الثلاثاء ١٠ شباط (فبراير) ٢٠١٥
بقلم مادونا عسكر

في ملامسة الحقيقة الإنسانيّة

قراءة في قصيدة "هو هادئ وأنا كذلك" (*) للشّاعر محمود درويش

يجسّد الشّاعر الكبير محمود درويش في هذه القصيدة البديعة منحوتة فلسفيّة تضاهي شتّى النّظريّات الفلسفيّة والاجتماعيّة والنّفسيّة الّتي تحدّثت عن الإنسان وعلاقته بالآخر. وهي "منحوتة"؛ لأنّ الشّعراء يحفرون فكرهم بقلوبهم وينقشون كلماتهم في النّفوس فيحرّكونها ويوقظون في داخلها وعي المحبّة الخالصة. وأمّا الفلاسفة، ومع كلّ الاحترام لفكرهم النيّر وعقولهم المستنيرة، إلّا إنّهم يبثّون بعض الجفاف ولا يحرّكون النّفوس. فهم يكتفون فقط بطرح الجدليّة ومناقشتها ويستدرجون العقول لإقناعها. ومحمود درويش من الكبار الّذين لمسوا النّفوس وأشعلوا فيها نيران المعرفة والحبّ والحرّيّة واليقين، وتحوّلوا بعد رحيلهم إلى لغة تحاكي الإنسان وتتفاعل معه.
"هو"، ضمير للغائب يعود إلى الإنسان وتحديداً إنسانيّة الإنسان. ونرى هذا الـ "هو" في القصيدة مشابهاً للشّاعر تماماً ولا يفرّق بينهما إلّا أمر واحد. فللوهلة الأولى نفهم أنّ الشّاعر يتحدّث عن نفسه أو كأنّه أمام مرآة تعكس ظاهره وداخله العميق. ثمّ ما نلبث أن نصطدم في الفرق ونتلمّس حضور شخصين في القصيدة، فنحتار ونعاود القراءة مرّات ومرّات حتّى يتراءى لنا الحضور الفعليّ للآخر.
 الهدوء والاطمئنان.
وكأنّي بالشّاعر يريد تسليط الضّوء على أنّ حضور الآخر لا يشكّل هاجساً ولا يستدعي الخوف والاضّطراب، (هُوَ هادِئٌ، وأنا كذلكَ). إنّه حضور ضروريّ ومهم في الحياة الإنسانيّة. ولا يحدّد لنا درويش هويّة هذا الآخر، لأنّه يريد به كلّ آخر، أي كلّ شخص في هذا العالم. هذا الحضور الأساسي والّذي من المفترض أن يكون مطمئناً، يشرّع أبواب الانفتاح والالتقاء ويمهّد للتّواصل الإنساني النّابع من الهدوء والسّكون ليحقّق لاحقاً المحبّة والسلام.
 اختلاف مشروع:

(يَحْتَسي شاياً بليمونٍ، وأَشربُ قهوةً)، عباراتان تبيّنان الاختلاف المشروع بين البشر، وتأتي عبارة (هذا هو الشّيء المغاير بيننا) لتؤكّد على ما ورد سابقاً، وهو أنّ الاختلاف لا يلغي ذاك اللّقاء الإنساني ولا يؤثّر في إرساء الطّمأنينة والهدوء، بل لعلّه يعزّز العلاقات الإنسانيّة ويمنحها رونقاً وجمالاً حتّى تغدو سامية. فهو اختلاف ظاهريّ أو لنقل بدهيّ وليس اختلافاً في الجوهر الإنساني، ولا نقرأ فيه تنازعاً أو تباينا،ً وإنّما المعنى ما زال يحتفظ بالهدوء والأمان.
لا ننكر أنّ الاختلاف الإنساني يبرز في التّفاوت المعرفي والاجتماعي والعلائقي والعقدي، وإنّما شتّى الاختلافات والاعتقادات الشّخصيّة لا تهدّد الجوهر الإنساني ولا تنزع عنه صفته السّامية المرتكزة على القيمة. فالإنسان قيمة بحدّ ذاته بغضّ النّظر عن معتقداته أو عاداته وتقاليده وموروثاته الاجتماعيّة والدّينيّة. ما يحدّد قيمته هي إنسانيّته، وكلّ ما يعرّف عنه فكريّاً واجتماعيّاً وعقائديّاً لا يزيد أو ينقّص من هذه القيمة وإنّما يسعى بها إلى الاكتمال الإنساني، خاصّة إذا عرف الإنسان كيف يتشارك مع الآخر من خلال اللّقاء المنفتح والمحبّ.
 الخوف والاحتراس:
أولى الخطوات نحو النّزاعات والصّراعات تكمن في ما تظهره هذه العبارات من خوف وحذر مخفيّين من الآخر(هو لا يراني حين أنظرُ خِلْسَةً، أنا لا أراه حين ينظرُ خلسةً). فالخوف هو العقبة الوحيدة الّتي تمنع الإنسان من التقدّم والانفتاح، فيرغب في الانعزال ويجنح إلى الانطوائيّة والتّقوقع على نفسه. ما يجعله رافضاً لكلّ جديد ومتطوّر، ويبقى غارقاً في تقوقعه حتّى يتفجّر كبته حقداً وغضباً على الآخر. لو أعدنا النّظر في كلّ النّزاعات البشريّة وجدنا أنّ سببها الأساسيّ هو رفض الآخر وعدم قبوله كما هو. إلّا أنّ محمود درويش ذهب إلى ما هو أعمق من ذلك، ألا وهو الحذر الاستباقي وغير المبرّر، أيّ التكهّنات الّتي يفرضها إمّا المحيط الاجتماعي والدّيني والثّقافي وإمّا سطوة الإعلام والسّياسة والتّربية الصّارمة والمنغلقة. هذا لا ينفي الواقع المرير الّذي تحياه الإنسانيّة من نزاعات وصراعات، تكمن أسبابها في السّلطة والتّحكّم والسّيطرة وتحقيق المصالح والمآرب. لكنّ هذه النّزاعات مستمدّة من الخبث الإنساني بمعنى آخر من الظّاهر الهادئ الّذي يخفي في طيّاته حذراً وخوفاً وريبة.
يعيد الشّاعر رسم جوّ الطّمأنينة والهدوء في القسم الثّاني، ولكن هذه المرّة نقرأ تباعداً بيّناً نتيجة الحذر (هو هادئٌ، وأنا كذِلكَ. يسألُ الجرسونَ شيئاً، أسألُ الجرسونَ شيئاً...). الحركات المشتركة بين الشّخصين لا تنفي ولادة السّلبيّة في نفسيهما، فالخوف يطرح أفكاراً سلبيّة شتّى في النّفس الإنسانيّة وقد تصحّ أو لا. لكنّها في جميع الأحوال تؤدّي إلى نتائج غير سليمة لأنّ النّظرة اختلفت، وبدأت النّفس تحترز وتتأنّى وتبني شيئاً فشيئاً جدار العزلة تحضيراً للنّزاع أو أقلّه لحتميّة عدم التّواصل والالتقاء. تبادل التصرّفات وتشابهها لا يعني بالضّرورة الاتّفاق عليها. فمتى حلّ الخوف أحدث خللاً في النّفس الإنسانيّة حتّى ولو لم يمسّ الجوهر الإنسانيّ.
في هذا المقطع يظهر جليّاً انتقال الحالة الإنسانيّة من الإيجابيّة إلى السّلبيّة. ففي حين أنّ الأبيات الأولى حافظت على إيجابيّة التّصرّف (يسألُ الجرسونَ شيئاً، أسألُ الجرسونَ شيئاً...)، إلّا أنّ الأبيات اللّاحقة جنحت إلى السّلبيّة مع استخدام الشّاعر لحرف النّفي (لا)، (أنا لا أقول لَهُ: السماءُ اليومَ صافيةٌ وأكثرُ زرقةً. هو لا يقول لي: السماءُ اليومَ صافيةٌ) والسّماء الّتي تمثّل صفاء العلاقة بدأت تتلبّد شيئاً فشيئاً وتترجم اضطراباً داخلياً يمهّد لاضطراب واقعيّ. والأبيات (قطَّةٌ سوداءُ تعبُرُ بَيْنَنَا، فأجسّ فروةَ ليلها ويجسُّ فَرْوَةَ ليلها...) أحدثت انفصالاً معيّناً بين الشّخصين من ناحية النّمط العلائقي لذا نرى الشّاعر يستخدم حرف النّفي (لا) بدل أن يبقي على إيجابيّة العبارة.
 الإنسان مرآة الإنسان.
رغم هذا الانفصال الضّمنيّ بين الشّخصين إلّا أنّ درويش يدرك في العمق أنّ شتّى العوامل المؤثّرة في النّفس الإنسانيّة والمسبّبة للابتعاد عن الآخر لا تنفي كونه مرآة، (هل هو المرآةُ أبصر فيه نفسي؟). الآخر مثلي ولا يختلف عنّي، هو أنا وأنا هو، والإنسان لا يدرك ذاته إلّا من خلال الآخر بل ولا يحقّقها إلّا من خلاله وبالاشتراك معه والانفتاح عليه. ويقولها المفكّر العراقي "عبد الرّازق جبران" بعبارة أجمل: "الإنسان كأس الإنسان". وهذه الفكرة لا تتبدّل ولا تتغيّر، فالإنسان هو الإنسان مذ وجد وسيظلّ حافظاً للقيمة الإنسانيّة في ذاته حتّى آخر شخص في التّاريخ. هي الظّروف الّتي تتبدّل والنّمط التفكيري والاجتماعي والتّربوي. فهو منذ البدء يحمل في ذاتيّته الخصال الإنسانيّة ذاتها ولكن ثمّة من يبحثون عن الآخر وثمّة من يستبعدونه ويرفضوه بل ويقتلونه.
 انعدام الرّؤية.
(ثم أَنظر نحو عينيه، ولكن لا أراهُ...). هنا تكمن المواجهة، ويتجلّى أهمّ عامل للخوف وهو عدم رؤية الآخر على الرّغم من حضوره الحقيقيّ. ونسأل، هل من يقتلون لأسباب عنصريّة وعقائديّة وسياسيّة...، يرون ضحيّتهم وإن نظروا إليها؟ هل يدركون حقيقةً أنّها قيمة إنسانيّة؟ بالطّبع لا، فلو رأوا لما أقدموا على هذا الفعل.
الخوف يعمي البصر والبصيرة ويعطّل العقل ويدمّر الرّوح فيمسي الإنسان آلة تتحرّك بوجب أمر خارجيّ. كما أنّ الخوف وسيلة مهمّة في يد من أراد استخدام البشر في تنفيذ مصالحه الشّخصيّة. فهو يتيح له استنفار قواهم ضد الآخر فيستخرج كل طاقاتهم السّلبيّة ويوجّهها نحوه ليستبعده.
تظنّ أنّك تخاف فتبتعد (أتركُ المقهى على عَجَلٍ)، ويتهيّأ لك أنّه ينبغي عليك أن تهيّئ نفسك للدّفاع (أفكّر: رُبَّما هو قاتلٌ). ولكنّ درويش يذهب إلى العمق أكثر مرّة أخرى ليغوص أكثر في الدّاخل الإنساني، ليفهمنا أنّ الخوف كامن في نفس كلّ واحد منّا، وكلّنا على استعداد لنبذ الآخر ما لم نسعَ جاهدين لاحترام القيمة الإنسانيّة (أو رُبّما هو عابرٌ قد ظنَّ أني قاتلٌ... هو خائِفٌ، وأنا كذلكْ!).
الخوف قاتل القيمة الإنسانيّة، فكلّ قاتل خاف من ضحيّته فقتلها خوفاً. إمّا خوفاً على السّلطة أو على المكانة الاجتماعيّة أو خوفاً من فقدان الاستمراريّة والذّوبان في الآخر، أو خوفاً من إظهار خوفه، يقول نيلسون مانديلا: "الجبناء يموتون مرّات عديدة قبل موتهم، والشّجاع لا يذوق الموت إلّا مرّة واحدة"، فالجبان يقتل نفسه عدّة مرّات وهو يتجرّأ على رفض الآخر واستبعاده ونفيه. ثمّ يقتل نفسه عندما يقتله ظنّاً منه أنّه انتصر وحافظ على وجوده. وأمّا الشّجاع فهو من يتخطّى خوفه على جميع المستويات ويتحرّر منه وينطلق بانفتاح عقليّ ونفسيّ وروحيّ نحو الآخر مدركاً أنّ به ومعه يتحقّق اكتمال الإنسانيّة.


(*) ديوان: لا تعتذر عما فعلت، ص ٨٧- ٨٨
دار رياض الريس لندن طبعة ١ سنة ٢٠٠٤

قراءة في قصيدة "هو هادئ وأنا كذلك" (*) للشّاعر محمود درويش

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى