الجمعة ١ آب (أغسطس) ٢٠٠٣
حالة المنظمات غير الحكومية في لبنان

القيادة النسائية والإبداع ـ الحلقة الثانية

"بعض النساء يبدين استئثاراً بالسلطة وتنافساً عليها أكثر من الرجال".

عزة شرارة بيضون

أستاذة في قسم علم النفس، كلية الآداب الجامعة اللبنانية

مجلة دراسات الوحدة العربية ـ 2003

نساء في القيادة أم قيادة نسائية؟

هل تأثرت الممارسة القيادية التي انتهجتها هؤلاء النساء بكونهن نساء؟ هل تأثرن بها؟

هل أن قيادتهن لمنظمات غير حكومية تؤسس لمثال قيادي جديد يمكن نعته بـ "القيادة النسائية"؟

اتجهت المستجوبات الى اعتبار القيادة موقعاً حيادياً، وبعضهن استغرب النعت المقترح.

ومن ملاحظاتهن:

"لا أجد فروقاً جندورية في القيادة"، "الأمومة – أحد ركائز الهوية الأنثوية - شأن خاص، ولا علاقة لها بموقع في الفضاء العام من حياتنا". .. الخ.

وبعضهن استرسلن في وصف تربيتهن المنزلية الحيادية جندرياً التي وفرت لهن فرصاً مساواتية، بل أحياناً، تنافسية وقيادية كانت بمثابة ركائز ثابتة لبناء شخصيتهن القيادية. وأخريات يمارسن القيادة بنهج يجدنه ذكرياً:

"أنا أمارس القيادة كالرجال؛ أجد نفس مضطرة لإعطاء الأولوية للوصول الى الأهداف لا لإعلاء العلاقات الإنسانية. وهو ما يثير التباساً لدي، لأنني أدّعي أنني أعمل تحت مظلة التنمية البشرية".

وهناك من يجد أن القيادة موقفية (أي، مرتبطة بالوضعية)؛ ومن الوضعيات ما تستدعي قيادة نسائية ومنها ما يستدعي قيادة رجالية:

"النساء، بعامة، لا يملكن ثقافة شمولية؛ تستغرقهن التفاصيل فيبرعن في قيادة محددة بموضوع معين".

ولدى مقارنة النساء والرجال على رأس المنظمات غير الحكومية خلص بعضهن الى استنتاجات أولية حول سمات أنثوية لديهن ربما ساهمت في بناء شخصيتهن القيادية:

"ربما حملت الى القيادة سمات تعتبر أنثوية كالعلائقية والمهارات التواصلية والإصغاء".

"لعل صواب حدسي الذي ألجأ اليه أحياناً من سمات النساء".

" لعل تراجع اهتمامنا بالموقع أمام اهتمامنا بالقضية، وتفضيل مصلحة الجماعة على المصلحة الفردية، هو ما يميز أسلوبنا عن أسلوب الرجال".

"لعل امتياز خلقنا للحياة يدفعنا الى الحفاظ عليها ويسهم في جعلنا أكثر مسالمة وأقل عدوانية في نهجنا القيادي".

"نحن القيادات النسائية، وبعكس الرجالية، ذوو بروفيل منخفض . . . وهو ليس دائماً في مصلحة قضيتنا".

لكن الفروق الفردية فيما بين النساء أو فيما بين الرجال ماثلة في أذهان القيادات المستجوبة، وذلك في أمثلة مضادة من كل من الفئتين. هذه الأمثلة ترفع حجة في وجه ثبات النعوت المفترضة، مبرزة المميزات الشخصية للقائد – الأكثر تأثيراً في تعيين طبيعة القيادة:

"بعض النساء يبدين استئثاراً بالسلطة وتنافساً عليها أكثر من الرجال".

"الرموز الأكثر مسالمة في العالم هم رجال لا نساء".

"المرأة غير المشبعة عاطفياً في حياتها الخاصة تنتهج، ربما، نهجاً قيادياً متسلطاً أكثر من الرجال".

من جهة ثانية، تعترف النساء المستجوبات بأن الأثر الذي تركته ممارسة القيادة على شخصين ليس قليلاً. وباستثناء قلة، جاء هذا الأثر إيجابياً على أكثر من وجه. فهو لدى البعض – الأكبر سناً منهن بشكل خاص – مشاعر من الثقة بالذات كن يفتقدنها، ومن الرضا عن الذات والفخر مصدره رفعة المقام والشهرة واستواؤهن مثالاً / قدوة يُحتذى به، ومصدره أيضاً الإنجازات التي حققتها جمعياتهن. فيما كان بالنسبة الى الجميع موقعاً زاخراً بالخبرات والتجارب التنظيمية والعامة شحَذَ قدراتهن ومهاراتهن الاجتماعية والسياسية والتنظيمية (التواصل، حل النزاعات، اللوبينغ، السعي للتمويل (Fundraising)، الخطابة والكتابة. . . الخ)؛ هذه جميعها وفرت لهن الفرصة للتطور الذاتي والتجدد المستمر. والقيادة موقع سمح لهن بالإطلالة على "العالم" ومواكبة حركته عن كثب، وكان مدخلاً للاطلاع على الحركة الاجتماعية العالمية برمتها أغنى شخصيتهن على نحو نوعي.

قيادة جمعيات ومنظمات أخرى

تتنوع الاختبارات القيادية السابقة لهؤلاء النساء، فهل تختلف قيادة المنظمة غير الحكومية عن قيادة / إدارة منظمات أخرى؟

اللواتي كن في منظمات مهنية – تعليمية تكلمن عن صعوبة قيادة جمعياتهن بالمقارنة مع تلك التي تتصف، أساساً، الانبناء غير الصارم والتنظيم الأقل انضباطاً، وبوضع المرؤوسين الطوعي غير المحكوم بمعايير أو قوانين إلزامية.

وفي عينتنا، كما سبق وذكرنا، ثلاث رئيسات متعاقبات على المجلس النسائي اللبناني. هؤلاء انتخبن الى موقع الرئاسة لأن المنظمة غير الحكومية التي كانت الواحدة منهن على رأسها من الائتلاف الذي يكوّن هذا المجلس. ومنظماتهن، وبعكس الأغلبية الساحقة من جمعيات المجلس، معنية بشؤون النساء وحقوقهن، ويتسم أعضاؤها بتجانس أكبر في الذهنية والمستوى الثقافي وتراث العمل الاجتماعي. هؤلاء اصطدمن بتنوع واختلافات شديدة بين مرؤوساتهن في المجلس النسائي المذكور جعلت احتمالات طرح مشروع مشترك ضئيلة. وقد اصطدمت القياديات الثلاثة، تباعاً، بغياب التوافق حول محور أساسي في النضال النسائي اللبناني – أهمها استبدال قوانين الأحوال الشخصية المذهبية المتعددة بتعدد المذاهب بآخر موحد لكل المواطنين. ومصدر التنافر هو طبيعة المجلس النسائي اللبناني الجامع لكل أنواع المنظمات التي تجتمع على خاصية وحيدة في جندر ناشطيها – وكلهن من النساء، فيما موضوع عملها الاجتماعي لا يتعلق بقضايا النساء حصراً، بل هو أي شيء تقريباً. ومن هذه المنظمات ما هو ملتحق بأحزاب أو بمنظمات أو كتل سياسية ومرتبط، إذاً، باتجاهاتها العامة ومواقفها. فيمسي أخذ القرار حول مسألة معينة في هذا المجلس مسألة شائكة وطويلة بالمقارنة مع منظمة تتسم بتناسق أكبر بين أعضائها على غير صعيد. والحالة أكثر تعقيداً، بالطبع، في مجال القيادة. لكن تبقى قيادة تآلف لمنظمات غير حكومية متعددة باعثة على التحدث لاختبار قدراتهن القيادية ومصدر إغناء للذات وللمعرفة بنسيج المجتمع اللبناني.

وفي عينتنا، أيضاً، قيادية نقابية. هذه ترى أن مصدر الاختلاف بين نمطي القيادة – على رأس منظمة نقابية أو على رأس منظمة نسوية – يكمن في تباين الموضوعات التي تجمع بين الناس في كل من لتجمعين. في الأولى اللقاء واضح الغاية ويملك تراثاً واسعاً، ناسه يجتمعون على مصالح محددة ويخوضون صراعاً مع طرف ذي مصالح مناهضة صريحة. هذا، فيما تتسم الوضعية النسائية عندنا بالتعقيد؛ فتتشابك، على نحو وثيق، مصالح النساء مع مصالح فئات أخرى مناهضة لقضيتها. وهو أمر يعيق استقطاب النساء وتنظيمهن. من جهة ثانية، يلف الغموض مفهوم "تحرر المرأة"، الأمر الذي يلقي بظلاله على الاستراتيجيات النسائية وعلى خطاب الحركة النسائية بمجملها.
إن لواقع المنظمات غير الحكومية الحر من الانبناء الصارم، بالمقارنة مع المنظمات المجتمعية الأخرى، أثراً متجاذباً في استعداداتهن للفعل فيه. ولما كان الخطاب النسائي عندنا ما زال في طور البلورة، فإن المجال يبدو رحباً أمام هؤلاء النساء للإبداع، إن في تنظيم أحوال اجتماعهن، أو في صياغة علة ذلك الاجتماع وغاياته.

القيادة والازمات

في الأزمات التي تعترض المنظمات، تتجلى الديناميات التي تحكم علاقات القوى القائمة في ما بين هيئاتها المختلفة وبين أشخاصها؛ ومعالجتها كشّافاً للأسلوب القيادي ومكامن الإبداع فيه. من هنا سؤالنا لهؤلاء القياديات أن يروين لنا تفاصيل أزمة واجهتهن، وأيضاً سُبُل مواجهتها.

في المنظمات غير الحكومية القديمة العهد نسبياً والتي استقرت، عبر السنين، على بنية تنظيمية معينة، تكون الأزمات طارئة ويتم استيعابها تنظيمياً؛ ومن هذه: أزمات مالية، أزمات متعلقة بتوفر الخبرات، أزمة استقطاب، أزمة ناتجة من التحالفات مع منظمات أخرى. . . الخ. أما الأزمات التنظيمية الداخلية المتعلقة بتضارب الصلاحيات بين الهيئات المختلفة، أو "تصارع الشخصيات" وتوتر علاقاتها بعضها ببعض، فقد كان لرئاسة الجمعية باع طويل في معالجتها في بداية عهدها، بخاصة. لكن حلها ما لبث أن صار، مع الوقت، خاضعاً لآليات ومعايير تراكمت وباتت من تراث حل النزاعات في الجمعية. هذا النمط من الأزمات تواتر ذكره لدى القيادات النسائية في منظمات نسائية.

أما الأزمات الأكثر بنيوية، داخلية أكانت أم خارجية، فمصدرها طروحات / خيارات للقيادة تحمل في طياتها بذور المآزم اللاحقة. وللتمثيل على ذلك نتناول مسائل مطروحة في بعض المنظمات التي قابلنا قياداتها:

حركة حقوق الناس:

منظمة مختلطة ذات قيادة نسائية، مثلاً. هذه اختارت واعية استقطاب فئات شابة. ومسوغ ذلك قابلية هؤلاء وطواعيتهم للتدريب والتربية على المفاهيم واللغة المتداولة حول القناعات الأساسية التي تجمعهم معاً. هؤلاء يسعهم التأثير في الخط العام للمنظمة لأنهم يشاركون، فور انتسابهم وبالاقتراع، في اتخاذ القرارات. وذلك على الرغم من أنهم لا يملكون، بعد، الكفاءة التناسبة مع درجة تأثيرهم. إنه خيار واعٍ اعتمده مؤسسو هذه المنظمة منذ البداية ويرتكز على تصور للتنظيم ولآلية اتخاذ القرار متلازم مع الخيار الأولي لموضوع العمل الاجتماعي: "أن ينتسب الناس الى منظمتنا وفق قناعات أساسية – اللاعنف، مثلاً – ويشاركون منذ البداية في اتخاذ القرارات دون أن تكون لديهم كفاءات عالية لأن ذلك يمثل الطريقة الفضلى للاختبار والتعلم".

وإذ تبين أن الخيار المزدوج – استقطاب فئات شابة تنقصها الخبرة وتخويلها امتياز اتخاذ القرارات – ينتج ضرراً ينعكس على العمل، باتت معالجته وإعادة النظر فيه ضرورة ملحة. هذه أزمات ملازمة للعمل العام ولا يمكن تفاديها. وإذ تقع مسؤولية الأزمة على القيادة، في البدء، لكنها لا تلبث أن تصبح جماعية بفعل عدم تنبه الأعضاء جميعاً لها ولعدم مطالبتهم بإجراء تعديلات تفضي الى تصحيح الخيارات التي أخذتها القيادة. "ونحن توصلنا، جماعياً، الى تعديل خيارنا الأولي، لا الى إلغائه". أي أن المنتسب حديثاً ذا الخبرة المتواضعة يبقى عضواً مقرراً بالاقتراع، لكنه يكون كذلك في الموقع المناسب وفي الوقت المناسب؛ وذلك رفقاً به وبالجماعة من تعسف الامتيازات المرتبطة بموقع لا يحوز الكفاءات الضرورية، بعد، لحملها.

في منظمة أخرى مختلطة وذات قيادة نسائية – الحركة الاجتماعية – تمثلت الأزمة الأكبر التي واجهتها في خيار التمأسس الذي اعتمدته القيادة الحالية بمواجهة تضخم شخصية القائد السابق وسطوة صورته على صورة المنظمة. هذا الخيار يحمل في طياته إمكانية تعطيل خيار أساسي آخر في الجمعية هو إبقاؤها حركة قائمة، أساساً، على استقطاب المتطوعين وإحداث أثر سياسي عام في مفهومي التنمية والمواطنية، "الأزمة تمثلت بالعمل على خطين متنافرين: مأسسة الحركة وإبقاؤها "حركة" في الوقت نفسه".

وفي منظمة نسائية حصراً – التجمع النسائي الديموقراطي – تزامن اختيار التزام خط نسوي سياسي للقيادة مع خيار الاستقلال عن المنظمة السياسية التي كانت تعتبر المنظمة النسائية رديفة لها وتمول نشاطاتها. وتزامن ذلك، أيضاً، مع خروج معظم الكوادر منها لدواع مختلفة، كان أهمها السفر خارج البلاد خلال الحرب اللبنانية. وقد أسبغ هذا الوضع على القيادة تمركزاً شديد الوطء منافياً لجوهر خطها العام، وأثقلها بالمهام من كل الأنواع.

كيف واجهت القيادات الوضعيات / الأزمات هذه ؟

أكثر النساء اللواتي استجوبنا عالجن المسائل التي واجهتهن بالتعاون مع الجماعة المحيطة، بالقيادة الجماعية – باللجنة المؤسسة أو باللجنة التنفيذية – بالتجمعات النسائية الأخرى، للبحث معها، فرادى أو جماعات، عن أفضل الحلول. وقلة وجدت نفسها وحيدة فاضطرت لاستنباط الحلول بالتأمل وبالرجوع الى مواردها الذاتية من خبرات اكتسبتها في ممارسات سابقة في العمل الاجتماعي / السياسي. واللافت أن اللجوء الى المستشارين والخبراء، كما اللجوء الى أعمال الباحثين والباحثات، كان المدخل الأكثر رواجاً لمعالجة تلك الوضعيات. أي أن المعرفة بالوضعية – بتاريخها وبما يحيط بها حاضراً، والقوى المعنية بها، والمعالجات المختلفة بها – كل هذه أو بعضها بدت منطلقات أساسية لعمل هذه القيادات. وفي حال غياب دراسات حول الموضوع، فهي بذلت جهوداً لرعاية أبحاث توفرها. ومن الأمثلة على ذلك الدراسة الشاملة الصادرة عن التجمع النسائي الديمقراطي حول المرأة اللبنانية العاملة، والدراسة التي أجراها المجلس النسائي حول النساء اللبنانيات في مراكز القيادة (قيد النشر)، ومنشورات الهيئة اللبنانية لمناهضة العنف ضد النساء. والجدير ذكره أن لجنة حقوق المرأة اللبنانية ترعى مركزاً للأبحاث النسائية.

ومن الأمثلة على ما نقول استجابة إحداهن لطرح مسألة الأحوال الشخصية. . . ". . . لما كانت هذه المسألة جديدة على اهتماماتي، فقد تطلب مني ذلك جهداً بحثياً. قمت برصد كل ما كتب حول الموضوع وكل الأنشطة التي أنشئت حوله، واتصلت بكل الأشخاص والأحزاب الذين عملوا على هذه المسألة، وقمت بتجميع كل ما كتب حول التحركات في الصحافة. هذا الجهد التوثيقي بدا لي ضرورياً قبل دعوة الشخصيات والهيئات المعنية الى لقاء عام حول القضية".

وتقول أخرى: "في غياب كادرات تنظيمية بداعي السفر، كان علينا أن نهيئ بدائل يسعها القيام بالمهام التنظيمية. وبدا لنا أنه من الضروري إعلاء كفاءة هؤلاء المعرفية والتنظيمية. وبدأنا بإقامة ما تبين لنا، لاحقاً، أنه يدعى "تدريب" في الخارج. اكتشفنا "التدريب" قبل أن يفد الينا بواسطة المنظمات غير الحكومية الدولية أو منظمات الأمم المتحدة، وبحلته المعروفة".

تمهيد للإبداع؟

على قاعدة تحليلنا للكلام الذي أرسلته القيادات النسائية استجابة لأسئلتنا، كيف يتجلى الإبداع في قيادة هؤلاء للمنظمات غير الحكومية التي يرأسن؟

باستثناء الرئيستين المؤسستين في عينتنا، تتجمع مسوغات اختيار النساء القياديات على رأس المنظمات غير الحكومية في حقل دلالي لا يشي باحتمالات إبداعية ملموسة. هذه المسوغات تشتمل على العناصر التالية، أو على بعضٍ منها:

  شخصية غير طموحة وذات بروفيل منخفض.
  موقف حيادي بإزاء صراع محتدم على السلطة.
  إنجازات في مجالات أكاديمية أو نضالية خارج المنظمة غالباً.
  تمرس على موقع قيادي متوسط في منظمات مهنية أو غير حكومية أخرى.

والميزة الأبرز للقيادة (Leadership) بمعناها الكلاسيكي: الرؤية المستقبلية. . .هذه الرؤية كانت، غالباً، غير صريحة وعامة الى حد بعيد. والقياديات، وباستثناء المؤسسات منهن، لم تملك تصوراً لوظيفتها القيادية ولا برنامجاً واضحاً لعملها، وبخاصة أن أكثر من نصفها "أُسقط من علٍ" على الموقع القيادي ولم يتدرج تمهيداً لتبوئه.

من هنا، فإن نهج هؤلاء، اتسم في بداياته، وفيما يطول الى العمل التنيظيمي بخاصة، بالميل الى التأقلم مع الوضعية ومتطلباتها وإدارة أزماتها، أو استكمال ما بدأته القيادات السابقة؛ وهو اتسم، وبإزاء الطرح العام للقضايا النسائية، بالبقاء في دائرة الممكن والمتاح. ومن تجليات ذلك ما شهدنا من تصدير بنود البرامج النسائية التي أقرتها مؤتمرات المرأة العالمية وغلبت مقارباتها وشعاراتها على استراتيجيات هؤلاء وخططهم. ومن الأمثلة على هذه المقاربات / الشعارات نذكر "إلغاء جميع أشكال التمييز ضد المرأة"، و"وصول المرأة الى مراكز القرار"، و"جعل الشأن الخاص من اختصاص العام"، و"إدماج الجندر في التنمية" . . . الى ما هنالك. وقد شغل العمل على تبيئة هذه الشعارات والمقاربات وتحويلها الى أنشطة ملموسة اهتمام المنظمات النسائية وقياداتها على امتداد السنوات العشر الماضية.

البقاء في دائرة الممكن والمتاح لا يسوغ للإبداع بالمعنى الأول الذي استعرضناه في بداية مقالتنا هذه؛ بل لعلهما (الممكن والمتاح)، يقعان والإبداع على طرفي نقيض، فهل نجد في قيادة النساء على رأس منظماتهن غير الحكومية، إبداعاً بالمعنى الثاني، أو ما يشي بتمهيد له؟

ندعي أن توجهات النساء وممارساتهن القيادية أبرزت، وفق التعريف الثاني، ولدى تحليل أولي لكلامهن المرسل، وجهين متكاملين من السلوك القيادي يتجهان صوب توسيع مدى الممكن والمتاح، بل ربما التجرؤ على تجاوز الدائرة المرسومة حولهما.

  الوجه الأول: يتجلى في سعيهن لتعديل القاعدة البشرية الحاملة لقيادتهن على نحو يجعلها أكثر اهتماماً واستجابة للطروحات المبتناة. وما ندعوه تعديلاً اشتمل على توسيع القاعدة البشرية وتبديل سماتها. وهو، أي التعديل، جاء في مستويين:

أ‌- تنظيمي، استهدف الناشطين والناشطات في المنظمة غير الحكومية نفسها؛ وقد اتخذ أشكالاً متنوعة نذكر منها: توسيع دائرة معارفهم المتعلقة بموضوع العمل الاجتماعي وتعميقها، تجذير اتجاهاتهم المتناسبة مع تلك الموضوعات، ورفع كفاءاتهم التنظيمية والتواصلية. . . الخ.

ب‌- عام، استهدف القاعدة الأوسع من الجماعة المعنية، ويطمح لأن يقوم بالدور نفسه.

ففي المجلس النسائي، مثلاً، تقوم القيادة الحالية بمحاولة لتعديل هيكلية المجلس وقانونه الداخلي على نحو يجعله أكثر حيوية ومفسحاً في المجال لبروز مهارات فردية نسائية مؤثرة في رسم سياساته وفي تفعيل قراراته، فلا تبقى رهن الجمعيات المنتسبة إليه حصراً. هذه المحاولة تسعى لأن تكون مؤسسة على قناعات نابعة من القاعدة النسائية، أفراداً وجمعيات؛ ليستوي إقراراها تنظيمياً بمثابة تكريس لقبول سابق بها.

لكن المجلس اختار التوجه نحو فئات نسائية شابة من المناطق اللبنانية كافة في محاولة لرفع كفاءتها وأدائها السياسيين: التمثيلي / الانتخابي منهما بخاصة، وذلك في محاولة للوصول الى قاعدة نسائية واسعة، من الشابات (والشبان أيضاً)، وسعياً لإدماجهم في الحياة السياسية لنصرة قضايا المرأة من بين قضايا المجتمع الأخرى.

وفي حركة حقوق الناس، مثلاً، يجري العمل من أجل إدماج مفاهيم اللاعنف واللاتسلط واللاطائفية وغيرها من المفاهيم، في انبنائهم المعرفي والشخصي. "إذا كان العنف استراتيجية تتطلب العمل على إعداد الخطط والوسائل والمفردات المناسبة فكذلك اللاعنف. نحن لا نبقى على مستوى رفع الشعار. نصوغ برامج من أجل ذلك ونطبقها على نواة من الناس الحاملين لأفكار متجانسة قبل الانطلاق لبثها بين الجماعة المعنية، الشباب منهم بخاصة". وتعتمد هذه المنظمة التدريب المنهجي. هذا التدريب أعطته القيادة في هذه الحركة مضموناً وشكلاً محلياً في سياق من الاختبار والتجريب امتد على سنوات عدة.

هذه التوجهات الآيلة الى تمكين أعضاء المنظمات بالمعارف والمهارات، ومن ثم تخويلهم سلطة القرار والتنفيذ، وصولاً الى توزيع الصلاحيات فيما بينهم، تُفضي جميعها الى إضفاء صفة "الجماعية" على القيادة جاعلة الهرم التنظيمي مسطحاً، فاقداً للرأس المدبب. هي، أي التوجهات، لا تطول المرؤوسين فقط، إنما أيضاً الجماعة المعنية / المستهدفة بموضوع العمل الاجتماعي. فهذه الجماعة باتت، هي أيضاً، معنية بإنتاج الرؤية والنهج اللذين تحملهما القيادة؛ وذلك انطلاقاً من مصالحها واختباراتها. فباتت تستدعى للتعبير عن هذه المصالح والاختبارات وصوغها في سياق التواصل مع الناشطين في العمل الاجتماعي خلال ورش التدريب الكثيرة التي تعتمدها هذه الجمعيات. ولا ننس أن التدريب ينطوي، أساساً، على التفاعل بين مدرب الجماعة والمتدربين، أي الجماعة المعنية. وينطوي أيضاً على افتراض أن هذه الجماعة تملك معرفة إمبيريقية وملموسة بالموضوع المطروح. هكذا ينتج التفاعل بين الطرفين، في وضعية تدريبية معينة، معارف أكثر مطابقة للواقع، وأكثر التصاقاً بمصالح الناس المعنيين به. والمعارف المنتجة يعاد توظيفها في تشذيب الخط العام للجمعية وفي وضع تفاصيل خططه، الأمر الذي يجعل الجماعة المعنية بها ( Target Group) معنية فعلاً، وذلك بالمقارنة مع ما كان سائداً من تلقين وتعبيره الأساسي هو الخطابة الرنانة غير المعبرة، غالباً، عن واقع الحال.

  الوجه الثاني: يمثل ما وصفناه أعلاه تمهيداً لطريق تشقه القيادات النسائية عندنا؛ وذلك وفق سابق تصور وتصميم كما هي حال قلة من هذه المنظمات – ذات القيادات الأكثر شباباً بخاصة – أو تسليماً لضرورات فرضتها الأجندة المتبناة. هذا الطريق يتجه حثيثاً صوب إلغاء القيادة في شكلها الكلاسيكي، واستبدالها بأخرى تنحو لأن تكون قيادة تشاركية جماعية، وتسطيح قمة الهرم التنظيمي. فبتنا نشهد ميلاً الى توزيع المهام والصلاحيات، وتشتتاً لمراكز التأثير والنفوذ على أفراد المنظمات غير الحكومية. هذه القيادة الجماعية التشاركية هي، وبتقدير الباحثين في المنظمات المعاصرة، أكثر تهيؤاً من القيادة المنفردة لاستقبال المعارف الضرورية في العمل الاجتماعي من مصادرها الأكثر وثوقاً: من الجماعات المعنية والمستهدفة بدرجة أولى، وعبر الباحثين الميدانيين ووسطائهم المستشارين والخبراء، بدرجة ثانية. وهي معنية أكثر بالاستفادة منها بسبب قربها من المستفيدين: موضوعات العمل الاجتماعي وقضاياه.

إن تراجع القيادة الفردية عن نفوذها وصلاحياتها وامتيازاتها لصالح القيادة الجماعية، ولصالح الافراد المعنيين يمثل، في رأينا، توجهاً يحمل في طياته تمهيداً للإبداع (مرة ثانية بالمعنى الثاني للإبداع)، لدى هذه القيادات؛ وذلك لأنه يعبر عن استجابة مرنة لتبدل في بنى المنظمات في المجتمع المعاصر من أجل جعلها أكثر فعالية، واستشراقاً لمزيد من التحول في الاتجاه نفسه يفضي الى إطلاق القوى الكامنة لدى الناشطين في المنظمات غير الحكومية، ويسمح لهم ولهن بإطلاق تعبيراتهم الفردية. وتتصف القيادة الجديدة بالإبداع، بمعناه الاجتماعي، لأنها "تغامر" بتراجع سلطتها أمام تنامي سلطة الجماعة وأفرادها، فتشكل مختبراً فريداً في مجتمعنا، مستجيبة بذلك، لا لمتطلبات العمل الاجتماعي المعاصر فحسب، إنما أيضاً لحالة مضمرة من النفور الذي يكنه الناس في بلادنا للسلطة الناتئة والمكثفة الحضور التي أورثتنا حالاً من الإحباط والاستنكاف، وجر علينا تسليمنا لها زمام الأمور الخيبات المتتالية.

إن ما يجعل تراجع القيادة الفردية ذا أهمية هو، في رأينا، الأسلوب المنهجي المتبع لذلك والقائم، أساساً، على تمكين (Empowerment) لأفراد الآخرين. ونحن نرى أن النساء، بفعل تنشئتهن، وتعبيراً عن معاشاتهن ووظائفهن الاجتماعية، وانسجاماً مع الصورة التي يحملنها عن ذواتهن، هن أكثر تأهيلاً من الرجال لذلك. فالنساء لا يحملن أجندة مستعجلة بل يسعهن التمهل للتوسع أفقياً، ويسعهن التواري خلف القضية وموضوعاتها تماماً كما يتوارين خلف أولادهن وأسرهن ولدفعهم الى التعبير عن ذواتهم. حاجاتهم ورغباتهم ومصالحهم الآنية والمستقبلية في مساحة مرحبة من القبول والتحفيز . . .وكلها مقومات رئيسية للإبداع الاجتماعي، بالمعنى المثبت أعلاه.

على أنه ينبغي التنبه الى أن ما ننسبه الى النساء ليس ناتجاً تلقائياً لبنات جنسهن. فهو ليس مرتبطاً على نحو انعكاسي بكونهن إناثاً أو أمهات. والتاريخ القريب والأبعد يزخر بأمثلة مضادة. بل إن ما ننسبه لهن مشروط بالوعي المسبوق لامتيازاتهن وأهليتهن التي ذكرنا، وبموقف معلن يفعِّل هذه الأهلية وتلك الامتيازات، مسبغاً عليها بعدها السياسي الواضح، وجاعلاً إياها، عبر إعلانها كذلك. ملكاً للحضارة الانسانية برمتها في عملية من التسامي متشاكلة (Isomorphic) مع سيرورات شبيهة ماثلة في تاريخ حضارتنا الإنسانية المشتركة.

تمشي القيادة النسائية عندنا في هذا الطريق. وهو طريق متعرج، ومتذبذب، وطويل ومسالكه وعرة. ووعورتها ناجمة لا من غياب الدليل فحسب، بل من كون هذه القيادة مضطرة الى ابتداع صورة للقيادة مخالفة لتلك التي تسكن مخيالنا العام وواقع القيادة السياسية الغالبة في مجتمعاتنا؛ وعجز هذا الأخير غني عن الوصف. وهي – أي المسالك – تتقاطع حكماً مع المسالك التقليدية – مثالنا الغالب للقيادة. هذا، ولا زالت ثقة النساء بأهليتهن لتفعيل اختبارهن الوجودي كنساء في المجال العام – أي تحديداً إبداعهن – في بداياتها.

هذا، وقد برز في كلام القياديات هماً راهناً يمثل بالبحث عن منهج للتحالف واللقاء الناشطين على برنامج نسوي يضع القضية – لا أشخاص قيادتها وامتيازاتهن التمثيلية – في مقدمة اهتمامه. فهل تغامر هذه القيادات في سلوك طريق "التخلي" عن قيادتها حتى نهاياتها؟ هل تنجح في تحالفاتها مع قيادات منظمات أخرى بابتداع وسيلة متشاكلة مع ما فعلته داخل منظماتها؟ هل يسعها أن تستبدل في لقائها مع هؤلاء القياديات الشكل الهرمي ذا الرأس المدبب للقيادة بأشكال أخرى تبعث دينامية تشاركية قادرة على حمل قضايا النساء وقضايا المجتمع بالفعالية المرجوة؟ هل يمكن للقيادة النسائية أن "تتفادى" الإبداع؟

لا يفوت الباحث في بلادنا أننا نعيش جميعنا، نساء ورجالاً، في مجتمعات لا تملك حصانة داخلية متينة يسعها أن تخفف من التقلبات العنيفة القادمة من الخارج. التقلبات هذه تعمل على تخريب مسارات هذه المجتمعات وإخضاعها لأولويات، قلما كان للنساء رأي في تعيينها. من هنا، يبرز الإبداع في نهج القيادة النسائية – وفي نهج القيادة الذكرية أيضاً – ضرورة وتحدياً في الوقت نفسه.

"بعض النساء يبدين استئثاراً بالسلطة وتنافساً عليها أكثر من الرجال".

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى