الثلاثاء ١٤ نيسان (أبريل) ٢٠١٥

الكود الجديد في أعمال برهان الخطيب

صالح الرزوق

على الرغم من ان كتابات برهان الخطيب حازت على اهتمام غير قليل في الصحافة والنقد الأدبي في الفترة بين ١٩٧٠-١٩٨٥ إلاّ أن هناك بعض النقاط التي تفرضها مستجدات في كتابته، هو يسميها بالكود الجديد.

لا اعلم بالضبط ماذا يعني بالكود. لقد تكلم عنه بارت في أسطوريات ولكن لا رواياته ولا المقابلات والمقالات التي تنسب له تحمل شيئا من مفهوم بارت عن البنية.

برهان الخطيب توليفة تتآزر فيها الواقعية والكلاسيكية. وفنون عديدة منها الموسيقى والمقالة والتحليل السياسي. وأخيرا المسرح. بسبب غلبة الحوار على السرد.

وهذه هي الحالة المتميزة لروايته (الحكاية من الداخل). وفيها توسيع لملابسات أحداث روايته المبكرة (ضباب في الظهيرة). حيث أن نفس الشخصيات تسجل حضوراً أو عودة إلى مسرح الرواية. ولكن المونولوج وتيار الشعور يتحول إلى صيرورة تذكر بشكل حوارات متبادلة بين بطل الرواية وهو الكاتب نفسه وأصدقاء اليوم والأمس.

ما هو الكود الجديد إذاً؟!!.

هل هو رسم شخصيات على حافة الانهيار حسب منطق الوضع الوجودي الذي يخلق فراغا ثلاثي الأبعاد على مستوى السياسة والفكر والواقع.

ام انه يدل على بنية روائية ذات شكل مختلف مع نفسه. أو بتعبير آخر شكل انقلابي يفاجئ القارئ بقدر ما يبدل من قناعات فن الرواية.

إن الإجابة بحد ذاتها ملتبسة لأننا لسنا حيال عمل تراكمي. فانا لا أود هنا أن أبني على ما سبق. ولكن أن أبدأ مثل برهان الخطيب من نقطة إعادة النظر بالماضي.

فمعظم أعماله الجديدة هي شذرات من أعمال سابقة. توجد تقاطعات في الأحداث. وتناص يعيد للأذهان فكرة مرسيا الياد عن العود الأبدي. أو منطق الدائرة. حيث أن الأسلوب يضطر دائما لتكون نهايته عند نقطة البداية في الموضوع.

و للتوضيح. ليالي الأنس هي إعادة كتابة لشقة في شارع أبي نواس. و (أخبار آخر العشاق) هي توسيع للشارع الجديد. و(الحكاية من الداخل) هي إعادة لملابسات (الجنائن المغلقة) وهكذا ...

إن تصفح أعمال برهان الخطيب الأخيرة، وتصفح يعني، القراءة صفحة صفحة، وسطرا سطرا، في نيّة البحث عن علامات متميزة، أو عن توقيع الكاتب ورسالته (بلغة دريدا)، يؤكد انه يكتب يستعمل لغة عربية ولكن بتراكيب لغات غريبة.

فالعلاقة بين المفردات مسكونة بنوع من القفز فوق البنية. أو قانون الأدب الذهني. بمعنى انه لا يلتزم بالشكل التقليدي للغة.

حتى المحدثون في الستينات ومن أهم أبطالهم غادة السمان ومحمود جنداري لا يضحون بأسماء الوصل ولا بنحو المفردات.

فالجملة لا تبدل من العلاقة بين الفعل والفاعل ولا تغير من مكان إشارات التنقيط أو حركات الإعراب من اجل تشكيل جو إيقاع يصبح جزءا لا يتجزأ من الأسلوب.

قد تجد ذلك عند الكلاسيكيبن الجدد أمثال احمد شوقي وخليل مطران الذين عربوا مسرحيات شكسبير. ولكن حتى في هذه الحالة نحن أمام منطق المرايا الفنية. حيث من المفترض أن يكون الإسقاط ضمن جو الحالة. يعني ضرورة نقل شعرية دراما شكسبير من غير التضحية بمناخ حساسيتها.

و لم تجد هذه المتلازمات أذنا صاغية عند الجيل اللاحق الذي نقل نيرودا وغوتة وبودلير وغيرهم. فقد التزمت الترجمة بالتراكيب والصور ولم تلتزم بروح موسيقى النص. علاقة ترتيب المفردات في الفراغ الألسني.

لقد اصبح ترتيب المفردات وحركة الجملة على المحور الأفقي من أهم علامات أسلوب برهان الخطيب. وتفرع عن ذلك إهمال بعض حركات الإعراب لتكون الجمل متوازنة. ومتلاحقة. بطول وحجم واحد. وبإيقاع لا يختلف عن القافية والروي إلاّ بالنذر اليسير.

فهل هو يحاول أن يصعد النثر ليكون محل الشعر. هل يريد كتابة رواية شعرية تتأمل الإيقاع المضطرم للنفس التي لا تجد بديلا عن مواجهة الذات (بمطلق المعنى) والماضي (بما ينطوي عليه من عظات وعبر محددة وخاصة)..

و ليكون الكلام مفهوما لا بد من بعض الأمثلة.

فيما يتعلق بترتيب المفردات يستفيد النص من كل قدرات اللغة العربية على التسامح والتفاعل. من حذف وتورية وتقديم وتأخير. من ذلك قوله:

بعد فترة زوجها يعود.

حاجبها يرتفع تنبهه.

تسلم على خلدون جواري تخرق صمتها.

لغزها مصنوع والعتب مرفوع لمن يريد الأنس ويأبى فيه الضلوع.

لذلك سر.. استمر قد نقف عليه.

فرز الحقيقية عن وهم برواية لها ترتيب، معه الروائي في جدل غريب مريب.

المرور إلى مصادر المياه الطاقة والمعرفة.

لا شك ان لدى برهان الخطيب تفسير معقول. ولا شك ان لديه حكمة ذات مغزى. فهو خير من يعرف أسرار كتابة رواية مشوقة تلهب العاطفة وتحرض الذهن على التفكير. وروايته (شقة في شارع أبي نواس) تعيد للأذهان أسرار وخبايا (القاهرة الجديدة) لشاغل الدنيا ومالئ الناس، نجيب محفوظ.

و نفس الشيء ينسحب على روايته (على تخوم الألفين). التي اعتقد إنها (هوى وكبرياء) عراقية. تلتزم بكل مقاييس النص وتضيف له شيئا من الواقع النفسي المدمر الموشك على إشهار أزمته في مجال الروح.

و كأنه يضع فن الأدب على المحك. فهذه الرواية هي أدب بجدارة. وليست خيالا فنيا. إنها محاولة مع سيرة تحتاج للتصعيد والشرح.

لماذا يريد كاتب سياسي أصلا لا يرى من الواقع غير الأزمات والفتن وان كان يحاول تجميلها بقليل من الحب والغرام والعواطف أن يضع الأسلوب عند هذا المفصل الشكلاني.

هل هو تحت تأثير الغربة. حيث انها لم تعد مجرد انفصال عن المكان ولكنها أيضا محاولة للبحث عن ملجأ في الذهن الحاضن.

أم انه يحاول أن يعيد فن الرواية إلى لحظة البدايات. عندما كانت من غير هوية. وتعتمد على نشاط التعريب والاقتباس. وفي الذهن فرنسيس المراش وجماعته.

من غير المجدي أن نضع الأسئلة فوق التطبيق العملي.

و لكن هذه الظاهرة التي تحولت إلى قانون في رواياته بعد عام ٢٠٠٥، لا يمكن أن تمر مرور الكرام.

و هذه الأمثلة الإضافية تقرب الصورة للأذهان.

يقول:

ذلك القمر الفتان المحرض على فلتان، يطرحني تحت سماء باهرة لا أنام، صريع هواجس ورؤى وأحلام.

لو حذفنا حرف " القافية" تصبح الجملة:

ذلك القمر الفتان المحرض على الشرود، يطرحني تحت سماء باهرة لا أغلق عيني أمامها، وأغرق في هواجس ورؤى وتخيلات.

و بمقارنة بسيطة مع أية فقرة من رواية لكاتب غربي، ستلاحظ التطابق، إلى درجة التماهي

مثلا ورد في فن الهوى وهو نص دراما شعرية لأوفيد ما يلي:

حين غفا سر قواه، خصلة شعره الذهبية، / منحتها خصم أبيها عربون هواها. ص ٥٢ ترجمة الدكتور ثروت عكاشة. الهيئة المصرية العامة للكتاب. ١٩٧٩.

و بالمثل ورد في مكبث لشكسبير وهو نص غني عن التعريف ما يلي:

إنه يجرأ على الكثير،/ وهو إلى معدن ذهنه المقدام/ يتمتع بحكمة ترشد شجاعته/ إلى الفعل بأمان... إلخ... ص ١١٠. ترجمة جبرا ابراهيم جبرا. سلسلة من المسرح العالمي، الكويت. ١٩٨٠.

يتبادر لذهني أن برهان الخطيب يدعونا للعودة إلى فجر الرواية. قبل أن تتبلور ويصبح لها قالب ومعايير. وحينما كنا نقتبس عن الغرب ونستعير منهم الأدوات.

ما أشبه اليوم بالأمس.

إنها حكمة مشهورة ولربما يريد تدويرها وتذكيرنا بها.

لا أتردد لحظة في القول إن برهان الخطيب يحاول إعادة الاعتبار للفكرة في الرواية على حساب الحبكة. وهذا مبرر بضوء مغامرات سابقة منها أعمال حركة الرواية الجديدة في فرنسا.

و منها مغامرة الكاتبة الكندية ان كارسون anne carson التي تكتب الرواية بترتيبات شعرية. بمعنى انها حاولت ترتيب تفاصيل العمل الروائي بذهنية شاعر.

و لكنه اختلف حتى عن هؤلاء بنقطتين: أنه لم يهمل المضمون النفسي للشخصيات وإنما أكد عليه. وانه لم يهتم بفكرة الشعرية نفسها وإنما بقشور قانون الشعرية. وفي المقدمة الموسيقى. أو التوازي والترادف في الأصوات. كأنك أمام كفتي ميزان.

البنية في كفة. والأسلوب في الكفة الثانية. وأرجو الانتباه ان البنية هي كتلة لها حجم والأسلوب هو شكل هذه الكتلة.

ولكن تبقى المشكلة الأساسية كأنني أعيد كتابة أعماله من خارجها.

يعني أتكلم من وراء مقاصد الكاتب وعمله. فهو لا يهدف لتوصيل الرسالة التي اعمل على تفكيكها وشرحها.

ولي بهذا الخصوص تعليق.

ليس من الضروري أن يتفاهم الكاتب مع قارئه. كذلك ليس من المؤكد أن تصل فكرة الكاتب للقارئ. وأحيانا يمكن أن يحصل العكس. أن تكون الأسرار والإشارات الجانبية أقوى وتهدم روية الكاتب.

وأقوى دليل على ذلك سياسة من يمشي في نومه. انه لا يدرك انه يمشي ويعتقد انه في السرير يغط بالنوم البريء والوديع.

في مثل هذه الأعراض (ولها علاقة بتناظرات لا أعرفها شخصيا ولكنها تعكس اللاشعور) أنت تستدل على الشيء ليس بذاته وإنما من آثاره. من المتبقي الذي يتحول مع الزمن لقرائن.

وهنا يبدأ سيناريو الفرق بين القول والفعل. النظري والعملياتي.

فكل روايات برهان الخطيب الأخيرة تحمل آراء عن فن الرواية وفلسفتها ومعاني الأدب وفحواه والمقصد منه. وأجد إنها آراء تلعب على طرفين.

تحليل بالإيحاء. أو تفسير ذاتي لبعض أعماله.

وآراء عامة تعكس رؤيته ومفاهيمه وطريقته في قراءة الظاهرة الأدبية.

صالح الرزوق

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى