الثلاثاء ٢٤ شباط (فبراير) ٢٠١٥
بقلم فراس حج محمد

لماذا «دوائر العطش»؟

العطش فكرة عميقة وليست مجرد عنوان!

استهوتني فكرة العطش في كتاب "دوائر العطش"، فبرق الاسم في خاطري في لحظة صفاء كأنها البرق، دونت الاسم واحتفظت به، ولم أكن على سابق علم بما يكتنزه العطش من ماء معرفي وصوفي إنساني قديم وحديث، وبغض النظر عن بعض نصوص الكتاب الذي اتخذت من العطش مرتكزا معنويا ولفظيا لها، إذ ما زلت على قناعة عدم تسمية الكتاب باسم نص من نصوصه مهما كان ذلك النص مركزيا أو دالاً!

وعندما أخذت أبحث عن المواقع التي نشرت خبرا عن صدور الكتاب، صادفت مصطلح "دوائر العطش" المتعلق ببعض الدوائر الانتخابية في السودان الذي أضحى يعاني جلّ أهله من العطش رغما عن النيل المتفرع في أرضه الممتدة، ثم تنتقل إلى رحمة الله تعالى الكاتبة الجزائرية فرنسية الإقامة واللغة "آسيا جبار"، فأقرأ أن أول كتاب لها كان بعنوان "العطش" وألفته عام 1953، فاستهوتني الفكرة من جديد، لأبحث عن الكتب التي توسمت بالعطش أو اتسمت به!
وقد فاض الصديق الموسوعي الجميل المقرب إلى الجماهير السيد "جوجل" حفظه "الإنترنت" ورعاه عليّ بقائمة من الكتب التي احتوت عناويها على لفظ "العطش"، سواء أكان اللفظ مفردا أم مضافا أم مضافا إليه، وسواء أكان مرفوعا أم منصوبا، وعند استقراء هذه العناوين وشيئا من المعلومات حولها، يتبين لي حجم ذلك العطش الذي تعانيه الإنسانية المعذبة، فالمصير الإنساني كله معلق بالارتواء من العطش، وأيّ عطش!

وجدت العطش في مؤلفات الكتّاب والكاتبات، وفي مؤلفات الشرق والغرب، وعند الملاحدة والصوفيين، وعند المسلمين والمسيحيين، وعند الأدباء والفلاسفة والسياسيين، وتجلى في الشعر والقصة والمسرحية والكتاب السياسي والجغرافي، وفي البحث الأمني والقومي والكوني، ودخل في الحرب النفسية، وعانى منه الفرد، كما عانت منه الأمة والجماعة والشعوب، والأرض قاطبة.

وعلى ذلك لم تخل من العطش ثقافة من الثقافات، فهو واضح أشد الوضوح في الثقافة الإسلامية ووعد الشرب من الكوثر، والشرب من يدي الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، بعد يوم عطش طويل، شربة لا يظمأ من شربها أبدا، وفي المسيحية برز كتاب "عطش الله" للأرشمندريت أغابيوس أبو سعدى، وفي الصوفية برز كتاب "العطش العرفاني في رحاب العارف الكامل"، ولعله وجد عند اليهود والبوذيين والهندوس عطشهم النابع من أروحهم وثقافاتهم، ولكنني تعبت من الاستقصاء والملاحقة، فاكتفيت بحصر ما يزيد عن ثلاثين مؤلفا، كلها كانت تستقى من العطش، وتنهل منه أفكارها!

تيقنت بأن العطش يقين، كما جاء في كتاب للروائي المصري إدوار الخراط، ولكنْ ثمة جواب غير الماء عن هذا العطش، كما ادّعى أدونيس الشاعر السوري، لتكون هناك قافلة من العطش عند سناء الشعلان، وعناقيد وشمعدان وينابيع لعطش ربما كان مختلفاً عند غيرها من الكتّاب، والنتيجة على ما يبدو واحدة فـ"لا عطش ينتهي ولا ينبوع" كما جاء في كتاب الكاتب العراقي "أحمد عبد الحسين"، وكأنني أصبحت أدور في فلك خاص من دوار ناشئ عن "دوائر العطش"!

مع كل ذلك العطش الذي تتلهف الإنسانية للخلاص منه، لتنعم بالماء على أبسط جواب، وإن استبعده أدونيس، ظهر العطش مليئا بالمعاني والدلالات والحكايات والآهات والتمنيات، وحتى لا يموت المعنى من العطش، ويظل النهر راويا لا يموت هو الآخر من العطش، كما مات نهر الأردن عطشا في قصيدة لمحمود درويش، وحتى لا يصيب ماءنا العطشُ في ذلك الغياب الأليم، علينا أن نتجنب السباحة في العطش، نقرأه ونكتبه ونهزمه، لعلنا نرتوي حتى ولو بصورة الماء النمير!!
تذكروا أيها القرّاء أن أسماء الكتب كأسماء البشر، قدر محكم، لا فكاك منه!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى