الأربعاء ٤ آذار (مارس) ٢٠١٥
رواية "رقم.."
بقلم إدريس يزيدي

الفرار من الأرض المعذبة إلى أرض النظام

بعد القفز على جبل قاف، يقف المرء جامدا، مجاز إنسان.. تماما كالمجاز الذي يطوق الحكاية على مدار النص في رواية "رقم.." للروائي الفلسطيني –المقيم في النرويج- خليل إبراهيم حسونة الصادرة عن دار ميم للنشر/ الجزائر.
عندما تكون العتبة رقما.. مجرد رقم، فكيف تكون تفاصيل الدار بعد أن ندلف إليها؟ لاشك أنها أكثر هشاشة، وهذا بالفعل ما يتلمسه القارئ وهو يغوص في أعماق الحكاية التي تؤكد له – كلما أوغل فيها- أن هذا المهاجر –الفلسطيني على وجه النص- الهارب من الأرض المعذبة هو مجرد رقم، وهو ما ووجه به رسميا عندما حل أول معسكر لللاجئين بالنرويج " ينادي أحد الأصوات بفحيح صامت: رقم تسعة، أين أنت؟ تقدم إلى هنا." ص56 ولكنه يواجه هذا بالرفض. وهو ما يحيلنا بالضرورة – ولو بحدة أقل- على الآداب العالمية التي جعلت من الانسان حشرة – رواية المسخ مثلا- تحت ضغوطات المجتمع الشجع.

فعل الرغم من أن التيمة الأساسية للنص ظاهرها الهجرة ولاإغتراب، إلا أن باطنها يتجاوزها إلى التسليم لمقتضى الواقع فيحاول التكيف معه شرط ألا يفقد إنسانيته وخصوصيته، فمرة يقول في معرض حواراته "أنا شاعر، ومن حقي أن أتكلم بما أشعر به" ص59 ومرة أخرى، كالمعتوه، وفي سياق يخلو من مناسبة، تسأله الممرضة عن عمره وعمله فيجيب:" أنا شاعر أفهم في الجمال الأصيل" ص65.

لقد حاول أن يلفت انتباه الناس إليه بشتى الطرق، إلا أنه يظل كما بدأ، على الرغم من أنه تأقلم مع الناس والجغرافيا والطقس. فتجد السرد يعج ببعض التفاصيل الجغرافية التي لا نجدها في السرديات المهجرية إلا إذا كان السارد قد سكن البلاد حينا من الدهر غير يسير، أما أن تصدر عن لاجئ حديث العهد بهذه الديار فهذا ينم عن مدى قوة السارد في الملاحظة نقل الصورة وتقبل تلك الجغرافيا القاسية التي صنعها طقس أشد قسوة والتي قلما نعثر عليها في الرواية المهجرية التي كتب معظمها في أوروبا الغربية والوسطى بعيدا عن شمالها. "بعد تحديد موعد رحلتهما المنتظرة إلى "أوسلو"، ومنها إلى مدينة "بيرغن" غرب البلاد، تحرك الباص الذي يحتضن "بانوراما" اللاجئين الذاهبين إلى المدينة للتسوق، البعض ينزل في... بعض المشاريب أو للتدخين" ص115 وهكذا يواصل النص في كل أبعاده، بعدسة مصور لا تفلت شيئا. يعرج على الأحاسيس والطقس وطباع الناس كما فعل مع التضاريس الجغرافية، فها هو يغازل الممرضة التي تحضر له كأسه "بعض السكر إن أردتِ، او ضعي أصبعك إن لم تجدي ذلك" ص220 إلا أنها لا تفهم شيئا من غزل الشرق وتكتفي بأن تبتسم "هذا الشعب المسالم لا يفهم تأيول المعاني، فهو غير لماح" ص220، ولعل ما ينجح فيه السارد هو بروز عنصر الإيهام –العمود الفقري لجنس الرواية- بشكل قوي ومتماسك من خلال اختياره لمشاهده المسرودة، فشعب غير لماح لاشك أنه شعب معزول، يعيش بمنأى عن العمران البشري، بعبارة ابن خلدون، وهو ما لاحظه في رحلته عبر معسكرات اللاجئين "حيث يرى نفسه في جزيرة صغيرة وجميلة، لكن علاقاتها الانسانية قاحلة" ص131 ويتكرر هذا الوصف إلى أن يصير شعورا يسكنه تجاه هذا البلد كلما حل في واحدة من مدن النرويج: " المدينة،.. كما هو حال غيرها شبه خالية من السكان" ص121.

لكن تشاء الأقدار أن تندلع حرب غزة ويتابع هو ومن معه في المعسكر، وأحيانا المستشفى، وبالتالي الطاقم الطبي وبعض المرضى النرويجيين فيفاجأ " العجب العجاب أن لا أحد يقول لماذا، لا هنا ولا هناك" ص231. ثم يخلص بعد ان يشرد ذهنه في حمام الدم الذي خلفته مجازر اليهود، ويستقرئ تحت ضوء التاريخ والواقع فعل هؤلاء الناس، كيف يتعاطفون احيانا بمشاعر عابرة، باردة.. فيقول: "هم هنا معك وليسوا معك" ص208.

ولعل هذاما يبرر تلك الاعترافات والملاحظات الصريحة التي تصدر عنه أحيانا عندما يلجأ إلى التحليل التاريخي عقب اندلاع بعض التصرفات العنصرية من قبل بعض الشباب " هؤلاء أحفاد مغول الشمال" ص140

لقد تعب الشاعر القادم من غزة، ويزداد هذا التعب كلما تأخر المسؤولون في إجراءاتهم وتاليا أوراقه. وخلال هذا الانتظار يرسم مقاربات للحياة، فيجد الحياة في النرويج سهلة، ولكن، ومن خلال إشارات عديدة، هي حياة خرجت عن مسارها. "لكن الحياة اسهل، لكنها في الشرق بمعناها الاصيل"ص108. وعلى مدار هذه العملية – كلها – والتي تناثرت شظايا على أرضية النص، ظلت عملية الاستذكار التي يستدعي فيها الحياة في الشرق تتسم بالموضوعية حتى عندما يأتي على ذكر بعض السلبيات، رافضا لعملية نشر الغسيل الرخيصة التي نجدها في بعض النصوص تملقا للآخر "إنها العادات المهترئة رغم أن الدين والتاريخ يرفضان ذلك"ص169.

أما وقد حصل على أوراق الإقامة، فقد استسلم لعملية الهروب إلى الأمام وراح يزرع في نفسه قناعات عن نمط العيش على هذه الأرض.. وفي كل خطوة جديدة يخطوها يقف أمامه النظام غولا لايقهر "ولكنه نظام المخيمات"ص81 "النظام والرقي الحضاري هو الأساس"ص85 "هنا جنس وقانون"ص116.

وأخيرا، رَكَنَ إلى النظام والقانون، لكنه لم يركن إلى رقميته.. ولعل هذا ما يميزه عن الآداب السابقة التي جعلت الانسان يموت على الحالة التي تحول إليها / مُسخ عليها. وهو تطور فعل المقاومة لدى إنسانية الفرد، حتى أنه نحت فعلا جديدا خرج به عن طبيعة اللغة السردية، فصاح "وأنا كما أنا لن أترقم"ص254 إلا أن لغة النص في عمومها ظلت رصينة لولا أن أرهقته بعض الاستعارات الثقيلة التي تحيلنا على مرجعية الكاتب الشعرية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى