الأحد ١٢ نيسان (أبريل) ٢٠١٥
بقلم جميل السلحوت

رواية أهل الجبل في اليوم السّابع

ناقشت ندوة اليوم السّابع الثقافيّة في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس رواية"أهل الجبل" للأديب المقدسي ابراهيم جوهر الصادرة عام 2014 عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في عمّان، وتقع الرواية التي صمم غلافها نضال جمهور في 164 صفحة من الحجم المتوسط.

بدأ النقاش نسب أديب حسين فقالت:

ابراهيم جوهر وتقاطع الدروب الى الخليل

في الصفحة الأولى من الرواية ينسب الكاتب ما جاء فيها الى صديق غامض من رام الله، أرسلها اليه على شكل حلقات في شهر تموز من عام 2014. وهذا أسلوب أدبي صرنا نشهده أحيانًا في بعض الروايات المحلية والعربية، كما رأينا في رواية "المسكوبية" لأسامة العيسة، و"مصابيح أورشليم" لعلي بدر العراقي.

في شخصية هذا "الصديق" الذي هو راوي الرواية، تظهر في أحيان كثيرة شخصية الكاتب ابراهيم جوهر، وسيلحظ هذا من يعرف الكاتب عن قرب، خاصة في اتباع أسلوب الأسئلة والتساؤل، هذا الأسلوب الذي تقوم عليه الرواية في بناء الحدث بصورة تراكمية، وتدرج حين يتبع كل سؤال، سؤال آخر.

كذلك مع صفحات الرواية الأولى تظهر الشخصية الملازمة للكاتب ابراهيم جوهر وهي "أم علي"، هذه المرأة التي ظهرت في كتابات جوهر قبل نحو عامين على صفحة التواصل الاجتماعي. هي امرأة صامدة تمثل الشموخ الوطني، تتنقل بين أماكن عدة في أنحاء الوطن، خلال وقت قصير. تخبر أم علي الكاتب الذي ينتحل شخصية "الصديق من رام الله" أنّها تقيم في كهف في الخليل. وهكذا يحملنا الكاتب في رحلة لاستكشاف الخليل وجوهر أهله في تساؤلات عديدة، بعد ظهور خفيف لأم علي وغيابها نهائيًا مع الفصول الأخيرة دون أي اشارة أو تعقيب من الكاتب.

هذه الرحلة في استكشاف المكان والاطلالة عليه وتبني شخصياته تقوم باتجاهين، فنرى ابن رام الله المنفتح لأجواء تختلف عن أجواءه الماضي في زيارة آنية لاستكشاف الخليل، وابن الخليل ذو الطبيعة الطيبة المحصورة، الماضي صوب رام الله، لتحقيق أحلام عجزت مدينته عن تحقيقها.

هذا التوجه في مسارين باستجلاء المكان وطبيعة توجهه في فترة زمنية محددة وهي حزيران وتموز 2014، وتأثيراتها من تطورات سياسية في الوطن من اختطاف ثلاثة فتيان من المستوطنين في منطقة الخليل، واغلاق المنطقة للبحث عنهم، ثم اختطاف وحرق الفتى المقدسي محمد أبو خضير، الى الحرب الاسرائيلية على غزة من جهة، واستكشاف مكامن وهواجس ابن المكان بعيدًا عن مكانه مغتربًا في مدينة لم تعد تشبه ذاتها، يشكل ركيزة مبنى الرواية.

ينتصر ابراهيم جوهر في روايته للإنسانية وللفكر النقي فبطله (سعيد الظافر) ابن الجبل المستكشف للمدينة لم يتمكن من الانعتقاء من فكره وجبليته والانصهار في عالم المدينة. ولا يغفل الكاتب عن الجانب الانساني في العدو الماضي الى غزة محاولا التمرد على انسانيته وضميره فيُصاب بالجنون، مما يدفع الطبيب حاييم مولدوفيتش الذي يشرف على علاج أحد هؤلاء الجنود، الرحيل الى وطنه روسيا، خشية من تسرب الجنون اليه.

في هذه الرواية يتم تسليط الضوء على وجه من وجوه الوطن، في استغلال البعد الزماكني، وتصوير متنقل المشاهدات للمكان في فترة شهرين حددها الراوي. عدا انزلاق خفيف صوب أسلوب التقرير الصحفي ص 74-76 في الاشارة لاسحاق الحروب، ظهرت الرواية في أسلوب روائي ابداعي للكاتب ابراهيم جوهر، الذي يظهر التطور التكنولوجي وأسلوب النشر والرد على الكتابات على صفحات التواصل الاجتماعي تأثيرا وأبعادًا جديدة على نهج كتاباته.

وقال جميل السلحوت:

رواية تدعو إلى التفكير

القارئ لرواية" أهل الجبل" سيجد نفسه أمام تساؤلات كثيرة، تماما مثلما هي الرواية تطرح تساؤلات كثيرة، فما الذي يريده ابراهيم جوهر في هذه الرّواية؟ وقراءة فاحصة ومتمعنة للرواية تقودنا إلى إجابات كثيرة، بل تقودنا الى مزيد من التساؤلات، فهل جاءت الرواية انعكاسا للواقع المضطرب الذي يعيشه الفلسطيني المعذب في وطنه الذّبيح؟ وكاتبنا الذي اختار منطقة الخليل لتدور عليها الأحداث الرئيسية في روايته، حتى أنه اختار أسماء حقيقية أو الاسم الأوّل في شخوص الرواية حقيقي واسم العائلة ليس حقيقيا، لكن تصاحبه دلالات تشي بالاسم الحقيقيّ كخولة العايد مثلا. وقد تكون البطولة في الرواية للمكان، فاختار الكاتب الخليل وقضاءها للتعبير عن الأصالة، والتمسّك بالأرض ودوالي العنب ومحاجر وحجارة يطّا ودورا وقراها؛ لتكون مسرحا لشخوص روايته، وأتانا بقصّة حارس التراث اسحاق الحروب ابن قرية دير سامت كنموذج للأصالة والحفاظ على التراث، والحروب معلم المدرسة قام بجهود فردية لم تقم بها مؤسسات ووزارات، عندما جمع ووثّق واقتنى موجودات تراثية شعبية لا تقدر بثمن، وجعل بيته متحفا يزخر بهذه الكنوز الثقافية، وهذه لفتة كريمة من الكاتب الى ضرورة الحفاظ على موروثنا الشعبي، وما يتعرض له من طمس وسرقة وتشويه. ورغم ذلك فان مدينة الخليل التاريخية وقراها لم تسلم من عبث المحتلين ومستوطنيهم الذين يحتلون رؤوس الجبال ويهلكون البشر والزّرع والضرع.
ويقابل مدينة الخليل في الأصالة مدينة رام الله، وما تتعرض له المدينة من تحديث على حساب أصالتها وعراقتها، من خلال الأبنية الحديثة ذات الطوابق المتعددة التي احتلت أرض المدينة، وسلختها عن ماضيها العريق، الذي ضاع وسط معمعان الحداثة، فحتى الأسود الحجرية التي تتربع وسط دوار المنارة الشهير وسط المدينة، لم تسلم هي الأخرى، حتى أن استبدال أحد هذه الأسود بأسد جديد لم تنجح، فجاء فُخّاريا مهشّما وناشزا لا يليق بعراقة أقرانه الحجريين.

ولا تنسى الرّواية عسف الاحتلال ومظالمه فحاجز "الكونتينر" على أراضي السواحرة الشرقية، يتكرّر ذكره كعلامة فارقة تفصل شمال الضّفة الغربية عن جنوبها. ولا بدّ لعابريه من الوقوف والتفتيش، وما يتعرّضون فيه من إهانات ومسّ بكرامتهم. وتعرّج الرّواية إلى دير ياسين تلك القرية الوادعة التي تعرضت الى مذبحة بشعة في التاسع من نيسان عام 1948، وكيف أن هذه القرية التي أقام الاسرائيليون فيها مشفى للمجانين، لم يبتعد عنها اجرام المجانين العنصريين، الذين قاموا باحراق الطفل محمد أبو خضير حيّا حتى الموت في 2 تموز 2014، لتختلط رائحة اللحم البشريّ المحترق برائحة الخبز المنبعث من المخبز الاسرائيلي القريب من مكان الجريمة، ولتتواصل الجريمة بالمحرقة التي تعرّض لها قطاع غزة صيف العام 2014.

وتزداد الأمور تعقيدا من قبل الاحتلال، فقطاع غزّة الذي كان قريبا الى الخليل يستطيع المرء وصوله في عشرات الدقائق، أصبح بعيدا بعد اغلاقه ومنعه من التواصل مع شقّه الثاني-الضفة الغربية-، تماما مثلما هي رام الله أصبحت بعيدة عن الخليل بسبب الحواجز العسكريّة والمستوطنات. والاتيان بهذه المفارقة التي لم تعد عجيبة في الرواية ليس عفويّا بمقدار ما يحمل من اشارات الى ما آلت إليه الأمور بعد اتفاقات أوسلو التي وقعت في ايلول 1993 بين منظمة التحرير الفلسطينية واسرائيل، وكيف جاءت طموحات الشعب الفلسطيني بالتحرر والاستقلال واقامة الدولة المستقلة بعاصمتها القدس معكوسة تماما. بل إنّ الأمور ازدادت تعقيدا، وازداد عذابات الشعب الفلسطيني، بل إنّ الحديث عن الفكرة، وكيف تتطوّر وتنمو جاءت بطريقة غير مباشرة، حيث أنّ الاحتلال في اتفاقيات أوسلو سعى إلى إعادة روابط القرى البائدة وإن بأسماء أخرى، فهل تنطلي الخديعة؟

والقارئ للرّواية سيجد أنّ الكاتب استعمل لغة عالية في بلاغتها ودلالاتها، لتحتمل التساؤلات والأفكار التي تحملها.
وقد خرج الكاتب عن أسلوب الرّواية السّرديّ المعهود إلى أسلوب كتابة اليوميّات، التي ترتبط بخيط شفيف، لايصال الفكرة أو الأفكار التي تحتويها.

وقال عبدالله دعيس:

هل تموت الفكرة؟

تساؤل يطرحه الكاتب إبراهيم جوهر في روايته مرّات ومرّات، ضمن مجموعة كبيرة من التساؤلات، لنعاود السؤال مرة بعد مرة عن الفكرة التي لا تموت! فنجدها حية تتجدد في كل مرّة نظن أنها ستخبو. فروح المقاومة حية في قلب كل فلسطيني لا تموت أبدا مهما ساد الظن أنها ضعفت وتلاشت، وبالمقابل، فإن فكرة اخضاع الفلسطيني وسلخه من أرضه لا تموت، فكلما فشلت خطة نبتت خطة أخرى مكانها. لا تموت الفكرتان، هذه هي المفارقة الكبرى في الرواية التي ترتكز على مفارقات عديدة.

يقودنا الكاتب في هذه الرواية في مفارقة عجيبة بين الأصالة وبين الحداثة المزيفة، بين البطولة وبين الخيانة، بين العزة والكرامة وبين الذل والهوان. وحيث ينحصر هامش الحرية، يبرز الرّمز الذي يطغى على الرواية، يعطي للقارئ آفاقا واسعة من التحليل والخيال. فهذه الرواية تقوم على عنصرين أساسيين هما المفارقة والرّمز بلغة إنشائية جميلة موحية يكثر فيها الاستفهام والتعجب.

تزخر الرواية بالمفارقات. فابن رام الله الفارّ من زيف المدينة المتورّمة، يتجه إلى الخليل حيث أصالة الجبل وعنبه وأهله المرتبطين بتربته، أما ابن الخليل فيترك الجبل خلفه ويتجه باحثا عن فرصة عمل في رام الله! سعيد الظافر شاعر جامعة الخليل والأديب الموهوب، توصد في وجهه أبواب وزارة الثقافة وصحف مدينة رام الله، بينما صديقه الذي يفتقر إلى الموهبة يتربع على وظيفة مهمة في الوزارة ويعامل الشاعر بازدراء. المناضل الذي حُرّر من سجون الاحتلال، يبيع القهوة واليانسون ليشبع رغبات أو يهدّئ أعصاب القلة الذين تسلقوا على بطولاته؛ ليتحكموا في مصيره ويتركوه للنسيان. يخوض المقاومون في غزة حربا بطولية ضد المحتلين، بينما يرتاد المترفون المقاهي في مدينة رام الله. الباحث الجاد يبحث عن الحقيقة حتى في أجواء الحرب، مقابل ذلك الذي يبحث عن لقب علمي زائف ويشتري الأبحاث الجاهزة. المقاتل الشجاع في غزة الذي يتسلح بأسلحة بسيطة، مقابل الجندي الصهيوني المذعور المتمترس خلف أعتى أنواع الأسلحة وأقساها.
أدهشتني قدرة الكاتب على استخدام الرّموز في روايته وتوظيف دلالتها لإيصال المعنى للمتلقي بسهولة ويسر، دون إجهاد ذهن ولا تعقيد، بلغة بسيطة سلسة. تبدأ الرواية برسالة قصيرة من أمّ علي المختفية في أحد كهوف الجبل. أمّ علي ترمز إلى الأصالة المتجذرة في هذا الشعب وإلى الإصرار الممتد به مهما ادلهمّت الخطوب. والجبل نفسه هو رمز لصمود هذا الشعب الذي لا تزحزحه الرياح العاتية. والأسد الحجري يرمز إلى القوة، والذي يتحول إلى فخار قابل للكسر عندما يتجه إلى رام الله - أي عندما يتخلى عن روح المقاومة - لكنه لا ينكسر، ويعود ليصبح من حجر صلد عندما يرجع إلى أصالته ويتجه إلى الخليل، فتتراءى له صواريخ المقاومة من غزة، والصمود الأسطوري لأبطالها الذين يخرجون من بين الرمال فيقذفون الرعب في قلوب الصهاينة. ومبنى تلفزيون الجبل ذو الجناحين والعرف الرمادي، يرمز إلى تفرّق أبناء الوطن الواحد إلى اتجاهين؛ أحدهما امتهن المقاومة وحمل السلاح، وآخر آمن بأن الاستسلام والخنوع قد يجلب له حقا. جناحا الوطن ليسا منطقتين جغرافيتين يعزلهما الاحتلال بحواجزه، وإنما موقفان ونظرتان وسياستان في هذا الوطن الذي اختفت فيه الأصالة في حضن الجبل؛ ليبدو للعيان وجها قبيحا سرعان ما يغيب. تأتي أمّ علي بتراب الجبل تضعه تحت هذين الجناحين اللذين لا ينقصهما الارتباط بالتراب، فهو في النهاية سيوحدهما.

مدينة رام الله تقف على الحواف. يذكرني هذا الرمز بقوله تعالى: "ومن الناس من يعبد الله على حرف" يوشك على السقوط إن لم يتدارك نفسه ويتشبث بالأصيل، ويدحر عنه الدخيل، في تشبيه بديع لحالة السلطة الفلسطينية بعد اتفاق أوسلو. الرجال الذين غادروا الجبل واتجهوا إلى رام الله هم أولئك الذين حادوا عن جادة الصواب، لذلك يصوّر الكاتب وجهوهم سوداء ممتقعة. ويذكر الكاتب الدالية كثيرا، والدالية ترمز إلى العنفوان والإصرار على الصعود إلى أعلى، وكلما قلّمت أغصانها نهضت في ربيعها وتسلقت الأعواد بسرعة وجلد.

يبدأ الكاتب روايته وينهيها برمز الغزالة المحيّر، والذي يتركه غامضا معطيا المجال للقارئ كي يسرح في خياله مع هذه الغزالة، التي خرجت من دير ياسين عندما ذبح أهلها وسرقت البراءة من أرواحهم، فعاشت في قلوبهم وما زالت دليلا لهم تقودهم لطريق العودة بإذن الله.

اختيار أسماء الشخصيات في الرواية موفق، فكل اسم كان له دلالة معينة: فسعيد الظافر، مثلا، لا يكون سعيدا ولا يظفر بالراحة إلا عندما يتشبث بأصوله، ويعود إلى جذوره. وهكذا إذا استعرضنا أسماء جميع الشخصيات في الرواية، فسنجد لكل اسم دلالة خاصة قصدها الكاتب وعناها. أمّا شخصية الراوي، وهي الشخصية الأبرز في الرواية، فقد أبقاها الكاتب مبهمة ولم يعطها اسما، وجعلها تطرح السؤال تلو السؤال، ليبقى القارئ محتارا مشرئبا لسماع المزيد من الأسئلة من هذا الباحث عن حقيقة الصمود والأصالة في فلسطين، والذي يرمز لكل فلسطيني متحرر من الخنوع باحثا بجد عن الحقيقة. عدم الافصاح عن هذه الشخصية يزيد الرواية تشويقا.

والرواية تؤرخ لفترة حرجة من تاريخ الشعب الفلسطيني. لفترة شهدت بشاعة الاحتلال الذي أحرق الفتى محمد أبو خضير حيّا، وحاصر مدن الضفة الغربية، وخاصة الخليل بحجة البحث عن ثلاثة مفقودين، وأعمل فيها قتلا وتدميرا وخرابا، ثم امتدت سطوته وعنجهيته لتطال قطاع غزة في أيام رمضان عام 1435ﻫ.

عندما يحاول اليأس أن يطغى على شعلة الأمل الكامنة في أعماق القلب، ويطغى الشعور بالاغتراب في وطن يعاني من احتلال للأرض وتنكر للأصالة، قد تختفي الغزالة عن الأنظار برهة من الزمن، لكنها تعود تقفز بخفة ورشاقة. فالغزالة تلازمنا، لا تفارقنا، وإن غابت عن ناظرينا. إنها الغزالة التي يتتبعها إبراهيم جوهر وهي تقفز بخفة بين رام الله والخليل، وتتخطى الحواجز إلى قلب القدس، تنظر إلى الجبل بأصالته وإلى المدينة المتورمة بزيفها، ثم تظهر لنا لتجدّد الأمل في قلوبنا. وحيث تكون الغزالة تكون أمّ علي في كهفها تحفظ البقية الباقية من كرامة هذا الشعب، تحاول أن تقرّب بينه وأن تبني لديه الروح الذي كاد يفتقدها.

الأفكار لا تموت. فعلى الرغم من الضعف الجلي لفكرة مقاومة المحتل، وبروز عنصر آخر بعيدا عن هذه الأصالة، إلا أن هذه الفكرة لم تغب عن شعب فلسطين. وفكرة روابط القرى التي ابتدعها الاحتلال لم يتخل عنها عندما لفظها الناس، فجاء بها بهيئة أخرى ووجه آخر! ولكن في نهاية الرواية يختفي الوجه المزيف للوطن، وتسود روح المقاومة، وينتهي الحلم الصهيوني عندما يعود ذاك الطبيب إلى روسيا، معلنا أن فلسطين لا يعمر فيها غريب، وستخرج أمّ علي بأصالتها من كهفها لتسكن في ربوع الوطن.

وقال رفعت زيتون:

حينما نتحدث عن رواية أهل الجبل فإننا نتحدث عن الوطن، وعندما نتحدث عن الوطن فإننا نختصر بحديثنا إبراهيم جوهر؛ لأننا في حرفه وفلسفته وفكره وكثيرا من أسئلته نجد الوطن.

هو يقرأ الحجارة والشجر والناس، ويعود إلى شرفته الصغيرة في فناء بيته، والمطلة على الأفق الواسع، ليكتب ما قرأه في هؤلاء، يترجم للقارئ ما لم يستطع قراءته ولا فهمه، فيرى القارئ عنده الجمال والقبح ويشعر بسعادة، الحجارة وقهرها لأن الحجارة بين سطوره تصبح كائنا يتنفس.

هذا هو إبراهيم جوهر، القارئ للتفاصيل قبل أن يكون كاتبا، هو يستلم رسالة فيتمخض عنها رواية؛ لأن الرسالة عنده لا تمرّ مرور الكرام، يسير في الشوارع فتعلو إلى ذهنه الأسئلة، فيبدأ في عملية البحث عن إجابات شافية، يصل إلى بعضها، وبعضها الآخر يدخله في دوامة

جديدة من الأسئلة والألغاز، أحدها يسلمه للآخر. وهذا يخلق عنده مسارين للحوار، مسارا بينه وبين كل من وما هو حوله، ومسارا موازيا بينه وبين نفسه، وفي نقاط الالتقاء بين المسارين يتطور الصراع في الرواية ، ولكي يتم ذلك، يبدأ برسم هياكل الشخوص والأشياء والأمكنة. لأن الحدث يحتاج لمن يفعله ويحتاج إلى مكان وزمان.

رواية أهل الجبل اختلفت عن نمط الروايات التقليدية إلى حد ما في تأثر الكاتب في أسلوب كتابة اليوميات، فخرجت بعض أحداثها على شكل يومياته المعروفة. فكان ذلك في البداية مع أم عليّ ومع ناحت الصخر الذي جاء من جبل الخليل إلى رام الله حاملا معه أسده المصنوع من الفخار، والذي لم يلمس فيه الكاتب النبض الذي توقعه. وكذلك في الأصدقاء الإعلاميين.
إبراهيم جوهر كان يشارك الآخرين همومهم وتساؤلاتهم، وليس هذا فحسب، بل كان بطريقة أو بأخرى يشغلهم بتفكيره فيغيرون حتى جدول عملهم أو لقائهم لذلك اليوم.

ربما أدرك إبراهيم جوهر أنّ ما على كتفيه النحيلين وظهره من الهموم ما ينوء به الجبل، فذهب للحديث عن أهل الجبل. هذا ما عرفته عن كاتبنا الذي أقام من حوله عالمه الخاص

فحرّك الساكن وأسمع من به صمم. بعض التكرار في الأفكار والألفاظ والجمل صاحب الصفحات وبالذات الأولى منها ولعل فكرة اليوميات التي تحدثت عنها في البداية كانت السبب.

لم تكن لغة الرواية عادية، رغم حفاظها على البساطة، فاتّكأ على بليغ القول تركيبا وصورة، والشواهد على ذلك في روايته كثيرة، لكنها لم تغرق الصفحات، ولعل هذا يناسب أكثر كتابة الرواية مما يزيدها حلاوة.
المكان أخذ حيزا واسعا من صفحات الرواية، فكان الكاتب يصفه بدقة وجمال، لم يكن الوصف كمن يحمل كاميرته بيده، بل وصف حيّ فيه روح.

وكتب محمود شقير:

يكتب الأديب المقدسي ابراهيم جوهر عن أهل الجبل؛ لكي يؤكد على انتمائه الصادق لتطلعات الناس المشروعة في بلادنا. يكتب عنهم وعنا جميعًا، ناقدًا، محللا، ومشيرًا إلى فسحة الأمل التي يمكنها أن تخرجنا مما نحن فيه من تخبط وارتباك. وهو يعمد في نصه الروائي إلى طرح الأسئلة التي تتلوها أسئلة لكي يحفز العقول على التفكير وعلى التبصر والإدراك.
تعتمد رواية "أهل الجبل"، من ضمن تقنيات أخرى، أسلوب التوالد السردي، حيث يولد السرد من السرد، وحيث نجد سؤالا يتبعه جواب، وجوابًا يترتب عليه سؤال. وفي حالة كهذه، تلعب اللغة الشعرية دورًا بارزًا، جالبة للمتلقي متعة عقلية فائقة وهو يتابع تجلياتها الرشيقة وتقليبها الذكي لأوضاعنا، ولما آلت إليه أمورنا في ظل احتلال عنصري لا يكف عن ممارسة العسف ضدنا بمختلف الوسائل والأشكال.

واستعان الكاتب كذلك بأسلوب التقطيع السينمائي (المونتاج) وبالمشاهد القصيرة المتوازية التي استطاعت نقل أفكاره وتأملاته من دون إثقال على المتلقي، ما جعل بطء الإيقاع محتملا، بما يمكّن القارئ من التوقف المتأني عند الطروحات الفكرية التي احتشدت في ثنايا النص الروائي.

ولعل ما يلفت الانتباه في هذه الرواية قدرة الكاتب على توظيف الحدث اليومي الساخن الذي كان يطفو على شاشات الفضائيات التلفزيونية، وعلى ألسنة الناس أثناء كتابته لروايته، بحيث اندمج هذا الحدث في متن النص، وصار مادة إبداعية لها أبعادها التي تشير إلى ما هو أبعد من حدود الحدث، بحيث تطال هذه الأبعاد مستقبل الصراع، وحتمية انتصار حقنا على باطل الأعداء، عبر مجموعة من الإضافات التي اعتمدها الكاتب لتعميق دلالات الحدث اليومي، ولتعزيز موقفه الفكري الذي كان يتردد على امتداد السطور والصفحات.

ولي في هذا السياق ملاحظتان. الأولى لها علاقة بالمادة التوثيقية الخاصة بمتحف المقتنيات التراثية، التي جاءت مسهبة بحيث لا يحتملها الإيقاع المطلوب للنص الروائي. وأما الثانية فلها علاقة بمدينة رام الله. ذلك أنني متفق مع الكاتب في ما ذهب إليه وهو يعرض أحد أوجه المدينة. وكنت أتمنى لو أنه أشار كذلك إلى وجهها الأكثر تميزًا الذي جعلها حاضنة لأفكار التنوير والتآخي والمثاقفة والانفتاح على المستقبل. بذلك كان يمكن للصورة أن تكتمل فلا نغمط واحدة من أهم مدننا حقها في أن يكون لها حضورها الذي يعبر عنها بموضوعية وإنصاف.

وقال عزّ الدّين السّعد:

رواية أهل الجبل راوغتني وأعملت فيّ ولعا من نوع آخر، فلا تكتمل لديّ قراءة لرواية إن لم أستحوذ أنا على سبر غورها منذ البداية، بعناق صفحاتها ومراقصة لعدد من فصولها متناثرة بين بداية ونهاية، واستكشاف لكبد أعمال أبطالها، إلا أهل الجبل فقد كانت تلاحقني متخفية تارة بشخوصها وأسمائهم المنتقاة بعناية تامة، وطورا آخر بأمثال شعبية، فكنت كالسّائر في بلاد الله " وبلاد تجيبني وبلاد تحطني " وأنا عالق على درب بين الجبل الأشمّ المتألق بكل من فيه، وما فيه من الدّوالي والحكايات والإصرار والكهوف والحياة المتجددة في أمّ علي، وخولة العايد وراشد البلد وسعيد الظافر المسافر الى احلام رام الله الجديدة؛ لتقع عيني على ظفر غير متوقع بفضل الختام كما اعتقدت، فسعيد هذا لم يظفر بدوام "نعمة" هناك فيلملم أسده الفخاريّ ويعود للجبل .

يعود ... هل هنا "مربط الفرس " كما تناغم ذلك في صوت سعيد الغريب في رام الله، ابن الجبل الصّلب الذي "تسوقه " وتناديه بهية عبد السلام! تناهى الى قلبي برجفة صوت سعيد الآخر ذاك ابن ابي النحس الذي عاد وما عاد، وبقينا معه على ميعاد.

سعيد الظافر كان أحد جناحي عودة تمّت بدراية واقتناه بأن ما آلت اليه تنهيدة رغد الوظيفة سراب كاد يعصف بحلم أبلغ وأهم ... من نمنحها في العام يوم وتظل تمنحنا وتضمنا كل يوم تلك هي الأمّ ... يا شاعر الجامعة الذي يعرفه أناس لا يعرفهم .. كتلك البهية بهية عبد السلام التي أيقظته ليرى زيف ما يرى ... فهل يأتي لبلد الحلم ليكون مجرد كاتب اعلانات خياطة بلا أصالة الجبل، "وكأننا" ما زلنا تحكمنا ماكنة سنجر للخياطة ... فحمل أسده الجبليّ وعاد لدماء الجبل التي تحركت في جنبات عروقه " فمن لا أحلام له في جبله لن تحققها مدينة الصّابون والرمل " ص161..... ما كانت هذه نهاية الرواية بل عودة من عودات مخبأة تحيكها الرواية والراوي طوال الزمن المتفاعل بين الآن ههنا والآن هناك .

ابراهيم جوهر الروائي المبدع الانسان المعلم أجاد بحملنا مع الراوي بين أحداث قد نراها للوهلة الأولى سردية واضحة، وسرعان ما تتفتح بعمق غاياتها بها وبما يحيطها ... تعايش الحكاية في حكايات هنا والآن، فتنتقل للرسالة النصية القصيرة الملحةّ الى صفحة الفيسبوك فالتلفزيون، فالحديث الشيق بين الأصدقاء وجها لوجه، ومراسلات وتتشابك الأحداث ولا تنفصم يحملك للجبل والعين على غزة، والقلب في عتاب يعبد وخذلان سعيد الظافر من مدينة الصابون وجنون الجنون وعودة التسعيني الجد الى دير ياسين، وضمير الحاضر الطبيب النفسي، واسماء المكان القشرية المستحدثة والحدث يتلوه حديث .. تتداخل في يوميات لحرب لا لشخص؛ لتمنحك مسرح الحياة الدّامي هناك وهنا، وهنا هو القدس التي تظل مجمع الطرق ومفترق الزمن، من جغرافية الصابون لحديث الحاجز، وتلاقي الأجيال ورائحة القتيل الشهيد محمد ابوخضير، الذي أحرق جسده "الديمقراطيون" ليصحو ضمير الغريب ليقوم بما يمليه عليه ضميره، يعود لطفولته البريئة في موسكو

الشخوص بأسمائها تجدها فيما يحدث، وكل رأيه مغزول بحنكة رائعة على مهل، وروية وفكر وقاد يمنح القارئ المعلومة تلو الأخرى، فهي مولودة من رحم الجبل؛ لتعطي النمط المكاني والزماني لمجرى الأحداث، فلست في رواية كغالبة الروايات المصرية من القرن العشرين، عمدة وشيخ البلد وشيخ الخفر وصاحب الاملاك .... وهم من لديهم الخبر اليقين عن كل شيء ...لا ، هنا انت في منجم حديث يمنح للمكان حرمة هالة أهله، ولكل بإسمه ليس مجرد دور مصنّع.
خولة العايد وراشد البلد وعبد الرحمن ابو زهرة واسلام الهيموني وتقى القواسمي ونضال طنطوري أصدقاء الراوي الكاتب في (تلفزيون الجبل) ولماذا تلفزيون؟ هل للرمز الى الترفع القسري عن الحياة الواقعية، أم لأن العصر عصر النقل عما يحدث لحظة بلحظة، أو تورية من يقود الدفة الآن؟ هل هو الحدث أو من يصيغه أو من يبثه؟ اسئلة كثيرة .

ليس محض صدفة تلفزيون الجبل" في عين سارة، ومشيد بحجارة يطا، مبنى بجناحين يعلوهما عرف رمادي اللون " ربما جناحا الوطن المحاصر ... ص21

وعمّ يبحث الرّاوي " عن علاقة الانسان بالارض في جبل الخليل، حيث يتميز ابن الجبل بالصلابة والعناد والطيبة والأصالة " ص22 ، وأيّ علاقة تلك بين الجبل والانسان؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى