تقديم القضية للقضاء.

"رجاء"، هي الشخصية المركزية والبطلة في الرواية، حضورا وفعلا. فهي محور الأحداث ومحرّكها، وفي أوراقها بشكل خاص، كانت هي بؤرة السرد التي تضيق وتتسع حسب نظرة البطلة إلى نفسها وموقفها من أفعالها أو أفعال غيرها. لا يوجد في الرواية حدث مركزي يُمكن اعتباره المحور أو المحرّك الأساسي لتطوّر شخصية البطلة، ولذلك فهي تتطوّر بتأثير الأحداث الكثيرة التي تعيشها، تشارك فيها أو تشهدها. وتطوّرها مرتبط بتطوّر حالتها النفسية والتحوّلات، الإيجابية أحيانا والسلبية غالبا، التي تطرأ عليها. شخصية البطلة تُعبّر عن واقع نفسي واجتماعي واقتصادي وسياسي، فهي، شكلا ومضمونا، تعكس صفات مجتمعها وعصرها الذي تعيش فيه، أو يعيش فيه من تمثّلهم. إنّها شخصية مغتربة عن عصرها ومجتمعها المغترب عن ذاته. وهي مأزومة تعيش عصرا مأزوما في مجتمع مأزوم يعاني عددا غير محتمل من الأمراض والآفات الاجتماعية التي تترك آثارا مضاعفة بسبب تخلّف المجتمع وانجراره وراء قشور العصر وتفاهاته. وهو ما أوقع البطلة في حالة نفسية من الهلوسة والاكتئاب، تفاقمت بسرعة حتى أصبحت مستعصية لا يلوح لها حلّ في الأفق. يُمثّل ذلك غيبوبة البطلة آخر الرواية، نتيجة الحقن التي تُعطى لها قسرا، غيبوبتها التي لا أحد يعلم متى ستفيق منها أو إن كانت ستفيق أصلا. كما أنّ الحالة التي آلت إليها البطلة من الحرمان والوحدة والاغتراب، وما أشار إليه المعيد من حاجتها إلى "الحب في جميع نواحي حياتها" (ص 120)، تشير إلى أنّ المقولة التي كان يتغنّى بها حكّام إسرائيل، "إنّنا نعيش في بحر من الأعداء"، قد انقلبت كليّا، فأصبحت تنطبق على المرأة في المجتمع، أو على الإنسان العربي في إسرائيل أو الأقلية العربية كلها، أو على الشعب الفلسطيني كله وما يُعانيه من احتلال وعزل وفصل عنصري.
تلعب شخصية "رجاء"، البطلة، دور "اللابطل" بامتياز. فهي لم تحقّق شيئا من أهدافها، إذا استثنينا الهدفين المعلنيْن: تقديم قضيتها للقضاء وقراءة المعيد للأوراق. هذان الهدفان لم يتحقّق منهما إلّا الثاني، الذي يصعب النظر إليه كهدف بقدر ما هو تمهيد لتحقيق أهداف لم تُحقّق سواء أعلنت أم لم تُعلن.

نجحت الكاتبة من خلال "رجاء" أن تقدّم لنا شخصية مريضة جمعت في طيّاتها كل أمراض المجتمع العربي وتناقضاته في إسرائيل، إلّا أنّها عجزت عن جعلها شخصية فاعلة في مجال إحداث التغيير المنشود. وبهذا تبدو لي رغبتها في تقديم قضية ضد المجتمع هي مجرد حامل للسرد في الشكل، و"ضريبة كلام" في المضمون، لا تختلف عن غيرها من أمراض المجتمع الذي يقول الكثير ولا يفعل إلّا القليل الذي لا يختلف عن الحقن المهدّئة التي كانت تُحقن بها "رجاء"، والتي سرعان ما يزول مفعولها ولمّا تمنع تفاقم حالتها.

انعكس التجريب لدى الكاتبة في أنّها لم تجعل من شخصية "رجاء" شخصية نمطية، فهي من جهة تحمل فكرا ما، وإن كان، للأسف، انهزاميا في معظم جوانبه. ومن جهة أخرى فقد حمّلتها من الغرابة وأمراض المجتمع وتناقضاته الشيء الكثير، ولكنّها لم تلغِ حساسيتها وإدراكها لهذه الأمراض وتلك التناقضات. فهي شديدة الميل إلى الانطواء أحيانا، وسريعة الاستجابة للآخر أحيانا أخرى. فقد انطوت على نفسها بعد انفصالها عن ميخائيل الذي أحبته (ص 93). وهي تدرك تناقضاتها إذ تقول: "أفقد القدرة على التركيز واتخاذ القرارات، وأشعر بأنني عاجزة قليلة الحيلة تعبة ومجهدة دائما، وأحيانا يكون وضعي عكسيا تماما يصبح عندي ازدياد مفاجئ في النشاط والحيوية والشعور بالقوة والمباهاة بالنفس" (ص 94). إنها الحالة والتناقضات ذاتها التي يعاني منها الإنسان العربي في إسرائيل على المستوى الشخصي، وكذلك تعاني منها الأقلية العربية على المستوى العام في كل مجالات الحياة: الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية والثقافية.
"رجاء" اتخذت قرارها بتقديم قضيتها للقضاء، ولكنّه لم يُنفّذ في الواقع. كذلك الكاتبة، قد تكون أرادت من خلال ذلك، أن تلفت انتباه القارئ إلى القرارات الإيجابية الكثيرة التي اتخذتها، المؤسسة الإسرائيلية بحقّ الأقلية العربية، أو المؤسسات الدولية بحقّ القضية الفلسطينية، ولكنّها لم تُنفّذ حتى الآن. بند عدم التمييز بين المواطنين من حيث الجنس والعرق واللون والدين، في وثيقة استقلال إسرائيل، وكذلك قرارات الأمم المتّحدة، كلها تشهد بذلك.

اللغة

لم تستفد ميسون أسدي من التجريب في توظيف اللغة، وإن كنت لا أستغرب أنّ يرى غيري غير ذلك. البعد التجريبي، الذي استقته الكاتبة من "ألف ليلة وليلة" في الشكل، على ما فيه من ضعف، بدا أضعف في اللغة التي تتماهى أكثر مع لغة "ألف ليلة وليلة"، ولكن في طبعاتها الشعبية التي يسردها الراوي الشعبي في الحلقات والمقاهي؛ الراوي الذي يسرد باللغة العامية وقلما يعتمد على الحوار. وبذلك، تكون الكاتبة قد تفادت المزاوجة بين مستويات اللغة، لقلّة اعتمادها، خاصة في أوراق "رجاء"، على الحوار الذي يفرض عادة تلك المزاوجة. كذلك جاءت لغة ميسون أسدي في روايتها، لغة عامية مفصّحة بلغت حدّ التقعّر في أكثر من موضع، أو لغة فصحى كتبت بأسلوب اللغة العامية. وقد جاءت مباشِرة فيها الكثير من بساطة الأسلوب الصحفي، الذي تهمّه اللغة بقدر ما يهمّه السبق الصحفي وتوصيل الخبر، غير مدرك أنّ اللغة هي مادته خام لذلك. بمثل تلك اللغة، جاءت الرواية كتقرير صحفي عن حالة امرأة أصيبت بحالة نفسية، وليس حفرا في طبقات اللاشعور، الذي غالبا ما يفرض على الشخصية أو الكاتب لغة شعرية لم نصطدم بها لدى ميسون أسدي في "مثلث توت الأرض".
"رجاء" اسم البطلة، فيه الكثير من الإيحاء. ولكن، ظلّ الغموض يكتنف ما ترجوه الكاتبة من توظيفه، غير الخلاص من معاناتها، أو الصرخة الفاضحة في وجه المجتمع والسلطة، خاصة بعد فشلها في تحقيق أهدافها.

للشخصية الثانية في الأهميّة، اختارت الكاتبة لفظة "المعيد"، الأستاذ المساعد. لم تختر له اسما شخصيا أو لقبا آخر ينسجم مع ثقافته وخبرته الواسعة فجعلته أستاذا مساعدا فقط. يعود سبب ذلك في رأيي إلى أحد أمرين: إمّا الجهل باللغة، وإمّا إشباعا لنرجسيتها التي لا تريد من المعيد أن يتحمّل مسؤولية قضيتها، بقدر ما أرادته أن يحمل ربابته ويلفّ بها على الحلقات والمقاهي، راويا شعبيا، يقول ويعيد حكايتها. وهذا يعكس استعلائها على المعيد نفسه، أو الرجل الذي تُحمّله مسؤولية قضيتها وانهزاميّتها، غيبوبتها في نهاية الرواية. يُمكننا أن نسأل: أين "رجاء" التي تقول في الورقة (44) إنها قادرة على حلّ أيّة مشكلة، وإنّها ولدت لتكون محامية؟ والمحامي يجب أن يكون متمكّنا من اللغة! قد يقول قائل إنّ "رجاء"، البطلة، تُعاني حالة نفسية تسمح لها بكل تلك التناقضات. ذلك صحيح، ولكن، أين الكاتبة التي يجب أن تتحكّم بأفكارها ولغتها وبأفكار شخوص روايتها ولغتهم؟ هل كل ما أرادت قوله من خلال الرواية ولغتها، إنها لا ترى نهاية لهذا الليل الذي تعيشه هي شخصيا، أو المرأة عامة، أو الإنسان العربي والأقلية العربية كلها في إسرائيل؟ في نظري، كلّ ذلك لا يبرّر النهاية المأساوية التي اختارتها لبطلتها والتي أجادت في اختيار لغتها في التعبير عنها: "عندما تنتهي من قراءة أوراقي فسأكون قد دلفت إلى عالم الظلام" (ص 211).

لجأت الكاتبة إلى السخرية كتقنيّة تعويضية، لتعوض من جهة، نفسها عن لغتها وانهزاميّتها وفشل بطلتها في تحقيق أهدافها، ولتعوّض من جهة أخرى، القارئ عن السرد المباشر الذي كان مكرّرا ومملّا أحيانا. ظهر أسلوب السخرية جليّا في رسم الكاتبة لشخصية "رجاء"، خاصة في مبالغاتها الكثيرة. فقد وضعت بطلتها تحت المجهر فأبرزت تفاصيلها الصغيرة وضخّمت قدراتها وعلاقاتها ومصروفاتها، بالنسبة للواقع الذي يوحي بالمحدودية في كل ذلك. وأكثر من ذلك، فإنّ النصّ كله يبدو كمفارقة كبيرة ساخرة. تبدأ الرواية بهدف كبير وواضح يُثير التفاؤل، "لجوء البطلة إلى القضاء"، وتنتهي بمأساة أبعد ما تكون عن التفاؤل. وتنتهي إلى لا شيء من تحقيق الأهداف، فالبطلة التي جهّزت أوراقها لتقديم قضيتها إلى القضاء، أدخلتها الكاتبة في غيبوبة، الله وحده يعلم متى ستفيق منها؟ هل سيقدم القضية للقضاء، المعيد الذي نصح البطلة منذ البداية بالتنازل عنها؟

وأخيرا، جدير بالذكر أنّ في لغة الرواية بعض الإشارات التراثية، كالأمثال والأغاني والعادات، لكنّها لم تلعب دورا حاسما في إبراز المضمون. وأغربها، الأغنية التي غنّتها "رجاء" قرب نعش البروفسور "إيتسيك" وأبكت الحضور وأوراق شجر الأفوكادو. أتفهّم ميل "رجاء" إلى البروفسور وميله إليها قبل وفاته. ولكن، كيف أتفهّم غناء أغنية عربية من التراث العربي الفلسطيني الذي يعود لأيام النكبة، في جنازة ميت يهودي، الحضور فيها معظمه إن لم يكن كله من اليهود؟ ماذا أرادت الكاتبة من هذه الأغنية؟ أن تستجدي عطف الحضور فيُقدّر صعوبة فراق المحبّين فيتعاطف معنا في تشريدنا من أرضنا ونكبتنا التي هي من صنع يديه؟ منطقة الكابري مليئة بأشجار الأفوكادو الذي مهما تعدّدت دلالاته، لا أرى بكاءه يحيل إلّا إلى السخرية. السخرية هي الشيء الوحيد المبرّر هنا، فالأغنية في مثل تلك الظروف وبكاء شجر الأفوكادو، يدعم ما أميل إليه، من كون شجر الأفوكادو يحيل إلى الغرباء، لأنّ هذا النوع من الشجر غريب على المنطقة، وعلى فلسطين كلها، أحضره الغرباء الذين اغتصبوها، فهل تنتظر الكاتبة منهم أن يذرفوا دموعهم ندما على فعلتهم؟ أعتقد انّه نوع من السخرية السوداء التي تُستعمل لجلد الذات. وإن لم يكن الأمر كذلك، فسيثير سخرية القارئ وتساؤله: كيف غنت "رجاء" الأغنية؟ بالعربية أم بالعبرية؟ بالعربية؟! لن يفهمها الجمهور، فكيف ستتحرّك مشاعره ويبكي؟ أم أنّها ترجمتها للعبريّة ترجمة فورية حافظت فيها على المعاني والمشاعر والموسيقى؟! ما لم يكن واضحا تماما، هو الدافع لحرص البطلة على الظهور في الصحف العبرية، هل هو السخرية أيضا؟ إذا كانت السخرية، فسوف تدخل هنا أيضا في باب جلد الذات، لأنّها ترتدّ على البطلة نفسها. وإن لم تكن السخرية، فلا شيء غير النرجسية وحب الظهور، وهي من صفات البطلة التي تعشق أناها، وتحرص على إبرازه في كل صغيرة وكبيرة. فقد بالغت "الصحيفة العبرية" في تصوير "رجاء" وتأثير أغنيتها، كما تدّعي "رجاء" نفسها إذ تقول: "بكى الحضور على أغنيتي وكتب أحد الصحفيين في صحيفة عبرية أنّ أغنيتي أبكت الحضور وأبكت أوراق شجر الأفوكادو"(ص 91-92). لم أجد لفعلة الكاتبة تخريجا آخر منطقيا يخدم قضيتها أو قضية بطلة روايتها، ويحفظ معنى الرواية من الاختلال.

مضمون الرواية

استطاعت الكاتبة، من حيث المضمون، أن تطلق بقوة وجرأة، صرخة مدوية في وجه أنظمة الظلم: الظلم الاجتماعي اللاحق بالمرأة العربية في مجتمع الأقلية العربية في إسرائيل بشكل خاص، والظلم السياسي اللاحق بالإنسان العربي والأقليّة العربية في إسرائيل بشكل عام. لفهم النص وتحليله يجب أن ننظر إليه باتجاهات نقدية مختلفة. لأنّ الكاتبة تنطلق من واقع اجتماعي وسياسي وتكتب عنه وله، والرواية بأحداثها وشخصياتها تبدو مزيجا من الواقع والخيال، حيث يُشكّل منهج النقد السوسيولوجي أساسا لفهم النص وتحليله. ولكن الرواية تقدم لنا أيضا، شخصية مركزية تعاني من حالة نفسية معقّدة، ما يستدعي استخدام المنهج النفسي للنقد والتحليل. أمّا المذهب السيميائي فلا يُمكن تجاهله بحال من الأحوال.
منهج النقد الاجتماعي أو السوسيولوجي يرى في الكاتب ابن بيئته، وميسون أسدي تنطلق من بيئتها وتكتب عنها ولها. و"رجاء المصري"، بطلة الرواية، سواء كانت هي ميسون أسدي أو لا، فإنّها تتماهى معها في كثير من صفاتها، وقضاياها، وأفكارها، وأحداث روايتها. أمّا المنهج النفسي للنقد والتحليل، فيتولّى التحليل النفسي للشخصيات الروائية، وخاصة نفسية البطل الروائي. وهنا أقصد حالة البطلة النفسية وليس حالة الروائي أو الكاتب، إذ من الخطأ أن نساوي بين لاشعور البطل الروائي ولاشعور الروائي نفسه، حتى وإن تشابها في كثير أو قليل. يقول الناقد جورج طرابيشي في تقديم كتابه، "الروائي وبطله": "إنّ لاشعور البطل الروائي مستقلّ، بقدر قد يكثر أو يقلّ، عن لاشعور الروائي ..." (وقال قبل ذلك): "وإذا سلّمنا بأنّ اللاشعور الوحيد الذي يصدر عن البطل الروائي هو لاشعور الروائي نفسه، فإنّ موضوع هذا الكتاب يكون قد انتهى" (طرابيشي، 1995، ص 7)، أي عند ذلك لا يكون هناك داعٍ للنقد والتحليل. وهذا، بلا شك، ينطبق على ميسون أسدي وبطلة روايتها، لأنّ الكاتبة تقدّم لنا شخصية روائية مستقلة عن شخصيتها هي ككاتبة، حتى لو شابهتها أو تماهت معها في قليل أو كثير من مكوّناتها؛ أي أنّ الحالة النفسية المعقّدة التي تعاني منها البطلة في "مثلث توت الأرض"، هي حالة البطلة الروائية، "رجاء المصري"، وليس بالضرورة حالة الكاتبة "ميسون أسدي". وأمّا المنهج السيميائي فينظر إلى النص كإشارة أو علامة واحدة كبيرة مكوّنة من مجموعة علامات أو إشارات لكل منها دلالاته. وفي رواية ميسون أسدي، بدءا من العنوان، هناك الكثير من الإشارات التي تحيلنا إلى دلالات بعيدة عن مدلولها المباشر.

من هي "رجاء المصري"؟

للإجابة على هذا السؤال، لا بدّ من النظر إلى النص بمناظير مختلفة أو من اتجاهات مختلفة. وهنا بالطبع، لا أقصد القارئ العادي الذي يقرأ الرواية قراءة واحدة، وشكرا له إذا فعل، فيجني بذلك ما يجنيه من متعة القراءة التي تتفاوت من قارئ لآخر، وإنّما أقصد القارئ المثقّف الذي يُدرك أهمية الرواية ويطمح إلى سبر أغوارها ليتفاعل مع ما تطرحه من مضامين، مدركا أنّ لشكلها الفنّي دورا أساسيا في طرح تلك المضامين وتوصيلها، وإلّا، سوف يفقد التجريب، الذي يلجأ إليه كتّاب الرواية الحديثة، أهميته وفاعليته. وفي "مثلث توت الأرض" تحديدا، التجريب اللاواعي عند ميسون أسدي قد ساهم في إعطاء "مثلث توت الأرض" بعض التميّز، إلّا أنّه لم يُستغلّ بالعمق الكافي، ذلك لأنّ الكاتبة حاولت التحكّم بحساسيتها اللاواعية وتحويلها إلى حساسية واعية ومسيطر عليها، إلّا أنّها لم تفلح بالقدر الكافي. وعلى ما يظهر، هذه ليست مشكلة ميسون أسدي وحدها، ولكنّها مشكلة كاتبات الرواية الفلسطينيات في الداخل، اللواتي عجزن عن فصل قضية المرأة في مجتمعنا الذكوري عن القضية الوطنية والهمّ الفلسطيني العام. فقد لاحظت مثل هذه المشكلة عند قراءتي مؤخّرا رواية لكاتبة أخرى، تعالج القضيّتين معا. ولذلك، هل تُمثل "رجاء المصري" نفسها أم هي رمز أو إشارة لها دلالات أوسع من ذلك بكثير؟ هذا السؤال يُؤكّد ضرورة النظر إلى الرواية وبطلتها من زوايا مختلفة، أو قراءتها بمستويات مختلفة، ستُظهر لنا أنّ "رجاء المصري" من منظور معين تبدو لنا كحالة خاصة، ومن منظور آخر تمثّل المرأة العربية التي تعاني ظلم المجتمع العربي في إسرائيل أو عامة، ومن منظور ثالث، تبدو أنّها تمثّل الأقلية العربية في إسرائيل، بما يلحق بها من ظلم اجتماعي وسياسي.

تتحدّث ميسون أسدي في روايتها عن حالة من الهلوسة والاكتئاب، وهي حالة نفسية أصيبت بها "رجاء المصري" بطلة الرواية، التي تردّدت على مراكز الصحّة النفسية أكثر من مرّة، وقد خرجت منها أحيانا بعد تحسّن ما، وأحيانا كانت تهرب لأنها يئست من العلاج، فهي كما تقول "لا أريد هذه الحقن القاتلة، إنها تعشّش في دمي وتحرقني ... أريد العودة إلى بيت أبي" (ص 212)، الأمر الذي جعل الممرّضين يُقيّدونها كي لا تهرب. هذا يعني أنّ الكاتبة تتحدّث عن حالة نفسية مستعصية آلت إليها المريضة أو من تُمثلهم.

كان موفّقا اختيار الكاتبة لشخصية المعيد، وليس لتسميتها كما بيّنت سابقا. هذه الشخصية التي تعرض عليها البطلة قضيتها، تتضمّن إشارة إلى مستوى القارئ الذي تكتب له، إذ تجعل من المعيد ممثلا للقارئ الضمني الذي تبحث عنه وتكتب له، لا ليشاركها القراءة فقط، وإنّما لتستفزّه على الثورة، الثورة على الواقع الذي تعيشه، ذلك الواقع المشوّه الذي يدمّر بطلة روايتها. إنّها تستفزّه على الأقلّ، لرفض ذلك الواقع إن لم يكن لتغييره. والحقيقة أنّ "رجاء المصري"، بطلة الرواية، فشلت في استفزاز المعيد لما هو أكثر من قراءة الأوراق والتعاطف معها. قراءة المعيد لم تكن جديّة أو واعية بدرجة كافية، وإنما جاءت من باب تعاطفه مع تلميذة متميّزة من تلميذاته، ومن ثمّ تعاطفه مع الحالة النفسية من الهلوسة والاكتئاب التي آلت إليها "رجاء"، والتي لمسها بعد توغّله في القراءة وبعد عدد من اللقاءات بها.

حدّدت البطلة لنفسها منذ البداية هدفا معلنا وواضحا، بقولها: "أريد أن أرفع قضية للقضاء"، أو "أريد أن أقاضي المجتمع" (ص 17-18). ولكنها منذ البداية أيضا، وضعت القارئ أمام استحالة تحقيق ذلك الهدف من خلال قول المعيد: "مع أنني متأكّد من الآن (قبل قراءة الأوراق) بأنّ النصيحة (التي سيقدّمها لها بعد قراءة الأوراق) ستكون بالتنازل عن القضية" (ص 19). هذا الأمر يشي بأنّ هذا الهدف هو ليس الهدف الحقيقي الذي تسعى البطلة إلى تحقيقه، وإنّما هو مجرّد وسيلة أو آلية أو إثارة لبلوغ هدف آخر غير معلن قد يكون قراءة المعيد للأوراق فقط. ذلك ما يُفهم من قول "رجاء"، ردّا على توقّعها نصيحة المعيد، في عبارتها التالية: "لا يهمّ يا حضرة المعيد، فأيّة نصيحة منك سأقبلها بعد قراءة الملف" (ص 19). والحقيقة هي أنّ قراءة الأوراق، وإن شكّلت هدفا آنيا، ليست هدفا لذاتها، وإنما من المفروض أن تكون محرّكا لبلوغ أهداف أخرى غير معلنة لم تتحقّق في إطار الرواية.

الأهداف، بين معلنة وغير معلنة، خاصة وأنّها لم تتحقّق، أو أنّ ما تحقّق منها (قراءة الأوراق) لم يعطِ نتائجه المرجوّة، هي تعبير آخر عن الاضطراب النفسي الذي تعيشه البطلة، وعن بلوغها مرحلة تعجز فيها عن تحديد أهدافها وتحقيقها. ما يُؤكّد ذلك، هو أنّ دافع الاستمرار في القراءة عند المعيد لم يكن مقنعا أحيانا، ويشي كذلك بأنّ الكاتبة دفعته إلى ذلك دفعا، بما بينه وبين البطلة من علاقة شخصية مميّزة. لكن مع ذلك، فقد نجحت الكاتبة إذ اختارته إنسانا مثقّفا واسع العلم والمعرفة، في الحياة وفي القانون، كان سابقا محاميا وقاضيا، وهو اليوم معيد يُدرّس القانون في الجامعة؛ ما يعني أنّه إنسان واسع الاطلاع والتجربة، قادر على فهم السطور وما بينها. وهذا يعني أنّها تدرك أنّنا نحتاج إلى الكثير من الوعي لكي نعي قضيتها ونعرف كيف نتعامل معها؟

وقد نجحت الكاتبة أيضا عندما جعلت الشخصية التي تعرض البطلة مشكلتها عليها، شخصية ذكورية، رجلا، وذلك من باب "أنت الخصم والحكَم"، أي المشكلة معك، أنت سببها وجزء منها، فلا بدّ لك أن تُشارك في حلّها، خاصة بعد ما وصل إليه من العلم والمعرفة والتجربة أي من الوعي وتحقيق الذات. ولكن، تظلّ هناك مشكلة جدية: هل المعيد عربيّ أم يهودي؟ الكاتبة لم تعطنا أيّة إشارة تبيّن ذلك، فقد يكون هذا أو ذاك. وقد يكون مردّ ذلك إلى أنّ الكاتبة تبحث عن طرف حيادي يتوخّى الموضوعية في تقييم قضيتها، ولكنها نسيت أنّها وضعت المعيد في روايتها مكان "شهرزاد"، كما ذكرت سابقا، وهذا يقتضي أن يكون المعيد عربيا بشكل واضح، رجلا من مجتمعها، يعترف بدوره في المشكلة ويُساهم في إيجاد حلّ لها، أي ليلعب الدور الذي خلقته الكاتبة له.

ما تقدّم، يُؤكّد ضرورة قراءة "مثلّث توت الأرض" والنظر إلى شخصية "رجاء"، وفهمها بثلاثة مستويات مختلفة، تعكس مستوى القارئ ومدى قدرته على سبر أغوار الرواية واستخلاص ما فيها من مضامين. أو بكلمات أخرى، يمكن النظر إلى شخصية البطلة، "رجاء المصري"، وهي محور العمل الروائي وبؤرة السرد فيه، من ثلاثة مستويات أو ثلاث وجهات نظر مختلفة.

"رجاء المصري" كحالة خاصة

في نظرة سطحية إلى شخصية "رجاء"، نرى أنّها امرأة تعاني بشكل شخصي، وتبحث عن خلاصها الشخصي فقط. ولكن قسوة المجتمع بما فيه من التخلّف والتناقضات المترتّبة عليه، وكذلك حالتها النفسية المعقّدة، قادتاها إلى الانتكاس والإخفاق في المواجهة. ولذلك، ليس غريبا أن يرى بعض القراء أنّ الرواية هي مجرّد قصة لامرأة معتوهة، كما ذهب إلى ذلك زياد جيوسي الذي كتب مقالا حول الرواية، فقرّر في عنوانه أنّ "الرواية كلها بعض من جنون امرأة لا غير"، وتساءل في نهايته: هل كانت القصة كلها بعضا من جنون امرأة لا غير؟!". في مثل هذه القراءة تظهر "رجاء" كامرأة معتوهة، فاتها القطار ولم تتزوّج فأصيبت بحالة من فقدان التوازن، ومن الهلوسة والاكتئاب. فهي لم تتزوّج رغم أنّها "مرغوبة مطلوبة" كما تقول، ولكنّ هذا القول ليس مقنعا، لأنّه قيل بعد الوقوع في الحالة وربما نتيجة لها. كذلك يُنظر إلى جريمة القتل التي تدّعي "رجاء" أنّها "أثّرت كثيرا على نفسيّتها" (ص 21)، على أنّها مجرّد تستّر على واقع الحرمان وعدم الزواج وما آلت إليه حالة البطلة بسببه. أو في أحسن الحالات، هي صدمة زادت من اغتراب البطلة عن واقعها وعن ذاتها. أمّا حرمانها وفشلها في الاقتران برجل فقد أدّى بدوره إلى لجوئها إلى ممارسة الجنس بدون التزام، وبشكل غير شرعي خارج إطار الزواج. هنالك أكثر من إشارة إلى أنّ البطلة اتخذت موقفا سلبيا من كل الرجال، ونفضت يدها منهم كرفاق درب، وأبقت عليهم خدماً يقومون بتلبية حاجاتها الجسدية التي لا يصلحون لغيرها. فهم كما تقول: "كل الرجال جبناء وخائنون" (ص 143). من هذا المنظور يُمكن أن نرى الجنس كحاجة جسدية، أو على أنّه جنس من أجل الجنس. وهذا يُثير مواقف وردود فعل سلبية عند القرّاء، حتى النقّاد منهم، قد تكون مبرّرة إذا نظرنا إليها بمنظار الموقع الذي تنطلق منه الكاتبة. ذلك لأنّ الجنس هنا، يُمارس خارج الزواج، بشكل يُثير قلق المجتمع من سلوك امرأة تقطر شبقا بسبب خوفها من ألّا تكون مطلوبة من الرجال، أي عكس ما صرّحت به في أكثر من موقع، بأنّها "مرغوبة مطلوبة". في هذه العبارة انزياح كبير عن المعنى تُؤكّده كثرة تكرارها. هذا التكرار يُعبّر عن قلق البطلة الذي بدا واضحا في قولها، بعد أن تركها "مختار" وتزوج بغيرها: "اجتزت فترة شاقة بعد فراقه، وأحسست كأنني سلحفاة تائهة في غربة قاسية" (ص 73). العميد أيضا لم يكن مقتنعا بقصص عشق "رجاء"، فقد ضحك بعد الورقة (18) وتساءل مستغربا: "ما قصة المعجبين بك يا رجاء" (ص 80)، وبعد الورقة (19) أكّد استغرابه: "اعتقد أنّ هناك مسألة أكثر تعقيدا وراء قصص العشق هذه، أراك مرهقة، ينهشك القلق" (ص 83). وليس غريبا، فهي تعاني من الـ "مانيا دبريسيا"، الهلوسة والاكتئاب.

تلك الحالة من الهلوسة والاكتئاب، أدّت إلى حالة من الانفلات والثرثرة. وهنا أيضا، تكون الأفكار الاجتماعية والسياسة التي تعرضها "رجاء" في أوراقها، هي مجرّد هلوسات تُطلقها امرأة تُعاني حالة من فقدان التوازن لم يسعفها فيها أحد رغم كثرة علاقاتها، إذ لم نر شخصية واحدة مؤثّرة بشكل فعلي أو جدّي على شخصية البطلة، إذا استثنينا تلك الحادثة، حادثة مقتل ابنة عمّ البطلة، التي ادعت البطلة أنّها أثرت عليها، ولكنّنا لم نشهد تفاعلا جديّا مع تلك الحادثة يُثبت دورها في الانتكاس وما آلت إليه من الهلوسة والاكتئاب، تلك الحالة النفسية التي كانت موجودة أصلا لدى البطلة. شخصية الأب كذلك، رغم كثرة ذكرها، لم يكن لها حضور فعلي إلّا في ذهن البطلة، حيث يُمكن أن نرى أنّ أهميته تكمن فيما أورثها من مرض وتناقضات ساهمت في وقوعها في تلك الحالة من الهلوسة والاكتئاب. الموقف الإيجابي المتعاطف جدا مع أبيها وتضحياته من أجلها، يجعلنا نفكّر بأنّ البطلة تعاني من عقدة إلكترا، التي سأتحدّث عنها لاحقا، أو أنّ تلك العلاقة بأبيها، هي ما كانت "رجاء" ترجو وجوده في الواقع، ولكنه في الحقيقة كان مجرّد وهم أفرزته حالتها النفسية المتقلّبة التي تنكر الواقع وتثبّت الوهم. تلك الحالة هي نتيجة للحرمان التي كانت تعاني منه "رجاء" وقد استخلصها المعيد، كما أسلفت، إذ يقول: "هذه المرأة رجاء المصري ينقصها الحب في جميع نواحي حياتها" (ص 120).

"رجاء المصري"، أو المرأة العربيّة في إسرائيل

من منظور آخر، تلعب "رجاء" دور "شهرزاد" التي تبحث عن خلاصها وخلاص بنات جنسها. وضع المعيد موضع "شهرزاد" في الرواية، كما ذكرت سابقا، لا يتناقض مع دورها بل يدعمه. غامرت "رجاء" بنفسها لإنقاذ نفسها وبنات جنسها، ما يحيل إلى كونها رمزا للمرأة العربية، التي تُعاني بشكل مزدوج، كإنسان وكامرأة، في المجتمع العربي الذكوري المتخلّف، في إسرائيل وبشكل عام"، ذلك المجتمع الذي ما زالت فيه المرأة تعاني من هيمنة الرجل عليها وقمعه لها وتهميشه لدورها. لكنّ مغامرتها، وإن عرضت قضيتها بشكل ما، فقد طغى فيها الوهم على عرض الأحداث، وطغت الانهزامية في تحميل المسؤولية للمعيد وهروب "رجاء" إلى عالم الظلام" (ص 211)، إلى غيبوبتها. ولذلك تظهر النماذج الإيجابية التي عرضتها الكاتبة لعلاقات المرأة بالرجل، كتعبير عن المنشود وليس الموجود. ولذلك، فالعلاقات الجنسية التي أقامتها "رجاء"، من وجهة النظر هذه، يجب ألّا يُنظر إليها كحاجة جسدية أو جنس من أجل الجنس، وإنّما هي تعبير رمزي عن الحرية، الحرية الشخصية، والحرية في الاختيار، والحرية في تحقيق الذات والحقوق. وهي في كل الحالات استشراف لمستقبل منشود، وليست انعكاسا لواقع موجود.

المجتمع الذكوري يقمع المرأة لأتفه الأسباب ويُحِلّ كل شيء للذكر، ويُبرّئه إذا قتلها ويُسجّل الجريمة ضد مجهول. هذا ما نفهمه من سرد "رجاء" لقصة مقتل ابنة عمّها. لذلك، توجّه الكاتبة عبر روايتها رسالة إلى الرجل المثقّف في مجتمعها ليتحمل مسؤولياته ويلعب الدور الذي يليق به. قد يكون هذا أحد الأهداف من اختيار المعيد المثقّف المجرّب الواعي. ولكن، يظهر أنّ هذا المثقّف ليس واعيا بالمستوى الكافي لقضية المرأة، أو غيرها في مجتمعه، أو أنّه يعي تلك القضايا ولكنّه منشغل بغيرها، ربما بما هو أهمّ في نظره، كما سأبيّن لاحقا. ذلك لأنّ المعيد يخذل البطلة منذ البداية، فقد كان متردّدا في قراءة أوراقها، كما أنّه أعلن، منذ البداية أيضا، موقفا واضحا قبل قراءة الأوراق، وهو "أنّ النصيحة ستكون بالتنازل عن القضية" (ص 19). هذا الموقف الذي يُشير في ظاهره إلى حكمة المعيد وحنكته، يحمل في جوهره تخاذل مثقّفي مجتمعنا في حمل مسؤولياتهم. وقد احتاطت "رجاء" سلفا لمثل هذا الموقف المتوقّع، إذ قالت للمعيد: "لا أريد منك أن تُدلي برأيك الآن، بل خذ الملف، اقرأه بتأنٍ، وأنا لدي الوقت الكافي، والمجتمع لن يهرب ... أيّ نصيحة منك سأقبلها بعد أن تقرأ الملف" (ص 19). لو اكتفت "رجاء" بهذه العبارة الأخيرة، "أيّ نصيحة منك سأقبلها بعد أن تقرأ الملف"، لحقّ لنا أن نعود إلى المستوى الأول للقراءة، ونرى "رجاء"، مجرّد امرأة معتوهة أو ساذجة على الأقلّ، ولكن هذه العبارة هي امتداد لما سبقها، "لا أريد منك أن تُدلي برأيك الآن، بل خذ الملف، اقرأه بتأنٍ، وأنا لدي الوقت الكافي، والمجتمع لن يهرب"، هذه العبارة تدلّ على معرفة "رجاء" والكاتبة التي تقف وراءها، بخبايا الواقع، فهي تعرف أنّ الرجل المثقّف في مجتمعها منشغل عن قضايا مجتمعه بقضاياه الشخصية. فهو يلهث وراء لعبة المراتب والرواتب التي، إمّا أنّه لا يحتاج فيها إلى المرأة، وإمّا أنّه يحتاجها كمطيّة فقط. وإن لم يكن الأمر كذلك، فما هو سرّ اختيارها لمثقّف بلغ سنّ التقاعد المهني وربما الجنسي أيضا؟ بذلك أراها تريد اجتثاث فكره الذكوري كفكر متخلف راسخ حتى في أذهان المثقّفين الذين لا يختلفون فيه عن غيرهم. وهي محاولة أيضا لإعداد الرجل المثقف في مجتمعها، ليعرف كيف يتقبّل المرأة، ثم يبدأ بالبحث عن كيفية التعامل معها بشكل جديد ومختلف. ولكن من وجهة نظر أخرى، أرى العبارة السابقة تعكس أيضا نرجسية البطلة والكاتبة معا. فالبطلة تعتقد أنّ أوراقها ستغيّر موقف المعيد ونمط تفكيره، والكاتبة من حقّها أنّ ترى أنّ روايتها سوف تُحدث تغييرا في المجتمع، الأمر الذي لم يحدث، حتى الآن على الأقلّ، استنادا على ما تطرحه في روايتها. أي أنّ الاثنتين، البطلة والكاتبة، لم يُحالفهما النجاح، وبالنسبة للكاتبة، أيضا حتى الآن على الأقلّ. فالمعيد، ربما ازداد تعاطفه، ولكنّ موقفه لم يتغيّر. والمجتمع، بعد صدور الرواية، ظلّ راسخا في أغلاله الاجتماعية والسياسية، وربما أهمّ منها هنا، أغلاله الثقافية المتمثّلة ببُعده عن القراءة التي لا يُقدم عليها إلّا إذا أرغم. والأمر متروك أيضا للزمن وسعة انتشار الرواية. وعليه، فإنّ طموحات "رجاء"، والكاتبة من ورائها، تنكمش لتكتفي كل منهما، من الرجل المثقّف في هذه المرحلة بالاطّلاع على المشكلة ومعرفتها، وهو ما يدلّ عليه، بالنسبة للبطلة، اكتفاؤها بقراءة المعيد لأوراقها، أمّا بالنسبة للكاتبة، فتنتهي الرواية بانتهاء قراءتها، ولذلك من المهمّ معرفة عدد القراء الذي يدلّ على مدى انتشارها، وهل ستصدر في طبعات قادمة أم لا؟
هناك إشارة مهمّة جدا، استشفّها من بين سطور الرواية، إذا صدرت عن وعي الكاتبة فهي شهادة لها بأنّها تعي الحاضر ومعضلاته، والمستقبل ومتطلّباته، وإذا لم تصدر عن وعيها فليس غريبا، لأنّ النص متروك للقارئ، يفكّكه ويبنيه كما يشاء. ولكنّي أميل إلى الوجه الثاني بسبب نهاية الرواية. "رجاء" عاشت أوراقها بشكل فردي شخصي، والمرأة تعيش معاناتها منفردة عن الرجل الذي يسبّبها، والمعيد قرأ أوراق "رجاء" بشكل منفرد، إلّا أنه كان أحيانا يستعين بها لتساعده على فهمها، والرجل في المجتمع يُهمش المرأة ولا يستعين بها إلّا أحيانا، لقضاء حاجاته، فما هي الخطوة التالية والتي تقول الرواية أنّ "رجاء" تبحث عنها؟ بالطبع تقديم القضيّة إلى القضاء. ومن الذي سيقدّمها؟ أليس المعيد و"رجاء"، أي المرأة والرجل معا؟ هذا يعني أنّ القضية تحتاج إلى مشاركة جديّة بين الطرفين، الرجل والمرأة، وذلك هو ما تنشده الكاتبة. وما الذي ينقص مجتمعنا؟ أليست المشاركة الجديّة بين الرجل والمرأة، المشاركة التي تقوم على احترام الآخر وحقوقه وخصوصيّاته وتحمّل كلٍّ منهما لمسؤولياته الذي يدلّ على المساواة بينهما؟ ولكنّ ذلك يظلّ، كما قلت، في إطار التنبّؤ، ما إذا كان الأمر قد صدر عن وعي الكاتبة، إذ لا يوجد في الرواية ما يؤكّد وجود تلك الرؤية التفاؤلية إلى المستقبل عند الكاتبة إلّا عبارتها الأخيرة، "ولم تنته القصة بعد ..."، وهي لا تكفي لتأكيد الطرح المذكور. تأكيد ذلك أنّ القضية لم تقدّم ولم تتابَع لأنّ "رجاء" اختفت والمعيد كان موقفه جاهزا سلفا.

رغم عيوب الرواية التي يكشفها هذا المستوى للقراء، إلّا أنّه بلا شكّ، يظلّ أعمق بكثير من الأول، لما فيه من شمولية ترفض النظر إلى القضية كقضية شخصية لامرأة معتوهة. ومع ذلك فإنّ هنالك مستوى آخر، أعمّ وأشمل وأعمق من السابقين، لأنّه في رأيي يرمي إلى أبعد نقطة يُمكن أن تذهب إليها الكاتبة في "مثلث توت الأرض".

"رجاء المصري"، أو الأقلية العربيّة في إسرائيل
حساسيّة المرأة الخاصة، ولا أقول الزائدة رغم ظهورها كذلك في بعض جوانب الرواية، تلك الحساسيّة الخاصة لأوضاع المرأة في المجتمع، دفعت الكاتبة وبطلتها للإحساس بأوضاع مجتمعهما ككل، ذلك المجتمع الذي يمارس القمع، وينسى أنّه مقموع هو الآخر، تقمعه السياسة الإسرائيلية بما ترتكبه من جرائم ضدّه. وهنا تأتي وجهة النظر الثالثة، التي ترى إلى "رجاء"، بطلة الرواية، على أنّها رمز للأقليّة العربية في إسرائيل، والحالة التي تُعاني منها "رجاء" هي إشارة إلى ما تعانيه الأقلية العربية من أمراض اجتماعية تفتك بها، وممارسات سياسية تُمارس ضدّها وتدمّر حياتها. حياة المجتمع العربي أو الأقليّة العربية في إسرائيل، كما يُمكن أن نستشفّها من الرواية، أو من خلال شخصية "رجاء"، تنطلق في مسارين مختلفين، يؤثّر أحدهما على الآخر بشكل سلبي غالبا. فهما متناقضان غالبا ولكنهما يتّفقان في ممارسة القمع.

المسار الأول هو المسار الاجتماعي: وهو يُمثلّ البنى الاجتماعية ومجموعة النُّظم والقيم والأعراف التي تحكم المجتمع، أفرادا وجماعات، رجالا ونساءً. فكّكت الكاتبة تلك البنى الاجتماعية لتعريها وتفضحها من خلال فضح قيمها المتحرّرة في ظاهرها، المغلقة المتخلّفة في جوهرها. هذا المسار هو الأهمّ، وأبرز ما فيه الظلم الواقع على المرأة. ذلك لأنّ القمع الذي يمارسه المجتمع بشكل عام، وضدّ المرأة بشكل خاص، يُسهّل على السياسة العنصرية الإسرائيلية ممارسة قمعها ضدّه. وهنا تظهر أهمية وعي المرأة لدورها المزدوج: تحرير نفسها من ظلم مجتمعها لتصبح قادرة على تحرير مجتمعها من ظلم السلطة واستبدادها. وهنا يُمكن أن نفهم تلك الحالة من الحرمان والاغتراب التي تعاني منها "رجاء" التي تمثّل الأقلية العربية، ونتفهّم ما يجرّه الحرمان والاغتراب من هلوسة واكتئاب، لأنّ ما واجهته هذه الأقلية التي تُمثّلها "رجاء"، منذ النكبة وحتى اليوم، وما زالت تواجهه من صراع اجتماعي وأمراض اجتماعية متأصّلة في الداخل، وأخرى مزيّفة ومستوردة من الخارج، هو همّ تنوء بحمله الجبال. وأوضاعها المتفاقمة يوميا، تفرض عليها الاكتفاء بحلول آنية، تُشبّهها الكاتبة بـ "الحقن القاتلة التي تعشّش في دمها وتحرقها" (ص 212). تلك الحلول فيها كنس للأسباب الحقيقية للمعاناة تحت السطح، ما يزيد من تعقيد الحالة ومن سماكة الأقنعة المزيّفة التي تحاول الكاتبة أسقاطها. وسيظلّ استئصال المرض وإسقاط الأقنعة متعذّرا، طالما لم تُحلّ جذريّا، مشكلة المشاركة الحقيقية والواعية بين أفراد المجتمع وجماعاته، وخاصة بين الرجل والمرأة. والكاتبة تدرك أنّ ذلك يحتاج إلى الكثير من الوقت والصبر والعمل الجاد، لكيلا تستسلم وتطول غيبوبتها التي يودّ أعداؤها إلّا تفيق منها، كما جاء ذلك على لسان أحد الممرضين عندما قال لزميله في نهاية الرواية: "لن تترك (رجاء) العنبر المغلق بعد، ولن تهرب المعتوهة ثانية". والعنبر المغلق هنا، هو إشارة إلى الحصار الذي تتفق عليه السلطتان: الاجتماعية والسياسية، مجتمعتيْن أو متفرّقتيْن، لتكبيل المرأة أو الأقلية العربية ومنعهما من الانطلاق والتحرّر.
المسار الثاني لحياة الأقلية العربية في إسرائيل كما يُستشف من الرواية، هو المسار السياسي، حيث "تنعم" الأقلية العربية بالقشور النظرية للديمقراطية والمساواة، ولكنها تدفع، اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، ثمن الممارسة الفعلية لذلك "النعيم"، الذي تضرمه السلطة. ووقوده منّا وفينا. فهو يُجسّد السياسة الإسرائيلية القائمة ضدّ العرب، في نظر الرواية وبطلتها وكاتبتها. وفي الواقع أيضا، فهي تقوم على التمييز العنصري ومصادرة الأرض وتفسيخ المجتمع (فرّق تسد) ومحاصرة الفرد والجماعة في حياتهم اليومية وفي لقمة عيشهم، وتقوم على رفض العرب ونبذهم إلّا إذا خضعوا. وعندها فقط تُلبى احتياجاتهم في حدود حاجة السلطة إليهم. ولذلك ليس عبثا ما تقوله "رجاء" في نهاية الورقة (28) بشكل واضح وصريح: "في ظلّ الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي نعيشها كعرب في هذه البلاد فإنّ دولة إسرائيل مجرمة في حقّنا وحقّ شبابنا، فالأسلحة والسموم والعنف منتشرة بيننا والشرطة تُغمض عيونها ما دام بهذا السلاح يقتل الأخ أخاه، وبهذا العنف يموت خيرة شبابنا في الشوارع، والبطالة مستشرية بيننا، ولا مكان لإفراغ طاقات الشباب العنيفة إلّا في الأمور السيئة. كيف لا أجنّ ولا أفقد عقلي وأهلوس مئة هلوسة وكل هذا يحدث أمام عيني؟" (ص 117-118).
على المستوى السياسي أيضا، الجنس الذي مارسته "رجاء" التي ترمز للأقلية العربية، لا يُشبه الجنس الذي مارسته كحالة شخصية أو كرمز للمرأة العربية، فهو في هذا المستوى ليس جنسا من أجل الجنس، ولا يُعبّر عن الحرية كذلك، بل هو انتقام البطلة والكاتبة من مجتمعها العربي ومن السلطة الإسرائيلية، وهدفه التعرية والفضح. فالجنس كما يظهر في هذا المستوى، ارتباط آني يولّد لذّة آنية، لا ينبع عن آلفة ولا يولّد ألفة أيضا، مع أنّه يبدو لأول وهلة كذلك. ودليل ذلك أنّ "رجاء" لم ترتبط رباطا مقدّسا مع أيّ ممن مارست الجنس معهم، ولم يكن الجنس نتيجة لمثل ذلك الرباط، أو حتى دافعا له. وجهلها بالدوافع، أو تساؤلها: لماذا لم ترتبط أو تفكر بالارتباط بهذا أو ذاك، يؤكّد عدم اقتناعها بمثل ذلك الجنس الذي تعشقه السلطة الاجتماعية كتلبية لحاجات الرجل في مجتمع ذكوري، وتعشقه السلطة السياسية كهادم للعلاقات الاجتماعية القائمة على القيم الإنسانية التي حرصت السلطة دائما على هدمها. الجنس الذي لا يقوم على رباط روحي هو تعبير عن لذة آنيّة، والكاتبة تُدرك أنّنا هجرنا كل لذّاتنا الروحية التي سرقتنا منها، أو سرقتها منّا، لذّاتنا الآنية. وتُدرك أنّ للسياسة الإسرائيلية دورا أساسيا في "انتشالنا" من العمق، بمعنى الجوهر، إلى السطح، بمعنى القشور والأقنعة المزيّفة، من لذة الروح إلى لذة الجسد، من سوق الثقافة إلى ثقافة السوق. وعن قصد أقول "انتشالنا"، لأنّنا في نظر السلطة في إسرائيل، عدو تنتشله ولكن من عمق أو بحر آمن يتمثل بأرضنا وتراثنا وقيمنا، وتلقي به في بئر أو حفرة مغلقة خانقة، تتمثل بمصالحها المادية والسياسية وقيمها الدخيلة علينا. ولذلك، لمصلحتها فقط، تحرص السلطة على تقديمنا بثوب صديق، أو كمواطن، متساوٍ في الحقوق والواجبات. والحقيقة ليست كذلك، بل إنّ أيّ وضع سلبي أو شاذ، اجتماعيا أو سياسيا أو ثقافيا أو حتى دينيا، تعيشه الأقليّة العربية، لا شكّ بأنّ للسياسة الإسرائيلية دورا أساسيا فيه.

وعليه، تدفع الأقلية العربية ثمن "النعيم" الديمقراطي المزيّف، وذلك بتفكّك لحمتها الاجتماعية والقومية لتمارس ولاءها للسلطة وأحزابها، تحقيقا للمصالح الفردية التي تُفسّخ المجتمع وتدمّره تحقيقا لمآرب السلطة التي تّدمّرنا وتحرص على أن نظهر وكأنّنا نحن الذين ندمّر أنفسنا بأنفسنا، فكأننا نحن الذين تنازلنا عن هويتنا، ونحن الذين بعنا الأرض، ونحن الذين هربنا ولم نُقتلَع. هذه هي أكبر الجرائم التي تُشير إليها الرواية، الجرائم التي ارتكبتها وما زالت ترتكبها السياسة الإسرائيلية بحقّنا. وهي ما أدّى إلى حالة التّفكّك والاضطراب وعدم الاتّزان التي تعيشها الأقلية العربية، تلك الحالة التي يُمثلها في الرواية التفكّك الاجتماعي الذي تعانيه عائلة "رجاء"، وتلك الحالة من الهلوسة والاكتئاب، أو الاضطراب وفقدان التوازن التي تعيشها "رجاء" نفسها.

أمّا على المستوى الاقتصادي: فالبيارات وزراعة "توت الأرض"، هما شاهد يدمغ سياسة السلطة التي صادرت الأرض وزرعت المستوطنات بين البيارات الفلسطينية التي كانت قائمة قبل اغتصاب الأرض. وظلّ القطف وأعمال البناء في المستوطنات وغيرها، كنموذج للأعمال الشاقّة، من نصيب العرب الذين يُشكّلون سوقا رائجة للعمالة الرخيصة. وزراعة "توت الأرض" في "المثلث"، كما كان حال زراعة الخيار في الجليل (طبعا قبل استنبات خيار الدفيئات)، هي شاهد على الحصار الاقتصادي، فهي عمل شاقّ يقوم على ما تبقّى للعرب من أرض، ولا يحتمله إلّا المغروسون فيها. يبدأ أواخر الصيف ويستمرّ طيلة أيام الشتاء وعواصف البرد، لينتهي في أواسط الربيع. وليست هنا المشكلة، إذ دائما كانت فلاحة الأرض تحتاج إلى جهد وعرق وتحمّل لظروف الطقس. ولكنّ المشكلة تكمن في أنّ الشركات الإسرائيلية هي التي تجني ثمار ذلك الجهد والعرق، فهي تحتكر السوق وتنهب تعب المزارعين إذ ترغمهم على بيع منتوجهم لها بأسعار بخسة، بينما تقوم هي بتسويقه وتصديره، لتربح منه أضعافا مضاعفة، قياسا بما تعطيه للمزارعين من قروش.

كل ذلك ولا مجال هنا لطرق كل موبقات السياسة الإسرائيلية، التي تلامسها الكاتبة بشكل سريع غالبا، تلك السياسة التي تُصدّر للمجتمع العربي الآفة تلو الأخرى: من العنف واستعمال السلاح والمتاجرة به، إلى المخدّرات وانتشار استعمالها والمتاجرة بها أيضا، وغير ذلك الكثير من الآفات مثل البطالة التي تدفع بالشباب إلى السلاح والمخدّرات، وتنمّي ميلهم إلى العنف الذي يفتك بالمجتمع. كل تلك الآفات تزيد من تطرّف المجتمع العربي وتبعده عن القيم الأصيلة التي تربّى عليها ذات يوم.

"رجاء المصري" وعقدة إلكترا

لا أعرف شيئا عن حياة ميسون أسدي الشخصية، إلّا ما قرأته في ذيل روايتها (ص 217-219)، وما قرأته من قصصها القصيرة. يُستشف من تلك المعلومات، بالإضافة إلى ما كتبته في مجال الأدب بشكل عام، أنّها ربما تلقّت تربية منحتها حريتها الشخصية، بخلاف ما كان سائدا في المجتمع العربي آنذاك. وقد كان لأبيها الدور الأساسي والحاسم في تلك التربية، بينما أمّها على ما يبدو، كانت امرأة عربية تقليدية تخضع في سلوكياتها لما يفرضه المجتمع العربي التقليدي على المرأة من قيود تفرضها قيم المجتمع وعاداته وتقاليده. واستنادا إلى ذلك، لا عجب في أن يكون قد ترسّب في لاوعي ميسون تعلّقها بوالدها وعداؤها لأمّها أو استبعادها لها بشكل أو بآخر. ذلك يعني أنّه ليس من المستبعد أنّ يكون سلوك الأب بما فيه من تحرّر، وسلوك الأم بما فيه من تقليدية، قد شكّلا لدي ميسون ما يُعرف بـ "عقدة إلكترا" كما سمّاها "يونغ"، أو "عقدة أوديب الأنثوية" كما سمّاها "فرويد". وهي عقدة تنشأ لدى الفتاة بسبب تعلّقها اللاواعي بالأب وعدائها، اللاواعي أيضا، للأمّ. هذا مجرد توقّع لواقع قد يكون وقد لا. وهو ليس ضروريا في فهم الرواية إلّا لأنّ ميسون أسدي تستند في روايتها، "مثلث توت الأرض"، إلى واقع ما. والعقدة المذكورة تظهر في الرواية بشكل جليّ، حيث أنّ بطلة الرواية في أوراقها، تصوّر أمها كامرأة عربية تقليدية، أميّة، مسالمة، بليدة، يُؤنّبها زوجها أحيانا، خانعة أمام المجتمع وقيمه وأعرافه. وهذا الأمر لا يُعجب "رجاء"، فهي كما ظهرت في الرواية، تغضب من أمّها وتشفق عليها، كما يتبادر من ادعائها أنها لا تشكوها لأبيها "لئلا يصبّ غضبه عليها" (ص 39)، وهي تدّعي أيضا أنّها لا تفرّق بينها وبين أبيها (ص 132). في مثل هذه العبارات وغيرها، أرى أنّ المتكلم فيها هو الوعي القاصر عن بلوغ ما يعتمل في طبقات اللاوعي، أو العاجز عن التعبير عنه، أو أنّ الشخصية تظهر ما لا تضمر كما اصطدمنا بذلك في أكثر من موقع بيّنته سابقا، "مرغوبة مطلوبة" مثلا. يُقابل موقف البطلة من أمّها، ذلك الدور المميّز الذي حظي به الأب في الرواية، والصورة الإيجابية التي رسمتها "رجاء" له. فهي تنظر إليه كمثل أعلى. الكثير من أوراق "رجاء"، التي هي صلب الرواية، تظهر وكأنّها أغنية مديح للأب الذي يُحبّ أولاده ويحنو عليهم، ويخصّ "رجاء" بنصيب الأسد من حبّه وحنوّه. فقد منحها الحياة السعيدة بما فيها من حرية ودلال ومتعة: التعليم، الخروج بحرية، المصروف غير المحدود، الملابس غير المحتشمة وقصّات الشعر التي لا يتقبّلها المجتمع، وغير ذلك الكثير. ويظهر تعلّق البطلة الجنسي اللاوعي بأبيها من خلال نظرتها إليه، فهو "الأكثر وسامة بين شباب البلدة، طويل القامة، أزرق العينين، ذا ذكاء لامع" (ص 53). أضف إلى ذلك كله، أنّ "رجاء" تقول بشكل واضح في نهاية الرواية، ما يشير إلى عدائها لأمّها، الواقع أو الرمز. تقول: "لن أسكن في بيت أمّي بعد وفاتها" (ص 209)، بينما تقول بعد ذلك، ما يشير إلى تعلّقها بوالدها، الواقع أو الرمز أيضا: "أريد العودة إلى بيت والدي" (ص 212). وهي عبارات لها دلالاتها، سواء في بيان عقدة إلكترا لدى البطلة، أو في فهم الرواية ورسائلها ككل.

على المستوى الشخصي، من الواضح أنّ "رجاء" متعلّقة بأبيها، بينما هي بعيدة عن أمّها. وإن لم تكن تكرهها في وعيها، فهي بالتأكيد ترفضها في لاوعيها بسبب خنوعها وبلادتها وجهلها. وعلى المستوى الاجتماعي، من الواضح أيضا، أنّ "رجاء" تريد أن يكون رجال المجتمع العربي كأبيها، يحترمون المرأة، لا يقمعونها، ويؤمنون بحقّها في الحياة والحرية. كما أنّها ترفض خنوع النساء، المتمثّلات بأمها، اللواتي يتمسكن بقيم المجتمع وأعرافه المتخلّفة رغم قمعه لهن، ويتنازلن بسهولة عن حقوقهن التي تُهضم ولا يدافعن عنها بسبب خنوعهن.

النرجسية بين الشكل والمضمون

لا يختلف اثنان أنّ النرجسية عند المرأة أكثر حدّة منها عند الرجل، ربما لأنّ المرأة تقف أكثر من الرجل أمام المرآة، تدفعها إلى ذلك حاجاتها الشكلية والنفسية. أمام المرآة، يحدّق الإنسان في نفسه، ينظر إلى الشكل غالبا، ولكنّه يغوص أحيانا إلى أعماق نفسه، يخاطبها ويُحاورها، يتّفق معها أو يختلف. المعجب بنفسه يبرز "الأنا" في كلامه، والمرأة غالبا شديدة الإعجاب بنفسها، تحرص على إبراز هذا الإعجاب، بتصرفها أو لغتها، أمام نفسها وأمام الآخرين، رجالا كانوا أم نساء. في "مثلث توت الأرض"، نرجسية البطلة وأناها يبرزان في شكل الرواية ومضمونها. وأبرز ما يحيل إليهما هو استخدامها لضمير المتكلم، "الأنا"، في سردها لأوراقها. والبطلة تتماهى شخصيتها في جوانب كثيرة أو قليلة مع شخصية الكاتبة. من اللافت أنّ استخدام "الأنا" في الرواية في كثير من الأحيان، لا يخدم شخصية البطلة وتطوّرها بقدر ما يخدم أنا الكاتبة. فهو لا يزيد عن كونه تكرارا، مُملّا أحيانا، لقصص وأخبار لا تضيف، باعتراف البطلة والكاتبة من ورائها، شيئا للقضية الأساس. ولو توقّف الأمر عند هذا الحدّ لما جاز لنا أن نقول أنّ النرجسية هي الدافع، وإنّما هو حقّ الروائي أن يبحث لنفسه عن الأسلوب المناسب للسرد. ولكن، هناك إشارات أخرى كثيرة، في الشكل والمضمون تُؤكّد ما أطرحه من أثر نرجسية الكاتبة في روايتها.

استخدام "الأنا" في إظهار أثر نرجسية الكاتبة في الرواية، ترفده عناصر أخرى كثيرة تتعلق بالشكل والمضمون. من حيث الشكل، تُقسّم الكاتبة روايتها إلى أوراق عددها بعدد سني عمرها، في حين أنّ ذلك لم يكن ضروريا، لأنّ الأوراق تعثّر تقسيمها كما أسلفت. كما أنّ الرواية ليست رواية سيرة ذاتية. وهذا نفسه دليل آخر. والقرب من الشكل السيري في الرواية، لم يكن ضروريا أيضا. لذلك، أن ترسم الكاتبة شخصية البطلة بحيث تتماهى مع شخصيتها أحيانا، في حين لم تكن هناك ضرورة لذلك، يعني انّها تريد من شخصية البطلة أن تُحيل القارئ إلى شخصية الكاتبة. وذلك يُثير لديّ الشعور بأنّها لم ترد لبطلة روايتها أن تكون أكثر شهرة منها، لذلك ربطت نفسها بها، بالشكلين المذكورين وغيرهما أيضا، كاختيار اسم عائلة البطلة، "المصري"، الذي هو اسم عائلة الكاتبة بعد زواجها. كذلك اختيارها أن تكون هي الأبرز في السرد وفي العائلة بين إخوتها وأخواتها. كان من الممكن أن تُعطي للراوي العليم دورا أوسع في السرد، لكنّها قيّدته بافتتاح السرد وإغلاقه، ما يشي بإخضاعه لإرادتها لانعدام ثقتها به. وهي صفات نرجسية لا شكّ. لو منحت الكاتبة الراوي العليم ثقتها، واختارت للبطلة شخصية مستقلة تماما عن شخصيتها، لكانت ذلك أكثر مصداقية، ومكّنها بواسطته من الغوص الواعي في طبقات لاشعور البطلة، خاصة وأنّ حالة البطلة المرضية / النفسية من الصعوبة بحيث لا تُمكّنها من فعل ذلك.

ما ذكرته سابقا عن تجريب الكاتبة، بأنّها فشلت في تحويل حساسيتها اللاواعية إلى حساسية واعية ومسيطر عليها. بالإضافة إلى ما تقدّم من انعدام ثقة الكاتبة بالراوي العليم، ومن عدم منحها الاستقلالية التامة للبطلة عن شخصية الكاتبة، أفقد الرواية قدرتها على التعامل مع تقنيات تيار الوعي، وشخصية البطلة قدرتها على البوح والحفر في أعماق لاشعورها. وهما أمران كانت الرواية وبطلتها بأمسّ الحاجة إليهما.

أمّا من حيث المضمون، فالأدلّة كثيرة أيضا، يبرز فيها "أنا" البطلة في مقابل الآخر الذي تتفوّق عليه في كل شيء. في البيت مثلا، كانت، كما تقول، المفضلة عند أبيها الذي "لم يرضَ أن أبتعد عن حضنه كلما كان في البيت. نور آسر أشرق في وجودي، دلّلني وأحبّني" (ص 25-26). تقول أيضا: "أحبّ ذكائي جميع من في البيت، كنت سريعة البديهة، صاحبة كلمات ذكية بعيدة المرمى، ذات ذاكرة جيدة" (ص 26). وتقول: "عندما خرّ والدي صريع المرض، كنت أقوى إخوتي" (ص 131)، ولم تقل مثلا: "وقفت إلى جانبه"، دون ربط نفسها بالآخرين. كذلك تقول: "ثار جنوني على جدّي وقلت له صارخة: أنت لست جدّها فكيف تعطيها المال؟" (ص 38). أي أنّها غضبت من جدّها لأنّه أعطى صديقتها مبلغا من المال يساوي ما أعطاه لها، أي لأنّه ساوى بينها وبين صديقتها، غضبت منه وقاطعتها. وهكذا هو حال الآخر مع الإنسان النرجسي، يضعه في قفص الاتهام دائما، ويصبّ غضبه عليه إن لم يخضع. تقول أيضا: "أخوالي تسابقوا فيما بينهم على محبتهم لي، حيث كانوا يُغرقونني بالهدايا" (ص 38). وهي كذلك قوية لدرجة أنّ أهل البيت يستطيعون الاعتماد عليها. تقول لأبيها القلق، قبل موته، بشأن أخيها الصغير: "لا تحمل همّ، ما دمتُ موجودة" (152). وخالتها تتوجّه إليها لأنّها الوحيدة التي تتكلم العبرية بطلاقة، وتعرف كيف تتعامل مع الشرطة (ص 166).

في المدرسة، معلّم الزراعة يصادقها، وفي الصف كانت الألمع بين زملائها. تقول: "تحدثتُ أمام الطلاب بلغتي الإنجليزية بطلاقة ... المعلم أطلق عليّ اسم "القاموس"، فمن لا يعرف من الطلاب أيّة كلمة بالإنجليزية كان يقول لي: أجب يا قاموس" (ص 63). وفي الكليّة، زميلاتها يبتعدن عنها لأنها "تحصل على درجات أعلى منهن" (ص 185). كل ذلك يُظهر أن لديها مشكلة مع الآخر، فإمّا أن يخضع لتفوّقها، وإمّا أن تنبذه عنها.

في الحبّ تقول: "بعد القُبَل، ذهبنا عند صاحبتي وسهرنا حتى الصبح، وغفوت على ساقيه. بقي يقظا لم يغمض له جفن حتى الساعة السابعة صباحا، كي لا يقلقني ويوقظني" (ص 84). ولا يفوت القارئ تكرارها المبالغ فيه أنّها "مرغوبة مطلوبة والمحبّون كُثر". وهي متميّزة حدّ الوهم في علاقاتها مع أصدقائها الذين تُحبّهم. أثناء تشييع جنازة مدرّسها اليهودي، المثلي الجنس، "أيتسيك"، تقول: "طلبتُ من منظِّمة الجنازة أن ألقي كلمة، مع أنني لم أدرج في قائمة المتكلمين" (ص 91)، وتخضع المنظِّمة لطلبها، ما يشي بحبّها للظهور وخضوع الآخر لها. وعندما تكلمتْ، رثتْ الميت بأغنية من التراث الفلسطيني أبكت الحضور. ولم تنسَ أن تجعل إحدى الصحف العبرية تكتب أنّ أغنية "رجاء" "أبكت الحضور، وأبكت أوراق شجر الأفوكادو" (ص 92). سبق لي الحديث عن الأغنية وتوظيفها.

في مستشفى الأمراض النفسية أيضا كانت متميّزة ومميّزة. تقول: "كانت المعاملة في المستشفى خاصة، ذلك لأنّني فتاة جامعية متفوّقة" (ص 111). وقد أحبّها طبيبها الخاص، فجعلوا غرفتها بجانب غرفته، تقول: "اعتبروني في المستشفى حالة خاصة" (119). والأخصائية كانت تشجّعها بقولها: "أحسن عباقرة العالم مرضوا بهذا المرض، من موسيقيين ورسّامين وسياسيين" (ص 124). كل ذلك يزيدها انتفاخا، وقربا من الآخر الخاضع، وبعدا عن الآخر الذي تفشل في إخضاعه.

ليس غريبا أن يكون الإنسان نرجسيا، رجلا كان أو امرأة. كما أنّه يُمكننا أن نتحمّل نرجسيّته في حدود معيّنه. ولكنّ السؤال الذي أطرحه هو: ما الذي أضافته نرجسيّة الأسدي أو نرجسية بطلة لروايتها؟ أعتقد أن تلك المعلومات، وغيرها الكثير، خاصة إذا تجاوزنا المستوى الأول للقراءة، ولم نكتفِ بالنظر إلى "رجاء" على أنها مجرد امرأة معتوهة تُسيطر عليها تلك الحالة من الهلوسة والاكتئاب، وإنما نظرنا إليها كنموذج يُجسّد معاناة المرأة في المجتمع العربي، أو كرمز للأقلية العربية في إسرائيل، أعتقد انّها لم تُضف الكثير، بل انتقصت أحيانا من جمالية الرواية وبثّت الملل في نفس القارئ. وهذا يقودني إلى القول إنّ الكاتبة هدرت جزءا كبيرا من طاقاتها في استعراض نرجسيّتها بدل أن تبذلها في بناء الرواية، وقد كان ذلك ممكنا، خاصة في لغة الرواية التي تحتاج إلى الكثير من العناية.

ودليل آخر وأخير، يربط بين النص وخارجه. "رجاء" نفسها تعترف بأنانيّتها. تقول: "أعتقد بأنني أنانيّة بعض الشيء، وهذا ما يقوله عنّي أهلي" (ص 185). والاعتراف ببعض الشيء يحيل إلى الشيء كله. وحتى إذا لم نسلّم بإنّ "رجاء المصري" هي "ميسون أسدي"، واكتفينا بقبول أنّ صوت الأولى يُمثل صوت الثانية في كثير أو قليل، سنجد أنّ الكاتبة بدأت الرواية وأنهتها بنزعة نرجسية واضحة، لا يتبيّنها القارئ إلّا بعد استكماله القراءة. الإهداء، كعتبة ثانية من عتبات النص، له دلالاته. وقد أهدت ميسون أسدي روايتها "إلى صاحبة الشامة السوداء التي لم تفقد الأمل" (ص 5)، والتي لم نعرف من هي إلّا في نهاية الرواية، حين عبّرت "رجاء" عن لامبالاتها بما يحدث وما قد يحدث لها بعد أن تكون قد "دلفت إلى عالم الظلام ..." (ص 211)، فأيّ أمل وقد انتهت البطلة إلى عالم الظلام؟ وتتابع "رجاء": "كل هذا لا يضايقني، كل ما يضايقني الشامة السوداء تحت إبطي (أي إبط رجاء نفسها) وهي على شكل توتة. تزعجني كثيرا رؤيتها" (ص 211). إذن "رجاء" هي صاحبة الشامة، وقد تكون ميسون اسدي نفسها. لتلك الشامة وللونها وشكلها دلالات لها دور مهمّ في فهم النص وخاصة المعاني المقلوبة فيه. ولكن، كيف ستؤثّر تلك الشامة السوداء على القارئ الذي أغفل الإهداء ولم يقرأه؟ ومع ذلك، ما يهمّنا هنا هو اعتراف البطلة الصريح بأنّها هي صاحبة الشامة السوداء. وإذا اكتفينا، كما أسلفت، بقبول أنّ صوت "رجاء" يُمثل صوت الكاتبة، تكون الكاتبة قد أهدت روايتها لنفسها وألغتنا جميعا. ذلك حقّها، ونحن، القرّاء، لا نغمطها ذلك الحقّ مهما رفضناه، ولا يبقى أمامنا إلّا أن نلتمس العزاء في أنّ كثيرين من كتّابنا وكاتباتنا، وليست ميسون وحدها، يعشقون النرجس!!!
* * * * *
ومهما يكن من أمر، فخلاصة القول في المضمون، هي أنّ ميسون أسدي كشفت في روايتها عن وعيها لقضيتها الشخصية، ولقضية المرأة العربية في مجتمعنا، ولقضية الإنسان العربي أو الأقلية العربية في إسرائيل. وكلها قضايا مترابطة يتناسل بعضها من بعضها. ولكن، سواء اجتمعت هذه القضايا أم تفرّقت، لا أحد يستطيع أن يُنكر الجهد الذي بذلته الأسدي في كتابة الرواية، وأنّ أصحاب تلك القضايا، منهم ولهم، ولدت رواية "مثلث توت الأرض"، رغم ما فيها من إشكاليات فنيّة ولغوية. أمّا من ناحية عامة، فإنّ ميسون أسدي، بروايتها "مثلث توت الأرض"، وبما فيها من إخفاقات ونجاحات، استطاعت أن تسدّ ثغرة في مسار الرواية العربية المحلية، وأن تضيف لبنة إلى اللبنات القليلة في مجال الأدب الروائي المحلّي، والأدب النسوي بشكل خاص. وقد استطاعت أيضا أن تعبّر فيها عن قلق الإنسان العربي في إسرائيل، وعن اغترابه وتشظّيه وإحساسه الشديد بأزمته الشخصية وأزمة مجتمعه، وخوفه من مصير مجهول يتربص به. وهي بالتالي دعوة مباشرة إلى الاحتجاج، أو غير مباشرة إلى التمرّد، على الأوضاع المتردّية التي تعيشها المرأة في مجتمعنا العربي، والتي يعيشها الإنسان العربي في إسرائيل.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى