الجمعة ٢١ نيسان (أبريل) ٢٠٠٦

الشيخ مصطفى الغلاييني

هو مصطفى بن محمد بن سليم بن محي الدين بن مصطفى الغلاييني، ولد في بيروت سنة 1302هـ 1885م، وتنتمي أسرته إلى الفوايد، وهي من قبيلة الحويطات، منازلها بين العقبة والوجه من أرض الحجاز، ومنها أفخاذ تضرب في وادي النيل.

وعلى غرار الناشئين من أبناء زمانه في أواخر القرن التاسع عشر، فإنه كان يلازم حلقات العلماء الذين كانوا يقومون بالتدريس في الجامع العمري الكبير في بيروت، وقد تلقى الشيخ مصطفى الغلاييني علومه الأولى على الشيخ محيي الدين الخيّاط الذي قرأ عليه العربيّة والجغرافية والتاريخ والشيخ عبد الباسط الفاخوري الذي قرأ عليه الفقه الإسلامي وعلم الكلام وأصول التوحيد، والشيخ صالح الرافعي الطرابلسي الذي قرأ عليه مادة الأدب العربي والشعر وفن المقامة.

وفي حديث له مع جريدة المعرض الأسبوعيّة، عدد آذار سنة 1930م قال: إنه في الثالثة عشرة من عمره كان تلميذاً في المدرسة الوطنيّة التي كان يديرها الشيخ محمد زيدان وهو الذي ألبسه العمامة.

ومن بيوت علماء بيروت وحلقاتهم في الجامع العمري الكبير في بيروت انتقل الغلاييني إلى مصر حيث ألتحق بالجامع الأزهر الشريف يطلب العلم في حلقات العلماء المصريين عند سواري هذا الجامع الجامعة، وكان من شيوخه في هذه المرحلة سيد بن علي المرصفي ، المرجع في علوم العربيّة آنذاك.

لم يمكث في مصر سوى ستة شهور نشر خلالها في جريدة الأهرام عدة مقالات فيما يراه من أوجه إصلاح البرامج التعليميّة في الجامع الأزهر الشريف، ثم قفل عائداً إلى مسقط رأسه بيروت حيث اتخذ له حلقة للتدريس في الجامع العمري الكبير، كما التحق بجهاز المعلمين في الكليّة العُثمانيّة لصاحبها الشيخ أحمد عبّاس الأزهري أستاذاً لمادة اللغة العربيّة وآدابها.

وإذا كان الغلاييني تواقاً لاستخدام ما يمتاز به من حيويّة ونشاط في حقل الحياة العامة فإنه وجد في جمعيّة الإتحاد والترقي التي تأسست في أسطمبول وأطاحت بعرش السلطان عبد الحميد الثاني ما يرضي اندفاعه وطموحه فأعلن انتسابه إلى هذه الجمعيّة ومعه من أهل بيروت:

 حيدر بك

 أمين حلمي

 الشيخ أحمد طبارة

 عبد الغني العريسي

 رزق الله أرقش

 شارل دبّاس

إلا أن الأعيان المذكورين وفيهم الشيخ مصطفى الغلاييني ما لبثوا أن انقلبوا على الجمعيّة المذكورة عندما تبينوا اختلاف مراميهم الوطنيّة عن مقاصدها السياسيّة، بعضهم دفع حياته ثمناً لهذه الاختلاف وبعضهم استعصم بالهرب إلى خارج السلطنة وبعضهم كان نصيبه الإقامة الجبريّة في بلاد الأناضول.

أما الغلاييني نفسه فإنه لم يشأ أن يغادر البلاد وآثر البقاء في بيروت منصرفاً إلى تلبية تطلعاته الثقافيّة والوطنيّة عبر مجلة أنشأها في 22 كانون الثاني سنة 1909م تحت أسم النّبراس وهي كما جاء تعريفها في عددها الأول:(مجلة تبحث في الاجتماع والعمران والعلم والآداب والتاريخ والانتقاد والسياسة). وكانت تصدر مرة كل شهر. وقد داوم الغلاييني على إصدارها مدة سنتين 1909-1910م في مجلدين أثنين ثم توقفت بعد ذلك عن الصدور.

وعندما أوجس المسلمون في بيروت خفية من سوء مغبة الحركة التي كان النصارى اللبنانيون يقومون بها عبر الحكومة الفرنسيّة في باريس، خافوا أن تستغل الأكثريّة المارونيّة آنذاك في جبل لبنان هذه الحركة وهي ملتزمة بالتعاطف مع هذه الدولة لأسباب تاريخيّة معروفة. فبادروا لتلبية الصوت الذي أرتفع في مصر بالدعوة إلى الإصلاح في السلطنة العُثمانيّة على أساس اللامركزيّة، واجتمعوا بالوالي العُثماني يومئذ واسمه أدهم بك وأبلغوه رغبتهم في إدخال الإصلاحات المرغوبة في عريضة مفصلة تضمنت مطالبهم الإصلاحيّة باسم (الجمعيّة الإصلاحيّة في بيروت).

ولقد رأى الغلاييني أن هذه المبادرة تستدعي انضمامه إلى الجمعيّة المذكورة فأعلن ذلك، وبقي في جمعيتهم إلى حين إلغائها في أوائل الحرب العالميّة الأولى 1914-1918م بعد أن ظهرت أمارات النزاع بين الدولة وبين الحلفاء.

وفي سنة 1910م أجرت نظارة المعارف في ولاية بيروت مباراة لاختيار أساتذة للتدريس في المكتب السلطاني، حيث ثانوية المقاصد الخيريّة الإسلاميّة في بيروت اليوم، فاشترك الغلاييني بهذه المباراة ونجح، فأصدرت النظارة آنذاك مرسوماً بتعيّنه في المكتب المذكور أستاذاً للغة العربيّة وآدابها.

في شهر ذي الحجة 1332هـ ‏تشرين الأول ‏سنة 1914م أعلنت الدولة العُثمانيّة الدخول في الحرب ضد دول الحلفاء، فبادر رعايا الدولة إلى تلبية داعي الجهاد وكان الشيخ مصطفى الغلاييني في جملة المتطوعين تحت الراية العُثمانيّة فعيّنه أحمد جمال باشا قائد الجيش الهمايوني الرابع واعظاً وخطيباً في هذا الجيش. وعندما تقدم الجنود العُثمانيون في صحراء سيناء لاجتياز ترعة السويس وتحرير مصر من الإنكليز كان الغلاييني إلى جانب هؤلاء الجنود يعظهم ويثير حميتهم الإسلاميّة ويلهب مشاعرهم الوطنيّة ضد أعداء الدولة الذين هم في الواقع أعداء الإسلام والمسلمين.

وفي ذلك يقول الشيخ مصطفى الغلاييني:

( لبست العمامة في الثالثة عشرة من عمري. وكنت يومئذٍ تلميذاً في المدرسة الوطنيّة التي كان يديرها المرحوم محمد زيدان. وقد بقيتُ مدة بعد التعمم وأنا مثابر على تلقي الدروس وبقيت مثابراً عليها حتى سنة 1917م. وكان عمري إذ ذاك 32 سنة، ثم خلعت العمامة واستبدلت بها الطربوش، السبب في ذلك، كان وطنيّاً تؤلمني ذكراه، وذلك أنه قُرع بابي ذات ليلة بعد منتصف الليل فأفقت وإذا أنا أمام بضعة شرطيين يدعونني لمواجهة مدير الشرطة محيي الدين بك، الذي أنتحر فيما بعد، فسألتهم عن السبب الداعي إلى ذلك فعلمت أن الغرض من ذلك هو كتابة وصايا الشهداء الذين أعدموا في صباح تلك الليلة، فامتنعت عن الذهاب فشددوا عليَّ فلم أُلبِّ الطلب وقلت لهم أخبروه أن في البلد شيوخاً يتقاضون أجوراً على الوظائف الدينيّة فليتخذ أحدهم لهذا الغرض، فذهبوا ثم عادوا وألحّوا عليّ بالذهاب معهم، فقلت لهم أخبروه أن هذه عمامتي حاضرة فليأخذها ولا أريد أن أكون شيخاً بعد اليوم، فذهبوا ولم يرجعوا، وعلى ذلك نزعت عمامتي) .

على أثر انحسار الحكم العربي عن بيروت وانتشار قوات الاحتلال الفرنسي فيها أتجهت عواطف البيروتيين صوب المملكة العربيّة الناشئة في دمشق كما اتجهت إليها جموع الرعيل القومي الناشط من النابهين فيها. وكان الشيخ مصطفى الغلاييني في مقدمة هذا الرعيل واختار أن يكون متطوعاً في جيش الشريف فيصل الذي كان يعتبر في ذلك الحين جيش التحرر القومي للأمة العربيّة.

ولما أحتل الفرنسيون سوريا بقيادة الجنرال غورو ذهب عدد من ضباط جيش الأمير فيصل إلى بلاد ما وراء نهر الأردن عند الأمير عبد الله، فعينهم الأمير في مناصب مختلفة، والذي وصل إلينا أن الشيخ مصطفى الغلاييني قد عُيّن عند الأمير عضواً في الديوان العرفي العسكري.

وأنتهز الأمير عبد الله وجود الغلاييني في بلاده فرغب إليه بأن يعطي ولديه طلال ونايف دروساً في اللغة العربيّة وآدابها وأن يتولى الإشراف على تربيتهما وفق المبادئ الدينيّة والأخلاق العربيّة التراثيّة الأصيلة.

لم تطل إقامة الغلاييني في عمّان، فلقد استبدّ به الشوق إلى لقاء أهله والعيش في بلده بيروت، فعاد إلى عائلته وموطنه بعد حوالي سنتين من غربته ليتابع جهوده الأدبيّة وجهاده الوطني.

وفي سنة 1922م عاشت بيروت أحداثاً سياسيّة نجمت عن مقتل أسعد بك خورشيد مدير داخلية لبنان آنذاك. وسبب مقتل هذا الموظف أنه وافق على طلب حكومة الانتداب بأن تكون العطلة الأسبوعيّة يوم الأحد بدلاً من يوم الجمعة، الأمر الذي أثار إعتراض المسلمين، ويومئذ أتّهم الغلاييني بأنه كان مع الذين قاموا بهذا الترتيب والتحريض على قتل خورشيد، فاعتقلته السلطة الفرنسيّة في سجن بيت الدين بلبنان، ثم أبعدته إلى خارج البلاد.

وعندما خفف الانتداب الفرنسي من وطأته على البلاد رأى الغلاييني أن يشد رحاله إلى بيروت لإبراد غليل ظمئه إلى لقاء الأهل.

ولكن تفاؤله وحسن ظنه بالفرنسيين كان في غير محله، إذ أنه ما كاد يلقي عصا النوى ويستقر به المقام في بيروت حتّى ألح عليه زبانيّة الانتداب بالإحراج والمضايقة إلى أن انتهى بهم الأمر أخيراً إلى اعتقاله من جديد وزجّه في قلعة جزيرة أرواد للمرة الثانية طوال سبعة شهور، ولما أُفرج عنه سافر من أرواد إلى عمّان للمرة الثانية ومنا أتخذ سبيله إلى بيروت دون ترخيص من سلطات الانتداب التي كانت له بالمرصاد وقبضت عليه فور وصوله وزجّته في السجن لعسكري داخل زنزانة ضيقة ذرعها طولاً 175 سنتم وعرضاً 160 سنتم.

بقي الغلاييني في هذا السجن العسكري بين جدران زنزانته الضيقة خمسة عشر يوماً وبعدها قذفته السلطة إلى خارج الحدود اللبنانيّة فاختار حيفا دار إقامة له لسابق عهده بها ومعرفته لأهله .

ثم سافر الغلاييني إلى بيروت وفيها كانت إقامته الدائمة حيث استقبله إخوانه ومحبوه وقدروا فضله وعلمه بما هو أهل له من التجلّة والإكرام، وبالرغم من أنه عاد إليهم وعلى رأسه طربوش من غير عمامة، فإنهم انتخبوه رئيساً للمجلس الإسلامي الشرعي الأعلى في لبنان.

وإذ كان علماء بيروت وإخوانهم علماء الأقطار العربيّة حريصون على أن يكون الغلاييني متوجاً بالعمامة شعار العلم والدين عند المسلمين فإنهم تنادوا للاشتراك جميعاً للقيام بهذه البادرة التكريميّة بالشكل الذي يليق بمكانة المحتفي به بمناسبة مرور ثلاثين سنة على جهاده في حقل التعليم والتبتّل لخدمة اللغة العربيّة وآدابها وتراثها.

وفي اليوم الثامن عشر من شهر حزيران سنة 1932م امتلأت رحاب الكليّة العباسيّة بكبار العلماء من بيروت ودمشق والقدس وبغداد والموصل حيث تمّ الاحتفال بوضع العمامة على رأس الشيخ مصطفى الغلاييني وسط ترحيب أكثر من عشرين خطيباً تكلموا منوهين بشخصية المحتفى به ومكانته العلميّة وجهاده الصادق في سبيل مجد العرب ووحدة أمتهم واستقلال بلادهم وقد تولى مفتي دمشق ومفتي الموصل ومفتي بيروت تتويجه بالعمامة، وكان عمره إذ ذاك 47 سنة.

وبعودة الشيخ مصطفى الغلاييني إلى نادي المتعممين دُعي إلى سدة القضاء الشرعي في بيروت ليمارس مهمة العدالة الدينيّة وراء قوس المحكمة الشرعيّة وبقي متوسداً هذا المنصب بضع سنين ثم نقل منه إلى منصب المستشار في المحكمة الشرعيّة العليا التي كان يرأسها العالِم الكبير الشيخ محمد علي الأنسي رحمه الله تعالى.

كانت المحكمة الشرعيّة العليا في بيروت المرحلة التي مرّ بها وهو في طريقه إلى نهاية مطافه في هذه الدنيا، فلقد حدث أثناء عمله في هذه المحكمة أن ابتلاه الله بمرض جلدي انتشر في سائر بدنه ولم تنفع به الأدوية المعروفة في أيامه، ثم أن هذا المرض تطور إلى نوع من السرطان الجلدي الذي أدّى إلى إنهاك جسده وإن الزعيم رياض بك الصلح تبتَّل للاهتمام به بكل ما وسعه الجهد ولم يبخل عليه بألوان المعالجات الطبيّة في داخل لبنان وخارجه ولكن استشراء المرض كان أقوى من رغبة محبيه بإنقاذه والإبقاء على حياته، فانتقل رحمه الله تعالى إلى جوار ربه ورحمته في 17 شباط سنة 1944م وتمّ دفن جُثمانه الطاهر في جبانة الباشورة في بيروت .

من مؤلفاته :

 أريج الزهر

 نظرات في السفور والحجاب

 الإسلام روح المدنيّة

 اللورد كرومر

 الثريا المضيئة في الدروس العروضيّة

 القواعد العربيّة

 رجال المعلقات العشر

 عظة الناشئين

 نظرات في الأدب والفقه

 لباب الخيار في السيرة المختارة


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى