الأربعاء ٢٤ حزيران (يونيو) ٢٠١٥
بقلم هاجر عبد الله مساعد

لحقول القمح حكاية

تحت سماء زرقاء صافية ، غيوم بيضاء تتسابق فيما بينها ، كأنما تثبت للرياح من منها هي الأسرع ، نسيم هواء عليل يداعب أشجار نخيل برقت خضرتها مع تخلل أشعة الشمس بينها لتتراقص على وتيرة نغم واحدة ، امتدت أشعة الشمس لتنير حقل القمح منسابا مع النسائم المتعاقبة ، سطع اصفرار لونه وغدت حبيباته نبراسا مضيئا حتى كاد يعميني ، قاطع ذلك المنظر الخلاب ولد صغير مسرعا في مشيه يقفز بين تارة وأخرى مدندنا ببعض الأغنيات الشعبية ، حاملا دلوا يتمايل بين يديه ، يقطف من ذلك الحقل خلسة، وسرعان ما اختفى بين أشجار نخيل حدت الحقل في نهايته ليمتد انتشارها إلى المدى البعيد .
بدأ الفلاحون بالظهور أفواجا للبدأ بأعمالهم اليومية، تعالت ضحكاتهم وتراحيب الصباح ، وزعوا أنفسهم وتمركزوا في مناطق محددة حفظوها عن ظهر قلب، لمعت جباههم متهيأة ليوم طويل مرهق مشمرين عن سواعدهم طالبين من المولى عز وجل بركة في عملهم ، هذا هو صباح هذه القرية الصغيرة في ولاية الجزيرة* الذي أسرني بدفئه وهدوءه ، وأعاد الطمأنينة إلى قلبي وأنا أراقبه جالسا أسفل شجرة نخيل من على تلة مقابلة لحقل القمح ، التقطت أذناي صوت بدا لي مألوفا
فريد ..يا فريد .
التفت إلى مصدر الصوت ، اقترب أحدهم بدا عليه كبر السن مرتديا جلابية ناصعة البياض كملاك ظهر لا أدري من أين ؟! يسير متكأ على عكازته ، دققت لأعرف هوية القادم، ، إنه العم رضا .
نهضت من مكاني مسرعا إليه مقبلا رأسه قائلا :
صباح الخير يا عم رضا .
ارتسمت ابتسامة طيبة على وجهه وضمني إلى صدره ، قال بصوت متحجرش لكبر سنه :
صباح النور ياولدي ، استيقظت باكرا وجئت إلى هنا دون أن تشرب شاي الصباح الذي تعبت الحجة نادية في إعداده ، أيعقل هذا يا فريد ، هيا بنا إلى المنزل لشربه فالجميع منتظرون .
لف العم رضا ذراعه حول كتفيّ وضحك بصوت عال قائلا :
لم تتغير مازالت عاداتك كما هي يا فريد .
العم رضا من أعزأصدقاء والدي المرحوم ، يقطن في إحدى القرى الصغيرة في ولاية الجزيرة ، كنت أقوم بزيارته على الدوام بناية على وصاية والدي ، إلا أنني غبت عنه فترة طويلة جدا بسبب العمل ، فكان لا بد لي من زيارته في أقرب وقت ممكن .
بعدما تبادلنا أحاديث مطولة وعدنا بذكرياتنا إلى الوراء تذكرنا فيها والدي الطيب ومغامراته الشيقة كنت مشدوها ومشتاقا لأحاديث عمي رضا عن انجازاته ومافعله من أجل أرضه وأهله في القرية ، لم أنتبه للمسافة التي قطعناها لأجد نفسي أمام منزله .
كان منزلا متواضعا ، من الطراز القديم مبني من الطوب ، به ثلاث غرف ، وغرفة معيشة لاستقبال الضيوف ، يقبع بيتان صغيران مصنوعان من القش و الطين أو كما يسميه البعض (بالقطية ) على الطرف المقابل للمنزل يبعدان عن المنزل مساحة قدرها 12 مترا ، استغلت زوجة العم رضا السيدة نادية هذه المساحة حيث حولتها إلى جنة خضراء قسمتها بشكل هندسي ، في المنتصف ممر طويل يفصل بين الجانب الأيمن والأيسر ، شتلتها بنباتات زينة وسورتها بأشجار نخيل وليمون .أحبت السيدة نادية الهواء الطلق وكأي سيدة سودانية أحبت الاجتماعات الأسرية ، فأمرت ببناء مجلس صغير بنيت جدرانه الثلاثة من القش وأبقوا على الواجهة مفتوحة لدخول ضوء الشمس ، وسقف بسعف نخيل لون بطريقة خلابة .
هذه الأسرة البسيطة لم تكن تملك الكثير لتعمير منزلها بأحدث الأثاثات والزينة ، لم يتحسروا يوما على حالهم بل استمروا في العيش ببساطة وسعادة قانعين بحالهم ، حامدين ، مستغلين ما وفرته لهم الطبيعة ومبتكرين فيها ، لهذا أحب والدي المجيء إلى هنا دائما لينسى زحم المدينة والضوضاء وينعم براحة البال.
علت القهقات فعلمنا عندها أن أهل المنزل مجتمعين في المجلس ، دخلنا عليهم مسلمين ، كانوا جالسين على الكراسي وأمامهم صينية الشاي ، زوجة العم رضا الحجة نادية ، ابنهم وليد في الثلاثين من عمره نائب مدير مصنع للقمح والشابتان إيناس في عمر الرابعة والعشرون تعمل كمهندسة معمارية في الخرطوم ، تأتي إلى القرية في الإجازات ، والأخرى تسنيم التي في عمر التاسعة عشرة، طالبة جامعية في كلية الآداب ، انضممنا إليهم ، جلست بقرب وليد والعم رضا، فبادر وليد بسؤالي على الفور :
أين كنت يا شاب ؟ أهي رومانسيات الصباح ؟
ضحكت الحجة نادية ثم ناولتي كوب شاي قائلة :
فريد منذ عرفته إنسان حساس ومشاعره نبيلة .
تناولت كوب الشاي من الحجة نادية دون أن أعقب على كلامهم الذي أصابني بقليل من الخجل ثم بادرت تسنيم لتسألني باستحياء :
أخبرنا أكثر عن عملك يا فريد ؟ هل أنت مستمتع بحلك للقضايا التي تعرض عليك ؟
أجل ، لكني لا أسميه استمتاع بل مغامرة أخوضها لأحصد الخير منها ، فلا يهدأ لنا بال دون أن نردع الشر ، هذا ما أقسمنا عليه في بداية مسيرتنا.
التقط بعدها وليد القفاز قائلا :
لهذا السبب أنت في قمة سلم النجاح يا صديقي .
شكرا لك يا وليد ، ماذا عن عملك ، كيف هي الأمور في مصنع دقيق القمح ؟
نظر إلي وليد باستياء بعدها تنهد قائلا :
كانت تسير على أحسن ما يرام ، إلا أن تناقص عدد الفلاحين واتجهاهم لأعمال تجارية أخرى ، حتى العمال الذين يعملون في المصنع ، بدؤوا بالانسحاب شيئا فشئيا ، لذا تراجع إنتاجنا للقمح .
بدا على وجهي التساؤل ،أدرك وليد ذلك لذا تابع حديثه قائلا :
في الحقيقة يا فريد ، لهم الحق في ذلك ، فالفلاحون مثلا ، لا يزالون يستعملون الأدوات اليدوية التي ترهق الجسد وتهدر الكثير من الوقت ، وفي النهاية يجنون البسيط فقط بسبب الإنتاج الضعيف ، وكذلك الحال للعاملين في المصنع ، هم بحاجة إلى تحفيزات ودعم دائم .
تدخلت إيناس بكل جدية سائلة :
إذا ما هو الحل يا وليد ؟
أن أقلل من دخلنا و دخل العاملين الكبار لفترة وجيزة لكن مع توفير إحتياجاتهم الأساسية وأستعمل ما جنيناه في سبيل شراء أدوات وأجهزة حديثة تسهل العمل وتختصر الزمن وبالتالي تساعد في زيادة الأيدي العاملة بعد تحفيزهم لنحصد النتيجة ألا وهي زيادة الإنتاج ، قمنا بإحصائيات عدة واستشرنا الفلاحين و العاملين في المصنع ، وأبدوا إعجابهم بالفكرة ، لكننا مازلنا نعمل عليها وستنجح عما قريب بإذن الله .
أومأت برأسي إيجابا على ما قاله وليد .
لطالما أعجبني دماغك المفكر يا وليد ، تستحق منصبك هذا بكل جدارة ، فحرصك على التميز في عملك وغيرتك على أرضك هما سبب تميزك وحياتك السعيدة .
طبطب العم رضا على كتفي وكتف وليد قائلا :
أها ، أنتما الإثنان في أحسن أحوالكما ، ينقصكم فقط عش الزوجية ، والذي لا أدري متى سيكون .
صمت كل منا نتبادل النظرات عاجزين عن الرد على هذا السؤال ، قاطعت نظراتنا الحجة نادية بدعاء طيب :
يارب افتحها عليهما لنفرح بهما في القريب العاجل .
غمرتني سعادة كبيرة لتواجدي بين أسرة العم رضا ، تنوعت الأحاديث والقصص الشيقة ، ولم تتوقف الزيارات بين هذا الجار وذاك ، القريب والبعيد ، قضيت يوما لن أنساه بين طيات الزمان ، أنساني زخم الأفكار الهائلة التي كانت تحتل مكانا في رأسي كل ليلة ، إلا أنني في لحظة ما انتابني الحنين لمكتبي ، فليس من عادتي التفرغ تماما عن العمل كل هذه المدة ، لاحت أمامي جلساتي مع فوكس وأنا أراقب جميع من حولي ، أجل هم مختلفون عن هؤلاء ، في أفكارهم في أسلوب حياتهم ، لكن سيظل لهم الفضل في وضع بصمة في ذاكرتي .
تمت دعوتي في تلك الليلة إلى جلسة إجتماع لرجالات القرية مع عمدتهم السيد إسماعيل في مجلسهم الخاص ، كان السيد إسماعيل، في الخمسين من عمره ، طويل القامة معتدل الوزن، شديد السمرة ، ملامح وجهه حادة ، مميز عن البقية بشاربين عريضين ، صعب المراس إلا أنه شديد الذكاء.
احتشد المكان بالرجال من جميع الأعمار ، تبادل جميع الحاضرين نقاشات فيما بينهم بخصوص موضوع واحد ، لص واحد يقوم بسرقات متتالية من المنازل والبقالات ، متخصص في سرقة الأطعمة وجميع أنواع الفواكه والخضار .
أوقف السيد إسماعيل جميع النقاشات الجارية ورحب بي مقدما شخصي إلى جميع الحاضرين ، استقبلني الرجال بسعة صدر وبوجوه بشوشة ، إنهالوا بعدها بطرح الأسئلة والشكاوي المتكررة ، طمأنتهم ببذل قصارى جهدي في إيجاد الفاعل وأنا أقول لنفسي : مكتوب عليك التعب يا فريد .
بعد انتهاء تلك الجلسة وشروع الرجال بالرحيل ، قدم إلي العمدة إسماعيل من بين تلك الحشود قائلا :
أعتذر يا سيد فريد ، فأنت لم تأتي إلى هنا لسماع الشكاوي ، تركت أشباح القضايا بخلفك وهاهي تطاردك الآن .
لا بأس يا سيد إسماعيل ، هذا هو واجبنا ، توفير الأمن أينما كان .
رمقني السيد إسماعيل بنظرة غيرة تبعتها ابتسامة تخفي عدوانية تلك النظرة ، سلم علي مودعا ثم غادر ، كان وليد مراقبا لما حدث ، مد ذراعه حول عنقي وهو ينظر إلى العمدة مغادرا .
لا تبالي به يا فريد ، فهو يكره كل من يفوقه مهارة ، خاصة من يصغره سنا ، تعودنا عليه ، إنه عمدتنا .
اصطدم بنا أحد الخارجين ، فالتفت إلينا معتذرا :
آه ، هذا أنت يا وليد ومعك زائرنا الجديد ، أنا حقا آسف ، لم أنتبه لكما من بين هذه الزحمة ، مرحبا يا سيد فريد ، أدعى مؤيد إسماعيل سررت بلقائكم ، والآن أعذراني فأنا مستعجل لعمل علي إنجازه.
أشار وليد إلى مؤيد وهو خارج معرفا عن هويته قائلا :
هذا هو مؤيد يا فريد ، ابن عمدتنا ، لا يظهر كثيرا ، يحب الإنغماس في عمله فهو من أمهر الأطباء في قريتنا، بعكس والده الذي لا ينفك عن الثرثرة والصراخ .
ضحكت من سخرية وليد الزائدة ، فكما يبدو أن أهل هذه القرية متنوعون في شخصياتهم وأساليبهم ، لذا علي الإستعداد للقادم ، فمن يدري ما قد تؤول إليه الأحداث خاصة بعد أن أوكلوني بمهمة التحقيق في لصهم الجائع كما سميته .
نهضت في الصباح الباكر ، عبرت حقول القمح والطرقات التي عبقتها روح الطبيعة حياة ، و تلك الطيور المغردة تملؤني طربا وتهز كياني وأنا أنظر إلى تلك الأزهارالملونة كالعرائس ، رؤيتها أشاعت الطمأنينة في قلبي مواعدة إياه بالحب الأزلي ، صبحت عليها بالروح الإنسانية وأرسلت إليها التحايا في نظرات حب زادتها خجلا فانحنت لتخفي نسائم الصباح خجلها ،ثم قادتني قدماي إلى مركز عمدة القرية بينما بقيت روحي معلقة بسمت الطبيعة ، نظرت إلى ساعة يدي لأجدها تشير إلى التاسعة صباحا .
سلم علي شرطيان كانا يحرسان المركز بحرارة ، ثم قادني أحدهم مباشرة إلى مكتب العمدة ، طرق الشرطي الباب ودخل للعمدة معلنا عن وصولي ، عندها خرج الشرطي آذنا لي بالدخول .
وقف السيد إسماعيل مرحبا ، صافحني طالبا مني الجلوس ، إلا أن نظرته التي رمقني بها مسبقا لم تتغير ، بدأ بالتحدث إلي بعطرسة موجها نظره إلى النافذة التي أمامه متجنبا النظر إلي .
أشكرك على المجيء يا سيد فريد ، وبما ...

طرقات على الباب قاطعت حديثنا ، دخل الشرطي قائلا :
سيدي قام شرطي بإلقاء القبض على السارق ، وجده متلبسا عند أحد المنازل أثناء دوريته .
تهللت ساعتها أسارير العمدة وبابتسامة ماكرة تنم عن انتصار صاحبها بعد خوضه معركة عويصة أمر الشرطي قائلا :
أدخلهما حالا .
دخل علينا الشرطي ومعه ولد حافي القدمين ثيابه بالية جسده الضعيف أنهكته مشقة الحياة ، بدا عليه أنه في الثالثة عشرة يرتعش من شدة الخوف حتى لم يكد يستطع الحراك فلم يجد الشرطي وسيلة سوى جره من قميصه صارخا في وجهه مأنبا والفتى يتوسل إليه طالبا منه السماح، تأملت الفتى متسائلا في قرارة نفسي مخاطبا إياها :
لا أدري لما أشعر وكأنني رأيت هذا الوجه من قبل ..أه أجل الآن تذكرت ، لاحت أمامي في تلك اللحظة صورة الفتى الذي كان يركض في حقل القمح مسرعا ومبتهجا.
ما إن وصل إلينا الشرطي حتى قام العمدة من كرسيه ووقف أمام الفتى ، احمر وجهه من الغضب حتى غارت عيناه ، رافعا أحد حاجبيه إلى الأعلى ممرا يده على شاربه ، لم أدري ما كان ينوي العمدة فعله بقيت مراقبا ومترقبا للخطوة التالية .
فجأة ، قام العمدة برفع يده وصفع الولد الصغير بقوة أحسست بأن فكه قد اقتلع من مكانه ، وقع الولد أرضا باكيا من شدة الألم ، لم أتوقع تصرفا كهذا ، صدمت بقوة ، تسارعت دقات قلبي ، بل زادني ألما بكاء الولد وبحة بصوته أبرزت عظام صدره الضعيف .
صرخ العمدة في وجهه قائلا :
أيها السارق الوغد ، الويل لك، سألقنك درسا لن تنساه أبدا .
تناول عصاة ليضربه بها وجره من قميصه ليرفعه عن الأرض ، إلا أنني تدخلت في تلك اللحظة ، أمسكت بيدي المرتعشة غضبا بقوة يد العمدة ، جعلَته يرجع إلى الوراء ، تسمر في مكانه مستغربا ، محاولا تفسيرما رآه أمامه بنظراته إلي في استغراب ، نظرت إليه في العينين مباشرة مأنبا تصرفه بصوت حاد :
ما هذا أيها العمدة ، أهكذا يعامل الأطفال ؟! هذه ليست بأخلاق عمدة يا سيد إسماعيل ، ولا أظن أن هذه هي الطريقة المثلى لحل المشاكل والقضايا لشخص في منصب عمدة .
نظر إلي السيد إسماعيل بعينين متسعتين متجهم الوجه ، ينبئ عن رفضه لعتابي واعتراضه على تصرفي ، ثم ضرب على طاولته التي أمامه بالعصا التي كان يحملها في يده صارخا في وجهي :
ماهذا يا سيد فريد ؟ إنك تهين منصبي ومكانتي الاجتماعية ، وليس لك الحق في الحكم على عملنا هنا ، لنا الخبرة الكافية في التعامل مع هذا النوع من البشر فأرجو أن لا تتدخل مرة أخرى .
هدأت من غضبي بعد رؤية العمدة بهذه العصبية ومدى تحجره الفكري وفكرت بعقلانية ، فلا يمكن إطفاء النار بالنار ، لابد لي من احتلاال ثقتهم التامة بي لحل هذ القضية فكما يبدو أنني غدوت من أحد أعداء العمدة الجدد.
سيد إسماعيل لقد أكرم الله الخالق الإنسان وأعزه ، فكيف لنا نحن البشر أن نخل بهذه القاعدة ؟! ، لم أقصد أن أهين عملك فمن واجبك الحفاظ على النظام إلا أن هناك قواعد لا يمكن المساس بها ، إنه ولد صغير ولابد له من سبب للسرقة إن ثبت أنه الفاعل .
ضحك العمدة بقوة دوى صداها بين جدران المركز بعد جلوسه على الكرسي رافعا إحدى قدميه على الأخرى ثم التفت إلي قائلا :
مهمتك التحقيق وليس تقديم دروس في الأخلاق ، أم أنك تريد أن تقر أنك عاجز عن العمل في هذ القضية ؟
استفزتني كلمات العمدة ، كم تمنيت في تلك اللحظة لو أني حملت العمدة وركلته بعيدا ليسقط من نافذة مكتبه ، إلا أنني لن أترك شخص مثل هذا الرجل يدني من مستوى تفكيري .
اقتربت من كرسي العمدة ثم دنوت إليه مخاطبا بنبرة مهددة وابتسامة مستفزة :
إن علمت أن الجوع هو سبب السرقة ، فلن تفرمن العقاب يا سيادة ... العمدة .
التفت إلى الشرطي الذي كان ممسكا بالغلام قائلا :
ايها الشرطي أفلت الغلام سآخه معي ، فعلي البدء بالتحقيق معه .
أخذت الصبي بعد أن أفلته الشرطي غير آبه لردة فعله أو فعل العمدة ، لم أفكر في الالتفات للوراء حتى ، بل تابعت المضي قدما حتى خرجت من المركز ، عندها تنفست الصعداء ، وقفت أمام المركز متأملا ، طبطبت على كتفي الولد وابتسمت في وجهه ، لكن سرعان ما أشاح بوجهه بعيدا ..
لا تخف أنت الآن بين أيدي أمينة ، بعيدا عن أولئك الوحوش .
نظر إلي مستغربا ، كأنما يتسائل عن هذا الرجل الغريب ؟ من أين أتى ؟ ولم ظهر ؟ ولم يقوم بتمثيل دور البطل المنقذ؟.. تساؤلات عبرت ذهنه عن هويتي .. طلبت منه السير معي للبحث عن مكان يمكن الحديث فيه ، إلا أنه رفض متسمرا في مكانه سائلا :
من أنت أيها الغريب وماذا تريد مني ؟
احترمت موقفه وأجبته عن سؤاله قائلا :
لك كل الحق في الرفض ، فالتصرف السليم هو عدم مرافقة الغرباء كما فعلت أنت ، ولكي تطمئن أقول لك إنني المحقق فريد ، وقد كلفني رجال القرية بالتحقيق في سرقات متتالية لم يعرف مسبهها حتى الآن ويبدو أنهم وضعوا أصابع الاتهام عليك .
طأطأ الفتى رأسه صامتا غير مجيب .
تابعت حديثي قائلا :
حسنا يمكننا السير والتحدث عن سبب إمساكهم بك ، فإن كنت مظلوما أعدت إليك حقك كاملا .
بدأنا بالسير وقد رسمت خطة سير لنصل بها إلى منزل العم رضا .
كان الفتى يسير رافعا رأسه لا يلتفت يمينا أو شمالا ، لذا بادرت بتلطيف الجو والبدأ بالسؤال :
ولكن لم تخبرني بإسمك يا صديقي ؟
عقد الصبي حاجبيه ، ولم يلتفت إلي وأجاب بعجرفة قائلا:
هل هذا ضروري ؟ لا أعتقد ذلك .
رفعت حاجبي متعجبا من ردة فعله لكنني استمريت في طرح الأسئلة غير آبه لعجرفته .
وأين هما والديك ؟
ليس لدي والدين ، توفيا منذ زمن .
رحمهما الله وأسكنهما فسيح جناته ، هذا يعني أنك لا تملك مكانا يؤويك أليس كذلك ؟
توقف الفتى عن السير ثم رمقني بنظرة ألم وغضب .
يكفي هذا ما الذي سيفيدك من طرح هذه الأسئلة لا أعرفك ولا تعرفني .
قاطعت حديثه :
بل أعرف شعور من فقد والديه حدث لي ذلك وتجرعت ساعتها كؤوس المرارة والحزن لذا أعتقد أن حالك من حالي .
ضحك الفتى ضحكات متقطعة ظهرت فيها بحات حزن لم يستطع أن يغالبه فأسرعت في سؤاله مستغربا :
ولماذا الضحك يا هذا ؟!
أتقول أن حالنا من بعضنا ، أنت تملك المال والمنزل والأصدقاء والطعام والعمل ، أما أنا فلا أملك سوى أ..
توقف الفتى فجأة دون أن يكمل كلمته مرتعدا، فيبدو أنه استدرك خطورة ذكر الكلمة التي توقف عندها وماتت على لسانه.
أخذت أنظر إلى الفتى لعله يجود بتلك الكلمة لكنه لم يفعل بل واصل السير متقدما علي ، فما كان علي إلا اللحاق به .
بعد أن قطعنا مسافة كافية غلبها الصمت واقتربنا من منزل العم رضا ، استوقفت الفتى قائلا :
أرجوك أخبرني ما هي قصتك أيها الفتى ؟ إني أريد مساعدتك حقا.
دفعني إلى الوراء صارخا :
لقد قالها شخص قبلك وبفضله حالنا يرثى له الآن ، ثم شرع في البكاء.
أحزنتني دموعه ولكن سؤالا ألح علي وسط هذا الشجن فقلت له :
انتظر لحظة ؟ أقلت حالنا ؟ هذا يعني أنك لست بمفردك أليس كذلك ؟
انقطع بكاء الفتى ونظر إلي بعينين متسعتين متعجبا من قولي ثم رد علي بصوت متردد :
م..ماذا أنا لم أقل ذلك ؟ لا .. لا هذا ليس صحيح.
أيقنت أن الفتى يخبأ سرا فأردت مطاردة هذا السر غير أن صوت إيناس ابنة العم رضا أفسدت علي خطة هذه المطاردة عندما برزت أمام المنزل وهي تنادي :
فريد ، يا فريد ، الغداء جاهز أين كنت ؟ كنا بانتظترك ؟
قالت ذلك ملوحة لنا ثم اقتربت منا لتعاتبني على تأخري ، فأجبتها :
آسف يا ايناس كثير من الأمور أنستني موعد الغداء وقد انشغلت مع صديقي الصغير ، طلبت منه المجيء معي إلى هنا .
انحنت إيناس لمصافحة الفتى مداعبة خده مبتهجة به مجيبة :
بكل سرور يا فريد ، أصدقاؤك هم أصدقاؤنا بأي عمر كانوا ، ثم أتبعت حديثها بقهقهات لطيفة وسؤال كنت أخشى أن تسأله :
ما هو اسمك أيها الشاب الضغير ؟
صمت لوهلة ثم أجابها مستسلما لمصيره ربما لإطمئنانه لوجود فتاة طيبة مثل إيناس بيننا وإحساسه بدفء يقارب دفء الأم:
اسمي صلاح.
ابتسمت إيناس معقبة على اسم الفتى :
يا سلام ، فعلا وجهك وجه صلاح علينا يا صلاح ، هيا بنا إلى الداخل .
نظرت إلى الفتى بتعابير هو الوحيد الذي فهمها ، آه كم للنساء تأثير على الرجال ، لم يمهلني أن أسأله ، بل أمسك بيد إيناس حتى أصبح أسيرها لا يمكن الوصول إليه ، ضحكت في قرارة نفسي ، عندها أدركت أنه يحمل في جعبته العديد من الحكاوي التي تنتظر تفسيري .
إنهمكت كل من إيناس وتسنيم بتنظيف المطبخ بعد انتهائنا من تناول الغداء ، علت ضحكاتهم من قصص صلاح الشيقة الذي كان جالسا معهما يروي لهما بلطف وإثارة.
تركت الصبي صلاح منهمكا مع الفتاتين وطلبت الاجتماع بكل من العم رضا وابنه وليد ، جلسنا في المجلس وعلامات الاستغراب كانت بادية عليهما ، استعجلني وليد بالحديث مازحا قائلا :
طريقتك في طلب هذا الإجتماع توحي بأنك يا سيد فريد تريد خطبة إحدى أخواتي أنا أرفض ذلك لأنك متزوج بالكثير من القضايا .
احمر وجهي خجلا فقد وضعني وليد في موضع محرج حتى للرد عليه ، ولكن مقاطعة العم رضا لابنه أنقذتني .
يا وليد يا ولدي ، لا تضغط عليه ، أنت تحرجه بهذه الطريقة ، تابع يا فريد ما الذي كنت تود قوله؟
وجهت حديثي للعم رضا قائلا :
في الحقيقة يا عم رضا ، أريد التحدث عن الفتى صلاح الذي أحضرته من مركز الشرطة لاتهامهم له بالسرقات التي اشتكى منها أهل القرية وحقيقة أنا محرج إذ ليس من اللائق إحضاره إلى هنا دون إذنكم ، لكنني لا أملك غير هذا الخيار، لذا أردت الإعتذار .
ضحك العم رضا ضحكات متتالية ثم قال :
شي عجيب يا ولدي ، هل يعقل أن هذا الصغير هو سبب كل تلك المصائب ؟
بدا لي أن العم رضا لم يأبه لتصرفي وأنه ليس بحاجة لإعتذار ولكني لاحظت علامات عدم إرتياح على وجه وليد التي عبر عنها بسؤال عندما قال :
ولكن لماذا أحضرته إلى منزلنا يا فريد وهو الآن يخالط شقيقتي وربما سولت له نفسه أن يسرق شيئا من هنا ؟
أحضرته إلى هنا لكي أتمكن من استجوابه في ظروف أفضل من تلك التي تكتنف المركز فقد تعرض هناك إلى الضرب ومازال الفتى خائفا ولم أفلح في الحصول على أي معلومة مفيدة منه كما أنه الآن يحس بالدفء والأمان ولا يمكن أن يبدي ما ساء من أخلاقه.
عندها غرق العم رضا في تفكير عميق ممسكا بلحيته وقد تغيرت معالم وجهه وبدأ الحديث بجدية ليروي لي حكاية عن الفتى صلاح لم أكن أتوقعها أبدا بل مثلت لي مفاجأة حقيقة .
قال العم رضا وهو يستعيد من ذاكرته صورة الفتى وحكاية تداولت عنه:
يبدو أنني عرفت هذا الفتى ، أذكر أنه قبل ثلاثة أشهر انتشرت قصة بين أهل القرية أن أحدهم أحضر هذا الفتى وشقيق له إلى هنا ثم اختفى ذلك الرجل ، وسرعان ما اختفى بعدها ذلك الفتى وشقيقه وزادوا على ذلك أنه ربما كان مسخا أو ما شابه ذلك ، وعلى كل حال ربما هي قصص يلفقها الناس فكلما كثر نقل الكلام ، كبر حجمه وتغيرت حقيقته .
وضعت يدي على جبيني مفكرا في صمت محاولا امتصاص هذه المفاجأة غير المتوقعة ثم أخذني ذلك التفكير إلى مدى جعلني أدرك أن الحقيقة غائمة ولن يكون من السهل معرفتها مالم يخبرنا بها صلاح بنفسه فهذا الفتى له قصة غامضة ، واستغرقت في تفكيري حتى كاد يقبض علي النعاس وسط ذلك الصمت العميق فهزني وليد من كتفني ليوقظني من سباتي الجزئي وقال لي :
فريد ، أين شردت يذهنك ؟ لا ... إن كان هذا الموضوع قد شغلك بهذا القدر ، إذا وجدت لك العذر في عدم الزواج حتى الآن .
أضحكتني كلمات وليد ، فضربته ضربة خفيفة على صدره كما كنا نفعل في صغرنا .
عاد العم رضا ليقول لي بجديته السابقة :
اسمعني يا فريد ، سنساعدك أنا ووليد للتحدث إلى الفتى فقد غمرني الفضول لمعرفة قصته ، اذهب يا وليد لاستدعائه ولنرى ما الذي سيحدث.
لم تمض دقائق كثيرة حتى جاء وليد بصلاح ، نهض العم رضاليغمر الصبي بالمزيد من الدفء وأمسك يده بلطف طالبا منه الجلوس بيننا ، ما لاحظته على صلاح أنه كان شديد التهذيب مع الكبار، مهذبا في طريقة أكله مع الجماعة حتى في طريقة جلوسه ، بدا عليه أنه تربى على يد أسرة مقتدرة ذات قيم و لم يكن من النوع الذي عاش مشردا لفترة طويلة .
بعدها بادره العم رضا بحديث رقيق فقال له :
أهلا بك بيننا مرة ثانية ، يا ولدي صلاح فيا ابني نحن لسنا أعداء لك صدقني ، ما نحن إلا الأخيار الذين يريدون الأخذ بيدك ومساعدتك في المضي قدما في هذه الحياة دون متاعب ، يبدو أن لك قصة طويلة تعزف عن إخبارها لنا ، وهذا ليس من صالحك ، فكلما تهربت انهالت عليك المشاكل ، لذا ساعدنا كي نساعدك ، أخبرنا كل شي عن عنك.
تدخلت بالحديث بعد انتهاء العم رضا وقلت للصبي صلاح :
أجل هذا صحيح ، وأنا المحقق فريد أعدك بأنني سأ قف إلى جانبك في قضيتك ، لننصرك إن كنت مظلوما ، فقط عليك الثقة بنا وإخبارنا بكل شيء.
تابعت نظرات صلاح الخائفة بيننا و بدأت أوصاله بالارتجاف وغرقت عيناه وسط الدموع فأطرق برأسه إلى الأرض بدأ بالحديث قائلا :
بدأت الأحداث قبل ثلاثة أشهر في أم درمان* ، عندما غابت الشمس وتلبدت السماء بالغيوم ، تغير لونها وامتلأت منذرة بقدوم أمطار غزيرة إلا أنها لم تمطر ، بدأت الريح بالهبوب ، ازدادت قوتها شيئا فشيئا حتى غدت لا تقهر ، كالثور الهائج تدفع بكل ماتراه أمامها للهرب والإنزواء وتبتلع في جوفها كل ما تراه أمامها دون توقف .
اسودت السماء وانقطعت الأضواء في الطرقات ، تعالت الصرخات ومزامير السيارات ، تمايل الأشجاروتخبطها مع بعضها كأطياف ليل هاربة ، كان ذلك ما تخلد في ذاكرتي عندما وقفت أمام نافذة الصالون مع أخي حاتم في منزلنا بانتظار عودة والديّ ، كنا نرتجف من الخوف صامتين وأنا لا أدري ماذا أفعل فقد انقطعت الكهرباء عن منزلنا بل عن الحي بأكمله ، أسدلت جميع الستائر كي لا يعلم أحد بوجودنا وحيدين في المنزل هذا ما أخبرني به والداي، ففي مثل هذه الساعات تكثر السرقات والجرائم ، ، لم يكن من عادتهما تركنا وحدنا كل هذا الوقت وفي مثل هذه الظروف، صعدت إلى الطابق العلوي متلفتا يمينا وشمالا ممسكا بيد أخي حاتم وعند وصولنا هرولنا مسرعين إلى غرفة والداي ، شعرت بأنها ستكون أكثر أمانا فلعل وجودي في غرفتيهما سيحميني من ما قد تحمله الوحدة والخوف الذي تملكني .
صمت الفتى صلاح وقد بدا الإرهاق على وجهه ، إرهاق تلك الذكرى العصيبة وتلك الأوقات العصيبة ، لم نشأ أن نستحثه علىالإستمرار إحتراما لمشاعره إنما فضلنا أن نمنحه ما يريد من الوقت رغم الترقب الذي المثير الذي أصابنا والفضول الزائد الذي اجتاحنا .. وبعد قليل استمر صلاح ليقول :
أجل كنت أشعر بالخزف لكنه لم يمنعني من تمالك نفسي والتصرف بحكمة ، جلست على السرير بينما جلس حاتم على الكرسي الأبيض بقرب نافذة الغرفة لاصراره على ذلك ، كان كل منا يسترق النظر عبر ستائرها المسدلة ، آملين في رؤية ضوء سيارة والديّ من وسط الظلمة التي سادت أرجاء الشارع ، كانت الكهرباء تداعبنا بعودات متقطعة لئيمة لا بعث على الاطمئنان بل تزيد من قلقنا ورعبنا فمازال الظلام يعود أكثر كثافة كلما لمعت أنوار الكهرباء لثوان معدودات وانقطعت .
أشعرني ذلك رغم الخوف ، بالتعب والنعاس، لم أكن أرغب في النوم في تلك اللحظات تاركا شقيقي حاتم قرب النافذة وحيدا لنهب الخوف يراقب عبر نافذته بعينيه الصغيرتين قاومت نعاسي بشدة ولكنه تغلب علي فسقطت على فراش والدي مستسلما للنوم بينما بقي حاتم يراقب قرب النافذة . غفوت ولم أدر كم من الزمن استغرق ذلك ولكن يبدو أنه لم يكن سوى دقائق معدودات فقد تسبب صوت قوي في إيقاظي ، فالتفت إلى حاتم في موضعه فرأيته يضع كفيه على أذنيه ويغلق عينيه وقد بدأ بالاهتزاز والبكاء بشدة.

بدأت حبيبات العرق تتجمع فوق جبين الصبي صلاح فإن رواية مثل هذه الذكريات ثقيلة على أعصاب فتى لم يتجاوز الثالثة عشرة ولكنه إستمر يقول وهو يمسح جبينه بكفة الصغيرة :
لم أعلم ما جرى لشقيقي حاتم ولم أره من قبل بمثل هذه الحالة فتخلصت من فراشي بسرعة وهرولت إلى ناحيته قرب النافذة احتضنته وبدأت أنظر من النافذة فرأيت سيارة والدي وقد اصطدمت بحديد البناء الذي اخترقها تماما فهالني ما رأيت وأخذت أقفز على الدرج مسرعا إلى الخارج تاركا حاتم دون مراقبة آملا في انقاذ والدي من آثار هذا الحادث البشع ولكني وصلت بعد ما فات الآوان ، كنت آمل أن يتم إنقاذهما بإسعافهما سريعا إلى المستشفى ولكنها مهمة تفوق قدراتي فأسرعت إلى جارنا السيد حسين وطرقت بابه فلم يجب ثم طرقت على باب جارنا الذي يليه فأسرع بطلب الإسعاف، لكن والداي واحسرتاه ..
لم يستطع الصبي صلاح أن يكمل حديثه فقد سدت عبرة حلقه وسرعان ما انخرط في بكاء مر فطبطب وليد على كتفه ولأخذ سنظر إليه إلى أن هدأ ثم سأله :
كم عمر شقيقك حاتم ؟
تنهد صلاح ثم أجاب :
خمسة عشر عاما .
إجابته أصابتنا بالدهشة وجعلتنا نتبادل النظرات بإستغراب .
خلفت إجابة الفتى في صدورنا سؤال حائر فأسرعت وسألته :
حاتم أكبر منك سنا وأنت من يقوم برعايته ؟!
مسح صلاح من عينيه ما تبقت من دموع وارتسمت على وجهه الطفولي بسمة خفيفة :
أخي حاتم كما قالت أمي ليس كباقي الأولاد ، مميز في أفعاله له ذكاء خارق ، طيب المعشر، خفيف الظل وقلبه حنون حنو الطير لعشها، آه تركته بمفرده يجب علي أن أذهب إليه فلابد أنه يشعر بالخوف الآن ، ولكن هل تسمحون لي بأخذ طعام له ، أنا متأكد أنه جائع الآن أو قد خرج للبحث عني .
نظر إلي باستحياء قائلا :
في الحقيقة يا سيد فريد ، أنا فعلا ذلك السارق ، لكني لم أجد وسيلة لإطعام أخي غير السرقة ، فقد خاف أهل القرية منا ونبذونا بعيدا عنهم.
شرع صلاح في النهوض راغبا في اللحاق بشقيقه حاتم في مكان موحش لا يعرفه أحد غير أني استوقفته وقلت له :
لن تغادر بهذه السهولة يا صلاح فأنت تحت مسؤوليتي ولكن انتظرني سؤرافقك فمرافقتي ستشكل لك حماية لأني أخشى أن يعترضك أحد من رجال الشرطة مرة أخرى .
نهض وليد ليسرع بتحضير طعام يأخذه صلاح لأخيه ، وقمت بدوري بتقبيل يد العم رضا مستأذنا للذهاب ، جرني من قميصي وهمس في أذني قائلا :
إنها قضيتك يا فريد ، عليك النجاح فيها ، هذا الفتى بحاجة إليك .
أومأت برأسي إيجابا ثم شرعنا بالذهاب.
قادني صلاح إلى المكان الذي يختبأ فيه أخاه ، يا له من مكان وسط غابة وعرة ، كان عبارة عن بيت صغير كالصندوق مصنوع من القش وسط الأشجار الكثيفة أسفل منحدربالقرب من أنابيب توصيل كبيرة لا يمكن تمييزه وليس من السهل الوصول إليه .
لا يمكن لعقل الإنسان تصديق أن هذا المكان يأوي هذين الولدين، في منطقة يكثر فيها الباعوض وقد تصادفهم إحدى الكائنات الزاحفة الخطرة ، كيف يمكنهما تحمل ظلمة الليل في هذا المكان الموحش بمفردهما ؟!، إن بقائهم على القيد الحياة هنا معجزة من المعجزات ورحمة من الخالق سبحانه و تغلب صلاح على هذه الصعاب والظروف على الرغم من صغر سنه أمر يدعو إلى الإعجاب فعجيبة أنت يا أرض القمح ، تصنعين من الفتيان رجالا قبل أوانهم ، أنا واثق أن صلاح لن ينسى لك هذا الفضل من بعد فضل الله .
كان موضع البيت يقع في مكان ضيق وعميق يكاد يتعذر معه الهبوط ولبوصول ، انتظرت في الأعلى وأنا أراقب صلاح الذي بدأ يستخدم حبلا عقده بشجرة عالية مقابلة للمنحدر ،وربطه على وسطه بإحكام ثم بدأ بالهبوط تدريجيا إلى أن وصل ،ثم تبعته بذات الوسيلة فدخل صلاح لتفقد شقيقه وقد بدا عليه القلق .
انفرجت أسارير الفتى صلاح وأحس بالإرتياح عندما وجد شقيقه حاتم نائما فأيقظه وأخرجه من مهجعه للتعرف إلي ، كان حافي القدمين صافحني بخوف واضح ويا للمفاجأة ، الآن عرفت هوية الشخص الذي كان يخافه أهل القرية ، أخذت أتأمله بشكل جيد فأحسست نحوه بعطف كان هناك صغر غير بيعي في ذقنه وميلان عرضي في شق العين مع جلد زائد في الزاوية الداخلية لها وضعف في تناغم العضلات وتسطح في جسر الأنف وطية واحدة فقط في راحة الكتف وبروز في اللسان وصغر في تجويف الفم وتضخم في اللسان مما جعله قريب من اللوزتين في الحلق وقصر في الرقبة ووجود بقع بيضاء خلقية في إصبع القدم الكبير والذي يليه وشق في وتقلص في اليد كانت رأسه ضخمة ووجهه في غاية الإستدارة .
إذا هذا هو حاتم الذي أشاع الرعب في القرية واعتبره البعض مسخا أو جان ونبذوه وشقيقه من قريتهم ولم يعلم أهل القرية أن حاتم مصاب بمرض متلازمة داون، يعاني المصاب به من ضعف عقلي ومعالم وجهه تكون مختلفة من صغر الذقن وتضخم اللسان عن الطبيعي كما يصاحبها تضخم أطراف أصابع اليدين والقدمين .
أخذ صلاح بيد شقيقه حاتم وحمله على ظهره و صعد به متسلقا الحبل مسندا قدميه إلى جانب المنحدر ليسهل عليه الصعود وكنت بدوري أجر معه الحبل لأخفف من الحمل عليه حتى وصلا إلى الأعلى ، اختبأ حاتم خلف أخاه خائفا من هذا الوجه الغريب الذي رآه أمامه ، وبدأ يئن ويشد قميص صلاح إلى أن طمأنه صلاح وأخبره بأنني رجل صالح جاء لمساعدتهما بعدهاعدنا أدراجنا إلى منزل العم رضا فقد بدأت الشمس تلتحم بمغيبها .
غادرت في اليوم التالي متجها إلى العاصمة مصطحبا معي صلاح وشقيقه حاتم بعد ليلة ليلة لا أدري كيف تحملتها أسرة العم رضا وفي العاصمة وبعد جهد جهيد واتصالات متواصلة نجحت في إيداعهما مركز لرعاية الأطفال ، ووقفت بنفسي على كافة الفحوصات الطبية التي أجريت لهما في المركز وتأكدت من سلامتهما ، لم يشأ صلاح أن أتركه في ذلك المركز لكنه كان عاقلا يدرك تماما أن هذا المكان هو ملجأهم الحالي فهو أفضل بكثير من ما كانوا عليه سابقا في القرية ، فهنا يهتمون بهم اهتماما خاصا حيث يوجد معلمون متفرغون لتدريسهم وتدريس أطفال آخرين معهم ، ويهيئون لهم غرف للترفيه وغرفا للنوم ومكتبات ونواد للأنشطة الرياضية ورحلات استكشافية وغيرها من النشاطات التحفيزية ، بل يسعون جاهدين لتنمية ما يملكون من مواهب والتواصل الإجتماعي مع المجتمع الخارجي ، تحدثت مطولا مع مديرة المركز ، أوضحت لها حال هذين الولدين وما قاسياه من ألم وعذاب ووضع حاتم الذي يحتاج إلى رعاية خاصة ، بعد تأكدي من تفهمها واطمأناني لحالهما ، توجهت إلى الغرفة التي كان بها كل من صلاح وحاتم فرأيت من أمر حاتم عجبا .

تلك الساعات القليلة التي قضيتها في مركز رعاية الطفل كانت كافية لتأقلم حاتم ما مثل لي مفاجأة حقيقة فبعد دخولي لغرفة الشقيقين رأيت من أمر حاتم عجبا فقد كنت أظن أن المصاب بمتلازمة داون يكون محدودا في قدراته الذهنية وعاطلا عن المواهب ولكني رأيت حاتم يحمل الأقلام الملونة والريشة ويرسم بإبداع من يملك موهبة حقيقية وفذة على الأوراق البيضاء التي وفرت له فيحيلها إلى لوحات بديعة بريشة فنان مبدع وهو يدندن باستمتاع بلغة خاصة به ويضحك ضحكات متقطعة وقد بدا أن الرسم هو جزأ لا يتجزأ من عالمه الفريد وكلما ينتهى من لوحة يأخذها إلى صلاح ليراها لكن صلاح لم يكن مستعدا للتجاوب معه في تلك اللحظات فقد كان جالسا على كرسيه بعيدا بالقرب من النافذة ، شاحب الوجه وقد أطبق الحزن عليه وبقية من آثار دموعه بقيت على وجنتيه وكأنه كان يستعيد ذكرى والده عادل ووالدته نجاة وذلك التدفق العاطفي والحنان اللامتناهي الذي فقداه في لحظة مأساوية أحالتهما إلى يتيمن ثم إلى متشردين وكادت أن تخلق منه لصا ، وكان واضحا أن حاتم قد ثأثر بحالة الحزن التي اعترت شقيقه صلاح ولكن ذلك لم يمنعه من الاستمرار في الرسم ، كلما أنجز لوحة كان يحملها يعلقها بسعادة على الجدران ، وكأنما يبني معرضا صغيرا للوحاته التي أضحى لها شأن عظيم .
ترك صلاح مقعده قرب النافذة وتقدم نحوي وتشبث بقميصي ودمعتان كانتا تنزلا من مقلتيه على عجل وبصوت واهن ومتهدج قال لي :
أرجوك سيد فريد ، لا تتركنا بمفردنا ، عليك العودة لأخذنا من هذا المكان .
ضممته إلى صدري ماسحا على رأسه ثم أمسكته من ذراعيه وقلت له بصدق :
لن أترككما أبدا مهما كان ، وسأقوم بزيارتكم كل يوم فعلي أن أسألكم بعض الأسئلة وعليكم مساعدتي فيها يا صلاح ، أنا واثق من قدرتك على التأقلم هنا لفترة وجيزة ، فأنت الفتى الرجل يا صلاح ، عليك أن تثق بي يا صلاح .
ابتسم صلاح مطمأننا وأومأ برأسه إيجابا قائلا :
أنا أثق بك سيدي ، لكن ارجوك لا تتأخر .
لن أفعل يا صلاح ، لكن إن استمريت في حزنك هذا ستفقد أغلى ما عندك .
أشرت إلى حاتم وهو يعلق لوحاته مبتهجا ، التفت إليه صلاح بنظرة رافقها بعض الأسى فتابعت حديثي قائلا :
عليك الوقوف بجانب شقيقك كما تفعل دائما ، إنه الآن في لحظات إلهام غير عادية ، لحظات انجازاته وإبداعاته.
كان هذا آخر ما قلته قبل أن أودعهما وأغادر إلى خارج المركز وقد قررت أن أقود سيارتي نحو منزلي لأضع حقائبي ثم أذهب إلى مكتبي مباشرة إلى عالمي الذي أحببت ونذرت له حياتي حيث رفاقي وأعضاء فريقي ، كنت بحق بشوق لكل هذا بعد إجازة كنت أتمنى أن أقضيها بهدوء في ذلك الريف وحقول قمحه خلابة المنظر.
بعد مغادرتي لمركز رعاية الطفل أخذني تفكير عميق ،وأنا أقود سيارتي نحو مكتبي ، كنت أفكر في معرفة خفايا قصة صلاح وشقيقه حاتم وخبايا وفاة والديه وهوية الشخص الذي احتضنهما وسارع بإرسالهما إلى القرية ليتركهما هناك نهبا للمحاطبر يا ترى لماذا فعل ؟ التفكير المستمر أنساني أن أعيد حقائبي إلى المنزل فوجدت نفسي قرب مكتبي ، أوقفت سيارتي وترجلت منها ، انطلقت قدماي كالريح مهرولة على السلالم حتى تعثرت على آخره ، لم آبه للإصابة التي ألمت بي بل واصلت قدما إلى الباب الرئيس ،ففتحته على مصراعيه بقوة ، انتفضت حنين من الصدمة وسقط كوب قهوتها الذي كانت تحمله على الطاولة ألقيت عليها تحية عجلى دون أن أنظر إلى حالها أو أسألها عن ما حدث في غيابي شاخصا ببصري نحو مكتبي، فتحت الباب بقوة ، وعندما شرعت بالدخول ، عدت إلى الوراء موجها حديثي إلى حنين :
اطلبي لي فوكس حالا يا حنين فالأمر طارئ .
لم أنتظر ردها ، واصلت مسيري إلى مكتبي وأغلقت الباب ، بقيت حنين محملقة في باب مكتبي متعجبة من تصرفي ومن ظهوري المفاجئ دون سابق إنذار فالمتوقع أن أكون في إجازتي مستمتعا بأيامي في ذلك الريف وسط عائلة العم رضا غير أنها كانت تعلم أن متعة فريد الحقيقة هي حل ألغاز القضايا والجرائم .
إذعانا لأمري ، أسرعت حنين بضرب رقم المحقق فوكس على الهاتف وهي ترفع طرف نظارتها إلى الأعلى مسرجة خيول نظراتها نحو باب مكتبي رافعة حاجبيها متعجبة ، عندما رد عليها فوكس قالت له :
سيد فوكس لقد عاد سيد فريد لتوه وهو يريد حضورك الآن لأمر طارئ .
حاضر سأكون معكما بعد قليل فأنا في الجوار .
لم تمر سوى دقائق حتى وصل فوكس إلى المكتب ، لحسن الحظ أنه كان يعمل في قضية لم يكن مسرحها بعيدا عن مكتبنا فدخل علي مسرعا وأمارات الحيرة بادية عليه ، نسي أن يغلق الباب من خلفه متيحا لحنين فرصة تروي بها حب استطلاعها الذي تمكن منها ، فاقتربت من الباب مختلسة النظر إلي علها تفهم ما يدور ، سلم علي فوكس وبادر بالسؤال :
ما الأمر يا فريد ؟ لماذا قطعت إجازتك وعدت إلى هنا ؟
عندما هممت بالإجابة لمحت لمعان نظارات حنين من على طرف الباب ، ابتسمت لتصرفها الشقي هذا وناديتها هي الأخرى إلى داخل المكتب ثم طلبت منهما الجلوس ، صمت لبرهة بينما تبادل كل من حنين وفوكس نظرات مستفهمة ثم رفعت رأسي لأزيل الغشاء عن حيرتهما قائلا :
في الحقيقة هناك قضية غامضة أقوم بالتحقيق فيها عن ولدين يتيمين أحدهما في الثالة عشرة والآخر في الخامسة عشر والأخير مصاب بمتلازمة داون .
قاطعت حنين حديثي واضعة يدها على صدرها متألمة : يا له من مسكين .
بعدها قمت بسرد كل ما جرى في القرية إلى لحظة وصولي إلى المركز .
إستغرق فوكس في تفكير ثم قال :
أيعقل كل هذا يا فريد ؟! .
عاد فوكس إلى الوراء ليسند ظهره على الكرسي عاقدا يديه عائدا إلى تفكيره العميق فأحسست أنه قد بدأ يربط الأحداث بأخرى فأنا أعرف صديقي فوكس جيدا فسألته على الفور :
فوكس هلا أخبرتني بما يدور في ذهنك ؟
في الحقيقة يا فريد أذكر أن هناك قضية مشابهة لقضية وفاة الوالدين في أم درمان ووفاة جارهما في نفس الليلة ، وإن لم يخب ظني فما يزال التحقيق فيها مستمرا لمعرفة الأسباب التي أدت إلى وفاتهم أو مقتلهم .
طلبت من حنين أن تسرع في الحصول على معلومات مفصلة عن تلك القضية وبدأت بترتيب مخطط العمل مع فوكس وتدوين ما يدور في ذهني من أفكار وتحليلات مبدئية لمناقشتها سويا.
بعد مضي وقت قليل طرقت حنين باب المكتب مستأذنة بالدخول ، أحضرت ورقة دونت فيها معلومات عن قضية وفاة الوالدين (عادل ونجاة) ، تأملت الورقة ثم رفعت رأسي ملتفتا إلى فوكس :
كلامك صحيح يا فوكس ، إنها نفس القضيىة ، والمنزل في أم درمان .
طويت الورقة ووضعتها في جيبي ، نهضت من الكرسي وهممت بالاستعداد للخروج ، فهم فوكس أننا سنبدأ بالتحقيق من هذه اللحظة لكنه لم يعلم وجهتنا ، أوصيت حنين بالاهتمام بالمكتب بعد خروجنا ، ناولت فوكس مفتاح سيارته ليسبقني إلى المنزل ويجري ما يلزم من تحقيقات مع رجال الشرطة هناك حيث كان علي التحرك إلى مركز التحريات لملاقاة مؤمن خبير المعامل الجنائية وأحد أعضاء فريقي وبعدها هاتفت مدير قسم شرطة أم درمان طالبا منه الإذن بالتحقيق في هذه القضية .

كانت الساعة تشير إلى الثانية والنصف بعد الظهر ، عند وصولي إلى مركز التحريات فاتجهت فورا إلى مكتب مؤمن ، لأجده كالعادة منغمسا في عمله يقلب ورقة تلو الأخرى باهتمام شديد ولكنه ترك كل شي عندما رآني أقف أمامه فهذه مفاجأة أدهشته ولم يكن يتصورها ، منحته فرصة امتصاصها ثم جلست على كرسي بقربه وبدأت أتحدث إليه بجدية قائلا وأنا أخرج من جيبي ورقة مطوية ناولتها له :
اسمعني يا مؤمن ، أريد منك أن تساعدني في هذه القضية.
أخذ مؤمن يقرأ الورقة بتمعن وما أن فرغ حتى أسرع بالبحث في الحاسب الآلي للبحث عن معلومات تخص القضية ، وبدأ بسرد المعلومات على النحو التالي:
توفي السيد عادل وزوجته نجاة في اليوم العاشر من شهر يناير ، تاركين ولدين هما حاتم وصلاح تحت رعاية جدتهما في الجزيرة ، تعرض الوالدين لحادث بالسيارة داخل موقف سيارتهما نظرا للظروف في ذلك الوقت فقد كانت الرياح تهب بشدة وانقطت الكهرباء في تلك المنطقة ، ليس هذا فحسب بل صادف أيضا مقتل جارهم السيد حسين في تلك الليلة ،لم يتوصل المحقق طارق إلى حل القضية ومعرفة القاتل بعد ، ممم ، قضية غريبة أليس كذلك يا فريد ؟.
بالفعل غريبة ، ولكن هل من معلومات عن الجدة في الجزيرة فصلاح لم يذكرها لي ؟
عاد مؤمن بنظره مرة أخرى إلى الحاسوب ثم رد علي قائلا :
للأسف ليس هناك من معلومات عن الجدة يا فريد.
اسمعني يا مؤمن أريد منك البحث عن الشخص الذي أخذهما إلى الجزيرة وإطلاعي بأسرع وقت ممكن .
سأحاول جهدي يا سيد فريد .
نهضت من الكرسي شاكرا مؤمن هاما بالرحيل ، عندها استوقفني مؤمن :
لماذا عدت بهذه السرعة يا فريد ما الأمر ؟ ولم أنت مصر على اختيار هذه القضية بالذات ؟
ابتسمت مودعا مؤمن :
سأخبرك فيما بعد ، أستاذنك بالذهاب الآن .
بعد مضي ساعة ونصف على الطريق بسبب الازدحام الشديد ، وصلت إلى المنزل المقصود منزل المجني عليه حسين ، كان رجال الشرطة يحيطون به من جميع الجوانب، علموه بالشريط الأصفر ، بدا منزلا أرضيا متواضعا ، بسيط في زينته حتى في ألوانه ، يبدو أن السيد حسين كان يحب البساطة الشديدة ، الهدوء والطبيعة ، فللمنزل حديقة فسيحة مساحتها 40 مترا مربع زرعت بنوع نادر من الأعشاب حدتها أشجار نيم في الجهة الأمامية التي يقع خلفها الشارع مباشرة ، توسطت الحديقة طاولة كبيرة بيضاء تحيطها كراس خشبية .
لاحظت أن موقف السيارة يقع على الجانب الأيمن من الحديقة فمسافة كافية لركن سيارتين تفصل بين الجانب الأيمن للحديقة وبين سورها الذي توسطه باب جانبي للدخول ، لم تكن أسوار الحديقة عالية إذ ترتفع بمقدار متران من الأرض.
مسافة 50 سنتيمرات كانت تفصل منزل السيد حسين عن موقف منزل صلاح وحاتم ، لم يخب توقعي بأن صلاح من أسرة رفيعة فمنزلهم خير دليل على ذلك ، منزل كبير من طابقين ، مساحته كبيرة جدا ، أحاطت نبتات الزينة السلالم الأمامية للمنزل إلا أن جزءا من الواجهة كان تحت التشييد ، برزت حدائده وقد اصطفت بطريقة عرضية ، معالم المنزل الخارجية زينت بأجود أنواع الرخام ، له سور من حديد أسود اللون مزخرف بطريقة متشابكة، بلغ طوله أربعة أمتار من الأرض وباب أمامي كأبواب الملوك مصنوع من الحديد الثقيل به نقوش مشابهة للنقوش العربية القديمة.
لمحت فوكس واقفا أمام منزل السيد حسين وبيده ملف يقوم بقرائته ، اتجهت إليه مسرعا فسألته بتلهف :
ها .. أخبرني ماذا وجدت ؟
هذا ملف القضية به جميع الأدلة التي تم العثورعليها هنا ، الضحية هو السيد حسين دكتور صيدلاني وهو مالك صيدلية الرؤية ، في الخمسين من عمره ، توفيت زوجته منذ ستة سنوات ، له ابنان ، أحدهما متزوج خارج السودان والآخر توفي بمرض السرطان قبل عامين ، وهذا المنزل الذي بجانبه مباشرة هو منزل السيد عادل وزوجته نجاة ..
عندما سمعت اسمي عادل ونجاة من فوكس قاطعت حديثه معلقا : إنهما والدا صلاح وحاتم اللذان توفيا بحادث اصطدام .
تابع بعدها فوكس حديثه :
أجل هذا صحيح ، كان السيد عادل رجل أعمال كثير السفر ، أما السيدة نجاة فكانت أستاذة في مركز خاص لأطفال متلازمة داون التي يدرس فيها ابنها حاتم ، تعال معي لأريك ما وجده رجال الشرطة ، قاموا بالبحث جيدا في جميع أرجاء المنزل.
قادني فوكس إلى مطبخ منزل السيد حسين الذي كان مطلا على الحديقة ، ناولني فوكس عدسة مكبرة ووجهها إلى الأرض بقرب باب المطبخ وهو يقول :
اقترب أكثر يا فريد ، هل رأيته ؟ إنه زجاج مهشم لم يعرف مصدره حتى الآن.
رفعت رأسي بعد أن دققت النظر بالعدسة المكبرة وتناولت عينات من الزجاج تحسبا لأي مفاجأة قد تطرأ في طريق بحثنا ، تفحصت المطبخ بنظرة شاملة فكانت تعمه الفوضى ، تسائلت عما كان يفعله المجرم في المطبخ ، أهو جزء من مخططه في الجريمة ؟! أم وسيلة لتضليلنا عن دليل معين ؟!
قاطعت كلمات فوكس تفكيري قائلا :
أظنني أفهم ما يدور في رأسك الآن يا فريد ، ولكن هناك شيء آخر عليك رؤيته .
من خلال باب المطبخ الذي على صالون الإستقبال مباشرة قادني فوكس إلى صالة واسعة توسطتها ثريا بدت وكأنها الشيء الوحيد باهظ الثمن في هذا المكان .
كانت مقاعد الجلوس تنتظم على يمين الصالة يفصلها عن الحديقة باب زجاجي غطته ستائر مسدلة ، أما في الجانب الآخر من الصالة مفترق يقود إلى غرفة نوم السيد حسين ومكتبه الذي يقع في الجانب الآخر ، غطت الكثير من الصور المبروزة لمعالم من دول مختلفة جدران الصالة .
أشارفوكس إلى الستائر التي كانت مسدلة أمام باب زجاجي كبير مطل على الحديقة حيث يمكن رؤية الطاولة البيضاء من خلاله ، أمسك بالطرف الأيمن من الستارة المسدلة قائلا :
أنظريا فريد ، إنها ممزقة بطريقة عشوائية .
ممم .. لكن لما يا ترى ؟ ! ليس هذا فحسب، أليس من الغريب يا فوكس أن تبقى غرفة المعيشة مرتبة بهذا الشكل مقارنة بحال المطبخ ؟ّ
أجل ، إنها من إحدى التساؤلات التي جالت في ذهني .
أخرجت دفنري الصغير للبدأ بتدوين المعلومات سائلا فوكس :
وماذا عن جثة السيد حسين ؟
أها ، تم العثور على جثة السيد حسين ملقاة هنا خارج هذا الباب الزجاجي محاطاة بدمائه ، حدد الطبيب الشرعي وفاته في تمام الساعة العاشرة وخمس وأربعون مساءا ، استعمل المجرم أداة حديدية وضرب بها السيد حسين على رأسه مرتين في منطقتين مختلفتين ، فهشمت رأسه .
لم أتأخر في إلقاء السؤال على فوكس عقب سماعي للتقرير الطبي منه قائلا :
هل قلت أن الجاني أصاب المجني عليه مرتين يا فوكس؟
نعم هذا ما أورده الطبيب الشرعي في تقريره ولكن ماذا يدور في خلدك يا سيد فريد ؟
هذا يعني أنه قاوم المجرم قبل الضربة الثانية .
هذا ما يمكن افتراضه في الوقت الراهن ، لكن الأغرب عثور صورة ممزقة يظهر فيها علم دولة إيطاليا داخل قبضة يد السيد حسين ، على ما يبدو أنه أحكم القبضة جيدا كي لا يراها المجرم .
دونت كل هذه المعلومات ثم لمحت مسجلا على الطاولة البيضاء في الحديقة ، تحركت إلى هناك على الفورلتفحص المكان ، التفت إلى فوكس الذي كان يقف خلفي فأشرت بيدي على المسجل و مصباح يدوي بجانبه أتبعتها بنظرات استغراب عندها أسرع فوكس بالإجابة على تساؤلي :
تم العثور على شريط تسجيل بداخله ، كان السيد حسين يعزف على قيثارته ويقوم بتسجيل عزفه عليها أثناء خلوته في الحديقة بحسب ما أفاد به خادم السيد حسين ، أما بالنسبة للقيثارة تم العثور عليها هنا ملقاة بالقرب من الطاولة ، ومع أخذ انقطاع الكهرباء في الحسبان فلم يكن باستطاعة السيد حسين الخروج إلى الحديقة دون مصباحه اليدوي .
بالطبع لم يكن من الممكن أن يمر حديث فوكس دون أن أسأله :
وهل كان الخادم موجودا في تلك الليلة ؟
لا لم يكن موجودا ، فعمله ينتهي في تمام الساعة السادسة مساءا ، لكنه أفاد بأن السيد حسين كان على اجتماع مع أصدقاء له في العمل في تلك الليلة.
هل من أدلة عثروا عليها في غرفة النوم أو المكتب ؟
لا ، لم يجدوا شيئا .
وماذا عن السيد عادل وزوجته السيدة نجاة ؟
هناك مفارقة بسيطة ، فلقد توفي كل منهما في تمام الساعة الحادية عشرة بحادث اصطدام في موقف السيارة الخاص بمنزلهم ، ربما فقد السيد عادل السيطرة على مقود السيارة فاصطدم بحديد بناء كان أمامه مباشرة .
هل تم التقاط صور للجثث ؟
نعم وها هي .
نظرت إلى صور الجثث الثلاث في الملف بتمعن فاكتشفت شيئا عجيبا فقد لاحظت أن لهم نفس الإصابة في الرأس رغم أن الزوجين توفيا في الحادث وأن الدكتور حسين قتل بآلة المجرم الصلبة فقلت لفوكس:
لابد من استجواب الطبيب الشرعي ليوضح لنا هل جميع الإصابات من نفس الأداة فقد لاحظت أن الجثث تحمل نفس الإصابات على الرأس ، لقد بدأت أرجح أن هناك شبهة جنائية في وفاتهما .
دع لي الأمر فسأقوم باستجوابه.
دار بذهني سؤال عن خادم المرحوم حسين فقلت لفوكس :
هل حصلت على عنوان خادم السيد حسين ؟
أخرج فوكس ورقة من جيبه مجيبا :
أجل هاهوعنوانه ورقم هاتفه دونه عندك في دفترك يدعى السيد زياد .
دونت العنوان ثم وضعت يدي على كتف فوكس قائلا بحزم :
فوكس عليك التحرك فورا إلى الطبيب الشرعي ثم إلى المركز وإحضار ذلك الشريط على الفور وقم بفحصه بعناية أما أنا فأرغب في إلقاء نظرة أخيرة على المنزل قبل العودة.
حسنا يا فريد إلى اللقاء .
بدأت بالتجول في الحديقة حول المنزل ، كل شيء كان طبيعيا إلا أنني وجدت زير ماء على بعد مسافة من جانب المنزل الشمالي محطم في الحديقة ، ولكن ما الذي جعله يتحطم ، ألم يركز عليه المحقق زياد ؟! ، إن كانت الجريمة وقعت في الجهة الأخرى ما الذي يعنيه هذا ؟ اقتربت منه أكثر ، تأملته جيدا ، وبعد تدقيق عثرت على بقعة دم على قطعة حطام صغيرة لا يكاد تمييزها لتقارب لونها مع لون الزير فقد كان مصنوعا من فخار أحمر اللون ، طلبت من أحد رجال الشرطة الحضور ومعه معدات التحري ، عندما وصل إلي لبست قفازاتي ثم وضعت ذلك الحطام الصغير في كيس الأدلة .
شيء ما منعني في تلك اللحظة من المغادرة فقد لمحت لمعان خفيف من بين أوراق شجر تكاثفت بعد سقوطها لشجرة بالقرب من حطام الزير فبعد وفاة السيد حسين لم يعد هناك من يهتم بحديقته ، باعدت بين الأوراق لأجده دبوس صغير قيم مصنوع من ذهب ، فخاطبت نفسي قائلا :
ها ، الليلة يوم سعدك يا فريد .. ها أنا ذا أبدأ بأول خيط ، شكرا لك أيتها الطبيعة لطالما اعتبرت روحك جزأ لا يتجزأ من روحي وها أنت تردين لي الجميل .
نظر إلي الشرطي الذي كان واقفا بقربي بعينين متسعتين لم يشحهما عني ، لم يستطع كتمان ما يدور في باله وبادر بالبوح على الفور :
إنك حقا محظوظ يا سيد فريد ، لقد عثرت على أدلة قيمة .
كانت لدي وجهة نظر حول ما قاله الشرطي لذا ابتسمت له ورديت عليه :
أبدا ، إنه ليس الحظ فلا وجود له ، بل لكل حدث حكمة إلهية ندرك مغزاها بعد حدوثه ، وتسلسل الأحداث وسيلة من وسائل الرب للتعلم والصبر .
ما عثرت عليه دفعني لأجوب المنزل بأكمله من الداخل والخارج لكن لم أجد جديدا لأضيفه على ما وجد مسبقا ، فكل شيء كان مرتبا وفي مكانه، طلبت من أحد عناصر الشرطة تسليمي جميع الأدلة لمعاينتها ، غادرت منزل السيد حسين متوجها إلى سيارتي القابعة بقربه .
قبل أن ألج إلى داخل سيارتي ألقيت نظرة إلى منزل صلاح وحاتم متذكرا حالهما ومتسائلا عما سيجري لهما ، بل هل سأنجح في إنصاف والديهما إن كانا قد تعرضا لقتل متعمد كما بدأت أعتقد ؟ وإن كانا كذلك ، ما ذنب هذين المسكينين في تحمل عواقب هذا الظلم ؟ لا يمكن للقسوة أن تستمر ، ستكسر شوكة الظلم وينقشع الغمام عن الحقائق المخفية ، وسينال الظالم عقابه ، أجل .. هذا ما وعدت نفسي به وسأفي بوعدي إن شاء الله حتى لو كان علي البحث طيلة العمر.
ثم زارني خاطر يحمل في جوفه تسؤلا :
لماذا لم يحدثني صلاح عن جدته في الجزيرة أو عن ذلك الشخص الذي قادهما إلى القرية في الجزيرة؟ هل مسألة الجدة أكذوبة ؟ هل هو تحت التهديد والخوف؟
عندما قدت سيارتي ألح علي أمر آخر تشابك مع ذك الخاطر وهو الإتصال بزياد خادم السيد حسين وعندما اتصلت به طلبت منه أن أزوره بشأن التحقيق في مقتل السيد حسين فاقترح علي أن يقابلني في مطعم في وسط الخرطوم ، لأنه لم يكن يريد أن يخيف أسرته ، وزوجته تكره رجال الشرطة ، فقبلت بملاقاته هناك ، لكنه طلب مني أن أكون بمفردي .
كانت الساعة تشير إلى الثامنة مساءا لحظة وصولي إلى المطعم ، وقفت على بابه محاولا الإتصال لمعرفة مكان السيد زياد ، إلا أنه سبقني ووقف أمامي ، أمسك بيدي مسلما بكلتا يديه .
مرحبا يا سيد فريد ، أنا هو السيد زياد .
أهلا بك يا سيد زياد .
هيا بنا إلى الداخل ، فحديثنا يحتاج إلى الجلوس .
نظرت إليه فألفيته رجلا في الأربعين من عمره ، طويل القامة ، وسيم الطلة ، باسم الوجه يبعث الطمأنينة لمن يقابله ، خالط سواد شعره خصلات بيضاء زادت إطلالته البهية هيبة ، جلسنا على طاولة مطلة على النيل ، تلألأت مياهه بالأضواء .

كان منظر النيل الذي تلألأت مياهه بالأضواء يبعث في النفس أجمل المشاعر ففيي تلك الظلمة كانت أضواء أضواء المطعم تشق طريقها وتسقط فوق صفحته كقطار مائي من الفراشات المضيئة المرحبة بزوار هذا النيل ، آه كم أنت جميلة يا بلدي .
بصعوبة تخلصت من النظر إلى هذا المنظر البديع ورمقت السيد زياد بنظرات استكشافية بدأ بعدها حديثي معه قائلا :
بداية لدي سؤال أود طرحه عليك يا سيد زياد ، كيف عرفتني على الرغم من أنك لم تقابلني من قبل ؟
ضحك السيد زياد بشدة ثم أسند ذراعه على رأس الكرسي الذي بجانبه ورد قائلا :
أنت لا تعرفنا ، لكن الجميع يعرفونك أيها المحقق فريد ، أنت ذلك الشاب الطيب صاحب الأهداف النبيلة ، يكد في السعي وراء الحقائق وكشف الجرائم ، والسبب في هذا كله إخلاصك في عملك أيها الشاب ، ربما لا تعرف مدى احترامي وتقديري لك ، لكن لك الأثر الكبير في تغيير نفوس الكثير ، شبابا كانوا أو كبارا في السن وحتى الصغار .
أخفض صوته وقال بابتسامة ماكرة تبعتها قهقهات متتالية :
حتى البنات بقيت شغلهم الشاغل !
لا أدري ما جرى لي اقشعر جسدي لكني ابتسمت في وجه السيد زياد ، أيعقل أن يكون الشخص الذي يتكلم عنه السيد هو أنا ، هل بات الجميع يعرف هويتي ، لا أحب فكرة الشهرة هذه ، ولم أفكر يوما في نظرة الناس إلي .
قطع السيد زياد ذلك الصمت الذي ساد بيننا للحظات وقال وقد تبدلت أحاسيسه إلى أسى :
لقد مضى على وفاة السيد حسين ثلاثة أشهر ، إني أفتقده بشدة ، عملت معه لخمس سنوات متواصلة ، كنت أقرب الناس إليه ، لا يفهمه أحد سواي ، كان وحيدا لم يجد من يؤنس وحدته بعد وفاة زوجته ورحيل أبنائه ، نتسامر ونتناقش في أمور عمله فهو يعتبرني يده الثانية حتى أنه يأمنني على مخططات عمله أكثر من غيري على الرغم من أنني خادم له ، أحب القراءة وعند انتهائه من كتاب يجبرني على قراءته ، كان يصحبني معه في جميع أسفاره مع أصدقائه فقد سافر إلى معظم دول العالم للسياحة وللبحث عن أدوية جديدة خارج السودان فقد كان سيدي الراحل يعطي عمله الكثير .
صمت زياد من جديد وأنا ألمح في عينيه طيفا من دموع فقلت له كأنما أواسيه :
هكذا إذا .. أنا حقا آسف لخسارتك يا سيد زياد ، لكن هذه هي حقيقة الحياة ، تأخذ منا تاركة فراغا للحزن في قلوبنا ، فيبقى الصراع بين الاستمرار أو العيش في وهم الماضي .
إن خسارة ذلك السيد لايمكن تعويضها ولا أملك سوى أن أدعو له بالمغفرة .أردت أن أعود إلى ما جئت من أجله فسألت زياد :
أخبرني يا زياد بكل ما جرى ذلك اليوم المشؤو.
أسند السيد زياد ظهره على الكرسي ثم وجه نظره إلى النيل كأنما يطلب منه أن يعينه وبدأ بالسرد :
كان يوما عاديا كباقي الأيام إلا أن السماء كانت ملبدة بالغيوم توقعنا هطول أمطاروهذا لم يحدث ، قمت بأعمالي اليومية من ترتيب وتنسيق وطبخ ، عادة ينتهي دوامي الساعة السادسة مساءا ، أخبرني السيد حسين بأنه سيكون على اجتماع مع شخصيات مهمة منهم أصدقاء مقربون له أعرفهم معرفة وطيدة ومنهم لم ألتقي بهم من قبل ربما أكون قد صادفتهم في إحدى أسفاره ، أعددت ما يلزم ثم غادرت المنزل ، وفي اليوم التالي عندما كنت متجها إلى منزله كانت الفاجعة قد اكتملت.
هل من عادة السيد حسين العزف على القيثارة كل ليلة ؟
هز السيد زياد رأسه مبتسما ورد قائلا :
إيه ، إنه يعشقها ، فهي ملك زوجته المتوفاة رحمة الله عليها ، يعزف عليها كل ليلة ثم يقوم بتسجيل عزفه ، أخبرني مرة أنه كلما اشتاق إلى زوجته عزف عليها فكأنما روحهما تلتقي وتسترجع ذكرياتهم الطيبة ، كنت آتي كل صباح لآخذ التسجيل وأضمه إلى مجموعة التسجيلات الأخرى في منزلي .
قاطعته متعجبا : في منزلك ؟!
أجل ، لا يحتفظ السيد حسين بأغراضه الثمينة في منزله ، بل يودعها عندي في المنزل ، كان يحس بأنها في أمان عندما تكون بحوزتي ، لم يكن يشعر بالأمان في منزله ،اعتبرمنزله مكان للأكل والراحة والعمل فقط .
عندما سمعت كلمات السيد زياد فهمت على الفور سبب بساطة منزل السيد حسين ، إلا أن سؤالا آخر شغفني معرفة جوابه ، فسألته مجددا :
هل لكم علاقة وثيقة بجاركم السيد عادل وزوجته السيدة نجاة ؟ لعلك تعلم أنهما توفيا في نفس الليلة !
عقد السيد زياد حاجبيه مفكرا كأنما يسترجع ذكريات معينة ثم أجاب :
أما هذه القصة وطريقة وفاتهم فهي التي حيرتني منذ تلك الليلة ، كانت جيرتهم طيبة ، مهذبون جدا ، يكنون إلى السيد حسين احتراما عجيبا ويؤنسون وحشته كلما سنحت لهم الفرصة ، فهم في حالة انشغال شبه دائم ، سيد فريد ما الذي جرى لحاتم ذلك الولد المسكين وشقيقه صلاح ؟ وهل ترعاهم جدتهم بشكل جيد في الجزيرة ؟
رفعت حاجبي مستغربا ، فسألته : أتعرفهما ؟
بالطبع يا سيد فريد ، كان صلاح فتى وديع حسن الخلق ، مهذب في كلامه ، أما المسكين حاتم كان مصدر خوف وحرص أمه عليه ، فلم يكن من السهل التعامل معه بسبب مرضه .
انتهزت فرصتي في تلك اللحظة فلعل السيد زياد يملك الجواب لحيرتي ، نظرت إليه بترجي قائلا :
هل تعلم شيئا عن هوية من قام بنقلهما إلى الجزيرة يا سيد زياد ؟
استغرب السيد زياد من سؤالي فمن الطبيعي أن يكون أحد أفراد أهله قام بهذه المهمة ، إلا أنه تجاهل استغرابه واكتفى بهز رأسه موحيا بعدم المعرفة .
صمت كل منا لثوان ، ليفاجأني بعدها السيد زياد بإخراج صندوق من حقيبته التي كان يحملها معه وناولني إياه وهو يقول :
هذا الصندوق يضم ممتلكات السيد حسين والتي قد تفيدك في عملية البحث عن المجرم ، ترددت كثيرا في إعطائي الصندوق للمحقق طارق عندما كان يحقق في القضية فقد ائتمنني السيد حسين على هذا الصندوق ، وعندما اتصلت بي وعلمت أنك ستواصل التحقيق فيها ، أسرعت بإحضاره إليك فأنا على ثقة بأنك ستجد الفاعل بإذن الله .
تناولت الصندوق وكلمات السيد زياد سقطت كالرعد على مسامعي حتى اقشعر جسدي ، هم الآن يتوقعون مني الكثير بل واثقون تمام الثقة بأنني سأحلها، فلا أريد أن أخيب ظنه أو ظن صلاح وحاتم إن لم أحل القضية ، علي التحلي بالصبر والمزيد من الثقة بالله ، ومحاربة جميع الأفكار المحبطة التي قد تجول ولو لثانية في خاطري .
نهض السيد زياد من كرسيه مستأذنا لتأخر الوقت فأسرته بانتظاره ، نهضت من الكرسي بدوري وصافحته شاكرا مساعدته لي ، ووعدته ببذل قصارى جهدي ، غادر بعدها المطعم بينما بقيت أرتشف من كوب القهوة وأفكر في الخطوة التالية التي علي القيام بها ، نظرت إلى صندوق السيد حسين الذي كان أمامي على الطاولة متأملا ، مددت يدي لفتحه ولكن رنين هاتفي النقال منعني من ذلك ، أخرجته من جيبي وأجبت على الإتصال :
مرحبا يا فريد ، أين أنت ؟ قمت بإحضار شريط التسجيل الذي طلبته مني .
أها ، هذا جيد يا فوكس فلنلتقي في منزلي سآتي على الفور .

أنهيت المكالمة ، سددت الفاتورة ثم خرجت من المطعم محتقبا صندوق السيد حسين ثم اتجهت إلى منزلي ، وعند صولي كان فوكس ينتظرني في سيارته ، اقتربت منه ، بدا عليه التركيز الشديد في شيء ما حتى أنه لم ينتبه لوصولي ، طرقت على زجاج سيارته ، فتح عندها باب السيارة وخرج منها مخرجا الشريط من مسجل السيارة وقال لي :
آسف يا فريد ، كنت أستمع إلى شريط التسجيل .
لا بأس هيا بنا إلى الداخل .
دخلنا إلى المنزل حيث كانت الساعة تشير إلى العاشرة ليلا ، ذهب فوكس لتحضيرالقهوة بينما توجهت إلى مكتبي لأستمع إلى شريط التسجيل ، وضعته في المسجل وووصلته بمكبر للصوت ثم بدأت بالإستماع إليه ، كان عزفا جميلا ومطولا بالقيثارة لم تظهر أية علامات مثيرة للريبة ، استمعت للشريط حتى النهاية إلا أنني شككت في أمر ما ، أعدت الإستماع إليه مرة أخرى فبدأت شكوكي بالإزدياد ، قمت بنفس اللحظة بنسخ التسجيل في قرص مدمج بواسطة جهاز نسخ مطور ، فمن واجبنا نحن المحققين مواكبة كل التطورات التقنية لتساعدنا في عمليات التحقيق ، ناديت على فوكس بالحضور فورا ، فأسرع بالحضور حاملا أكواب القهوة متسائلا :
ماذا بك يا فريد ؟ هل عثرت على شيء ما ؟
أجبته مبتسما : ليس بعد ولكن سنعرف الآن ، انتظر لحظة فقد وشت لي أذناي بشيء علي التأكد منه.
وضعت القرص المدمج في الحاسب الآلي ثم وجهت البرنامج لتشغيل ما قبل نهايته ، وأوصلت مكبرات الصوت به نظرت بعدها إلى فوكس طالبا منه التركيز في المقطع الأخير .
بدأت التشغيل ، ركزنا جيدا إلا أن ظهر لنا صوت آخر، أجل كان واضحا هذه المرة ، صوت أقدام مقتربة توقف التسجيل بعدها ، أوقفت التشغيل ثم نظرإلي فوكس مندهشا ، غير مصدق لما سمعه وقال لي :
إنك فعلا عبقري يا رجل دقيق الملاحظة لثد مر علي هذا الأمر دون أن ألاحظه، هذا يعني أن أحدهم كان برفقة السيد حسين في المنزل ، فالسيد زياد لم يكن موجودا في ذلك الوقت من الليل ، أليس كذلك ؟
أجل كلامك صحيح يا فوكس ومن المهم أن أذكر لك أن السيد زياد، أخبرني بأن سيده كان على اجتماع مع أصدقاء له ومعارف تلك الليلة ، إلا أنه لا أحد يعلم هوية أولئك الأشخاص .
سهرنا الليل مطولا نتناقش حول القضية والأدلة التي تم العثور عليها ، ونقل لي فوكس نتيجة إستجوابه للطبيب الشرعي الذي رجح أن تكون الإصابات على الجثث الثلاث الواضحة بالرأس من آلة صلبة واحدة ما عزز إعتقادي بأن السيد عادل وزوجته نجاة كانا ضحيتين لذات القاتل الذي قتل السيد حسين ، راجعنا ملف القضية وما يحمله من تقارير وبيانات لعلها تلهمنا أو تشيء لنا بشيء ، وبحثنا في سجلات السيد حسين واتصالاته ولكن لم تحمل جديدا ، كما أظهرت بيانات التحقيق مع معارف السيد حسين معلومات عادية عن حياته لا أكثر.
كنت أود أن أكتشف هوية الشخصيات التي حضرت الإجتماع كانت مع المجني عليه السيد حسين فقد كانت مجهولة بالنسبة لي ، أعياني التفكير لذا أحببت أن أشرك فوكس في تفكيري لكنني لمحته يتثائب أكثر من مرة ، كيف لا والساعة تشير إلى الواحدة والنصف صباحا ، طلبت من فوكس النوم في غرفتي لأخذ راحة كافية ليوم الغد ، إلا أنه أصر على البقاء والعمل قائلا :
أعلم أنني إذا تركتك ستبقى ساهرا حتى الصباح ، فأنت من يجب عليه الراحة بعد هذا اليوم الشاق لتستشرف صباحا بذهن صاف يساعدك على العمل وقد بدا لي أنك مرهقا بدأت تفقد تركيزك ، هل تعلم يا صديقي أنك نسيت إحضار حقيبتك من السيارة وأنا من قام بذلك نيابة عنك ، أقترح عليك أن تذهب وتستبدل ثيابك وأن تتناول بعض الطعام ، يا أخي ، أنظر إلى الهالات حول عينيك ، أصبحت تشبه المومياء .
ضحكت من كلامه ثم شكرته على معروفه الذي قدمه لي ، وبعد جدال وافق فوكس على النوم ولكن في شقته ، فقريبه يمكث معه هذه الأيام وليس من الأدب تركه بمفرده ، قدمته إلى الباب ثم ودعته شاكرا ، أخذت حماما باردا وتناولت بعدها العشاء ، آه كم ظلمت معدتي معي ، أكنت جائعا إلى هذا الحد ؟ تذكرت في تلك اللحظة صلاح وحاتم قمت و صليت ركعتين داعيا الله أن يوفقني في هذه القضية ومساعدة هذين الولدين .
بعد انتهائي حملت صندوق السيد حسين و مددت جسدي على السرير ، فهجمت علي خواطر شتى كنت أرى حقول القمح الذهبية تتأرجح مع النسائم والفتى صلاح يعبرها كراقص إفريقي وصورة العمدة تبرز أمامي بوجه مكفهر جنبا إلى جنب مع وجه ابنه الطيب الدكتور مؤيد .
كنت أحاول النوم ولكنها كانت محاولة فاشلة ، مست يدي الصندوق فنطقت بغير إرادتي آآه.
فتحته لأرى ما بداخله ، كان يضم مجموعة من الصور وأحجار كريمة ومقتنيات أثرية ، أخرجت الصور لرؤيتها ، صورا للسيد حسين مع زوجته وأبنائه ، وأخرى مع السيد عادل وزوجته السيدة نجاة مع ولديهما صلاح وحاتم ، كانا في ريعان شبابهما ، من صورتها رسمت شخصية السيدة نجاة بأنها سيدة وقورة جدا و حنون في ضمها لإبنها حاتم ، ذات علم واسع حيث لعبت نظارات كانت ترتديها في إضفاء هذه السمة لكل من يراها ، أما السيد عادل شاب بجميع المواصفات ، وقار باديا في وجهه ، وسامة عالية وشيء من الشقاوة ، يشبه صلاح كثيرا ، فعلا كما يقال ، الإبن سر أبيه .
من بين تلك الصور ، صور أخرى للسيد حسين مع السيد زياد و مجموعة من أصدقائه ، منها في السودان ، والبعض الآخر في فرنسا وإسبانيا والمكسيك و...
لم أتوقع رؤية صورة ممزقة بين كل تلك الصور المرتبة ، ولكن لحظة .. أجل.. تذكرت الصورة الممزقة التي عثرت في يد الضحية ، انتفضت من السرير مهرولا لإحضارها ، أخرجتها من كيس الأدلة وعدت لأربطها بالجزء الذي في الصندوق ، ويا للعجب ، حدث الذي كنت أشك فيه ، إنها الجزء المفقود من الصورة وهاهي قد اكتملت لتصبح صورة كاملة .
بدأ الأمر يشدني ولكنني شعرت ببعض الظلال فعاد لي إحساسي الأمني هنال من يحاول التجسس علي أو سرقتي .هناك رجل داخل المنزل يا للهول ، أدخلت يدي داخل الوسادة وأخرجت مسدسي وحرجت بهدوء من غرفتي ، عبرت الصالة لأتتبع تلك الظلال وعندما خرجت إلى الفناء كان هناك من يشبه الشبح ، يتسلق الجدار ويقفز إلى الخارج ، كان بإمكاني إطلا ق النار عليه إلا أنني لم أشأ أن أزعج الجيران وأحدث جلبة ، عدت أدراجي غلى غرفتي وتمعنت الصورة لأعرف هوية الأشخاص الذين كانوا فيها ، الضحية و..
ماذا؟ لا يعقل ؟ لا أصدق ما تراه عيني ؟ ما الذي يفعلانه في هذه الصورة وما علاقتهما بالضحية ، هكذا إذا .. الحمد لله ، الآن أنا واثق من أن الحل قد أوشك على الظهور ، وهاهي العقدة بدأت بالتفكك وهاهو فريد يعود من جديد ، ابتسمت ابتسامة النصر الأولى ، وضعت الصندوق بجانبي ثم أغمضت عيني مطمئن البال ، مستعدا ليوم الغد ، فهو اليوم الفاصل لهوية القاتل ، فقط خطوة أخيرة وبعدها .. وبعدها ..
غصت في نوم عميق من بعد يوم عصيب حتى دماغي توقف عن التفكير ليهأ نفسه للمعركة القادمة .
نهضت باكرا في تمام الساعة السادسة صباحا ، صليت الفجر ثم اتصلت بفوكس، رد على الهاتف بصوت قهره النعاس :
ماذا الآن يا فريد ؟ لا تنام ولا تتركنا لننام ؟
آسف لإيقاذك في هذا الوقت يا فوكس ، ولكني اقتربت من معرفة هوية القاتل .
قاطعني فوكس وبدا على صوته الوضوح :
حقا ، من هو يا فريد ؟
علي التأكد من أمر أخير ثم سأخبرك بهويته ، ولكني أريد منك خدمة بسيطة يا فوكس .
أطلب ما تشاء إن كان سيساعد في حل اللغز .
أنهيت مكالمتي بعد أن أمليت على فوكس ما عليه فعله ، تناولت إفطاري وكالطير الهارب استحممت وبدلت ثيابي فوجهتي هذه المرة كانت إلى المركز لزيارة صلاح وحاتم .
وصلت إلى المركز في تمام الساعة الثامنة ، قابلت مديرة المركز وسألتها عن حال الولدين ، علمت من حديثها أنهما بدآ بالتأقلم جيدا ، استطاع حاتم تنمية مهارته في الرسم فكلما ينتهي من لوحة يسرع لرسم الأخرى ، أما صلاح فقد استجاب لعلاج الطبيب النفسي وبدأ يتجاوب مع معلميه في المركز ، طلبت منها أخذي إليهما ، حاتم كان لا يزال نائما ، بينما كان صلاح جالسا في غرفة التسلية يشاهد التلفازمبتهجا مع مجموعة من الأولاد في قرابة عمره ، ناديته بإسمه وعندما التفت لمعرفة هوية المنادي انشرح وجهه وتهلل ، قفز من مكانه وتوجه نحوي مباشرة ، ضممته إلي ثم سألته :
أيها البطل ، كم اشتقت لرؤيتك ؟ وصلتني أخبار طيبة عنك ، كيف هو المكان ؟ أرى أنك كونت صداقات جديدة هنا .
بدأت ابتسامته تتلاشى شيئا فشيئا ، أجابني بصوت واهن :
ليس كمنزلنا يا سيد فريد ؟ لكنني بدأت الإعتياد عليه .
لماذا لم تخبرني بأمر جدتك التي كنتم معها يا صلاح ؟
نظر إلي باستغراب ودهشة وقال لي :
لا أعرف لي جدة في الجزيرة بل لا نعرف لنا أهلا على الإطلاق سوى أمي وأبي .
ولكن هناك من قال أن أحدهم نقلكم إليها في الجزيرة.
لا هذا لم يحدث إنها كذبة الرجل كان سيئا إلى حد كبير لقد تركنا في تلك القرية نفترش الأرض ونلتحف السماء و نتوسل الطعام ، وعندما نبذنا أهل القرية تركناها إلى المكان الذي رافقتني إليه.
إذن يا صلاح حدثني عن ذلك الرجل السيء الذي قادكما إلى الجزيرة ، اسمه وعنوانه .
عادت لي في تلك اللحظة صورة صلاح وهو في قبضة العمدة ، وسمات الرعب على وجهه وحبيبات العرق فوق جبينه الصغير ، قال لي :
أرجول يا سيد فريد ، ذلك الرجل شرير وقد توعدني بالقتل وأذيتنا بشدة حتى وإن كنا محاطين بمئات الرجال من الشرطة إن كشفت عن هويته ، ولا أدري قد يكون مقتمصا لشخصية أخرى لا أعرفها أو قد لا أستطيع تمييزه .
أدركت حينها أن صلاح لا يزال تحت ضغط التهديد ولم أكن أريد أن أفسد خطة مركز الطفولة في إعادة تأهيله نفسيا ، لذا لم أضغط عليه أكثر وانتحيت بأسئلتي إلى ناحية أخرى فسألته :
وما هي أخبار حاتم ؟
سؤالي أعاد إلى وجهه الإبتسامة المفقودة وقال لي :
إنهم يلقبونه بالفنان حاتم ، يقضي يومه بالرسم والغناء ، يستمع بوقته على أكمل وجه .

أرجوك يا ابني صلاح ألا تستاء من أسئلتي ، أحس باالإختناق هنا دعنا نذهب إلى غرفة الجلوس ، وهناك سألته :
صلاح ، بني ، في الحقيقة أريد أن أسألك عن تلك الليلة التي توفي فيها والديك ، إن كنت غير مستعدا للإجابة فلا بأس لك الحق .
ارتعد جسد صلاح خوفا وبدأ بالتعرق والارتباك ، صمت لبرهة ثم قال :
لا أحب تذكر تلك الليلة يا سيد فريد ، وأنت تعرف السبب ، لكني سأحاول مساعدتك بقدر المستطاع .
شكرا لك يا صلاح ، فمساعدتك ستساعدنا في معرفة أحداث ما جرى ذلك اليوم ، لقد قلت أنك لم تشاهد ما جرى لوالديك بل فوجئت بالحادث اليس كذلك ؟
أجل هذا صحيح ، لكني أعتقد أن حاتم رأى الحادث كاملا ، فقد كان يراقب من النافذة طوال الوقت .
هل رأيت شخصا ما أو سمعت صوتا معينا ؟
صمت صلاح محاولا استرجاع ما مضى ، ثم أسرع بالإجابة :
أبدا لا أذكر شيء مختلف سوى صوت الإصطدام .
أها ، هكذا إذا .
قاطعتنا إحدى المعلمات في المعهد طالبة مني الحضور إلى المرسم ، استأذنت صلاح مودعا طالبا منه الإعتناء بنفسه وبحاتم ووعدته بزيارته في القريب العاجل ، عاد أدراجه لمتابعة مشاهدة التلفاز وبدوري سرت مع المعلمة عبر الممرات متحيرا في الأمر الهام الذي تطلب استدعائي .
دخلنا إلى المرسم ثم طلبت مني الجلوس ، تنوعت رسومات طفولية برئية معلقة على الجدران ، رأتني المعلمة أثناء إحضارها لمجموعة من اللوحات من خزانة كبيرة وأنا أوزع نظراتي بين اللوحات ، بادرت بالحديث مبتسمة لتفسر تلك النظرات :
كل ما تراه حولك من لوحات هي الرسومات الفائزة ، ففي نهاية كل أسبوع نعرض أفضل لوحة ونقدم جائزة لصاحبها ، وبذلك نزيد من حماسهم في الإجتهاد أكثر .
أومأت برأسي إيجابا ثم قلت :
إنها فكرة ممتازة ، حقا.. لكم الفضل الكبير في نجاح هؤلاء الأطفال وإسعادهم ، وأنا أحييكم على كل جهد مبذول .
شكرا لك يا سيد فريد ، في الحقيقة أعجب الجميع برسومات حاتم ، إنه حقا موهوب ، وله سرعة عالية في إنجاز أكثر من لوحة في اليوم مما دفعنا إلى وضعه نصب أعيننا والإهتمام به أكثر ، من يعانون من هذا المرض لا ينالون الاهتمام الكافي من المجتمع وللأسف ينبذهم البعض ، لهم قدرات عقلية تفوق القدرة البشرية الطبيعية ، ليس من السهل التعامل معهم لذا هم بحاجة إلى عناية خاصة ، ولا يبوحون بمكنوناتهم حتى غدو طعما بين أيدي عديمي الرحمة ينصاعون لتهديداتهم خوفا من المجهول . أكثرهم مثل حاتم ، يميلون إلى الإبداع الرسمي ، إلا أنني لاحظت بعض الأسى في رسوماته الأخيرة ، ثم ازدادت لتصبح عدوانية ، لذا فكرت في أن أعرضها عليك لعلها تفيدك في قضيتك ، انظر يا سيد فريد ، هذه من أوائل الرسومات التي رسمها حاتم .
عرضت علي المعلمة لوحة فريدة من نوعها رسم دقيق ومتزن ، يعكس شفافية صاحبها وولعه بالطبيعة .
هذه من أولى اللوحات لحاتم ، انظر إلى الفرق بينها وبين هذه اللوحات .
أشارت المعلمة للوحتان فرشتهما أمامي ، دققت عليها محاولا تفسيرها ، ثم بدأت برصها بترتيب معين لتشرحها لي .
أنظر إلى اللوحة الأولى يا سيد فريد ، يبدو أن حاتم مشتاق لمنزله كثيرا فقدر رسم نفسه واقفا مراقبا من نافذة منزله ، هذين الإثنين بقرب هذه العربة التي تشبه السيارة هما والديه ، أما هذا رجل غريب يقف بجانب شيء إسطواني الشكل لم أعرف ماهو ، عندما سألته عن هويته بدأ بالصراخ .
أما اللوحة الثانية ، لم تختلف عن الأولى في شيء إلا في أمر واحد ، أنظر إلى السيارة بداخلها شخصان والدماء خارجة منها وذلك الشخص الغريب لا يزال موجودا إلا أنه بقرب السيارة هذه المرة .
رفعت اللوحتين ، أعدت النظرإليهما مجددا لبضع ثوان ، فابتسمت ، وجهت حديثي إلى المعلمة قائلا :
إنه حقا ولد موهوب ، هكذا سهل علي معرفة الجزأ الأهم في القضية ، لقد حللت اللغز جزئيا ، بقي القليل فقط ، صدق من قال( كل ذي عاهة جبار) .
نظرت إلي المعلمة بحب استطلاع عميق آملة أن أكشف لها عن مكنوناتي ولكن ذلك سر المهمنة وبالطبع ستبقي الأمور في الخفاء حتى تحين لحظة النصر .
طلبت منها استعارة اللوحتان فوافقت ، فودعتها شاكرا و خرجت من المركز مسرعا في طريقي فوجهتي التالية كانت إلى مركز التحريات لمقابلة مؤمن ، لم أتحمل الإنتظار من شدة الفرح لانقشاع جزء من الغمام عن الحقائق ، التفت يمينا وشمالا أثناء سيري على ممر الخروج للمركز كي لا يراني أحد ، قفزت من فرط السعادة محاولا لمس لوحة متصلة بالسطح مشيرة لإتجاه المخرج ، تسارعت خطواتي وغصت في تخيل الأحداث التي أتوقع حدوثها بعد خروجي من هنا ، عند وصولي للمخرج تعثرت بعتبة الباب لأسقط متدحرجا على سلالم المركز الأمامية ، أفقت عندها من أحلامي بكدمات على جسدي ، نهضت بكل قوتي ، أنفض التراب من على ملابسي مسرعا حتى لا يلحظني أحد ثم اتجهت إلى سيارتي وأنا أعرج متألما ، ركبتها وانطلقت في طريقي لا أنفك من الضحك على نفسي.
حياني مؤمن لحظة وصولي إلى مكتبه ، كان ذلك في تمام الساعة الحادية عشرة صباحا ، رآني أسير إليه متعرجا فسألني محاولا الإطمئنان علي:
هل أنت بخير ؟ هل تعاني من مشكلة ما ؟
ضحكت وأنا أحاول الجلوس بتأني على الكرسي قائلا:
لا شيء يذكر يا مؤمن ، أنا بخير ، جئتك بطلب آخر يا مؤمن .
أخرجت كيس الدليل من جيبي كان يحوي الزجاج المهشم الذي وجد في مطبخ السيد حسين ، ثم تابعت الحديث :
أريد منك أخذ هذا الزجاج إلى المعمل و مقارنته بنوع الزجاج الذي يستعمل في النظارات الطبية .
سأجري هذه المقارنة فورا فريد .
انتظرت في مكتب مؤمن أرتب أفكاري وأربطها ببعضها ، بينما ذهب مؤمن لمراجعة العينة التي أعطيتها له ، أخرجت هاتفي النقال وهاتفت السيد زياد طالبا منه الحضور إلى مكتبي والإنتظار عند سكرتيرتي حنين لحين عودتي ، أنهيت المكالمة وصوت مؤمن يخاطبني بلهلفة :
فريد ، يا فريد ، لن تصدق ما عثرنا عليه ، كانت تلك العينة من الزجاج تخص نظارة طبية وعثرنا على خصلة شعر صغيرة جدا لم يكن من السهل رؤيتها ، بحثنا في الملفات عن صاحبها ، لن تصدق من هوصاحب تلك الخصلة .
نهضت من الكرسي واضعا يدي على الطاولة أمام مؤمن منتظرا رده وقد تسمرت أواصلي ، فاستطرد قائلا :
إنها تخص السيدة نجاة يا فريد ، ولن أنسى أن أطلعك أن رجال الشرطة أفادوا في تقرير سابق أنهم عثروا على نظارتها في سيارتهما ملقاة أسفل مقعدها.
ضربت بيدي على الطاولة ، ناسيا ألم الكدمات التي تعرضت لها ، وبصوت عال صرخت :
توقعت هذا ، الآن ثبت الأمر ، آه كم أحبك يا مؤمن .
أمسكت بمؤمن و ضممته بقوة نحوي حتى تأوه :
لا بأس يا فريد ، لكنك تفقدني أنفاسي .
أفلته ثم هرولت مسرعا إلى سيارتي لملاقاة السيد زياد ، فقد بقي أمر أخير هو من سيحدده .
عدت أدراجي إلى مكتبي لأجد السيد زياد جالسا خارج مكتبي بانتظاري يدردش مع عم حسبو بعد أن قدم له كوب قهوة ، وحنين منهمكة في عملها ، سلمت على الجميع ثم طلبت من السيد زياد الدخول معي إلى المكتب .
بادر السيد زياد بسؤالي :
أها يا سيد فريد .. ارجو أن أكون عند حسن ظنك فيما استدعيتني له ؟و هل من جديد في القضية ؟
بالطبع يا سيد زياد ، لقد بات اللغز قاب قوسين أو أدنى ، إلا أنني أريدك ان تجيبني على سؤال واحد فقط .
أخرجت من جيبي تلك الصورة الممزقة وعرضتها على السيد زياد ، نظر متعجبا إلى الصورة ثم رفع بصره إلي قائلا :
ما شاء الله ، استطعت أن تجد الجزأ الآخر للصورة ولكن أين عثرت عليه ؟
عثرناعليه في يد الضحية ، اريد منك أن تعرفني على الشخصيات الموجودة في الصورة .
أها ، حسنا ، هذا أنا والسيد حسين ، هذا هو السيد عوض ، وهذا السيد معاذ وهذا هو السيد وحيد ، أما هذا الرجل فلا أعرفه يا سيد فريد .
حسنا لا بأس ، هلا أعطيتني معلومات كافية عنهم لنقوم باستجوابهم ؟
أجل ، بالطبع .
عندها مددت له ورقة وقلم ليكتب لي المعلومات الخاصة بهم ، كأماكن عملهم وكل ما يعرفه عنهم .
بعدها سلمت الورقة إلى حنين وأنا أقول لها :
حنين ، إبحثي عن عناوين هؤلاء واتصلي بهم وإطلبي منهم التوجه إلى منزل الضحية السيد حسين على الفور .
انصاعت حنين لأوامري وهي تقول :
أجل سأفعل يا فريد ، ولكن ألن تقوم باستوجابهم ؟
لا لن أفعل ، سأجد الحل فورا عندما ألتقيهم في المنزل ، فلا فائدة من استجوابهم ، لن نعلم من هو الصادق ومن الكاذب فيهم .
أها هكذا إذا ، سأنفذ ما طلبته مني حالا .
توجهت ومعي السيد زياد إلى منزل الضحية ، وصلنا إلى هناك في تمام الساعة الثانية ظهرا ، ركنت سيارتي ثم ترجلنا منها وأنا أحمل معي جميع الأدلة والتقارير ولم أنسى لوحات حاتم ، رأيت فوكس واقفا بالقرب من المطبخ يلوح لي بإشارة فهمت مغزاها ، طلبت من أحد رجال الشرطة الذين تمركزوا حول المنزل أن يصطحب السيد زياد إلى الداخل ، واقتربت من فوكس لأعلم مايريد إخباري به .
هل الجميع حاضرون ؟
أجل جميعهم في الداخل ، لم يبقى سواك أنت .
التفت يمينا محاولا ربط رسمات حاتم بالموقع الذي أنا فيه ، بدأت بالسير باتجاه الباب الجانبي للحديقة ، إلى أن وصلت حيث كان يقف الرجل الغريب في رسومات حاتم ، تخيلت موقع سيارة الوالدين ، ولكن أين كان ليكون موقع حاتم في تلك اللحظة ؟
رفعت رأسي إلى الأعلى ، تأكدت لحظتها أن ما رسمه حاتم كان مشهدا حقيقيا فإحدى الغرف كانت مطلة على موقف السيارات ، وبالأصح ستكون هي غرفة والديه.
كانت على يميني سلة مهملات كبيرة إسطوانية الشكل ، ضحكت لتذكري استفسار المعلمة عن الشيء الإسطواني الذي رسمه حاتم ولم تعرفه ، يا ترى أكان حاتم يرمي إلى شيء برسمها ، إقتربت منها وفتحت الغطاء ، لبست قفازاتي وبدأت بالبحث فلا ضير من المحاولة ، أما فوكس فقد فضل المراقبة.
لم تكن فكرة البحث في القمامة بالسيئة بل كانت عين الصواب حيث عثرت على قطعة قماش ملطخة ببعض الدم لم يكتمل احتراقها ملقاة بداخلها وبالطبع لم يكن من الصعب التعرف عليها ، إنها ذلك الجزء المقطوع من ستائر غرفة المعيشة ، رفعتها ليشاهدها فوكس ، فنظر إليها بتمعن ثم ابتسم ساخرا .
أيعقل يا فريد أن تكون تلك القطعة التي كنا نبحث عنها هنا طيلة هذا الوقت ، يا لسخرية القدر!
أجل ، يا لسخرية القدر ، نبحث في البعيد بينما ننسى الأقرب إلينا ، كما يحدث في حياتنا يا فوكس ، نبحث عن الحلول البعيدة والتي قد تكون الخاطئة لمشاكلنا بينما تكون الحلول أقرب إلينا من حبل الوريد ، والآن يا عزيزي فوكس دعني أعلن لك أن قضية مقتل السيد عادل وزوجته قد حلت ولم يتبقى سوى إعتراف المجرم بفعلته.
دخلت مع فوكس إلى غرفة المعيشة لأجد كل من طلبت إحضارهم جالسين يتبادلون نظرات مشحونة بالقلق والإستغراب فألقيت بتحيتي عليهم قائلا :
أهلا بكم جميعا سيد زياد ، سيد عوض ، سيد وحيد ، سيد معاذ ، العمدة السيد إسماعيل ، وابنه مؤيد ، صديقي وعزيزي وليد ، وأخيرا المحقق طارق ، شكرا على مجيئكم ، كما تعلمون أنتم هنا بصدد التحقيق في قضية مقتل السيد حسين ، السيد عادل وزجته نجاة ، منكم من جاء من مناطق بعيدة لهذا لن أطيل عليكم الحديث .
بدأ المحقق طارق بالبحث في هذه القضية وله كل الفضل في التوصل إلى بعض التحليلات التي ساعدتنا في حل هذ القضية ، ففي العاشر من شهر يناير لقي السيد حسين مصرعه في منزله في تمام الساعة العاشرة وخمس و أربعون ليلا بينما صادف وفاة كل من السيد عادل وزوجته في تلك الليلة في تمام الساعة الحادية العشرة ليلا ، أظهرت الأدلة يا سادة أن هاتين الجريمتين كانتا بفعل مجرم واحد .
قاطعني السيد زياد وقد بدت عليه آثار الصدمة :
ماذا ؟ أيعني هذا أنهما لم يتعرضا لحادث اصطدام ؟
أجل يا سيد زياد ، حادث الإصطدام لم يكن سوى وسيلة لتضليلنا عن الجريمة الحقيقية ، جرت الأحداث كالآتي :
إجتمع السيد حسين مع مجموعة من رجال الأعمال لمناقشة قضية ما وذلك بعد مغادرة السيد زياد وانتهائه من دوامه ، لا أحد يعلم ماجرى في ذلك الإجتماع سوى من حضره ولكن يبدو أن الأمور لم تسري كما يرام ، خرج الجميع بعدها وبقي السيد حسين في المنزل بمفرده ، وكعادته ذهب السيد حسين إلى الحديقة ليعزف على قيثارته ويقوم بتسجيل عزفه ، حمل معه مصباحه اليدوي لإنقطاع الكهرباء ، إلا أنه لم يكن بمفرده كما ظننا ، فالمجرم كان لا يزال كامنا في منزله وأخذ يقترب من مكان جلوس السيد حسين مستغلا انقطاع الكهرباء ولم تأخر عن الوصول إليه إذ قام فور ذلك بضرب السيد حسين بأداة صلبة على رأسه فسقط المجني عليه أرضا دون أن يفقد وعيه بعدها حدث أمر لم يكن متوقعا تماما ، فقد عادت الكهرباء لفترة وجيزة عاودت بعدها الإنقطاع وكان ذلك كفيلا بأن يكشف للقاتل بأن ضربته لم تكن القاضية ، قام القاتل بحمل ضحيته ومدده أمام مقدمة الباب الزجاجي حيث عالجه بضربة ثانية قاضية عندما رأى بوادر مقاومة يائسة .
عندها سالت الكثير من الدماء و لأن دماء الضحية كانت ستلطخ أرض غرفة المعيشة وبالتالي قد تلطخ حذائه خاصة مع انقطاع الكهرباء فلا يسعه تنظف الأرضية فيترك لنا بسهولة أثرا يدلنا عليه ، قطع جزءا من قماش الستارة ونظف بها ما في الضحية من دماء، وقد تسبب انقطاع الكهرباء مرة أخرى في أن لا يرى المجرم الأشياء بصورة جيدة في تلك الظلمة ، وقد كان يريد التخلص من قطعة القماش كي لا يترك أثرا وراءه ، فكر في حرقها ، لذا هرول مسرعا إلى المطبخ ، بدأ البحث عن أعواد ثقاب إلا أنه لم يتمكن من الرؤية بوضوح ، غضب بشدة ، لم يتمالك نفسه فقام بإلقاء كل ما يراه أمامه في المطبخ أرضا ليسهل من عملية البحث ناسيا أنها تحدث جلبة كبيرة ونسي أن للسيد حسين مصباح يدوي في الخارج ، سمع السيد عادل وزوجته أصوات قريبة قادمة من مطبخ السيد حسين بعد أن أوقفا سيارتهما في الموقف ولكن لم يكن السيد عادل قد اطفأ نور سيارته بعد ، عادت الكهرباء مرة أخرى ، بموجبها تمكن القاتل من العثور على أعواد الثقاب واشعال النار في تلك القطعة ، خرج بها إلى الباب الجانبي من الحديقة ، وقام بإلقائها في سلة المهملات الخارجية حيث وجدناها ، ليفاجأ المجرم بوجود السيد عادل وزوجته أمامه وسرعان ما هرب إلى الداخل.
الأمر أثار ريبة عادل وزوجته فقررا اللحاق بالقاتل إلى داخل المطبخ ،عندها تيقن القالتل عدم قدرته على الفرار وأن هذين الشاهدين سيفضحان أمره ، فلم يتوان في ضربهما بالأداة الحادة التي كان يحملها وهي ذات الأداة التي قتل بها السيد حسين ، وما لبثت أن انقطعت الكهرباء مرة أخرى ، ولم يعلم أنه قد ترك دليل واضحا خلفه .
حمل جثة السيد عادل وزوجته إلى داخل السيارة ، ثم دفع بها إلى مقدمة المنزل الذي كان تحت التشييد لتصطدم السيارة بحديد البناء وينغرس فيهما ، أدرك لحظتها أن خطته قد تعرقلت فسارع بالفرار خشية أن يراه أحد ما ، هرب من الجهة الشمالية من الحديقة تاركا دليلا آخر على وجوده هناك ، اصطدم بزير ماء لم يلحظه بسبب الظلمة ، انكسر وجرح ساقه ليسقط منه شيئا يخصه .
وضع وليد كلتا يديه على رأسه غير مصدق لما سمعه وقال :
أيعقل ؟ هذا لا يصدق وفاة والدي صلاح كانت جريمة قتل ؟ أمر غريب .
ضحك السيد معاذ بصوت عال ، ثم نظر إلي بعجرفة قائلا :
أجل توفي السيد حسين نعلم هذا ، قتله مجرم وارد فالجرائم كثيرة هذه الأيام ، ولكن ما علاقتنا بكل هذه القصة ؟
جاء صوت ضعيف و متقطع يحمل ألما وحزنا منعني في تلك اللحظة من الرد على السيد معاذ وكان يقول مخاطبا السيد معاذ:
حاول أن تتحلى بإنسانية اتجاه هذه القضية يا معاذ ولو لمرة ، إنه حسين صديقنا العزيز ، لا يهم قدر المشاكل والحساسيات التي تولدت بيننا فالاختلاف بيننا لم يفسد الود الذي كان قائما بيننا لذا يجب أن لا نقسو عليه وقد صار لدى مليك مقتدر .
أنهى السيد عوض حديثه ثم نظر لمعاذ باستياء عبر عنه بتقطيبة على جبينه ، فلم يعره السيد معاذ اهتماما ، وتجاهل نظرته وكلماته ولم يعقب عليها ، عندها تحدث العمدة إسماعيل بلهجة لا تخلو من الحدة والتهكم موجها حديثه إلي قائلا :
أيها المحقق فريد ، أناديتنا لتثبت لنا قدرتك على حل القضايا ، أليس كذلك أيها العبقري ؟
لا أيها العمدة ، بل لأنكم جميعا مشتبه بكم في هذه القضية باستثناء وليد والمحقق طارق، وواحد منكم هنا هو القاتل فالقاتل موجود بيننا أيها السادة .
لم يتوقع أحد من الحضور أن يسمع مني ما قلته بل كان الجميع يعتقد وبمن فيهم القاتل أنهم هنا لأشرح لهم ملابسات القضية وما وصلت إليه التحريات فيها ولكن أن أضعهم جميعا في مواضع الشبهة فهذا كان أمرا مستبعدا وعلى الرغم من أنني في الأصل قد توصلت للقاتل في قرارة نفسي إلا أن ما قلته هو
نوع من التكتيك معروف لبذر بذور الإنهيار في كيان القاتل فنحن بحاجة لإعترافه بالطبع صعق الجميع عندما سمعوا كلماتي التي نزلت على مسامعهم كالدوي وبدأت نظراتهم تعبر عن عجزهم الكامل في النطق أو الحديث وشعرت بالخوف والترقب في وجوه بعضهم جذوة من غضب تشتعل في أعين بعضهم فانتابني
 إحساس بأنني قد صرت فريسة وأن أسد الغضب سينقض عليها ويمزقها إربا إربا و لكني قررت تجاهل تلك النظرات والإستمرار في أحاديثي وخطتي دون الإكتراث لها فأفضل طريقة هي مواجهتهم وإمطارهم بالمزيد فأنا لا أريد للقاتل أن ينفك من حصاري ويمسك في النهاية عن إعترافه. وقد بدا لي أن بعضهم لم
يتحمل أن يكون في موضع شبهة في جريمة خطيرة كهذه فوقف السيد وحيد محاولا الإقتراب مني ليفاجأني بلكمة كادت أن تصيبني إلا أن فوكس وعناصر الشرطة تدخلوا وأوقفوه في الوقت المناسب وهو يصرخ بوجهي مهددا :
 إسمعني يا هذا أنا لا احب رجال الشرطة ولا أحب سماع هذه القصص السخيفة
دعنا نخرج من هنا حالا كيف يمكن لأشخاص مثلنا أن يتهموا بالقتل هذه إهانة لمناصبنا المرموقة أخرجني من هنا حالا كنت أقدر الحالة النفسية التي ألمت بالسيد وحيد لذا لم أعنفه بل إبتسمت في وجهه وأنا أرد عليه بكل هدوء قائلا له : 
نعم يا سيد وحيد فأنا أدرك أن جميعكم أصحاب مناصب مرموقة وأنا لا أقصد 
إهانة أحد بل أسعى خلف حقيقة مرة خلفت جرائم بشعة وفي نهاية الأمر يا سيد وحيد سيخرج الجميع من هذا المكان عدا شخص واحد وهو القاتل.
هنا تدخل السيد زياد الذي أحس بأن الإشتباه قد طاله كما طال الجميع وقال:
- يا سيد فريد لا يمكن لك أن تضعنا جميعا في قائمة الإشتباه هكذا دون أي دليل واضح؟
بدأت أرد على السيد زياد وأنا أشير إلى ما معي من أدلة:
أجل هذا صحيح يا سيد زياد فأنا طيلة عملي أحترم مهنيتي ولا ألقي التهم جزافا ما لم تكن مسنودة بأدلة وها هي الأدلة هنا أمامكم يا سادتي.
وضع فوكس كيس الأدلة واللوحات التي رسمها حاتم أمامهم في الطاولة فقلت:
ستعلمون حتما حجم الجهود التي يبذلها المحققون وهم يبحثون عن الحقيقة كإبرة في كوم من القش ولكنهم يظلوا مثابرين ويحطمون العوائق والصعوبات التي تعترضهم بل والمخاطر فالمحقق معرض للقتل والإعتداء وقد حاول القاتل الذي بينكم الآن في ذات ليلة الدخول إلى منزلي ولكني كنت له بالمرصاد فهرب كشبح ليلي.

قبل أن أتابع حديثي ضممت صمتي لصمت الحاضرين أرتب في ذهني خطة شرح الوقائع كما تصورت حدوثها وعندما شعرت بالجميع وقد أخد الترقب بتلابيبهم تابعت حديثي قائلا: 
عندما قام المجرم بقتل السيد عادل وزوجته في المطبخ إنكسرت نظارة السيدة نجاة وتحطم زجاجها في المطبخ الذي تم العثور عليه فيه عندما حاول الهرب.
يبدو أن السيد العمدة قد فقد قدرته على الصبر فلم يمهلني لمواصلة حديثي وقاطعني بطريقة ساذجة وقال وهو يضحك:
. يا له من دليل سخيف
كفاني إبنه المهذب الدكتور مؤيد مؤونة الرد عليه حينما قال له محاولا في الوقت ذاته تهدئته: 
أرجوك يا أبي هلا تركت للسيد فريد المجال لإكمال حديثه آسف يا سيد فريد تابع من فضلك.
أسعدني هذا التدخل الذي جاء في الوقت المناسب وتابعت حديثي بهدوء أكثروقلت مستمرا في شرح الأدلة:
لم يعلم المجرم أنه كان مراقبا طيلة هذا الوقت من حاتم ابن السيد عادل والسيدة نجاة إنه طفل نابغة رغم أنه مصاب بداء متلازمة داون وكان شاهد العيان الوحيد على مقتل والديه والدليل على ذلك هذه الرسومات التي أمامكم أنظروا إليها إنه يروي ما جرى لوالديه في رسوماته وبفضلها تمكنا من
العثور على بعض الأدلة التي كانت تنقصنا نهض وليد وأمسك باللوحات متأملا إياها بتمعن :
 يا للعجب هذا صحيح من يراها في بادئ الأمر لا ينتبه إلى مغزاها لكن
إذا دققت عليها ستعلم الرسالة التي يريد حاتم إيصالها سبحان الله يا له من طفل ذكي أنا متأكد من أنه رسمها من أجلك يا فريد لتتوصل إلى حقيقة مقتل والديه التي أراد الجاني أن يخفيها عنا.
من جديد عاد العمدة إسماعيل لإستهزائه بالأدلة وإستفزازي وقال: 
 ها.. رسومات فتى صغير معتوه أهي دليلك القاطع يا من تسمي نفسك محقق.
إمتعض فوكس من إستفزاز العمدة ولم يستطع تمالك نفسه فخاطبه بحدة قائلا:
 أضحك كما تشاء فلك حساب على ظلمك للطفولة وظلمك للمسكين الفتى صلاح أيها المتعجرف.
عندها ضرب مؤيد الطاولة التي أمامه بقبضة يده وقال غاضبا:
ما هذا يا سيد فوكس أرجو ألا تصرخ في وجه والدي ليس لك الحق في ذلك والدي عمدة له منصبه جدير بالإحترام كما أن سنه لا تسمح لك بمخاطبته بهذا الشكل.
همست في أذن فوكس مهدأ ثم طلبت منه إحضار شريط التسجيل والمسجل ومن جديد تابعت حديثي قائلا:
إن أصحاب متلازمة داون على الرغم من أن بعض الحقائق العلمية تصفهم بأصحاب قدرات عقلية محدودة إلا أن حاتم خالف تلك الحقائق فهو صاحب ذكاء حاد .

عاد بعدها مؤيد للصمت بينما نطق المحقق طارق في تلك اللحظة بعد سماعه
لأحاديثنا متسائلا:
يا سيد فريد أخبرني ما هو استنادك إلى وجود مجرم في المنزل؟ حتى الآن لم تقدم دليلا قويا على وجود القاتل؟ وضع فوكس لحظتها المسجل وأدخل شريط التسجيل مع مكبر الصوت وهو يقول:
سأبدأ بتشغيل شريط التسجيل وما عليكم سوى الإنصات التام للمقطع الأخير.
بدأ بتشغيل المقطع الأخير الذي يظهر صوت اقتراب أقدام فاندهش الجميع لما سمعوه خاصة المحقق طارق الذي قال:
هذا لا يصدق يا فريد كيف لم أتمكن من معرفة هذا الصوت لقد أحسنت حقا في العمل في هذه القضية .
بقي أمر آخر يا سيد طارق عثر رجال الشرطة على جزء من صورة ممزقة بين يدي الضحية وقد عثرت على الجزء الآخر منها بين أغراضه الشخصية لتكتمل الصورة التي يظهر فيها القاتل كان السيد حسين مدركا تماما لهوية قاتله فما كان ليحمل هذه الصورة معه وكأنها رابط بين القاتل والسيد حسين.
قال السيد عوض الذي بدا غير مقتنع بشرح الأدلة حتى تلك اللحظة:
لم تقدم المفيد بعد يا سيد فريد
إذا يا سيد عوض سأقدم الأمر الحاسم الآن فعندما اصطدم المجرم بالزيركسره جارحا نفسه وهذا الجرح لابد أن يكون قد ترك ندبا في إحدى قدميه لذا أطلب منكم أن تخلعوا أحذيتكم لنعرف من هو صاحب الندب.
فقال معاذ:
هراء لن نفعل ذلك فهذه إهانة 
. أخشى أن أجبركم على ذلك يا سيد معاذ، أيها الشرطي
أومأت للشرطي برأسي أن يقوم بعمله ويكشف عن قدمي كل واحد منهم واحدا تلو الآخر رغما عن إرادتهم وأخيرا ظهر صاحب القدم ذات الندبة .

قلت موجها حديثي للجميع وقد امتلأ كياني بفرحة النصر :
أرأيتم ،هاهو المجرم يا سادة ، إنه مؤيد، الدكتور صاحب النبل والتهذيب .
لم يحتمل العمدة هذه الحقيقة فاندفع نحوي وأمسك بتلابيبي صارخا بهستيريا في وجهي بكلمات غير مفهومة فقلت له دون أن أفقد هدوئي :
يا سيد إسماعيل ، لا أحكم على الناس هباءا ، وجدت هذا الدبوس الذي يخص ابنك في مكان تحطم الزير ، أليس هو نفس الدبوس الذي يضعه في الصورة ، الحقيقة ظاهرة لا يمكن نكرانها يا سيد إسماعيل .
بعدها بدأ الجميع يترقب ردة فعل مؤيد الذي أبقى رأسه مطأطأ ، ودموع الندم تنهمر من عينيه إنها مرحلة ما قبل الإنهيار ، فحدث ما توقعته ، فقد بدأ مؤيد بالإدلاء باعترافه المثير وسط ذهول الجميع قائلا :
شكرا لك يا سيد فريد ، أزلت هما كبيرا كان على كاهلي ، لن أنكر شيئا أبدا ، فأنا هو القاتل ، أجل ، آسف يا أبي ، ابنك الدكتور الذي كنت تفتخر به أمام الجميع هو الذي سيطر الغضب على كل خلية من جسده حتى أفقده إنسانيته ، لم أشأ أن تؤول الأمور إلى ما آلت إليه ، إلا أن جرحي القديم لم يبرأ ، لقد جرحني السيد حسين كثيرا ولم أعد أتحمل ذلك الألم ، تعرفت على السيد حسين في إحدى الرحلات العلمية وتوطدت علاقتي به ، استفدت منه كثيرا في أبحاثي العلمية لما يختزنه من زخيمة معلوماتية في دماغه ، وعدني بأن يرتقي بعلمي إلى أعلى الدرجات ان اجتهدت في بحث نقوم به سويا أعجبته فكرته كثيرا ، وبالفعل اجتهدت فيه حتى نال قبول كبار الشخصيات في مجال الطب والأدوية .
قاموا بدعوتنا في إحتفال لتكريمنا إلا أنهم نسبوا البحث بأكمله إلى السيد حسين ، لم يذكر جهدي وتعبي ولم يعرفني أحد ، بقي السيد حسين صامتا ولم ينطق بكلمة ليصحح سوء التفاهم الذي حصل ، علمت لحظتها أنه كان يستغلني ، سهري وتعبي ذهب هباءا في سبيل نجاح شخص آخر ، لم أتحمل البقاء معه ، إلا أنني صبرت وتظاهرت حتى تسنح لي الفرصة وأنتقم منه ، للأسف فعلت فعلتي وكم أنا خجلا من نفسي .
أردت أن أطرق الحديد وهو حام فسألته :
كيف أخذت صلاح وشقيقه إلى الجزيرة ليؤول بهما الحال إلى التشرد والجوع ؟
تنهد مؤيد ماسحا الدموع عن عينيه ، تقطع صوته خجلا فعلته الشنيعة بصلاح وحاتم وعدم إنسانيته اتجاههما قائلا :
بعد وقوع الجريمة والبدأ بالتحقيق فيها ، بما أنني طبيب ولي الكثير من المعارف قمت برشوت طبيب أسرة السيد عادل بمبلغ كبير من المال ليهتم بقضية صلاح وحاتم بعد عملية فحصه لهما للتأكد من عدم تعرضهما لأي أذى بناء على طلب القانون ، أفاد بعدها أن حالتهما النفسية لا تسمح لهما بالبقاء في المنزل بمفردهما ، ولعدم القدرة على اقناع أقارب من جهة السيد عادلأو زوجته يمكن ابقاء صلاح وحاتم معهم وذلك بسبب خلافات أسرية ، لذا طلب الإذن بأخذهما إلى منزل جدتهما لرعايتهما و التي اصطنعنا بقائها على قيد الحياة ، وبالفعل أخذهما الطبيب إلى منزلها الذي كانت تسكنه أسرة أخرى ، فلم يجد الطبيب طريقة سوى تركهما في الخلاء تخت تهديده لهما إن إعترفا بالحقيقة ، والعودة ليبقى منزلهما في أم درمان تحت رحمة القانون لا يسكنه أحد .
عندها أيقنت أن من كان يعنيه صلاح في حديثه سابقا بأنه سيحميهما ويرعاهما هو طبيب أسرته ، لذلك كان من السهل على صلاح تصديقه والذهاب معه ولم يطلعني على حقيقته خوفا من ما قد يتعرض له هو وشقيقه حاتم من أذى إن إعترف بالحقيقة ، يا للعجب .
انفجر مؤيد باكيا يصفع وجهه مرار وتكرارا ، متمنيا موته قبل هذه اللحظة التي صغر فيها أمام ربه ووالده الذي تسمر في كرسيه مصعوقا ، اتسعت عيناه بدأ يرجف ويتعرق بشدة ، بدأ بالصراخ متألما فأسرع رجال الشرطة بحمله لأخذه إلى المشفى ، نظر إلي مؤيد بشفقة على حال والده ثم استمر في بكائه مجددا .
أخطأت يا مؤيد .
التفتا جميعنا إلى السيد عوض ، صمت قليلا محدقا في الصورة الممزقة في الطاولة أمامه ، فبادرت بسؤاله :
ما الذي تقصده يا سيد عوض ؟.
أنت إذا ذلك النابغة الذي تحدث عنه حسين كثيرا دون أن يذكر اسمه ، يا للأسف يبدو أنك أسأت الحكم عليه يا مؤيد ، لم تفهم ماكان يرمي إليه ، لو أنك فقط سألته وحاولت معرفة سبب تصرفه فحسين لا يغدر بأحد أبدا ، ما فعله كان لصالحك ، قام بحمايتك من أعداء كانوا يحاولن الوصول إليك عندما علموا أن بحثك فيه تهديد لأعمالهم واستغلالهم للطبيعة البشرية ، نسب حسين عملك إليه لعلمه أنهم لن يؤذوه لمنصبه المرموق ، كان يريد أن يفصح عن الحقيقة في الوقت المناسب عندما يدرك أن الخطر قد زال عنك ، فلا أدنى فكرة لديك عن مدى خطورة هؤلاء البشر ، لم تمهله بل سارعت بالخلاص عليه ، والآن من سيحميك يا ترى ، بدأت مسيرة حياة ناجحة ، لم ينقصك شيء سوى الصبر ، وهاهي النتيجة ، استغليت عقلك بما لا يفيد وأضعت كل المفيد ، فليسامحك الله على فعلتك .
وقف مؤمن لا يكاد يصدق ما سمعه ، عندها أطلق أنينا قويا وسقط على الأرض ساجدا نادما على فعلته ، لكن بعد فوات الأوان .
أخذ مؤيد إلى مركز الشرطة ، وغادر البقية إلى منازلهم حاملين معهم أذيال الألم ، شكرني المحقق طارق على إنجازي ووعدني بأن يسعى جاهدا أكثر في عمله لإظهار الحقيقة فكما قال ، ليس هناك من جريمة كاملة ، مهما طال الزمن ستظهر الحقيقة عاجلا أو آجلا .
وقفت مع فوكس ووليد أمام سيارتي نستعد للعودة ، أوقفني وليد ولم يبد عليه الإرتياح .
فريد ، لماذا طلبت مجيئي إلى هنا ؟ فلم أفدك بشيء.
بما أنك سألت واستعجلت في الموضوع ، أردتك أن تعتني بما سيكون بين يديك .
وما هو ؟
القرية ، رشحتك لتكون عمدتها .
ضربني وليد على كتفي ساخرا من قولي غير مصدق لما سمعه .
يكفي مزاحا ، هيا أخبرني ما هو ؟
أنا لا أمزح يا وليد إنها الحقيقة ، أنت الوحيد الأجدر بقيادتها .
ولكن كيف لشخص في مثل عمري أن يكون عمدة يا فريد .
وهل كان العمر مقياسا للتصرف بحكمة ، القلب والفكر هما الأساس يا وليد ، ويأتي بعد ذلك العمر ، كما أنك شخص محبوب بين أهل القرية لا ينقصك شيء .
لكن ..
أرجوك يا وليد ، أنا لا أريد التوسل إليك ، بل أنا آمرك بهذا فمصلحة أؤلئك المساكين ضائعة فلتكن منقذهم .
أومأ وليد إيجابا قائلا :
دعني أفكر وسأناقشك فيه بعد ذلك .
لك ذلك يا وليد .
غادرنا وليد بقضية أخرى ستشغله ، لكنها ستكون الأهم في حياته ، أسند فوكس ظهره على سيارتي غارقا في تفكيره .
ما الذي يشغل رأسك يا فوكس ؟
أستغرب في الإنسان وأفعاله ، أخطاء صغيرة قد تقلب حياتك رأسا على عقب ، نتسرع في الحكم وننسوى الموازنة والتفكير المنطقي ، كيف لإنسان يقدم الخير لغيره يسهل عليه تلطيخ يده بالدماء .
يحدث هذا يا فوكس عندما تسعى وراء القمة بغرض الشهرة أكثر من العمل الخير ، كان مؤيد يرى نفسه طبيبا كبيرا ناجحا وهذا ممتاز ، إلا أنه نسي أن الرقي يبدأ بالإنسان المريض حتى يرقى هو ، وبمنصبه كطبيب فالغرور الذي كان في نفسه أفقده الإنسانية في مهنته ، فسهل عليه تلطيخ يده .
يا للأسف ، صحيح يا فريد ، وردني اتصال من مؤمن قبل قليل عن أهل صلاح وحاتم ، عثروا عليهم ، عندما اتصلت خالتهم تسأل عنهم .
أفرحني هذا الخبر وأشاع البهجة في كياني وقلت لفوكس :
هذا أجمل خبرسمعته اليوم .
لكن دعني أكمل لك بعض التفاصيل ففي الحقيقة يا فريد ، لم يكن أهل السيد عادل وأهل زوجته موافقين على هذه الزيجة ، تزوج والدا صلاح وابتعدا عن أهليهما ليعيشوا بسلام ، انقطعت أخبارهم عن أهلهم ولم يعرفوا عنهم شيئا ، وها هما المسكينان يرقدان بسلام تاركين فلذة أكبادهم معلقين بين الآلام ، وافقت الخالة على احتضانهما معها بكل سعة صدر ، لكنها أيقنت ذلك بعد فوات الأوان ، كم سيكون ندمها يا ترى !
الحمد لله ، هكذا أفضل لصلاح وحاتم فلا مكان أفضل لهما إلا بين الأهل ، وأنا متأكد أنهما سينجحان في التأقلم معهم كما فعلوا سابقا في الشهور الماضية ، لكنهم سيبقون تحت أعيننا دائما .
والآن يا فريد إلى أين ؟
ما رأيك بمشاهدة عروض التزحلق على المياه الذي حدثتك عنه ؟ إنه حدث فريد من نوعه ، هيا بنا لحجز التذاكر ، فالتذاكر محدودة .
ركبت سيارتي ولم أنتظر جواب فوكس موقنا بأن جوابه .. نعم .
آآآه .. يا فريد كم أكره عندما تفعل هذا ؟، ماذا عن الفيلم الجديد في السينما ؟ أوف ... فريد من نوعه وأنت فريد من نوعك .
رأيت فوكس يحرك شفاه ، لم أسمع ما قاله لذا أنزلت نافذة السيارة وسألته عن ما كان يقوله .
تحرك من مكانه ثم دخل إلى سيارتي وجلس في المقعد المجاور لي نظر إلي بحرقة مجيبا على سؤالي بتهكم:
لا شيء ، آه كم أتوق لهذا العرض الرهييب ، هيا بنا يا صاحب الذوق الرفيع .
لا تخف لن يفوتك عرض فلمك فمواعيده بعد انتهاء العرض يا عزيزي ، لست أنا من يفسد متعة الغير .

*الجزيرة : ولاية من ولايات السودان التي تقع شرق مدينة الخرطوم .
*أم درمان : واحدة من مدن العاصمىة الخرطوم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى