الخميس ٩ نيسان (أبريل) ٢٠١٥
بقلم وليد الخالدي

مجزرة دير ياسين كما يؤرخها البروفيسور وليد الخالدي

لمنظمات الصهيونية تتنافس:

وصل التنافس في الأشهر الأخيرة من الانتداب البريطاني في فلسطين عام 1948 بعد قرار التقسيم ذروته بين منظمة الهاغانا من جهة والمنظمتين الإرهابيتين الأرغون ("ايتسل") والشتيرن ("ليحي") من جهة أخرى ذلك أن الأولى كانت تمثل التيار "اليساري" العمالي الحاكم بقيادة بن غوريون في المجتمع اليهودي الفلسطيني والآخرين التيار اليميني المتشدد بتعاليم فلاديمير جابوتنسكي البولوني (1880-1940) الذي كان أبرز قادته مناحيم بيغن (البولوني أيضا) خليفة جابوتنسكي.

وكان أهم مجال لهذا التنافس المجال العسكري أي العمليات العسكرية والإرهابية ضد الفلسطينيين التي حلت محل مثيلتها ضد البريطانيين في الفترة السابقة لقرار التقسيم، وكان أخطر مسرح لهذا التنافس مدينة القدس وريفها لما تمثله القدس من أهمية رمزية وتاريخية ودينية وسياسية واستراتيجية. وكان حصاد هذا التنافس المرتجى مكاسب سياسية لدى الرأي العام اليهودي في فلسطين تحدد موقع كل من التيارين على الخريطة السياسية للدولة العبرية المرتقبة الولادة فور انتهاء الانتداب في 15 ايار (مايو) 1948 بعد أن حصلت على الضوء الأخضر في قرار التقسيم.

وكان هامش المزايدة لمصلحة "ايتسل " و "ليحي" في القدس على الهاغانا واسعا رحبا ذلك أن موقفهما السياسي المعلن دونما لبس أو حرج بالنسبة للتقسيم كان الرفض القاطع المطلق له من حيث المبدأ والدعوة الصريحة لمناهضته بقوة السلاح لاستثنائه مناطق من الكيان الصهيوني الكبير في نظرهم "منحت" للدولة العربية بموجب قرار التقسيم وهو القرار الذي استثنى أيضا مدينة القدس وريفها من كل من الدولة العبرية والدولة العربية كما نص على إنشاء وضع خاص منفصل (Corpus Separatum ) لهما أي للقدس وريفها تحت الوصاية الدولية، وبالمقابل كان موقف القيادة الصهيونية المتمثلة بالوكالة اليهودية بقيادة بن غوريون الرسمي المعلن هو القبول بالتقسيم باستثنائاته جميعا بما في ذلك مدينة القدس وريفها وهو الموقف الذي جعل من الممكن أصلا استحصال هذه القيادة على قرار التقسيم، إذ أن الدول اللاتينية الكاثوليكية لما كانت صوتت في حينه في هيئة الأمم تأييدا لمبدأ التقسيم لو كان تضمن إدخال مدينة القدس في الدولة العبرية.

بيد أنه إذا كان موقف القيادة الصهيونية القبول اللفظي الظاهر باستثناء القدس من الدولة العبرية المرتقبة فإن سياستها الفعلية الباطنة المجسدة في خطة الهاغانا الاستراتيجية الكبرى (خطة دالتا Plan Delta) السرية كانت ضم القدس وما أمكن من غيرها من المناطق العربية (داخل الدولة العربية) إلى الدولة العبرية بقوة السلاح، وبالفعل باشرت قيادة الهاغانا بتنفيذ الخطة دال في الأسبوع الأول من شهر نيسان (أبريل) عام 1948 عندما قدرت ارتخاء القبضة البريطانية على البلاد وصلت مرحلة تتيح لها الفرصة بالبدء بتنفيذ خطتها الكبرى وهكذا شرعت في افتتاح خطة دال بعملية "خشون" التي حشدت لها 1500 من مقاتليها وهو ما أشرنا إليه سالفا.

المحادثات بين الهاغانا وبين "ايتسل" و" ليحي" عشية الهجوم على دير ياسين :

كان الطرف الأقوى بين المنظمات الثلاث في القدس الهاغانا التابعة للقيادة العمالية بزعامة بن غوريون وكان عداد قواتها في المدينة 5335 جنديا وحارسا وذلك في أول تشرين الثاني (نوفمبر) 1957 قبيل صدور قرار التقسيم. وكان أهم هذه القوات التي نمت وتطورت بعد قرار التقسيم وحدات جيش الميدان ووحدات البالماخ الضاربة. وانقسمت وحدات جيش الميدان إلى كتائب ثلاث: كتيبة "مخمش" وكتيبة "موريا"، وكتيبة "بيت حورون" وتمركزت سرايا البالماخ في المستعمرات القريبة من قرية القسطل على طريق تل أبيب - يافا - القدس الرئيسية كما تمركزت وحدة منها في معسكر شنلر في ضاحية غربية من القدس على بعد كيلومترين إلى الشرق من دير ياسين.

وفي 14 شباط (فبراير) 1948 عين بن غوريون قائد جديدا (للهاغانا في القدس أي للأحياء اليهودية منها) هو ديفيد شلتئيل وزوده بتعليمات فحواها أن عليه انتهاج خطة على مرحلتين في المدينة. المرحلة (1) إلى حين خروج البريطانيين في 15 أيار 1948 والمرحلة (2) مباشرة بعد الجلاء البريطاني، وفي المرحلة الأولى على الهاغانا التحصن وإعداد المدينة ومداخلها للدفاع، منع هجر الأحياء اليهودية الحدودية، تأمين المواصلات بالمستعمرات المجاورة، منع إخلاء البلدة القديمة من اليهود، السيطرة على طريق القدس - باب الواد المؤدية إلى الساحل والسيطرة في كل فرصة عسكرية وسياسية على أحياء العرب بهدف تأمين تواصل المناطق اليهودية في المدينة جغرافيا، وفي المرحلة (2) بعد الجلاء البريطاني، تلخصت الأوامر بجملة مقتضبة:"تحرير البلدة القديمة والقدس بأكملها".

كان شلتئيل ألماني الأصل خدم في الفرقة الأجنبية الفرنسية وعمل رئيسا لاستخبارات الهاغانا قبل توليه منصبه بالقدس وكان رئيس "الايتسل" في القدس مردخاي رعنان بينما كان يهوشع زطلر رئيس "ليحي". وعندما بدأت الهاغانا بعملية "نحشون" في 4 نيسان لاحتلال القرى العربية الواقعة على جانبي طريق يافا - القدس في السهل الساحلي واحتدمت معركة القسطل في جبال القدس بعد احتلالها في اليوم نفسه من قبل قوات البالماخ ضمن إطار عملية "نحشون" ذاتها شعر قائد "ايتسل" و"ليحي" في القدس بالحرج تجاه هذا التحرك الواسع النطاق من قبل الهاغانا فقررا أن يقوما بعمل "يضاهي" ما تقوم به الهاغانا. ويقول إسحاق ليفي رئيس استخبارات الهاغانا في القدس في حينه في مذكراته إنه نظرا لقلة مواردهما نسبيا ولعجزهما عن القيام بعملية واسعة النطاق على غرار الهاغانا وخشية أن يتم "عزلهما" لدى الرأي العام اليهودي المقدسي وقع اختيارهما على دير ياسين وكان ذلك في 6 نيسان.

ويقول مئير بعيل الذي كان يعمل في استخبارات البالماخ "إن قادة "ايتسل" و "ليحي" جاؤوا إلى شلتئيل طالبين منه الموافقة على الهجوم على دير ياسين فقال لهم: لماذا دير ياسين؟ هذه قرية هادئة ويوجد اتفاق عدم تعدي بين غيفعات شاؤول (المستعمرة الأقرب إلى دير ياسين) وبين مختارها والقرية لا تشكل أي خطر أمني علينا ومشكلتنا هي المعركة الدائرة في القسطل والذي اقترحه أن تندمجوا في معركة القسطل وسأعطيكم مستعمرة بيت فيغان كقاعدة للهجوم على قرية عين كارم التي تتوجه عبرها النجدات العربية إلى القسطل. فأجاب قائدا "ايتسل و ليحي" بأن الهجوم على عين كارم عملية في غاية التعقيد فقال شلتئيل: أعطيكم عملية أهون منها، خذوا مستعمرة موتا قاعدة لكم للهجوم على قرية قالونيا "القرية الأقرب إى القسطل": حيث يمكنكم أن تفعلوا ما تشاؤون ( Control, Destroy, Demolish) لأن القوات العربية تتمركز فيها (أي في قالونيا)".

ويتابع ليفي أنه عندما تبين لشلتئيل بأن قادة "ايتسل" و "ليحي" مصممون على مهاجمة دير ياسين أرسل إلى كل من المنظمتين في 7 نيسان الرسالة الآتية:"أود أن ألفت انتباهكم إلى أن احتلال دير ياسين والاحتفاظ بها يمثلان مرحلة في خطتنا العامة، ولا مانع لدي من أن تنفذوا العملية شرط أن تكونا قادرين على الاحتفاظ بها وإذا لم يكن في وسعكم ذلك فإنني أحذركم من نسف القرية التي سيجر في أعقابه ترك سكانها لها واحتلال الأنقاض من قبل قوات غريبة وهذا الوضع سيثقل على المعركة العامة بدلا من أن يخفف وسيكلف احتلال المكان مرة أخرى ضحايا عديدة من رجالنا، وثمة سبب آخر أود أن أطرحه عليكم وهو أنه إذا جاءت إلى المكان قوات غريبة فسوف تتعرقل خطة إنشاء مطار بالقرب من القرية".

ويتابع ليفي قوله: "عندما علمت برسالة شلتئيل إلى المنظمتين أسرعت إليه وشرحت له خطورة عمله حيث أن سكان دير ياسين أمناء على العهد بيننا وبينهم وأنه لا يجوز أن نؤذيهم بهذا الشكل البشع واستأذنته بأن أنصحهم بإخلاء قريتهم دون أن أعلمهم بأن الهجوم عليهم وشيك الحدوث، رفض شلتئيل رجائي قائلا بأنه لا يستطيع أن يعرض أرواحا يهودية للخطر بمثل هذا التحذير حتى ولو كان هناك اتفاق بيننا وبين "دير ياسين" ويختتم ليفي كلامه قائلا : " لو أن شلتئيل منع المنظمتين من الهجوم على دير ياسين لامتنعا".

ويتضح بجلاء مما سبق وخصوصا من "تحفظات" شلتئيل على العملية أن قيادة الهاغانا أعطت "ايتسل " و " ليحي" ضوءا أخضر مشعا للهجوم على دير ياسين وأن مصيرها كان مقررا ومحتوما إن عاجلا كان أم آجلا على رغم اتفاق عدم التعدي معها فإن لم يكن على أيدي المنظمتين الإرهابيتين فعلى أيدي الهاغانا.

الاستعدادات للهجوم :

يقول المؤلف الصهيوني برلمتر الذي كتب سيرة مناحيم بيغن قائد الايتسل الأعلى أنه "لكي نفهم ما حصل في دير ياسين يجب أن نفهم ذهنية بيغن ونظرته إلى العرب في إطار الظروف السياسية والعسكرية القائمة وهي ذهنية ونظرة استلهمهما من مرشده جابوتنسكي مؤسسة الحركة التنقيحية والتنقيحية ترفض رفضا قاطعا أي ادعاء لعرب فلسطين بأية حقوق سياسة أو إقليمية في أرض "إسرائيل" … وجابوتنسكي حرص على نزع الرومانسية عن الشرق وهو القائل "الشرق هو الغريب عني، ونحن معشر اليهود نحمد الله على أنه ليست لنا أية علاقة بالشرق… ولا بد من كسح الروح الإسلامية من أرض "إسرائيل"". ويتابع برلمتر كلامه قائلا إن نظرة "ايتسل " و"ليحي" تتفرع عن الحركة التنقيحية لكنها أكثر "راديكالية" من نظرة جابوتنسكي ويمكن تلخيصها بأن "العرب إنما هم قتلة ووحوش الصحراء وليسوا شعبا يتمتع بشرعية الشعوب".

ويلقي الكاتب اليهودي الأميركي كورزمان ضوءا إضافيا على ذهنية "ليحي" عام 1948 عندما يخبرنا بأن قادة المنظمة أسروا له بأنهم خططوا في أيار من السنة ذاتها لنسف مسجد قبة الصخرة في الحرم الشريف وأن "منطقهم" في ذلك كان أن "المعبد الثاني بني على أنقاض المعبد الأول وأنه لا بد من أن يقام المعبد الثالث على أنقاض المسجد".

وبعد اتخاذ القرار للهجوم على دير ياسين اجتمع قادة الـ "ايتسل " و "ليحي" "العسكريون " لوضع خطة الهجوم وحضر الاجتماع عشرة منهم بما في ذلك بن زيون كوهين قائد الهجوم القادم ممثلا للـ "ايتسل" (الأرغون) ومساعده يهودا لبيدوت ويهوشع غولدشميت ضابط عمليات "ايتسل" وحضر عن "ليحي" (الشتيرن) بتحيا زليفنسكي قائد وحدات "ليحي" ومردخاي بن غوزيهو ضابط عملياتها.

ودار النقاش في الاجتماع حول تفاصيل الهجوم وتتطرق إلى كيفية معاملة الأسرى والشيوخ والنساء والأطفال. ويخبرنا بن زيون كوهين كما ورد في شهادة بخط يده أودعها في مؤسسة جابوتنسكي في تل أبيب أنه "كان ثمة اختلاف في الآراء ولكن الأكثرية كانت تحبذ تصفية جميع الرجال وكل من يقف بجانبهم أكانوا شيوخا أم نساء أم أطفالا واتضح من ذلك أنه كانت هناك رغبة عارمة للانتقام لما حدث في كفار اتسيون وعطاغروت".

والإشارة هنا إلى معركتين بالقرب من مستعمرتين الأولى جنوب القدس على طريق الخليل والثانية شمالها على طريق رام الله انتصر فيها المجاهدون قبل ذلك بقليل على قافلتين للهاغانا. وثمة وثيقة ثانية لكوهين بخط اليد أضيفت إلى الشهادة الأولى في مؤسسة جابوتنسكي تكرر حرفيا ما جاء في الشهادة الأولى.

ويخبرنا يهودا لبيدوت مساعد كوهين في شهادة له عن الاجتماع :إن الاقتراح خلاله بتصفية سكان دير ياسين إنما جاء من "ليحي" وأن الغرض من ذلك كان أن نثبت للعرب ماذا يحدث عندما تشترك "ايتسل" و"ليحي" في عملية واحدة وأن نحدث عاصفة من الأصداء تجتاح البلد بأسره وتصبح نقطة تحول في القتال بيننا وبين العرب وبكلمة كان المقصد تحطيم معنويات العرب ورفع معنويات الجالية اليهودية بالقدس ولو قليلا وهي التي كانت في الحضيض نتيجة الضربات الموجعة التي كان قد تلقتها مؤخرا".

ويضيف لبيدوت أن فكرة الهجوم على دير ياسين كانت من وحي يهوشع غولدمشيت ضابط عمليات "ايتسل" وهو من أبناء مستعمرة غيفعات شاؤول جارة دير ياسين ,"إن الدافع الأساسي كان اقتصاديا ذلك أننا كنا في أمس الحاجة إلى الغنائم لتموين قواعد المنظمتين التي كنا أسسناها حديثا مع بقاء الهدف الأمني العسكري.

ويدعي لبيدوت أن قادة "ايتسل": تحفظوا على اقتراح "ليحي" بتصفية سكان دير ياسين قائلين إن الموضوع سياسي وليس عسكريا وبالتالي يحتاج إلى موافقة القيادة السياسية لـ "ايتسل" وأن القيادة السياسية لم تقر اقتراح "ليحي" وطلبت منهم التركيز على الناحية العسكرية أثناء احتلال القرية " ( Focus on the Military Side)

ونستخلص مما سبق عن أسباب اختيار دير ياسين هدفا ولدوافعه الآتي، أولا : قرب دير ياسين من المستعمرات الست المقابلة لها والتي ذكرناه سالفا وخاصة مستعمرة غيفعات شاؤول التي كانت تبعد 1200 متر فقط من قلب القرية (الحارة). ثانيا : سهولة الوصول إليها على الطريق الرئيسية بينها وبين غيفعات شاؤول الصالحة لمرور المصفحات. ثالثا : كون دير ياسين عقدت اتفاق عدم تعدي مع غيفعات شاؤول مما يدل على خوفها وبالتالي ضعفها. رابعا : إمكان استغلال عنصر المفاجأة لاعتماد دير ياسين على اتفاق عدم التعدي.

أما الدوافع فهي: (أ) التنافس مع الهاغانا والرغبة في تسجيل انتصارات عليها لدى الرأي العام اليهودي المقدسي، (ب)الانتقام لمعركتي كفار اتسيون وعطاروت مع أن دير ياسين لم تشترك في أيهما، (ج) السلب والنهب لكون دير ياسين من القرى العربية الغنية، (د) التنفيس عما في الصدور من كراهية عنصرية دفينة.

ومن الواضح من كلام لبيدوت عن اجتماع القادة أنه يحاول إلقاء اللوم رجعيا على "ليحي"، أما ادعاؤه بتحفظ" ايتسل" على المساس بالمدنيين فرياء وهراء، ذلك أن "ايتسل" هي التي ابتدعت فن زرع الألغام الموقوتة في الأسواق العربية المكتظة ابتداء من عام 1938، ويذكر أن يهوشع غولدشميت صاحب فكرة الهجوم على دير ياسين وضابط عمليات "ايتسل": الذي حضر اجتماع القادة هو ذاته الذي قاد الشاحنة المليئة بالمتفجرات التي نسفت فندق الملك داود بالقدس في 22 تموز (يوليو) 1946 مما أسفر عن مقتل 75 مدنيا من بريطانيين وعرب ويهود.

خطة الهجوم وترتيباتها الأخيرة :

حشدت "ايتسل" و"ليحي" قوة عدادها 200 من أشرس مقاتليهما للهجوم على دير ياسين ووضع حوالي 70 منهم في الاحتياط. ونظم الباقون كقوة هجومية قسمت إلى أربع شراذم وعين كل من يهودا لبيدوت وهودا سيفل (كلاهما من "ايتسل" ) ومنشه ايخلر ومردخاي بن عوزيهو (كلاهما من "ليحي") قائدا للهجوم ككل بينما تولى بتحيا زليفسكي قيادة رجال "ليحي".

ووزعت على المقاتلين البنادق والرشيشات الاتوماتيكية بالتساوي كما أعطي كل مقاتل قنبلتان يدويتان ومسدس وهراوة وكان لكل شرذمة مدفع رشاش Bren واأغلب الظن أن الهراوات كانت للإجهاز على الجرحى العرب توفيرا للذخيرة. وحملت الشراذم كميات وافرة من المواد المتفجرة ( gelignite).

وضمنت خطة الهجوم التحرك على أربعة محاور أولا: شرذمة "ليحي" بقيادة مردخاي بن غوزيهو تتقدم من غيفعات شاؤول وتهاجم دير ياسين من الشمال باتجاه الزاوية القائمة حيث تلتقي الطريق الرئيسية غرب - شرق الموصلة من غيفعات شاؤول إلى دير ياسين بالطريق شمال - جنوب التي تمر أمام وسط البلدة (الحارة). ثانيا : شرذمة مختلطة تتقدمها مصفحة عليها مكبر صوت بقيادة منشه ايخلر تندفع من الشرق إلى وسط البلد على الطريق الرئيسية من غيفعات شاؤول. ثالثا: شرذمة بقيادة يهودا سيفل تنطلق من مستعمرة بيت هاكيريم وتهبط في الوادي الفاصل بين دير ياسين لتتسلق الطرف الآخر من الوادي وتقتحم القرية من الناحية الشرقية الجنوبية عند جامع الشيخ ياسين وشرذمة بقيادة يهودا لبيدوت تنطلق من بيت هاكيريم أيضا وتهاجم القرية بحركة التفافية من الجنوب الغربي حتى تسيطر على أعالي القرية الغربية من الخلف أي من الغرب.

وفي شهادة لاحقة لمردخاي جيحون ضابط استخبارات الهاغانا في منطقة بيت هاكيريم أن قيادة الهاغانا أوكلت إليه مهمة احتلال تل الشرافة (جبل هرتسل الان) الواقع إلى جنوب شرق دير ياسين (على أن يتزامن ذلك مع تحرك قوات المنظمتين الأخريين) لنصب مدفع رشاش ثقيل ( Spandau) بهدف توفير سيطرة نارية على درب دير ياسين - عين كارم لمنع النجدات من الأخيرة ولضرب مواقع القرية العليا الغربية ولإزعاج الفارين من دير ياسين. وعينت ساعة الصفر في الخامسة والنصف مع الفجر على ألا يبدأ بإطلاق النار من قبل القوات المهاجمة حتى يصل كل منها إلى هدفه في أطراف القرية البعيدة وفي وسطها وبعد أن تطلق رشقة ضوئية من مدفع رشاش إيذانا بالبدء بالهجوم العام.

ولا بد من كلمة هنا عن مكبر الصوت الذي كان منصوبا بجانب المدفع الرشاش Bren على المصفحة الاقتحامية ذلك أن دوره في المعركة غدا قطب الرحى في الروايات التبريرية اللاحقة للمنظمتين الإرهابيتين لما اقترفت أيديهما في دير ياسين، ومعلوم لكل دارس للتكتيك الهجومي للقوات اليهودية في هذه المرحلة بما في ذلك قوات الهاغانا أن هذه القوات كانت دائمة الاعتماد في هجماتها على الأهداف المدنية العربية (إضافة إلى القصف والتفجير والضرب بالنار) على عنصر الحرب النفسية عن طريق مكبرات صوت على ناقلات وإذاعات في الراديو تدعو السكان المستهدفين إلى الاستسلام والفرار إمعانا في خلق الذعر والبلبلة في صفوفهم وإضعافا للمقاومة وتيسيرا لمهمات الوحدات القتالية وهذا ما حدث بالفعل في هجمات الهاغانا على الأحياء العربية في كل من حيفا والقدس ويافا وغيرها. بيد أن الأمر أصبح في الروايات التبريرية اللاحقة لما حدث في دير ياسين أن مكبر الصوت كان إنما دليلا على فروسية "ايتسل" وليحي" حيث إن النية على استعماله (وهو لم يستعمل كما سنبين لاحقا) عن التخلي عن عنصر المفاجأة وبالتالي تعريض المهاجمين أنفسهم للهلاك حرصا على أرواح المهاجمين. وما ذلك طبعا إلا هراء في هراء، يذكر أن "ايتسل" اعتمدت هذه الحجة بالذات في إثر مذبحة فندق الملك داود عام 1946 حين ادعت بأنها أنذرت الفندق بوجوب إخلائه قبل الانفجار بثلاثين دقيقة فجعلت بذلك اللوم لما حدث على ضحاياها.

وهكذا انهمك رجال "اتسل" و"ليحي" في الإعداد للهجوم وتدربوا في منطقة مبنية قريبة في حي الشيخ بدر المهجور (وهو من الأحياء العربية في القدس الغربية الذي تم الاستيلاء عليه سابقا) على إلقاء القنابل اليدوية إلى داخل كل منزل وإطلاق رشقات رصاص على داخل كل غرفة قبل دخولها وسرقوا المصفحة التي كانت تخص الهاغانا كما سرقوا سارية من مبنى حكومي لرفع الراية الصهيونية على القرية وقاموا بجولات استطلاعية حوالي دير ياسين ووصلوا إلى مشارفها ورافقهم في ذلك رجال من الهاغانا والتقوا بأعضاء الهاغانا الذين كانوا يتمركزون في مواقع مقابل دير ياسين واتفقوا معهم على كلمة السر"سنضرب العدو".

ولا بد هنا من العودة قليلا إلى مئير بعيل الذي روينا عنه أعلاه ما جرى بين شلتئيل قائد الهاغانا في القدس وقادة "ايتسل" و"ليحي": في مقابلة حاول الأول فيها أن ينهيهم عن الهجوم على دير ياسين واختيار قرى سواها ذلك أن بعيل أصبح أبرز ناقد عمالي يساري لأفعال "ايتسل" , " ليحي" في دير ياسين في المناظرة العنيفة التي ما زالت قائمة إلى يومنا هذا حول ما حصل فعلا في 9 نيسان عام 1948 وحول دور الهاغانا في المعركة ويخبرنا بعيل التابع لمخابرات البالماخ في حينه إنه كلف بمراقبة المعركة المقبلة حتى يرفع تقريرا إلى قادة الهاغانا يقيم فيه أداء المنظمتين الإرهابيتين العسكري لكونهم كانوا ينظرون في صلاحيتهما للاندماج في قوات الهاغانا أي جيش الدولة العبرية المزمع إعلانها قريبا. ويقول بعيل إنه اندس بين صفوف المهاجمين حين بدء تحركهم نحو دير ياسين حاملا رشيشا من نوع ( Tommy) لم يطلق منه رصاصة واحدة وأنه اصطحب معه مصورا يحمل آلة تصوير من نوع "لايكا" وأن المصور التقط 36 صورة عن مراحل المعركة كلها أرسلها بعيل مع تقرير إلى قيادة الهاغانا فور انتهائها وسنتطرق إلى بعيل وروايته ومشاهداته لاحقا.

قبيل منتصف ليل 8/9 نيسان تحركت قوة "ليحي" بقيادة بتحيا زليفنسكي من حي الشيخ بدر (مسرح تدريبهم ) إلى مستعمرة غيفعات شاؤول نقطة انطلاقها إذ تمركزوا في موقع للهاغانا ملاصق لمصنع البيرة. وفي الوقت نفسه وصلت قوة "ايتسل " بقيادة بن زيون كوهين إلى مستعمرة بيت هاكيريم نقطة انطلاقها.

ليل الجمعة 9 نيسان 1948 :

لم تكن ليلة الجمعة 9 نيسان (أبريل) عام 1948 ليلا ساكنا لأهالي دير ياسين البالغ عددهم 750 نفسا. بيد أنه لم يخطر ببال أحد منهم أنها ستكون آخر ليلة سيأوون فيها إلى فراشهم بين أهلهم ووسط كرومهم في قرية آبائهم وآجدادهم أو أن العديد من أقرب الأقربين إليهم لن يروا غروب الشمس التالي، ولف البلدة جو جمع بين دكنة الليل والحزن على عبد القادر، وشد القلوب شعور بالانقباض وهواجس مصدرها التحسب وضيق النفس.

وطلب حسن رضوان من زوجته عثمانة ألا تنام الليلة مع الأولاد في منزلهما الواقع في أطراف البلدة الغربية، وأن تذهب للمبيت في منزل والدها صالح رضوان (90) وسط القرية، فتفعل، وتمضي هزيع الليلة في أحاديث مع والدها الذي يسر إليها مخاوفه، خصوصا أن يهوديا من معارفه زاره ظهر اليوم (الخميس) في كسارة العائلة بالقرب من غيفعات شاؤول ليحذره بلغة عربية ركيكة "يا خاج روخ من هون بدهم يضربوا من شانك". وتشاهد عزيزة عطية زوجة محمود رضوان من منزلها ليلا تجمعا يهوديا مريبا في غيفعات شاؤول فتخبر أحد جيرانها فينصحها بالسكوت حتى لا تخيف القرية، وتقرر أن تذهب إلى فرن القرية في ساعة مبكرة (هي الثانية صباح الجمعة) على غير عادتها حاملة صينية العجين على رأسها وتترك أولادها نائمين : جمال (سنة ونصف)، ثريا (4 سنوات)، سكينة (9 سنوات)، أحمد (11 سنة)، فاطمة (12 سنة) ورفقة (14 سنة) وتغلق عليهم الباب وتأخذ معها المفتاح وفي نيتها العودة قبل أن يستيقظوا، ويستمع زوج أم عيد إلى نعي عبد القادر ـ عبد القادر، مجاهد فلسطيني كان من القادة المدافعين عن أرض فلسطين وحقوق الشعب الفلسطيني استشهد في نيسان 1948ـ من آلة الراديو في منزله، وهي إحدى ثلاث آلات راديو في القرية تعمل على بطاريات السيارات ويقوم ليستحم وينام فتتولى تنظيف البيت وتخرج الموقد خارجه وتشعر في الظلام أن شيئا ما لمسه فتهرب إلى داخل البيت مذعورة وتطرق الباب بشدة أيقظت زوجها وتروي له ما حدث فيهدأ من روعها ويطلب منها الخلود إلى النوم فترضع ابنها وتنام.

قرابة الواحدة صباحا من يوم الجمعة 9 نيسان (إبريل) تحركت شراذم مشاة المهاجمين الثلاث من قواعدها حتى تكون في مواقعها المحددة لكل منها في أطراف القرية وفق خطة الهجوم عند ساعة الصفر في الخامسة والنصف من الصباح. وللتذكير نعيد ما أسلفنا: اقتضت الخطة أن تنطلق شرذمة ليحي (شتيرن) من مستعمرة غيفعات شاؤول غربا لتقتحم القرية من الشمال الشرقي في منطقة بئر الجوزة. عند المنازل والمنازل قبلها على يمين الطريق وتنطلق شرذمتان للايتسل (ارغون) من مستعمرة بيت هاكيريم إحداهما تقوم بحركة التفافية من الجنوب لتقتحم أعالي القرية الغربية عند المنازل والثانية تقطع الوادي الفاصل هبوطا وصعودا لتقتحم القرية عند منطقة جامع الشيخ ياسين ومدرسة البنات أما المصفحة فتنقل قسما من الشرذمة الرابعة المختلطة (10 مقاتلين) من ايتسل وليحي ويتبعها الباقون سيرا على الأقدام وتسرع على الطريق الرئيسية لتصل إلى وسط القرية عند المنزل على أن يتزامن وقت انطلاقها مع انتهاء تمركز الشراذم الثلاث الأخرى المسبق في مواقع بدء هجومها عند ساعة الصفر لقصر المسافة التي على المصفحة قطعها، وهكذا كانت الخطة ألا يباشر المهاجمون بإطلاق النار قبل إحكام الطوق على القرية من الشمال والشرق والجنوب والغرب على أن تكون إشارة البدء صلية ضوئية من مدفع رشاش تحمله شرذمة "يهودا سيغل " المكلفة بالاقتحام بالقرب من جامع الشيخ ياسين، ويروي يهودا لبيدوت قائد شرذمة ايتسل الثانية إن قوته صادفت على الطريق حراسا من الهاغانا :"فقلت لهم: إننا ذاهبون لمهاجمة دير ياسين، باركونا قائلين، نتمنى لكم النجاح، نتمنى لكم النجاح".

في هذه الأثناء كان رجال دير ياسين وشبابها في حال تأهب شديد يتناوبون الحراسة ويساندون بعضهم بعضا فيها فإسماعيل محمد عطية (37 سنة) العائد لتوه من معركة استرداد القسطل يتوجه إلى منزله ليتفقد أسرته ثم ينطلق إلى أحد مراكز المراقبة أمام منازل العائلة. ليقف على مسافة من أخيه الأصغر وكلاهما يحمل بندقية، وينهي داود جابر دوره في الحراسة في الساعة الثانية عشرة من منتصف الليل وبدل أن يعود إلى منزله يتوجه مع آخرين لدعم المجموعة المرابطة عند كسارة سحور، وفي الساعة الثانية عشرة أيضا يستلم أحمد رضوان البندقية من أخيه محمود الذي يكبره سنا ليقوم بدوره في الحراسة والمراقبة، ويأخذ في الوقت نفسه حسين زيدان البندقية من ابنه داود … وهكذا…

ويروي إسماعيل محمد عطية أنه شاهد في الثانية والنصف صباح الجمعة أضواء كاشفة لسيارات يهودية تخرج من المستعمرات تارة وتعود تارة فيذهب مع آخرين إلى الطريق الرئيسية الموصلة إلى المستعمرات ليستطلعوا جلية الأمر فلا تلبث حركة السيارات أن تتوقف ويبدو كل شيء هادئا وتغط المستعمرات في ظلام دامس.

تفاصيل المعركة :

وتختلف الروايات عن بدء إطلاق النار فإسماعيل محمد عطية يروي أنه فوجىء في الساعة الثالثة والنصف تقريبا بسماع رصاص من بندقية أخيه محمود فيطلب منه تفسيرا عن "هذا التصرف الطائش" فيرد محمود إنه أطلق على يهودي يحاول التسلل. ويروي داود جابر أنه سمع مع رفاقه من موقعهم عند كسارة سحور. في الساعة الرابعة عيارا ناريا فيطلب منه حسين زيدان الذي كان في الموقع نفسه أن يذهب ويخبر القرية بعدم إطلاق النار.

ويروي بن زيون كوهين "ايتسل" قائد الهجوم أن رجاله كانوا رابضين عند أطراف وسط القرية، وكان الحراس العرب يتجولون بين المنازل ويتحدثون مع بعضهم البعض وفي الساعة 4:25 دحرج أحدنا حجرا بطريق الخطأ فسمعنا ضجة خطوات مسرعة ويخاطب أحد الحراس زميله مناديا:" يا محمد" !، فيظن قائد جماعتنا أن واحدا من ليحي (شتيرن) يلفظ بداية كلمة السر :"أحدوت" (ومعناها وحدة) فيعطي الجواب المتفق عليه : "لو حيمت " (ومعناها قتالية) فيصرخ الحراس العرب "يهود يهود" ولم يعد أمامنا خيار وفي الساعة 4:30 قبل ساعة الصفر بساعة أصدرت أمرا إلى جماعة يهودا سيغل الأمامية بإطلاق رشقة طلقات ضوئية من مدفعه الرشاش مؤذنا ببدء الهجوم".

ويروي حسين عطية (28 عاما)، وهو الذي كان من أعضاء وفد القرية الذي ذهب إلى مصر لشراء السلاح كما أسلفنا، أن دوره كان في مركز أمامي على تل يشرف على الطريق الرئيسية بالقرب من كسارة سحور، وأنه في الساعة الرابعة من فجر يوم الجمعة سمع ورفاقه في الموقع بوقع أقدام من الجهة الشمالية الشرقية (شرذمة ليحي القادمة من غيفعات شاؤول)، ولكن الصوت كان بعيدا ولم يروا شيئا، وكانت مهمتهم حراسة الطريق الرئيسية، ولم يأت أحد على هذه الطريق بعد، ثم سمعوا صوت المعركة قائمة خلفهم وسط البلد (شرذمة أيستل بقيادة بن زيون كوهين) " عند مركز ابن العم إسماعيل عطية وابنه محمود"، وما لبث أن شاهد مجموعة ثانية يهودية "طلعت علينا من الشمال عند المدرسة" (مدرسة الصبيان) خلفهم أيضا و "بدأت المعركة بيننا وبين اليهود (شرذمة ليحي) الذي احتلوا المدرسة كما استعرت في حارات وسط البلد".

وينتقل حسين ورفاقه الستة من التل إلى سطح منزل الحاج أحمد رضوان، المشرف على الخندق المموه وتأتي المصفحة تتقدم الشرذمة الرابعة وتتوقف عند الخندق ويحاول من فيها (عشرة مقاتلين) ومن خلفهم ( شرذمة ليحي وايتسل المختلطة) ردم الخندق وتجري معركة عنيفة لمنعهم من ذلك وتسقط المصفحة في الخندق ويستمر تبادل إطلاق النار إلى أن تنفذ ذخيرة المدافعين ويضطرون إلى الانسحاب من سطح المنزل عبر أشجار الزيتون إلى أعالي القرية الغربية حيث ينضمون إلى المقاتلين الذي تمركزوا هناك.

ويروي جمعة زهران الذي كان يقطن مع أقاربه من آل زهران في المنازل أنه خرج من منزله لوضوء صلاة الفجر حوالي الرابعة وأن حرس القرية أخذوا ينهرون بأصوات عالية قائلين "سمعنا قرقعة تتقدم نحونا (شرذمة ليحي القادمة من الشمال من غيفعات شاؤول) ولكنهم لم يردوا علينا" ويتابع جمعة:" إننا لم نتحر مصدر القرقعة لأول وهلة بسبب الظلام إذ كان الجو غائما وبدأ رذاذ المطر" حتى انطلقت شارة "ملونة" حوالي الخامسة وبدأت المعركة.

كان جمعة عند باب بيته من دون سلاح إذ أن السلاح كان مع والده الحاج محمد ومع أخيه علي وابن أخيه محمد الذين كانوا يحرسون منازل العائلة ويصاب الوالد بعد الطلقات الأولى فيأخذ جمعة البندقية الإيطالية منه وإذ به يفاجأ باليهود (شرذمة ليحي) "تماما أمام بيوتنا". وكان أخوه وابن أخيه يقاومان من ناحية الشمال ويجد جمعة نفسه وجها لوجه أمام يهودي في ممر قريب من منزله فيستحكم كل منهما خلف جدار ويضربه اليهودي بعبوة من رشيشه ويخطئه ويضربه هو طلقة ويخطئه ويتقدم اليهودي من خلف السور ويمسك ببندقيته يريد سحبها منه وبعد شد وجذب يتغلب على اليهودي الذي ينقلب على ظهره فيطلق عليه عيارا يصبيه به وتنصب على جمعة النار من جهات عدة فينسحب إلى خلف منزل يوسف عليا ومنه إلى أعالي القرية الغربية، حيث ينضم إلى المقاتلين الذين تمركزوا هناك ويكون هذا آخر عهد له بمجموع أفراد عائلته وأقاربه كافة ناهيك عن منازلهم.

ويروي خليل سحور أخو المختار محمد سحور الذي كان يقاتل إلى جانب الحاج محمد زهران (والد جمعة) أنه نصح الحاج الجريح بالعودة إلى منزله ثم يذهب إلى منزل يوسف عليا لإخراج الذخيرة التي كانت هناك وينضم إليه أبناء يوسف عليا علي وأحمد ومحمد ويستحكم الأربعة خلف الجدار عند قائمة الزاوية بين الطريقين عند بئر الجوزة بالقرب من منزل آل عليا وتكون شرذمة ليحي قد مرت وتقدمت إلى وسط القرية باتجاه المنازل فيجري تبادل عنيف بالنار بين الفريقين ويبدأ مقاتلو دير ياسين في أعالي القرية بإطلاق النار على منطقة بئر الجوزة ويتابع خليل " أصبحنا بين نيرانهم ونيران اليهود وحاولنا أن نلفت أنظارهم ولكن عبثا". كانت الساعة حوالي الخامسة والنصف صباحا وبعدها بقليل يأتيه من يقول إن بعض نساء وأطفال آل سحور ما زالوا في منزل عبد الحميد سحور فيذهب معه ويخرجهم من شباك خلفي ويصعد إلى منزل عارف سحور حيث يستحكم على سطحه ويعيق مع رفاقه تقدم اليهود على الطريق الرئيسية التي يشرف عليها المنزل. وتروي الروايات السالفة للمدافعين سير القتال في الطرف الشرقي للقرية عند الكسارات والخندق (رواية حسين عطية) وعند زاوية الطريقين القائمة (روايتا جمعة زهران وخليل سحور).

وننتقل الآن إلى وسط البلدة قرب منازل آل عطية ثم إلى أعاليه الغربية عند المنازل ثم نصعد إلى أعلى منازل القرية ويلاحظ أن شرذمة ليحي القادمة من الشمال من غيفعات شاؤول نجحت في اقتحام منطقة المنازل وتقدمت نحو وسط البلد من بئر الجوزة، باتجاه المنازل أما الشرذمة الثانية المختلطة القادمة من الشرق على الطريق الرئيسية والتي تقدمتها مصفحة فقد تعثر مسيرها بسبب الخندق والمقاومة من سطح المنزل ولاحقا من خليل سمور ورفاقه ومن المقاتلين في أعالي القرية.

واصطدمت الشرذمة الثالثة المهاجمة من بيت هاكيريم عبر الوادي بمقاومة شديدة من وسط القرية وكان أحد المواقع المقاومة منزل الحاج إسماعيل عطية وهو يطل على الوادي بأسره وعلى ساحة في الطرف الآخر من الشارع في حائطها بوابة كبيرة للعبور إلى الوادي ومنه. وكان المنزل يتألف من ثلاثة طوابق ولسطحه حائط سميك وكان يصعد إلى المنزل على سلم فيه 26 درجة كما يذكر عزمي ابن الحاج إسماعيل الصبي حينذاك (10 سنوات) "إذ كنت أعدها طالعا نازلا". وكان في المنزل من الرجال الحاج إسماعيل (90 عاما) وابنه ربحي (22 عاما) وحفيده محمود (20 عاما) وكان الإبن الأكبر محمد (45 عاما) خارج المنزل وما إن هم محمد بدخوله حسب رواية عزمي حتى صرخت أخته سعاد :" محمد محمد اليهود اليهود": إذ رأت عددا منهم يحاولون عبور بوابة الساحة المقابلة من الوادي فأطلق محمد عليهم النار من رشيشه ( Sten) وتراجعوا وصعد السلم بسرعة بينما كان ربحي ومحمود يغطيانه واتخذ محمد زاوية من السطح وابنه محمود زاوية أخرى بينما كان موقع ربحي عند إحدى النوافذ المطلة على الوادي والسلم وطلب محمد من عزمي وسائر العائلة تعبئة أمشاط الستن والبنادق له وللآخرين واستمر إطلاق النار بشدة من المنزل ومن منازل قريبة دون أن يتمكن المهاجمون من اقتحام البوابة، وإذا تعثر هجوم شرذمة لايتسل في هذه الناحية فإن هجوم الشرذمة الرابعة الالتفافية الذي كان القصد منه الوصول إلى أعالي القرية الغربية عند المنازل يصد، ويعزو تقرير قدمه في 10 نيسان غداة المعركة مردخاي جيحون الذي كان ضابط مخابرات الهاغانا في المنطقة والمكلف كما أسلفنا بمساندة الهجوم باحتلال تل الشارفة (جبل هرتسل الآن) فشل المهاجمون في احتلال دير ياسين في الساعات الأولى من الصباح إلى صد تقدم هذه الشرذمة بالذات ذلك أنه لو استطاعت في وقت مبكر من الصعود إلى أعالي القرية الغربية لكانت تمكنت من حسم المعركة في فترة وجيزة (انتهى كلام جيحون). ويعود صد تقدم هذه الشرذمة وارغامها على الهبوط ثانية الى الوادي الى حفنة من مقاتلي القرية وعلى رأسهم علي قاسم الذي كان منزله في اعاليها وقد أصيب علي خلال دحره المهاجمين إصابة خطرة نقل على إثرها إلى عين كارم وهو من المحاربين القدماء من ثورة 1936 وهو الذي درب أهالي دير ياسين على السلاح كما أسلفنا.

وورد في الروايات السالفة انسحاب بعض المقاتلين الى منطقة المنازل والواقع أن المرابطين في هذه المنطقة لعبوا دورا أساسيا في القتال لا يقل عن دور علي قاسم بل قد يفوقه. ويروي حسن رضوان أنه أستيقظ على أصوات إطلاق الرصاص وصراخ عال من أنحاء القرية. فيقف عند باب داره استطلاعا للأمر فيشاهد جيرانه عند أبواب بيوتهم كذلك. يأخذ بندقية من ابن جاره محمود لصغر سنه ويستحكم خلف جدار أمام الدار يشرف على القرية بأسرها وعلى الطريق الرئيسية من غيفعات شاؤول وكانت بندقيته انكليزية من مصر يحتوي مخزنها على خمس طلقات وكان في منزله حوالي ثلاثين مخزنا اشترى ذخيرتها من هنا وهناك ومن بعض أفراد القرية. وعند بزوغ الشمس يرى اليهود يأتون من الشرق "عند بيوت زهران" وكانت الساعة حوالي الخامسة فأخذ يطلق عليهم النار وهم يردون عليه وكانت أقرب طلقة منهم بعيدة عنه حوالي ثلاثة أمتار وبقي ثابتا في موقعه "لا طالع ولا نازل" حتى الساعة الواحدة والنصف بعد الظهر يطلق النار باقتصاد لقلة ذخيرته حوالي 20 طلقة في الساعة على أهداف مختارة ويحضر إلى جواره حوالي السابعة جمعة زهران يتبعه خليل سحور، ثم عبد المجيد سحور وأخوه عبد الحميد، فيشاركون في القتال وكان عبد المجيد قناصا ماهرا، وفي هذا الأثناء كان أبو علي صلاح يطلق النار باستمرار من مدفع رشاش يرن من منزله، ويشتد أزيز الرصاص وتدوي الانفجارات في عدد من أحياء القرية ويحاول اليهود عبثا الصعود إلى أعالي القرية بسبب شدة النيران من هؤلاء المقاتلين، وتشهد جميع الروايات اليهودية اللاحقة بقوة مقاومة هذه المنطقة العليا وتصف خطأ منزل أبو علي صلاح بـ"منزل مختار دير ياسين"، لعلوه وشدة مقاومته بينما منزل المختار هو مقابل فرن البلدة، الذي كان المختار يملكه، وتتمكن هذه المجموعة المقاومة مع سائر المقاتلين من تثبيت المهاجمين عند أطراف القرية الشرقية لساعات عدة مما أدخل اليأس إلى قلوبهم.

شجاعة العرب أوقعت المهاجمين الصهاينة في مأزق :

وفي الساعة الخامسة تبدأ طلائع الجرحى من المهاجمين في الوصول إلى غيفعات شاؤول ويكتب الضابط المناوب للهاغانا في قيادة ديفيد شلتئيل قائد الهاغانا بالقدس في دفتر العمليات اليومية "هوجمت دير ياسين في عملية مشتركة للايتسل وليحي، ليحي نجحت في عمليتها من جهة غيفعات شاؤول والايتسل اصطدمت بصعوبات، هناك أخبار عن مقاومة لا بأس بها وهناك قتلى وجرحى بين المهاجمين". وفي السادسة يصاب بن زيون كوهين (ايتسل) قائد الهجوم بجراح خطيرة ولا يستطيعوا إخلاؤه، ويروي يونا بيتلسون "كنت مناوبا في هيئة الأركان للهاغانا في تلك الليلة ويسأل حراس الهاغانا في غيفعات شاؤول" ما العمل؟ المهاجمون عالقون ونصدر لهم الأمر بمساعدتهم". ويقول المؤرخ اليميني ملشتاين:" اشتركت رشاشات الهاغانا في الأحياء المقابلة لدير ياسين في العملية وأصيب الكثيرون من أهالي دير ياسين من جراء هذه النيران". ويضيف :"تقدم عدد قليل فقط من ايتسل تحت وابل النيران لملاقاة رجال ليحي وسط القرية" ويتابع ملشتاين "عندما نفذت الذخيرة من ايتسل وليحي أعطاهم قائد غيفعات شاؤول في الهاغانا ذخيرة قليلة وأخذوا من دون موافقته مدفعا من طراز لويس ( LEWIS).

ويقول تعميم وزعه جهاز استخبارات الهاغانا على كبار القادة في 18 نيسان "مع سقوط الجرحى والقتلى الأوائل في أوساط المنشقين (أي ايتسل وليحي) دبت الفوضى في صفوفهم، كأن وحدة صغيرة خاضت المعركة بمفردها ونفذ الاحتلال بوحشية، عائلات بأكملها قتلت، وتكدست الجثث فوق بعضها البعض". وفي الساعة السابعة صباحا يروي عزرا يخين (ليحي) :" جاء موفد من ايتسل إلى القطاع الذي كانت فيه ليحي وقال إن رجال منظمته يبحثون في الانسحاب بسبب النقص في الذخيرة، وقال مردخاي بن عوزيهو قائد ليحي الذي لم يكن قد جرح بعد للموفد إذهب وأقنعهم بعدم الانسحاب فنحن في داخل القرية.

وفي الوقت نفسه يصل جريح إلى غيفعات شاؤول حسب رواية ملشتاين ويصرخ "لماذا لا تخلون الجرحى؟". فتصدر الهاغانا الأوامر لسيارة إسعاف نجمة داوود الحمراء بالذهاب إلى دير ياسين لإخلائهم وتكرر زياراتها ذهابا وإيابا ولم يتمكنوا من إخلاء بن زيون كوهين إلا في الساعة 11:30صباحا.

وفي "وقت مبكر" يحضر ضابط الاتصال بليحي إلى معسكر البالماخ في مدرسة شنلر حسب رواية ملشتاين ويقول إن رجال ايتسل منهكون ويطلبون المساعدة فتسرع مجموعة من البالماخ في تاكسي مع مدفع هاون بوستين ودليل إلى دير ياسين.

وفي الساعة التاسعة يصل عداء من القرية إلى قيادة مردخاي رعنان قائد الايتسل في القدس حسب روايته هو ويبلغه أن عدد المصابين عشرون وأن القوة عاجزة عن التقدم وبن زيون وكوهين الجريح يطلب التعليمات فيذهب رعنان وبصحبته ويهوشع غولدسميث إلى القرية" تحت نيران القناصة" ويجتمعا بكوهين الذي يقول لههما " القرار لكما ولكن حسب رأيي لا توجد فرصة لاحتلال القرية وينبغي علينا أن ننسحب وكان يسود المكان جو من الكآبة".

وفي هذه الأثناء حسب رواية المؤرخ ملشتاين اليميني يصل موفد من ايتسل إلى قيادة اللواء عتسيوني للهاغانا في القدس قائلا :" إذا لم تساعدونا فنحن هالكون". ويصدر شلتئيل أمره إلى قوات البالماخ المرابطة في مستعمرة كريات عنافيم بالقرب من القسطل بإرسال ثلاث مصفحات إلى دير ياسين ويقول في شهادة لاحقة:" اضطررت إلى إصدار الأمر إلى البالماخ لمساعدتهم لإنقاذهم". ويشهد زيون الداد ضابط عمليات اللواء عتسيوني في وقت لاحق:" لولا المساعدة التي قدمها البالماخ لما كانت ايتسل أنقذت جرحاها ولما كانت استطاعت الاستمرار في العملية".

لكن تدخل البالماخ لم يكن فقط لإخلاء الجرحى كما تشهد بذلك روايتا قائد القوة - النجدة يعقوب فوغ (ونائبه ذاتهما) إذ يقول فوغ :"أخبروني عن دير ياسين وعن وضعهم الباعث على اليأس وأنه ليس في مقدورهم إخلاء جرحاهم وطلبوا سلاحا وتغطية وأشخاصا" ويتابع فوغ أنه أعطى موفدي زطلر (قائد ليحي في القدس ) 3000 طلقة وتوجه عند الظهر بعد الحصول على الأمر من شلتئيل إلى دير ياسين مع مصفحتين وتندر ومدفعي 52 ملم وثلاثة مدافع رشاشة وكان عدد الإصابات بين المهاجمين قد وصل الأربعين ويصاب قائد ليحي مردخاي بن عوزيهو كما يصاب يهودا سيغل قائد القوة الأمامية في ايتسل ويطلب سيغل من مساعد قائد ايتسل يهودا لبيدوت أن يجهز عليه ويروي لبيدوت "مددته على باب وحمله اثنان من زملائه ولكنهما أصيبا فأرسلت آخرين ليعيدوا الثلاثة".

وتصل قوات البالماخ إلى القرية ويجتمع فوغ بقادة ايتسل وليحي ويطلب منهم شرحا تفصيليا على الخارطة ويتبين له أنه إضافة إلى الجرحى هناك في القرية 25 مقاتلا يهوديا عاجزين عن الحركة بسبب القناصين وخصوا بالذكر منزلا معينا في غربي القرية يطلق القناصون النيران منه "فأطلقت ثلاث قذائف على الجناح الشمالي للمنزل وتوقفت الطلقات منه". ويخبرنا مساعد فوغ، موشيه عيران أن المهاجمين والعرب في القرية كانوا متداخلين مع بعضهم بعضا وكان يتعذر استخدام مدافع الهاون من دون تعريض رجال ايتسل وليحي للخطر (انتهى كلام عيران ). وهكذا دخلت جماعتان من البالماخ بقيادة فوغ وعيران لتصفية مصادر النيران"، ويروي كلمان روزنبلات أحد أفراد قوة البالماخ" انتقلت مع ستة أشخاص من منزل إلى آخر، ألقينا قنابل يدوية إلى داخل المنازل قبل أن ندخلها وقابلنا رجال ايتسل وليحي في وسط القرية. وانضم بعضهم إلينا وقال الآخرون " حتى الآن قاتلنا نحن و الآن قاتلوا أنتم". ويضيف عيران ":كانت النيران داخل القرية حامية وكان الجرحى من ايتسل وليحي قريبين من النيران وحاولنا الاقتراب منهم، وعندئذ جاء نداء من طرف القائد شلتئيل وأمرنا بمغادرة القرية فورا، أخذنا معنا عددا من الجرحى وعدنا إلى غيفعات شاؤول ولم نصل إلى منزل المختار ! ! ".

ويروي ملشتاين أن جمهورا يهوديا في حال انفعال تجمع في مستعمرة غيفعات شاؤول وكان هناك مصور من ( up) وأخذت النساء تملأ مخازن البنادق والمدافع الرشاشة لإرسالها إلى المهاجمين اليهود في دير ياسين ويروي شمعون مونيتا أحد مهاجمي ليحي "أزعجنا قناص كان يسيطر على المنطقة كلها من منزل المختار وكانت كل طلقة منه من مسافة 500 متر صائبة ودخلنا إلى المنازل للاحتماء من القناصين".

ويروي رؤوفين غرينبرغ من مهاجمي ليحي أيضا "قاتل العرب كالأسود وتميزوا بقنص محكم وخرجت النساء من بيوتهن تحت النيران وجمعن الأسلحة التي سقطت من أيدي المقاتلين العرب الجرحى ونقلنها إلى المواقع الداخلية.

شهادات على المجزرة:

وقال شهود عيان في وصف المجزرة "كان العروسان في حفلتهما الأخيرة أول الضحايا، فقد قذفا قذفا وألقي بهما مع ثلاثة وثلاثين من جيرانهم، ثم ألصقوا على الحائط وانهال رصاص الرشاشات عليهم وأيديهم مكتوفة".

وقد روى فهمي زيدان الناجي الوحيد بين أفراد عائلة أبيدت عن بكرة أبيها، وكان حين وقوع المجزرة في الثانية عشرة من عمره، ما جرى لأفراد عائلته قائلا " أمر اليهود أفراد أسرتي جميعا بأن يقفوا، وقد أداروا وجوههم إلى الحائط، ثم راحوا يطلقون علينا النار،أصبت في جنبي، واستطعنا نحن الأطفال أن ننجو بمعظمنا لأننا اختبأنا وراء أهلنا، مزق الرصاص رأس أختي قدرية البالغة أربع سنوات، وقتل الآخرون الذين أوقفوا إلى الحائط: أبى وأمي وجدي وجدتي وأعمامي وعماتي وعدد من أولادهم".

فيما قالت حليمة عيد التي كانت عند وقوع المجزرة امرأة شابة في الثلاثين من عمرها، ومن أكبر أسر قرية دير ياسين "رأيت يهوديا يطلق رصاصة فتصيب عنق زوج أختي خالدية، التي كانت موشكة على الوضع، ثم يشق بطنها بسكين لحام، ولما حاولت إحدى النساء إخراج الطفل من أحشاء الحامل الميتة قتلوها أيضا، واسمها عائشة رضوان".

وفي منزل آخر، شاهدت الفتاة حنة خليل -16 عاما- ، إرهابيا يهوديا يستل سكينا كبيرة ويشق بها من الرأس إلى القدم ، جسم جارتها جميلة حبش، ثم يقتل بالطريقة ذاتها، على عتبة المنزل جارا آخر لأسرة يدعى فتحي.

تكررت تلك الجرائم الوحشية من منزل إلى منزل، وتدل التفاصيل التي استقيت من الناجين، على إرهابيات يهوديات من أعضاء منظمات ليحي واتسل شاركن في المذبحة، ويصف جاك دي رينيه رئيس بعثة الصليب الأحمر في فلسطين عام 1948 الإرهابيين الذي نفذوا المذبحة في دير ياسين بالقول" إنهم شبان ومراهقون، ذكور وإناث ، مدججون بالسلاح - المسدسات والرشاشات والقنابل اليدوية- ، وأكثرهم لا يزال ملطخا بالدماء وخناجرهم الكبيرة في أيديهم، وقد عرضت فتاة من أفراد العصابة اليهودية تطفح عيناها بالجريمة يديها وهما تقطران دما، وكانت تحركهما وكأنهما ميدالية حرب".

ويضيف قائلا "دخلت أحد المنازل فوجدته مليئا بالأثاث الممزق وكافة أنواع الشظايا، ورأيت بعض الجثث الباردة ، حيث أدركت أنه هنا تمت التصفية بواسطة الرشاشات والقنابل اليدوية والسكاكين ! ! ، وعندما هممت بمغادرة المكان سمعت أصوات تنهدات ، وبحثت عن المصدر فتعثرت بقدم صغيرة حارة، لقد كانت فتاة في العاشرة من عمرها مزقت بقنبلة يدوية لكنها ما تزال على قيد الحياة، وعندما هممت بحملها حاول أحد الضباط الصهاينة منعي فدفعته جانبا ثم واصلت عملي، فلم يكن هناك من الأحياء إلا امرأتان إحداهما عجوز اختبأت خلف كومة من الحطب، وكان في القرية 400 شخص، هرب منهم أربعون ، وذبح الباقون دون تمييز وبدم بارد".

فنون صهيونية في احترام الموت " إنهم يحرقون بشرا" :

أقلقت زيارة جاك دو رينييه ممثل الصليب الأحمر الدولي لدير ياسين صباح الأحد 11 نيسان (إبريل) كلا من الوكالة اليهودية (أي القيادة السياسية الصهيونية المركزية) وقيادة الهاغانا في القدس كما أقلقت قادة المنظمتين الإرهابيتين ايتشل (الارغون) وليحي (شتيرن) ، وكان رجال المنظمتين الأخيرتين منهمكين في نهب موجودات القرية منذ انتهاء القتال بعد ظهر يوم الجمعة 9 نيسان ولم يجرؤا على التقدم نحو أعالي القرية ورفع العلم الصهيوني على أعلى منزل فيها، إلا يوم السبت في 10 نيسان رغما عن خلو البلدة من المدافعين وانسحابهم منها بسبب نفاد الذخيرة وعدم وصول نجدات.

و أصر قادة المنظمتين الإرهابيتين على الخروج من دير ياسين بمنهوباتهما وغنائمهما في أسرع وقت ممكن وتسليم القرية إلى رجال الهاغانا وفق الاتفاق مع هذه الأخيرة كما ذكرنا. بيد أن ديفيد شلتيئيل قائد الهاغانا في القدس كان حريصا على أن تقوم المنظمتان الإرهابيتان بدفن جثث ضحاياهما قبل استلام القرية منهما إخفاء لمعالم جريمتهما وشواهدها.

وكان شلتيئيل قد أصدر أوامره لوحدات من لواء الشبيبة (الجادناع) في القدس للاستعداد للحلول محل رجال ايتسل وليحي ولكنه في الوقت نفسه كان يخشى على معنويات الجادناع من رؤية ما اقترفته أيدي المنظمتين الإرهابيتين.

في هذه الأثناء وبعد مغادرة دو رينييه لدير ياسين عصر الأحد 11 نيسان قرر قادة المنظمتين أن لا سبيل "للتخلص" من جثث ضحاياهما إلا بحرقها. ويروي موشيه برزلاي (ضابط استخبارات ليحي): "صببنا ثلاثة أوعية نفط على ثلاثين جثة في الشارع الرئيسي في القرية وبعد نصف ساعة أدركنا أن هذا مستحيل، فيصدر يهوشع زطلر (قائد ليحي في القدس) أمرا بنقل الجثث المحترقة قليلا من الشارع الرئيسي إلى ما وراء جدار ويرفض رجاله فعل ذلك فيسحب زطلر مسدسه عليهم ولكني قلت له كن قدوة. وجررنا سوية إحدى الجثث وانفصلت يد عن الجسم وبقيت معي وتقيأت".

ويروي شاهد عيان من ليحي اسمه شمعون مونيتا:" اعتقدنا أن الجثث ستشتعل ولكن لا يمكن إحراق جثث في الهواء الطلق ولقد بنى النازيون من أجل ذلك موقدا خاصا يشتعل بدرجة حرارة عالية جدا".

وفي هذه الأثناء يصل دورون حسدأي أحد قادة الجادناع إلى القرية للاستطلاع بصحبة يشورون شيف مرافق شلتئيل ويصف ما شاهده كالآتي:" على امتداد عشرات الأمتار كانت تتوقد شعل من النيران وفيها جثث، لا تزال رائحة اللحم المشعوط تطاردني إلى الآن ويتصل شيف بشلتئيل ويقول له "محرقة إنهم يحرقون بشرا".

إخفاء أدلة الجريمة ونهب المنازل:

ويقرر شلتئيل منع خروج رجال المنظمتين الإرهابيتين من دير ياسين وإرغامهم على دفن الجثث ويوكل المهمة إلى وحدة من الشرطة العسكرية التابعة للواء عتسيوني (الهاغانا) بقيادة ديفيد دريفوس، تعزيزا لوحدات الجادناع وتسير وحدة الشرطة العسكرية ووحدة الجادناع نحو القرية ومعهم يشورون شيف ليجدوا حاجزا من الحجارة يقف خلفه مردخاي رعنان (قائد الايتسل في القدس) ويهودا لبيوت (قائد ليحي في دير ياسين) مع عدد من مرؤسيهم ويجري تلاسن بين الطرفين يعقبه اشتباك بالأيدي يهدد بالتطور إلى اشتباك بالسلاح ويتصل شيف بواسطة جهاز لاسلكي بشلتئيل ويقول شلتئيل: "جردهم من سلاحهم وإذا لم يسلموا سلاحهم أطلق عليهم النار".

ويجيب شيف حسب روايته:" لا أستطيع أن أفعل ذلك بيهود". وفي هذا الأثناء تصل تعزيزات إلى الايتسل في شاحنتين ويصر قادة المنظمتين الإرهابيتين على الخروج بشاحنات محملة بغنائمهما . ويخبر شيف شلتئيل بأن ما لديه من قوة لا تكفي للسيطرة على الوضع ويقال لرجال الايتسل وليحي: "خذوا ما تريدون وانصرفوا". وهكذا أخيرا تدخل وحدات الجدناع القرية بقيادة قائد لواء الجادناع يهوشع ارئيلي الذي يروي أن شلتئيل أمره "بإزالة الجثث ودفنها قبل عودة بعثة الصليب الأحمر الدولي".

ويتابع ارئيلي القول بأن معظم القتلى كانوا من الشيوخ والنساء والأطفال وأنه كلف بالدفن فقط قادة متقدمين في السن نسبيا: "عملنا طوال ليلة 12/13 نيسان وكان من الصعب إخراج الجثث من منزلين فحصلنا على موافقة على نسف المنزلين مع الجثث ونفذنا ذلك صباح الثلاثاء 13 نيسان ودفنا في قبر جماعي حوالي 70 جثة ونسفنا مجموعتين للجثث في كل واحد منهما حوالي 20 جثة وبهذا يكون المجموع حوالي 110 قتلى". ومكث أثناء الدفن عدة أشخاص من قادة اللواء عتسيوني التابع للهاغانا وكان واحدا منهم يشورون شيف. ويروي هيلل بوليتي أحد قادة الجادناع "أحضروا لنا من المدينة قفازات ومعاطف واقية وكمامات لتغطية الوجه ونقلنا الجثث اثنتين اثنتين بأيدينا إلى مقلع للأحجار وأحضرت من المدينة جرافة غطت الجثث بالتراب".

بريطانيا : قعود عن فعل شيء:

كان المندوب السامي البريطاني السير الان كنينغهام يرأس اجتماع لجنته الأمنية اليومية في القدس يوم الاثنين في 12 نيسان لبحث قضية دير ياسين ويلتفت إلى الجنرال السير غوردون ماميلان قائد قوات الجيش البريطاني الجالس إلى جانبه (حسب رواية الكاتبين لاري كولينز ودومنيك لابيير) ويقول هذه فرصتك لتتمكن من أولاد الزنا Bastards ( يعني الايتسل وليحي) فبحق الله اذهب لتوك واضربهم في دير ياسين". غير أن ماكميلان يمانع بحجة أن قواته البرية في القدس غير كافية لهذا الغرض بينما الحقيقة أن الجيش البريطاني في فلسطين كان قد قرر ألا يستعمل أفراده في الأشهر الأخيرة من الانتداب على البلاد إلا في خدمة مصالحه ضمن مفهوم ضيق جدا لها وعندها يلتفت كنينغهام حانقا إلى قائد القوة الجوية الذي كان حاضرا أيضا فيوافق هذا فورا على اقتراح المندوب السامي لكنه يلفت النظر إلى أن سلاح الطيران ( Raf كان قد أرسل قاذفاته الخفيفة في اليوم الأسبق الأحد 11 نيسان ) إلى القاعدة البريطانية في مصر وصواريخها إلى القاعدة البريطانية في العراق وأنه بحاجة إلى 24 ساعة حتى يقوم بالمهمة المطلوبة وما إن تنتهي اللجنة الأمنية من مداولاتها ذلك اليوم حتى تصل الأنباء عن حلول قوات الهاغانا محل الايتسل وليحي في دير ياسين.

ويقول المندوب السامي في رسالة إلى وزير المستعمرات في لندن بتاريخ الاثنين 12 نيسان "لا زالت القرية في أيدي اليهود وأنا أكتب هذه السطور، وكنت أردت أن يضرب جنودنا اليهود في دير ياسين بكل ما لديهم من قوة ويطردونهم منها ولكن الجيش يقول لي إنه ليس في وضع يمكنه من القيام بمثل هذا العمل أو بأي عمل قد يؤدي إلى صدام عام مع أي من الطرفين (العرب واليهود) وهذا مجرد مثال واحد من عدة أمثلة حيث تضطر الحكومة المدنية في هذا البلد وقوف موقف المتفرج بينما يضرب بسلطتها عرض الحائط في كل اتجاه".

ويدون السير هنري غورني السكرتير العام لحكومة فلسطين وهو نائب المندوب السامي في يومياته يوم الأحد 11 نيسان :" وصلنا بعد ظهر اليوم الخبر اليقين عن دير ياسين، أن ذبح مائتين من الأبرياء معظمهم من النساء والأطفال هو أسوأ ما اقترفته أيدي الأرغون والشيترن ولقد جاء الدكتور جاك دو رينييه ممثل الصليب الأحمر الدولي بأنباء مريعة عن أكداس من الجثث أطلق عليها الرصاص بالدم البارد، وأخبرني مراسل التايمز (اللندنية) أنه حاول العبور إلى دير ياسين ولكن الهاغانا منعته من ذلك والبوليس البريطاني لا يستطيع الاقتراب من المكان والبوليس اليهودي (التابع للسلطة البريطانية) يحاول التقليل من الأمر وكأن شيئا لم يحدث".

يذكر القارئ أن الدكتور جاك دو رينييه ممثل الصليب الأحمر الدولي زار كلا من مكتب الهيئة العربية العليا والوكالة اليهودية في القدس فور عودته من زيارته الأولى لدير ياسين يوم الأحد في 11 نيسان وكان الدكتور حسين فخري الخالدي (أمين سر الهيئة العربية) هو الذي قابل دو رينييه.

ويتداول الخالدي مع مستشاريه حول كيفية الإعلان عما حدث في دير ياسين في ضوء تقرير دو رينييه وما نقله إلى مكتب الهيئة الناجون من أهالي القرية. ويقول الدكتور حازم نسيبة أحد مستشاري الخالدي (حسب رواية كولينز ولابيير): كنا نخشى ألا تأتي الجيوش العربية لنجدتنا رغم كل الحديث عن نيتها على ذلك و أردنا أن نصدم الشعوب العربية حتى تضغط بدورها على حكوماتها".

وفي يوم الأحد 11 أبريل يعقد الخالدي مؤتمرا صحافيا يصف ما حدث بأنه "مجزرة للأبرياء " ذهب ضحيتها 254 شخصا معظمهم من النساء والأطفال بناء على تقرير قدمه له الدكتور جاك دو رينييه ممثل الصليب الأحمر الدولي عن مشاهداته في القرية . ويقول الخالدي إنه كان قد اتصل فور وصول الأنباء عن دير ياسين بقيادة كل من البوليس والجيش كما اتصل بالحكومة المدنية البريطانية طالبا إيفاد من يتحرى الأمر ولكنهم جميعا رفضوا تلبية طلبه مما اضطره إلى مناشدة الدكتور دو رينييه وأن هذا الأخير لا يزال يفاوض الأرغون والشتيرن حول إجراءات الدفن لشهداء القرية.

ويضيف الخالدي أن "مجزرة الابرياء" حصلت في القرية الوحيدة من قرى قضاء القدس التي لم تستنجد بأي هيئة عربية على أنها في خطر من اليهود وأنها كانت تعيش محاطة بالمستعمرات اليهودية التي عقدت معها اتفاقا حافظت عليه طوال الأشهر الأربعة السالفة . ويتابع الخالدي أنه أرسل رسائل إلى الملك عبد الله وإلى سائر رؤساء الدول العربية يشرح لهم ما جرى في دير ياسين .

وفي أعقاب مؤتمر الخالدي الصحافي وزيارة دو رينييه لها تصدر اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية بيانا مساء 11 نيسان الأحد تعبر فيه عن "مشاعر الهلع والتقزز ( Horror and disgust) من الطريقة البربرية" التي نقذت فيها الايتسل وليحي عمليتهما في دير ياسين!!!.(…)

وفي يوم الاثنين 12 نيسان ترسل الوكالة اليهودية إلى الملك عبد الله برقية تقول فيها إنها تداولت في النداء الذي وجهه الدكتور الخالدي إلى جلالته وقررت أن ترسل إليه خلاصة البيان الذي أذاعته في اليوم السابق في هذا الصدد وتنهي البرقية بقولها إنها "تستنكر هذه الجريمة البشعة ( atrocity) التي هالت الشعب اليهودي وكل إنسان حيث وجد "!!!.

حرب البيانات بين المنظمات الصهيونية:

ويذكر القارئ أن مردخاي رعنان قائد الايتسل (الأرغون في القدس) كان قد أعلم الصحافيين أثناء المؤتمر الصحافي الذي عقده مساء يوم الجمعة في 19 نيسان أن وحدات من البالماخ (قوات الهاغانا الضاربة) اشتركت في الهجوم على دير ياسين الأمر الذي أربك قيادة الهاغانا وجعلها تكذب هذا الخبر فورا للصحافيين الأجانب.

وفي يوم السبت 10 نيسان توزع الايتسل وليحي على الصحف العبرية بيانا يتضمن نص بيانين ادعتا أنهما أذيعا من محطة إذاعة الايتسل بالعبرية في تل أبيب يوم المعركة نفسه (أي الجمعة في 9 نيسان) أولهما عند الساعة 11:50 صباحا والثاني عند الساعة 7 مساء ويصبح هذان البيانان (الصباحي والمسائي) الأساس للرواية "الرسمية" لسير المعركة ولجميع ما تلاهما من روايات من قبل أوساط الايتسل وليحي مع بعض الإضافات و"التجميلات".

ويقول البيان الأول إن وحدات الايتسل وليحي هاجمت قرية دير ياسين ذلك الصباح واحتلتها وأن تجمعات كثيفة من المسلحين العرب، كانت قد تمركزت في القرية وباشرت بإزعاج المناطق الغربية العبرية من مدينة القدس وأنه وردت معلومات عن وصول إمدادات من الجنود العراقيين والسوريين إلى دير ياسين بهدف الهجوم على هذه المناطق العبرية وأن الجنود اليهود زحفوا في الثانية بعد منتصف الليل في أربع شراذم إلى مواقع حددت لهم، وأن الهجوم على دير ياسين بدأ في الساعة الرابعة والنصف من فجر ذلك اليوم الجمعة لدى صدور إشارة متفق عليها وأنه على رغم من النيران الكثيفة من معاقل "العدو" تمكن الجنود من التقدم بانتظام عسكري واقتحموا مواقع "العدو" واستولوا على معظمها.

ويستمر البيان فيقول إنه بعد إخلاء النساء والأطفال من القرية باشر الجنود بنسف المعاقل على العشرات من رجال "العدو" الذي قضوا نحبهم تحت أنقاضها وأن مكبرا للصوت ( At the time of the attack) عند الهجوم ناشد النساء والأطفال مغادرة القرية فورا واللجوء إلى التلال المجاورة وأن العديد من الأطفال والنساء أنقذوا نتيجة ذلك وأن المعركة ما زالت مستعرة.

ويضيف البيان أن مصفحتين تعثرتا عند خندق عمقه متر ونصف وأن وحدة من المهندسين استطاعت ردم الخندق على رغم شدة نيران العدو وأن معركة وجها لوجه دارت داخل القرية وأن الجنود تمكنوا من احتلال المنازل الواحد تلو الآخر وأن فلول العدو انسحبت بسرعة واستحكمت في منزل يبعد بعض الشيء عن قرية القسطل.

ويضيف البيان أنه وصلت في هذه الأثناء نجدة قوية للعدو وأخذت تمطر مستعمرة يافه نوف بالمدافع الرشاشة الثقيلة من تل مجاور وأنه عند اشتداد القتال دخلت وحدتان من قوات البالماخ بكامل أسلحتهما وانضمت إلى المهاجمين وأن الاتصال بين القوات المقتحمة والقيادة تأمن طيلة المعركة بشكل منتظم وأن الإمدادات من رجال وأعتدة وطعام تصل إلى أرض المعركة من دون انقطاع.

وينهي البيان وصفه بقوله إن إصابات اليهود بلغت اثنين من القتلى وثلاثة أصيبوا بجروح خطرة إضافة إلى إصابات عدة خفيفة بينما إصابات العدو بلغت العشرات وأن سيارة إسعاف مصفحة اخترقت خط النار وأجلت الجرحى اليهود وأن الجنود أسروا العديد من رجال "العصابات العرب" وساقوهم إلى القاعدة.

أما البيان المسائي فيعلن الاحتلال الكامل للقرية وأن إصابات اليهود بلغت أربعة قتلى وأربعة إصابات خطرة و 28 إصابة خفيفة بينما أحصي لـ"العدو" 240 من القتلى إلى ذلك الحين وأن المهاجمين تعهدوا بالبقاء في القرية 48 ساعة على أن يسلموها بعد ذلك إلى قوات الهاغانا وهو ما ينوون فعله.

ولن يصعب على القارئ الذي تابع في الحلقات السابقة وصفنا لوقائع يوم المعركة ساعة تلو الساعة ملاحظة مدى الكذب والتلفيق في هذين البيانين اللذين اقتبسناهما عن جريدة "هارتس" العبرية الصادرة في 11 نيسان فالكلام عن إزعاج دير ياسين للمستعمرات المجاورة وتمركز قوات عسكرية سورية وعراقية فيها بهدف الهجوم على الأحياء اليهودية ووصول نجدات قوية من قرية عين كارم هراء في هراء ويبلغ التشويه للحقائق في البيانين الذروة في الوقاحة والصفاقة عند إعطاء مكبر الصوت دور "المنقذ" للنساء والأطفال الذي شكلوا معظم ضحايا المهاجمين.

والملفت في نص البيان الصباحي بنوع خاص محاولة إبراز أداء الايتسل وليحي أثناء القتال وكأنه أداء جيش نظامي منضبط وذلك لأسباب سنبينها لاحقا كما أن ما يلفت النظر هو تأكيد البيان الصباحي على اشتراك قوات البالماخ في الهجوم وفضحه له رسميا ويجدر بالقارئ المقارنة بين هذا البيان الصادر في تل أبيب وبين البيان الذي ألقاه مردخاي رعنان قائد الايتسل في القدس في المؤتمر الصحافي الذي عقده مساء يوم الجمعة ليتبين حجم إضافات تل أبيب في الرواية الرسمية وهي إضافات لا نشك أن المسؤول عنها هو مناحيم بيغن قائد الايتسل الأعلى المقيم في تل أبيب وأحد كبار أساتذة الإرهاب والحرب النفسية في القرن العشرين كما أننا لا نشك في أن نشر هذين البيانين كان من الدوافع الرئيسية لإصدار الوكالة اليهودية لبيانها في 11 نيسان وأكدت على حرص الهاغانا على التقيد باتفاقات جنيف.

وبصدور بياني الايتسل وليحي والبيان "المضاد" ، من قبل الوكالة اليهودية تبدأ حرب البيانات بين أوساط اليمين وبين أوساط اليسار اليهودي حول ما جرى في دير ياسين وهي حرب ما زالت دائرة إلى يومنا هذا وذلك بسبب الرمزية التي اكتسبتها وقائع دير ياسين ومغازيها ضمن إطار مأساة فلسطين ككل كما أشرنا إلى ذلك في مطلع هذه الدراسة، ونحن إنما نتابع حرب البيانات هذا ليس من أجل التاريخ لها فحسب بل بهدفين أساسيين آخرين: أولا تتبع رواية اليمين الصهيوني لوقائع دير ياسين إذ غدت تنفي نفيا قاطعا أن حدثت أي مذابح للشيوخ والنساء والأطفال يوم الجمعة في 19 نيسان عام 1948وثانيا : رصد نفاق القيادة العمالية السياسية والعسكرية وريائها عند شجبها لما حدث ذلك أن موقف كل من اليسار واليمين الصهيونيين من دير ياسين إنما يؤكد صدق ما ذهب إليه المفكر اليهودي إيلي فيزيل في قوله خلال محاكمة أحد المتعاونين مع النازيين الألمان: القاتل يقتل مرتين الأولى عندما يجهز على ضحيته والثانية عندما يخفي أنه قتل".

وفي 12 نسيان تنشر صحيفة "هارتس" العبرية رد الهاغانا على ما ورد في بيان المنظمتين الذي كانت قد نشرته في عدد اليوم السابق . وتقول قيادة الهاغانا في ردها إن قرية دير ياسين لم تشترك في التعدي على القدس العبرية وكانت من القرى القلائل التي رفضت استقبال رجال "العصابات" العرب الغزاة (تعني جنود جيش الإنقاذ السوريين والعراقيين) وإنه بما أن دير ياسين لم تقم بأي اعتداء فإن الهاغانا أحجمت عن إدخالها ضمن دائرة القتال وأن منظمتي "المنشقين" كانتا تعلمان علم اليقين أن ليس لهجومهما أي هدف عسكري على الإطلاق وأنه لم يكن في الظروف القائمة جزءا من مخطط الدفاع عن القدس وأن لا قيمة عسكرية له وأن ما قاما به كان لمجرد التباهي لأغراض الدعاية لأنفسهما. ويضيف البيان أنه لم تشترك في الهجوم أية وحدة من الهاغانا وكل ما في الأمر أن موفدي المنظمتين المنشقتين استغاثوا بالهاغانا راجين العون لإنقاذ جرحاهم الذي ظلوا داخل القرية وأن هذا كل ما فعلته الهاغانا. وينهي البيان كلامه بقوله إن عرض الأسرى من نساء وأطفال أمام الجماهير في شوارع المدينة يدنس طهارة السلاح العبري.

وفي اليوم نفسه توزع الهاغانا منشورا في شوارع القدس يعلن "فرار رجال ليحي وايتسل من دير ياسين واضطرار الهاغانا دخول القرية" بعد أن خلقت المنظمتان بعمليتهما المخجلة جبهة معادية جديدة في القدس". ويضيف أن قوات الهاغانا شعرت عند دخولها دير ياسين "بالخزي" لأن ذلك هو المكان "الذي انتهك فيه المنشقون صورة الإنسان في المقاتل العبري وشرف العلم العبري"!!!. وينتهي المنشور بالقول إن الهاغانا ستسعى إلى دفن جثث القتلى التي تركت في المكان وستحمي القبور والممتلكات القليلة التي تبقت في القرية بعد أن نهبها المنشقون وستعيدها إلى أصحابها في الوقت المناسب!!.

وترد المنظمتان الإرهابيتان على بيان الهاغانا ومنشورها ببيانين يصدر الأول في 12 نيسان والثاني في 14 نيسان. ويؤكد البيان الأول أن دير ياسين كانت "وكرا للأشرار الفعليين والمحتملين وأنه شنت منها هجمات على الأحياء اليهودية الغربية من القدس" و"لولا احتلالنا للقرية لكان ثمة خطر دائم سيتربص بالأحياء الغربية من قبل العصابات التي تحصنت وتمركزت فيها" وأنه كانت هناك "ضرورة عسكرية ملحة من أجل إبعاد هذا الخطر وتحرير القدس من الحصار"!. ويضيف أن دير ياسين احتلت في معارك ضارية والدليل على ذلك عدد القتلى العراقيين والسوريين الذي هم جزء من الجيش النظامي الذي كان يتمركز فيها (كذا)".

وتحتل قصة مكبر الصوت مكانا بارزا في هذا البيان يغدو دليلا على سلوك الايتسل وليحي في دير ياسين "مسلكا لم يسلكه جيش مقاتل ذلك أنهما تخليا عن عنصر المفاجأة فقبل بدء المعركة الفعلية حذر جنودنا بواسطة مكبر للصوت سكان القرية ودعوا النساء والأطفال إلى مغادرة المكان فورا وقد نجا بفضل هذا التحذير معظم النساء والأطفال أما جزء من الذي لم يستمعوا للتحذير فقد أصيب خلال المعركة"!. ويضيف البيان :" وإننا نعرب عن أسفنا الشديد لأنه كان هناك نساء وأطفال بين المصابين ولكن ليس الذنب ذنبنا فمقاتلينا قاموا بواجبهم الإنساني (كذا) وأكثر من ذلك (كذا)". ويعيد البيان التأكيد على قيمة دير ياسين الإستراتيجية أما بالنسبة لشرف السلاح العبري فيشير البيان إلى هجمات الهاغانا على العديد من القرى والأحياء العربية حيث قتل فيها النساء والأطفال من دون سابق تحذير وهو الكلام الصحيح الوحيد الوارد في هذا البيان.

أما بيان 14 نيسان فيتصدى ثانية إلى قول الهاغانا بعدم وجود أي قيمة عسكرية لاحتلال دير ياسين ويؤكد أنه كان "إحدى أصعب العمليات وأخطرها وأهمها في كل الحرب من أجل تحرير القدس". ويورد النص الكامل للرسالة التي كان قد أرسلها قائد الهاغانا في القدس ديفيد شلتيئيل إلى المنظمتين في 7 نيسان قبيل الهجوم على دير ياسين التي كما يذكر القارئ يشير شلتئيل فيها إلى أن احتلال دير ياسين كان من ضمن خطة الهاغانا نفسها لاحتلال القدس. ويضيف البيان أن احتلال دير ياسين أوقع الرعب في القرى المجاورة وأنها تساقطت أمام هجمات الهاغانا بسبب احتلال دير ياسين وبالتالي يكون احتلال دير ياسين "بضربة واحدة قد غير الوضع الاستراتيجي لعاصمتنا".

وتدور الأيام وتمر السنون ويصبح قائد الايتسل الأعلى مناحيم بيغن مؤلف هذه البيانات الصادرة عن ايتسل وليحي عام 1977 رئيس وزارة الكيان الصهيوني وتنشر حكومة الكيان سلسلة رسمية لوثائق سياسية وديبلوماسية توثيقا لحرب 1948 وينشر في عداد هذه الوثائق نص رسالة العزاء الموجهة من الوكالة اليهودية إلى الملك عبد الله في 12 نيسان وتتصدر نص رسالة العزاء مقدمة من محرر سلسلة الوثائق تتضمن رواية بيغن عن يوم دير ياسين وهكذا يصبح الأبيض أسودا وتشرق الشمس من الغرب، ورحم الله شهداء دير ياسين وسائر شهداء العرب من أجل فلسطين .

عدد ضحايا دير ياسين :

الراسخ في الذاكرة الفلسطينية والعربية والمتواتر إلى الأمس القريب في العالم بأسره بما في ذلك الكيان الصهيوني و الصهاينة خارجها أن عدد شهداء دير ياسين في حدود 245 - 250 شهيدا ، هذا هو الرقم الذي أعلنته الأطراف المعنية العدة في حينه (اليهودية والبريطانية الرسمية والدولية والفلسطينية والعربية) وهو الرقم الذي أجمع عليه الصحافيون والمؤرخون والمراقبون من مختلف الجنسيات منذ 1948 بيد أن المفارقة (وأي مفارقة) أن هذا الرقم ليس هو الرقم الذي قدمه في حينه الطرف الأكثر دراية ومعرفة بالأمر أي الناجون من وجهاء القرية وكبارها.

ويذكر القارئ أن عدد سكان دير ياسين عام 1948 كان كما أسلفنا حوالي 750 نسمة انقسموا إلى ثلاث حمائل وأنهم اتسموا بقدر غير مألوف في ريف فلسطين من التماسك في ما بينهم كما كان الزواج بين الحمائل دارجا شائعا على نطاق واسع حتى غدا أي فرد في البلدة على علاقة قرابة أو نسب بمعظم سائر أهاليها. وهكذا لم يكن خارج قدرة كبار الناجين من الواقعة القيام بإحصاء دقيق لمن فقد أو استشهد منهم غير أن تشتت سكان القرية يوم المعركة في أكثر من اتجاه وهول صدمة ما حصل اقتضيا مرور بضعة أيام قبل إنجاز الإحصاء الذي تم قبل نهاية شهر نيسان 1948 وهي الأيام التي ترسخ فيها الرقم 240-250 شهيدا المبالغ فيه وتوالت خلالها الأحداث الجسام من سقوط طبريا (18/ نيسان) إلى سقوط حيفا (22-23 نيسان) إلى سقوط يافا (25-30 نيسان) التي حلت محل دير ياسين في اهتمامات الرأي العام العربي والدولي المباشرة.

أما نتيجة إحصاء وجهاء دير ياسين لشهدائها في نيسان 1948 فكان في حدود مئة شهيد معظمهم من الشيوخ والنساء والأطفال يضاف إليهم حوالي 15 جريحا جروحهم بليغة. ذكرت "البالستين بوست" اليهودية في عددها الصادر في 11 نيسان 1948 أن عشرة منهم أدخلوا المستشفى الحكومي في القدس وأن سبعة من هؤلاء دون الرابعة عشرة من عمرهم يضاف إليهم العشرات المصابون بجروح أقل خطورة.

ظلت معرفة عدد شهداء دير ياسين الحقيقي مقتصرة على الناجين من سكان دير ياسين وذريتهم ومعارفهم وعلى عدد قليل من الباحثين ولم يشق العدد الحقيقي طريقه إلى أدبيات 1948 الفلسطينية إلا في نهاية السبعينات عندما أصدرت جامعة بيرزيت في الضفة الغربية كراسا عن دير ياسين من ضمن سلسلة من القرى الفلسطينية التي دمرتها العصابات الصهيونية ذكرت فيه هذا الرقم استنادا إلى مقابلات أجراها مؤلفو الكراس مع بعض كبار الناجين من أهالي دير ياسين. وفي هذه الأثناء تكرر ذكر رقم 240-250 شهيدا في أدبيات 1948 كافة في مختلف اللغات بما في ذلك الرواية الرسمية الصهيونية لحرب 1948 التي صدرت عن وزارة الدفاع الصهيونية عام 1972 باسم "سيفر تولدوت هاغانا" عندما كانت الحكومة الصهيونية ما زالت تحت السيطرة العمالية.

ويتلقف الكاتب اليميني الصهيوني ملشتاين ما ذكرته جامعة بيرزيت في كراسها عن عدد ضحايا دير ياسين ويدمجه في محاولته إعادة كتابة تاريخ 1948 من منظور يميني ناقد للرواية الصهيونية العمالية وبهدف إلقاء الشك على الرواية العربية بأسرها لدير ياسين مع أنه يقر بأن الرقم المبالغ فيه لم يأت أصلا من الطرف العربي لكن الطرف اليهودي اليميني ذاته.

وتسهيلا على القارئ نعيد باقتضاب ما ذكرناه سالفا من أن أول من ذكر أان رقم الشهداء هو 240 شهيدا هو مردخاي رعنان قائد الايتسل (الأرغون) في القدس وكان ذلك في مؤتمر صحافي عقده مساء يوم الجمعة 9 نيسان بعد توقف القتال واحتلال القرية حضره مراسلو الوكالات الأميركيون. وأذاعت الـ "بي. بي. سي" اللندنية الرقم في نشرتها الإخبارية لتلك الليلة وكررت ذكره في الوقت نفسه محطة الإذاعة البريطانية الانتدابية في الدس. ويذكر القارئ أن ممثل الصليب الأحمر الدولي زار دير ياسين يوم الأحد في 11 نيسان ونقل إلى السلطات البريطانية وإلى الهيئة العربية العليا في القدس أن عدد الضحايا إنما هو في حدود 350 شهيدا وأن الدكتور حسين فخري الخالدي أمين سر الهيئة العربية العليا عقد مؤتمرا صحافيا في إثر لقائه مع ممثل الصليب الأحمر يوم الأحد في 11 نيسان واعتمد الرقم الأدنى الذي ذكره قائد الأرغون يوم الجمعة وتناقلته عن قائد الأرغون الوكالات العالمية يوم الجمعة والسبت السابقين.

ويروي ملشتاين عن رعنان في مقابلة أجراها معه بعد الواقعة بسنين عدة أن رعنان تقصد يوم الجمعة تضخيم عدد ضحاياه لإلقاء الرعب في العرب وأنه حسب قول رعنان "نجح" في ذلك وأغلب الظن بالنسبة لنا أن هذا تبرير أو تفسير لاحق رجعي لتضخيم أثر دير ياسين الفعلي على سير القتال في فلسطين عموما وهو تفسير يتضامن ملشتاين فيه طبعا مع رعنان بغية تضخيم دور المنظمتين الإرهابيتين (الأرغون والشتيرن) اليمينيتين في قتال عام 1948 مقارنة بدور الهاغانا اليسارية ويقيننا أن الدوافع الحقيقية لتضخيم الرقم كانت أكثر ارتباطا بالمحادثات السياسية المتزامنة التي كانت تجري في حينه تحت رعاية اللجنة التنفيذية للمنظمة الصهيونية لدمج المنظمتين الإرهابيتين في قوات الهاغانا كما سنبين بعد قليل.

وبعد فالعبرة ليست في الكم وثمة أحداث في الحروب النظامية الأهلية تتخذ كما أسلفنا صفة رمزية بصرف النظر عن الكم كما حصل في جنوب أفريقيا (شارب فيل 1960 Sharb ville) وإيرلندا الشمالية (الأحد الدموي 1972 Bloody Sunday) حيث كان عدد الضحايا الأبرياء لا يتعدى بضعة عشرات.

أما قائمة شهداء دير ياسين حسب العمر والجنس فهي كالآتي:

تصنيف العمر
فئة العمر/سنوات
عدد الشهداء
المجموع

ذكور
إناث

الأطفال
سنة-خمس
7
5
12

الصغار
ست-خمسة عشر
8
11
19

الشباب
ست عشر-عشرون
7
2
9

إحدى وعشرون-خمس وعشرون
9
4
13

ست وعشرون-خمس وأربعون
9
7
16

الكهول والشيوخ
ست وأربعون-ستون
9
8
17

واحدوستون-تسعون
10
4
14

المجموع
جميع الأعمار
59
41
100

فتكون نسبة الإناث والأطفال والصغار (دون خمس عشرة سنة) والكهول والشيوخ من الذكور 75 في المئة من مجموع الشهداء في جميع الأعمال من الجنسين.

ادعاء الحرص على أرواح العزل من النساء والأطفال :

شر البلية ما يضحك ذلك أن رواية اليمين الصهيوني التبريرية اللاحقة لواقعة دير ياسين وصلت ذروة الكذب والتدليس بهذا الادعاء بينما تراث منظمة الأرغون الإرهابية الدموي ضد العزل تراث عريق يعود إلى عشر سنوات قبل دير ياسين وهو أمر مشهود به ومعروف لكل قاص ودان.

فالأرغون هي التي ابتكرت وأدخلت إلى المشرق العربي استعمال الألغام الموقوتة والسيارات المفخخة ضد الأهداف المدنية وهي التي دشنت استعمال الألغام هذه في أسواق الخضار ومحطات الباصات الفلسطينية المزدحمة في عامي 1938 و 1939 في كل من حيفا ويافا والقدس وهاكم حصاد بعض هذه الأحداث من أرواح العزل خلال فترات قصيرة من هاتين السنتين: 16 تموز (يوليو) 1938 ، سوق البطيخ : حيفا، 18 قتيلا و30 جريحا، 26 شباط (فبراير) 1939 سوق الخضار في حيفا: 25 جريحا، 3 حزيران سوق الخضار القدس 9 قتلى و 40 جريحا ، 19 حزيران سوق الخضار حيفا 9 قتلى و 24 جريحا وهكذا.

ثم إن الأرغون هي التي فجرت في يوليو 1946 فندق الملك داود في القدس وكان مقر الحكومة البريطانية ما أدى إلى سقوط 75 قتيلا من المدنيين العزل من الموظفين والزائرين البريطانيين والعرب في ذلك حوالي 20 يهوديا وكان ضابط عمليات الأرغون خلال الهجوم على دير ياسين يهوشع غولد شميت هو نفسه الذي قاد الشاحنة الملأى بالمتفجرات التي نسفت الفندق.

وتمحور ادعاء الحرص على أرواح العزل خلال القتال في دير ياسين حول وجود مكبر للصوت على إحدى المصفحات التي كان عليها اقتحام القرية وتطورت الرواية الصهيونية حتى أصبح دور مكبر الصوت هو دور "المنقذ" للنساء والأطفال حيث حثهم حسب هذه الرواية على إجلاء القرية"فأنقذ" بهذه الوسيلة معظم هؤلاء وكان ذلك على حساب التخلي عن عنصر المفاجأة في الهجوم وبالتالي دليلا على "فروسية" المنظمتين الإرهابيتين.

الواقع هو أن دور مكبر الصوت (لو استعمل) كان دور تحطيم الأعصاب والمعنويات المساند للقصف والضرب الناري وهو تكتيك حربي صهيوني دارج ولكنه لم يستعمل في هذه الحالة لسقوط المصفحة في الخندق الذي حفره أهالي دير ياسين وتعطيله ولا علاقة بالتالي لنجاة من نجي من نساء القرية وأطفالها باستعمال مكبر الصوت أو عدم استعماله.

والواقع أيضا من شهادات الناجين والمراقبين الدوليين بل ومن أفواه قادة المنظمتين الإرهابيتين وكذلك من شهادات قادة الهاغانا وضباطها التي أوردناها جميعا سابقا أن المنظمتين لم ترعيا حرمة لشيخ أو مسنة أو رضيع أو جريح وأن أتباعهما لم يتركوا عرفا واحدا في التعامل مع المدنيين في الحروب إلا وخرقوه فاتخذوا من الأسرى من الشيوخ والنساء والأطفال دروعا لحماية أنفسهم من نيران المقاومين ورهائن لحمل الجرحى والقتلى من اليهود تحت الرصاص وأغطية لاقتحام منازل البلدة ولم يكتفوا بإعدام أسراهم من الرجال وبضرب وشتم وتهديد أسراهم من النسوة وسلبهن من كل ما عليهن من الحلي والأساور والخواتم والنقود ولا بتمزيق آذانهن انتزاعا للأقراط ولا باستعراضهن في شاحنات في موكب نصر ذهابا وإيابا في أحياء القدس اليهودية بل انحدروا إلى ما هو أسفل حتى من هذا وذاك بتركهم جثث ضحاياهم من دون دفن ومحترقة جزئيا في الشارع العام في دير ياسين بعد أن أشعلوا النار فيها وفروا من البلدة بما نهبوه منها من غنائم ومؤن ، وأثاث ومواش.

طبعا الكلام عن "فروسية" مكبر الصوت كان لاستهلاك الجمهور اليهودي في فلسطين والولايات المتحدة وهو إن دل على شيء فإنما يدل على صفاقة الإعلام والحرب النفسية الصهيونيين ومدى احتقارهم للحقيقة والواقع كما يتجليان في قائمة الشهداء.

دوافع الهجوم على دير ياسين :

حرصت أدبيات المنظمتين الإرهابيتين التبريرية اللاحقة على التوكيد على أهمية دير ياسين الاستراتيجية تفسيرا لاختيارها هدفا للهجوم والاحتلال وتثبيتا لصواب التخطيط العسكري اليميني ودحضا لتشديد الهاغانا على عدم جدوى احتلالها والعسكرية وتحويلا للأنظار عما اقترف فيها من جرائم وآثام.

وهكذا غدت دير ياسين حسب الرواية اليمينية مسيطرة على أحياء القدس اليهودية الغربية وقاعدة أمامية لاقتحامها ومصدر تهديد مباشر للطريق الوحيدة التي تربط القدس بتل أبيب ومحطة حيوية على طريق المواصلات إلى القسطل ومركز تجمع للجنود العراقيين والسوريين وراعية لأعمال استفزازية وإزعاج مستمر للمستعمرات المجاورة مما جعل احتلالها أولوية عسكرية ملحة فرضت نفسها فرضا على قادة المنظمتين الإرهابيتين. والواقع أن دير ياسين كانت تقع على تل على بعد ميل واحد من ست مستعمرات تشكل سدا متراصا يعزلها عن العالم الخارجي حيث أن الطريق الوحيدة إليه السالكة للسيارات كانت تمر وسط إحدى المستعمرات (غيفعات شاؤول) والمسافة بينها وبين طريق القدس - تل أبيب (كيلومتران) ووجود مستعمرة سابعة (موتسا) بالمقابل على الطريق إلى الساحل سيجعلان من المستحيل على دير ياسين السيطرة على هذه الطريق ولم تكن دير ياسين على الطريق إلى القسطل بل كان واد سحيق يفصل بينهما والطريق إلى القسطل يمر عبر عين كارم وليس عبر دير ياسين وتواجد جنود عراقيين وسوريين في دير ياسين أو جوارها كذب صاف محض، كذلك القول بأنها كانت مصدر إزعاج واستفزاز للمستعمرات القريبة منها ذلك أنها بسبب ضعف مركزها الإستراتيجي اختارت الوصول إلى تفاهم على عدم التعدي بينها وبين المستعمرات المجاورة وهو تفاهم رعته الهاغانا وأطلعت عليه قادة المنظمتين الإرهابيتين.

لذلك لم يكن للاعتبارات العسكرية أو الاستراتيجية أي دور في قرار المنظمتين الهجوم على دير ياسين بل كان أهم هذه الاعتبارات كما أسلفنا سهولة الوصول إلى دير ياسين لقربها وعزلتها والرغبة في المزايدة على الهاغانا نظرا لأن الأخيرة كانت قد بدأت هجومها العام (عملية تحشون ضمن الخطة دال) والطمع بالغنيمة وهو دافع يقر به يهودا لبيدوت أحد كبار قادة الأرغون حيث يقول:"إن الواقع الأساسي كان اقتصاديا ذلك أننا كنا في أمس الحاجة إلى الغنائم لتموين قواعد منظمتينا".

مفاخرة الإرهابيين بمجزرتهم:

وقد فاخر الإرهابي مناحيم بيغن - رئيس وزراء الكيان الصهيوني الأسبق- بهذه المذبحة في كتابه فقال "كان لهذه العملية نتائج كبيرة غير متوقعة، فقد أصيب العرب بعد أخبار دير ياسين بهلع قوي فأخذوا يفرون مذعورين.. فمن أصل 800 ألف عربي كانوا يعيشون على أرض "إسرائيل" الحالية - فلسطين المحتلة عام 1948 لم يتبق سوى 165 ألفا -، ويعيب بيغن على من تبرأ منها من زعماء اليهود ويتهمهم بالرياء ! ! .

ويقول بيغن إن مذبحة دير ياسين "تسبب بانتصارات حاسمة في ميدان المعركة"، فيما قال إرهابيون آخرون إنه "بدون دير ياسين ما كان ممكنا "لإسرائيل" أن تظهر إلى الوجود"، وتمسكت اتسل وليحي بالدفاع عن المجزرة بل إن ليحي اعتبرت ما ارتكبه أفرادها في دير ياسين "واجبا إنسانيا".

موقف القيادة العمالية السياسية والعسكرية من دير ياسين:

في الظاهر كان موقف هذه القيادة موقف تنديد واستنكار كما يبدو من برقية العزاء والاعتذار من الوكالة اليهودية إلى الملك عبد الله ومن حرب البيانات بين الهاغانا والمنظمتين الإرهابيتين ومن أدبيات الطرفين حول واقعة دير ياسين منذئذ بيد أنه ثمة ثلاث زوايا يجدر بالقارئ العربي أن ينظر منها إلى هذا الموقف.

أولا : أطلع قادة المنظمتين الإرهابيتين ديفيد شلتئيل قائد الهاغانا في القدس على نيتهم الهجوم على دير ياسين ووافق شلتئيل على ذلك خطيا في رسالة بتاريخ 7 نيسان تضمنت تحفظات (الإحجام عن نسف منازل القرية والبقاء فيها حتى لا يدخلها الأغراب ) لا تمس جوهر الموافقة، وكان قادة الهاغانا على اتصال مستمر بالمهاجمين طوال المعركة وساهمت قوات الهاغانا المرابطة في المستعمرات المقابلة لدير ياسين في إطلاق النار على المدافعين خلالها وقدمت الهاغانا العون لإجلاء الجرحى والقتلى اليهود ومدت المهاجمين بالذخيرة واشتركت وحدات من البالماخ مدعومة بمصفحات ومدافع هاون ليس فقط في قصف القرية عن بعد بل وفي القتال داخل القرية كما اشتركت هذه الوحدات في نهبها. ورفض شلتئيل إعلام أهالي دير ياسين عن الهجوم على رغم الاتفاق وبين في رسالته إلى المنظمتين أن احتلال دير ياسين كان من ضمن مخططات الهاغانا ذاتها على رغم هذا الاتفاق أيضا. ومع أنه شجب تصرف المنظمتين تجاه جثث ضحاياهما إلا أنه أصدر أمرا بنسف العديد من هذه الجثث بعد حلول قوات الهاغانا محل قوات المنظمتين في دير ياسين كما أنه سمح للمنظمتين بنهب موجودات القرية من مؤن وطعام وأثاث ومواش.

ثانيا : يحتوي استنكار القيادة العمالية لأفعال المنظمتين في دير ياسين على قدر وافر موفور من الرياء والمداهنة نظرا لأن الهاغانا والبالماخ نفسيهما كانا مسؤولين في الخفاء عن أعمال مشابهة أو قريبة الشبه في مئات القرى الفلسطينية التي احتلاها حيث لم تصل أضواء الإعلام والرقابة الدولية كما لم تتوان الوكالة اليهودية عن الحيلولة دون وصول ممثلي الصليبي الأحمر والسلطات البريطانية والصحافة العالمية إلى دير ياسين طوال الأيام التالية المباشرة للمعركة إخفاء لجريمة المنظمتين.

ثالثا: كان لاستنكار الوكالة اليهودية العلني لما حصل في دير ياسين دافعان سياسيان أكثر مما هما أخلاقيان أولهما الحرص على الاتفاق السري الذي كان عقد مع الملك عبد الله الثاني والرغبة في دفع الأرغون والشتيرن(أي ممثلي اليمين التنقيحي Revisionist ) بصبغة الإرهاب لإقصاء هذا اليمين عن التركيبة السياسية للدولة اليهودية المقبلة حتى تزداد حصة اليسار العمالي ضمن هذه التركيبة وسيطرته عليها. وبالفعل لعبت "قصة" دير ياسين دورا أساسيا في إبقاء حزب الحيروت الذي أسسه مناحيم بيغن في 15 حزيران عام 1948 خارج كل الوزارات الائتلافية بقيادة حزب العمال (الماباي) منذ تأسيس الدولة لغاية 1967 عندما دعا ليفي اشكول رئيس الوزارة العمالي مناحيم بيغن للانضمام إلى الحكومة الائتلافية عشية حرب حزيران.

يذكر الكاتب الصهيوني توم سيقيف أن قسم الاستيطان التابع للوكالة اليهودية أعد في النصف الثاني من سنة 1948 قائمة بعشرات القرى العربية تمهيدا لاستيطانها ويزور رجال مكتب الصحة بعد بضعة أيام من ذلك قرية مهجورة للوكالة اليهودية ويعلنا بأنه قبل أن يصبح إسكان القرية ممكنا يجب رش المنازل بمادة د.د.ت. ويكتب ممثلو الوكالة اليهودية تقريرا يذكرون فيه أن "أبنية القرية بصورة عامة مبنية بشكل أصيل جميل. والأراضي الزراعية تبلغ مئات الدونمات. و"حرث رجال القرية السابقون هذه الأراضي سنين كثيرة وزرعوا حول البيوت حدائق وأشجار مثمرة. ويؤخذ القرار بعيد ذلك باستيطان القرية بموافقة رئيس الوزراء العمالي (بن غوريون) ويسكن القرية مستوطنون من بولندا ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا وحتى صيف 1949 يتمكن هؤلاء من حراثة 20 دونما من كروم الزيتون وتسويق 300 صندوق خوخ ويبدأون بقطف العنب.

ويقرر أن يقام في خريف 1949 احتفال رسمي لتدشين المستعمرة الجديدة في دير ياسين وأن يكون اسم المستعمرة غيفعات شاؤول "ب" . ويكتب الفيلسوف اليهودي مارتين بوبر إلى رئيس الوزراء عند سماعه بالأمر يطلب "على الأقل تأجيل إسكان القرية حتى تلتئم الجروح… وينبه إلى أنه من الأفضل أن تبقى حاليا أرض دير ياسين غير مزروعة وأن تترك منازلها شاغرة من أن تدنس بعمل تفوق أهميته الرمزية السلبية جدواه العملية بما لا يقاس". ولا يرد بن غوريون على رسالة بوبر فيثابر بوبر في مكاتبة بن غوريون وتتكدس رسائله في مكتب بن غوريون من دون إجابة .

ويحتشد بضع مئات من المدعوين إلى احتفال تدشين المستعمرة ويحضر بينهم وزيران من الوزارة العمالية إلى رئيس البلدية والحاخامين الرئيسيين (اللذين كانا كما يذكر القارئ قد استنكرا ما حصل في دير ياسين في بيان علني عبرا فيه عن "خجلهما" وشجبهما "لوحشيته"!!) . ويبث رئيس الدولة حاييم وايزمان برسالة تهنئة وتعزف الفرقة الموسيقية لمعهد الضرير المجاور وتقدم التحية. وهكذا تختزل دير ياسين مأساة فلسطين بأسرها.

وبعد فإن عدد سكان دير ياسين اليوم يزيد عن أربعة آلاف نسمة موزعين في الضفة الغربية من فلسطين والأردن والمملكة العربية السعودية والكويت وقطر والولايات المتحدة وفي البرازيل ولسان حالهم يقول ونحن نردد معهم:

سأذكر بلدتي ما دمت حيا

وأذكر مرجها ثم الشعابا

وأقرىء دير ياسين سلاما

متى شع الضحى نورا وغابا

وقارعت الطغاة بيوم نحس

وقد صمدت صمودا لن يعابا


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى