الاثنين ٢٣ آذار (مارس) ٢٠١٥
بقلم جميل السلحوت

رواية لفح الغربة في اليوم السابع

ناقشت ندوة اليوم السابع الثقافية في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس رواية «لفح الغربة» للأديب المقدسي ابن بلدة بيت حنينا عبدالله دعيس، والتي صدرت عام 2015 عن دار الجندي للنّشر والتّوزيع في القدس. وتقع الرواية التي يحمل غلافها الأوّل لوحة للفنّانة المقدسية جيهان أبو رميلة في 219 صفحة من الحجم المتوسّط.

بدأ النّقاش ابراهيم جوهر فقال:

رواية تكتب سيرة المكان من بدايات القرن العشرين وتستعرض تاريخ التحولات الثقافية، ولا تنسى في سياق السيرة المكانية سيرة الناس الجمعية بلهجتهم ودلالات عاداتهم وإطلاق الألقاب والتوجّه طلبا للراحة والعيش الرغيد إلى بلاد الغربة التي تطحن إنسانيتهم.

(لفح الغرب) تقدّم غربة الإنسان بعيدا عن وطنه، وغربة الإنسان في وطنه، وغربة الغرباء الذين جاؤوا إلى البلاد في الوقت الذي خرج بعض أهل البلاد باحثين عن رزق مغموس بدم الكرامة أو واصلوا البحث في أرضهم في زمن ساده الجهل والسذاجة، لتكون النتيجة ضياعا واغترابا وشبكة خيوط ضاغطة حاكتها مؤامرة غربية وساعدتها أياد ملوّثة ورؤوس رأت الأرض سماءها والبساطير غايتها.

نقل الكاتب بجمالية الروي الخارجي على لسان الراوي العليم أسماء الأماكن في بيت حنينا نموذجا للمكان الفلسطيني المحاصر بالجدار والأسيجة والأوامر الاحتلالية. واستعرض مستعينا بالحلم وسيلة فنية واقع الأرض المهجورة من أبنائها الباحثين عن دروب رزق بعيدا عنها، كما نقل واقع القدس ممثلا في شخصية (رضوان) الغريبة المحمّلة بالألغاز والأسرار.
يمكن الاستفادة من رواية (لفح الغربة) في رسم ذاكرة قرية اسمها بيت حنينا وصولا إلى واقع هشّ تضافرت في صنعه أيادي الجهل الاجتماعي والسياسي والوطني. ويمكن أيضا تأثيث متحف تراثي للّهجة المحكية وبعض الأدوات والألعاب الشعبية التي جاءت في سياق السرد الروائي لتضفي حنينا عاطفيا وجمالا فنيا وفّر خصوصية للرواية.

لقد انتبه الكاتب (عبدالله دعيس) للمرأة في عمله الأدبي هنا فأنصفها وهي تمثل عنده ذاكرة وحامية حارسة صابرة لا تيأس.
وقال جميل السلحوت:

عرفت الأديب عبدالله دعيس منذ أكثر من عام عندما شاركنا لقاءات ندوة اليوم السّابع الثقافيّة، ولفت انتباهي بعمق أدبه وهدوئه، وعمق تحليلاته للكتب التي تناقشها النّدوة، إلى أن فاجأنا بروايته البكر "لفح الغربة" التي نحن بصددها، وكانت مفاجأة مدهشة حيث وجدت نفسي أنّني أمام أديب يمسك ناصية الّلغة، ويتقن السّرد الرّوائي بطريقة فريدة...فروايته يمكن قراءة فصولها الخمسة عشر كقصص قصيرة، وكلّ قصّة منها تكاد تكون رواية، ويمكن أيضا قراءتها كرواية أحسن البناء الرّوائيّ فيها...فقد ربطها بخيط لتكمل كرواية، لا ينقصها عنصر التّشويق الذي يجذب القارئ إليها. وكانت مفاجأة أخرى من حيث المضمون، فموضوع الرّواية يعالج قضية الهجرة والاغتراب وما يعانيه المغتربون اللاهثون وراء بريق الدّولار. وهكذا فإنّنا أمام عمل متميّز شكلا ومضمونا يكاد يكون غير مسبوق. وهكذا فإنّ أديبنا الذي هو على عتبات الخمسينات من عمره، لم يتعجّل النشر؛ لتكون بداية إصداره قويّة ولافته، فنجح في ذلك.

وهذه الرّواية التي اعتمدت على قصص واقعيّة مطعّمة بخيال واقعي، يهديها كاتبها" إلى كلّ من ترك الحياة الرّغيدة في الغربة وعاد ليرابط في وطنه"ص9 وهذه تجربة مرّ بها الكاتب نفسه، حيث كان مغتربا في أمريكا، واختار العودة للعيش في بلدته بيت حنينا، ووطنه فلسطين رغم قسوة الحياة في هذه البلاد التي تئن من ثقل بساطير جنود الاحتلال. ويواصل إهداءه:"إلى كلّ أمّ اختارت أن تربّي أبناءها في وطنها، فكانت لهم الأب والأمّ معا...إلى أمّي"ص9، وسواء عاشت والدة الكاتب مأساة هجرة الزّوج وتركها حاضنة لأبنائها أم لم تعشها، إلّا أن هناك آلاف النّساء اللوّاتي هاجر أزواجهنّ وتركوهنّ مع أبناء أو بدون أبناء، غير عابئين بمعاناة هذه النّساء الصّابرات المحتسبات. وهكذا فإنّ الكاتب بإهدائه هذا يختزل الرّواية مشجّعا المغتربين على العودة لأرض الوطن "للرّباط" فيه، ولم يكن استعماله للرّباط عبثا فله دلالاته أيضا، وهو أيضا يطرح معاناة زوجات المغتربين.

ومعروف أن بلدة الكاتب بيت حنينا الواقعة شمال القدس في الطّريق إلى رام الله غالبيّة مواطنيها من المغتربين في الأمريكتين. ممّا ترك أثارا كبيرة على البلدة. والقارئ للرّواية سيكتشف ما يرمي إليه الكاتب من خلال فهم ما بين السّطور...التي تنبّه من بداياتها إلى ضرورة التّفكير مرّات ومرّات قبل الهجرة من الوطن، وأنّ هناك مبالغات كبيرة في ثروات البلاد التي يهاجَر إليها، ويتخيّل البعض أنّه سيحقّق طموحاته بالثّراء بيسر وسهولة. عدا أنّ الهجرة من بلادنا فيها مخاطر تفوق فرقة الأهل ومعاناتهم، وتتعدّى إلى المساهمة في ضياع وطن يتكالب الآخر على الهجرة إليه واستيطانه لذا فإنّ "الصّوص" وهو من أوائل المهاجرين يتساءل:" لماذا يأتي هؤلاء اليهود من بلادهم إلى هنا؟ فأصحاب البلاد أنفسهم يتركونها ويهاجرون طلبا للرّزق؟ ما الذي يأتي بهم؟ وكيف تسمح لهم حكومة السّلطان والصّدر الأعظم بالمكوث في هذه البلاد المقدّسة؟"ص20.

وتفريغ البلاد من أهلها لم يبدأ بالهجرات الطّوعيّة فقط، فقد سبقه حروب العثمانيّين في أواخر عهدهم، وكيف كانوا يأخذون المجنّدين إلى حروبهم في البلقان وغيرها، فيكونون وقودا لتلك الحروب وتننقطع أخبارهم.

والهجرة لم تكن سهلة أيضا، فالصّوص عندما هاجر تمّ تهريبه مع شخص من مدينة البيرة إلى سفينة بخاريّة خفية عن الرّبان...وبقوا يعبئّون الفحم في "موقد"السفينة بعيدا عن عينيّ الرّبان، الذي ما كان ليتردّد بالقائهم في البحر لو اكتشفهم...ليصلا بعد ذلك إلى جزيرة في عرض البحر، وليعملوا كرقيق لدى أحد الأشخاص هناك في ظروف لا إنسانيّة مقابل طعامهم...ولمّا اكتشفهم الأمن الأمريكي تمّ وضعهم في معسكرات كأسرى إلى أن انتهت الحرب؛ ليتمّ ترحيلهم إلى بلدهم ثانية. ويعود الصّوص إلى بيته بعد أن خسر زوجته وابنيه.

ويلاحظ في الرّواية أن هموم ما جرى ويجري في بيت حنينا يشكّل عبئا كبيرا ما كان ليحصل لولا هجرة أبنائها...وهذه الهموم جعلت الكاتب يركّز على ذكر أسماء العديد من الأماكن في البلدة، والتي لم يعد أحد يذكرها لتغيير ملامحها...واطلاق مسميّات جديدة عليها...ولا ينسى الكاتب دور السّماسرة في عمليات بيع الأراضي حتى لجهات معادية، مستغلّين طيبة بعض النّاس تارة وبالاحتيال تارة أخرى.

وتعرّج الرّواية على جدار التّوسّع الاحتلالي وكيف مزّق البلدة إلى أشلاء غير مترابطة، وما ألحق ذلك من أضرار بالبلدة ومواطنيها. وتبلغ المأساة ذروتها بقوانين الاحتلال التعسّفيّة والتي تجرّد المواطنين أرضهم وعقاراتهم، فحامد الذي استولى أحد السّماسرة على بيته، حكمت المحكمة بابطال عمليّة البيع بالتّزييف، لكنها حوّلت البيت إلى حارس أملاك الغائبين بحجّة غياب مالكه مع أنّه موجود في المحكمة، والسّبب هو تقسيمات الاحتلال الاداريّة التي لا تعترف بوجود من لا يملك "بطاقة الهويّة الزّرقاء الاحتلاليّة" ضمن قانون جائر لا مثيل له في العالم وهو قانون"الحاضر الغائب".
والقارئ للرّواية سيجد نفسه أمام مأساة متراكمة عمودها يتمثّل بالهجرة من البلاد، وبالاحتلال وقوانينه وممارساته العنصريّة.

ويتضّح من الرّواية مآسي الهجرة وترك الوطن، ولوعة الأمّهات اللواتي كنّ ينتظرن عودة أبنائهن دون جدوى، ولم تتوقّف حياة بعض من اغتربوا على ترك الوطن والأهل والضّياع التي يعيشونها في غربتهم، بل تعدّت ذلك إلى عودة البعض منهم لا من أجل الاقامة والاستقرار، بل لبيع ما تبقّى لهم من أملاك هنا، غير عابئين بمن تبقى من أهلهم كالزّوجة وبعض الأبناء والأمّهات.

وقد أبدع الكاتب بوصف حالة رزق الذي عاد إلى البلدة بولد وبنت من زوجة أمريكيّة ماتت في حادث طرق حسب زعمه، ليزوّج ابنته لابن المختار وتهاجر مع زوجها إلى أمريكا مصطحبا معه ابنه ليضيع هو الآخر هناك، في حين ترك ابنيه " شان" الذي أصبح اسمه "شعلان" وابنته" تين" التي أصبح اسمها "تينة" في رعاية زوجته هنا، فتربّيهم أحسن تربية، وتعلّمهم في الجامعات، وتتعلم تينة وتصبح طبيبة، ويتعلم شعلان ويفتتح معرضا للألكترونيّات، وعندا عاد الأب لبيع البيت بمائتي ألف دولار، اشتراه ابنه هنا، أي أن الابنين اللذين تربيّا هنا –مع أنّ أمّهم أجنبيّة- توفّقا ونجحا في البلاد، في حين فشل أبوهم في أمريكا. وهذه دعوة إلى الصّمود، ومن يجدّ في هذه البلاد سينجح بالتأكيد، وكما يقولون" من لا يثمّر في بلده لن يثمّر في بلاد الغربة".

والرّواية التي بطلها الحقيقي هو بلدة بيت حنينا بأبنيتها التّاريخيّة، وبأسماء تلالها وسهولها وأرضها تحتاج إلى دراسات معمّقة لتعطيها حقها، وتكشف جماليّاتها وأهدافها النّبيلة، وهي تشكّل إضافة نوعيّة للمكتبة الفلسطينيّة والعربيّة.
وكتب موسى أبو دويح:

اختصر الكاتب روايته بقوله: "هذه الرّواية من وحي الغربة الّتي عصفت ببلدة بيت حنينا، وجدار الفصل الذي مزّقها وشتّت القلّة الباقية من أهلها."
وفّق الكاتب في اختيار عنوان روايته (لفح الغربة) حيث جاء في لسان العرب (5/4053): (لفح: لَفَحَتْه النارُ تَلْفَحُه لَفْحًا ولَفَحانًا: أَصابت وَجْهَهُ إِلَّا أَن النَّفْحَ أَعظم تأْثيرًا مِنْهُ؛ وَكَذَلِكَ لَفَحَتْ وَجْهَهُ. وَقَالَ الأَزهري: لَفَحَتْه النارُ إِذا أَصابت أَعلى جَسَدِهِ فأَحرقته.

وقال الْجَوْهَرِيُّ: لَفَحَتْه النارُ والسَّمُومُ بحرِّها أَحرقته. وَفِي التَّنْزِيلِ: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ؛ قَالَ الزَّجَّاجُ فِي ذَلِكَ: تَلْفَحُ وتَنْفَحُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ إِلَّا أَن النَّفْحَ أَعظم تأْثيرًا مِنْهُ؛ قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: وَمِمَّا يؤَيد قولَه قولُه تَعَالَى: وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ.

وَفِي حَدِيثِ الْكُسُوفِ: تأَخَّرْتُ مَخافَة أَن يُصِيبَنِي مِنْ لَفْحها؛ لَفْحُ النَّارِ: حَرُّها ووَهَجُها. والسَّمُوم تَلْفَحُ الإِنسانَ، ولَفَحَتْه السُّمُومُ لَفْحًا: قَابَلَتْ وَجْهَهُ.

وأَصابه لَفْحٌ مِنْ سَمُوم وحَرُورٍ. الأَصمعيّ: مَا كَانَ مِنَ الرِّيَاحِ لَفْحٌ، فَهُوَ حَرٌّ، وَمَا كَانَ نَفْحٌ، فَهُوَ بَرْدٌ. قال ابْنُ الأَعرابي: اللَّفْحُ لِكُلِّ حارٍّ والنَّفْحُ لِكُلِّ بَارِدٍ.

فبيت حنينا مثلها مثل كثير من القرى والمدن الفلسطينيّة التي أصابها (لفح الغربة) على رأي الكاتب، وهجرها شبابها إلى أمريكا الشّماليّة أو الجنوبيّة، وأصابها ما أصابها نتيجة هجرة الشّباب منها، وبقيت النّساء والكهول ينتظرون عودة الشّباب؛ ليعمروا بلدانهم، ولكنّ الغربة لفحتهم، وأخذت منهم كلّ مأخذ، وعاد من عاد منهم إلى بلده، بعد فوات الأوان، وبعد أن ضاع كلّ شيء، ندموا ولات ساعة مندم.

حاول الكاتب في روايته أن يظهر الوجه البشع للغربة؛ لعلّ ذلك يحول بين الشّباب وبين الهجرة، أو يقلّل منه؛ وبهذا يكون الكاتب قد عالج بقلمه معضلة عصفت بكثير من القرى الفلسطينيّة. وكثير من هذه المدن أو القرى، وإن بنيت فيها ناطحات السّحاب، والقصور الفارهة، والبنايات المزخرفة الجميلة، إلا أنّها خواء؛ لأنّها فارغة من أهلها، أو خالية من الشّباب، ولا يعمرها إلا الكهول من الرّجال والنّساء، الذين ينتظرون آجالهم؛ ليدفنوا في أرضهم، لا في أرض الغربة.
لغة الكاتب في الرّواية لغة عربيّة فصيحة، وإن جاء فيها بعض الجمل باللغة العامّيّة، الّتي جاءت على ألسنة العجائز من الرّجال والنّساء؛ ما أضفى على الرّواية مسحة من الجمال. كما وجاء في الرّواية بعض الكلمات والجمل باللغة العبريّة الّتي اشتهرت على ألسنة أهل البلاد؛ لأنّه لا بدّ لهم من استعمالها؛ لوجود يهود على المعابر والحواجز التي يقيمونها في كلّ مكان، ولا بد للعرب الفلسطينيّين من دخولها والخروج منها في كلّ صباح ومساء.

الرّواية جيّدة وهادفة، وتستحق القراءة، وهي قليلة الأخطاء اللغويّة، وإن وقع الكاتب في بعضها مثل:

 صفحة 13: ربما سيكون عند الحاجة خضرة (جوابًا). والصّحيح: جوابٌ اسم سيكون مرفوع.

 صفحة 16: (كانت) العديد من السّيّدات. والصّحيح: (كان) العديد من السّيّدات.
ومع كلّ هذا، فالرّواية قليلة الأخطاء بالنسبة لما ينشر في هذه الأيّام، وهي جديرة بالمطالعة، وحريّة بالاقتناء وأخذ العبرة منها؛ وهي الانزراع في الأرض وعدم التّفكير بالهجرة منها إلى غيرها.

وكتب محمود شقير:

ينهي الكاتب عبد الله دعيس روايته على نحو مبشّر بالأمل. ذلك أن أرْوَد الذي كان رأسه إلى أسفل على الدوام، ينتصب واقفًا على قدميه وينظر نحو السماء، ويطلق السؤال الذي يشي بالمستقبل: هل يعود ربيع القرية من جديد؟
على امتداد 219 صفحة من القطع المتوسط نتابع عبر التفاصيل الحميمة والشخصيات المتعددة معاناة قرية بيت حنينا من هجرة أبنائها إلى أمريكا، تاركين قريتهم التي تقع على تخوم القدس لهجمة الاستيطان الصهيوني التي تحاصر القرية من كل الجهات، تلك الهجمة التي لا ينفع معها نداء الآباء والأجداد الذين غيبهم الموت، داعين الأبناء لحراثة الأرض وفلاحتها. فالحاجة خضرة وأبو رزق اللذان قرّرا تلبية النداء لم يتمكنا من ذلك، بسبب وقوع الأرض تحت سيطرة الأعداء.
ولم تكن تلك السيطرة هي الخطر الوحيد الذي يتهدد القرية، بل إن قيام عزّام، ابن الحاجة خضراء، المغترب القادم من المهجر، بهدم العلية التي أقامت فيها خضراء سنوات عمرها الطويل، و شهدت فيها كثيرًا من المناسبات، يعني أن ذاكرة القرية يجري محوها على أيدي أبنائها الذين اختاروا الهجرة على البقاء في الوطن. وبالطبع، فإن الراوي العليم الذي ينطق بلسان المؤلف لم يترك فرصة إلا اغتنمها للتنفير من عواقب هذه الهجرة المدمرة.

يكتب عبد الله دعيس روايته "لفح الغربة" بسرد ممتع وبلغة جميلة شابتها هنات نحوية طفيفة، وبتقنية ملائمة يجري من خلالها تتبع مصائر شخصيات الرواية التي تفترق حينًا وتتقاطع حينًا آخر، بحيث كانت القرية هي البؤرة التي يبدأ منها السرد ويعود إليها، وبحيث يستعرض الكاتب من خلال ذلك ليس فقط مصير القرية وإنما المصير الفلسطيني برمّته، وما مرّ على الفلسطينيين من أحداث ومآس وتطورات خلال مئة عام، بما يذكّر من بعض الوجوه برواية "المرايا" لنجيب محفوظ التي استعرض فيها مصائر خمسة وخمسين نموذجًا بشريًّا، وقدم من خلالهم رصدًا لواقع مصر خلال أعوام طويلة.
وفي حين نجح عبد الله دعيس في تقديم العديد من شخوص روايته، وقدمهم بطريقة مقنعة، فإنه لم ينجح في أحيان قليلة أخرى. وأمثّل على ذلك بالرصد الذكي لتجربة "تينة" على الحاجز العسكري، وتبيان مدى الإذلال الذي يتعرض له الفلسطينيون على أيدي المحتلين الصهاينة. فيما لم يكن مقنعًا ذلك المصير الذي رسمه الكاتب لرائد، الذي وضع نفسه من دون مبرّر في دائرة الشبهات وهو يجتاز بوابة الجدار العنصري بالتنسيق مع أحد ضباط الاحتلال، ما جرّ عليه تهمة العمالة للعدو، وما أدى إلى فسخ خطيب أخته للخطوبة، ومن ثم إقدامها على الانتحار. هنا يجري تركيب المشهد من تفاصيل غير مقنعة وفيها مبالغات.

والأمر نفسه يحدث مع رزق، الذي عاد من الغربة إلى البلاد أول مرة وفي ذهنه بيع البيت القديم في القرية، لاستثمار ثمنه في تجارته هناك. لكن الراوي لا يتعرض لذلك إلا بعد سنوات لدى عودة رزق مرة ثانية. في المرة الأولى ثمة تفاصيل غير مبررة، إذ يترك رزق طفليه من زوجته الأمريكية عند زوجته الأولى، ويصطحب ابنه وابنته منها إلى المهجر. وحين يعود في المرة الثانية ويهم ببيع البيت يتصدى له ابنه الذي تركه في البلاد، ليصطدم رزق بالحقيقة المرة، وليهتدي فجأة ويعود إلى جادة الصواب.

رغم هذه الملاحظات، فإن هذه الرواية الأولى لعبد الله دعيس تبشر بولادة كاتب مقدسي جديد.

وقال محمد عمر القراعين:
هذه الرواية تضم مآس عادت بي لذكريات مواقف خرجت منها محظوظا أو موفقا. ففي بداية الخمسينات، كان أملي أن أسافر إلى أمريكا لدراسة الهندسة، بعد توفير 750 دولارا، ولما حصلت على الفيزا سنة 1953 طلّقت الفكرة اعتقادا أنّ الذي يذهب إلى أمريكا في تلك الأيام لا يعود للبلاد، ولو فضلت البقاء في الرياض بعد انقضاء فترة الإعارة سنة 1966، لما تواجدت في الضفة زمن النكسة، ولما صرت سعيدا بوجودي معكم منزرعين في القدس الحبيبة.
في الماضي، كنا نغرّب ونشرّق ونعود للقدس، التي كنا نعتبرها قريبة منا، مؤمنين بمقولة أن


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى