الاثنين ٧ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٥
بقلم فاروق مواسي

خاطرة أدبية

أعذب الشعر
هل هو أكذبه
أم أصدقه؟
في شعرنا العربي تطغى المبالغات الشعرية وهي كثرة كاثرة، ومنها مثلاً ما قاله ابن المعتمر:

مررت على الفرات وليس تجري
سفائنه لنقصان الفرات
..
فلما ذكرتك فاض دمعي
فأجــراهن جــريَ العاصفــات
...
ومما قاله المتنبي:
ورد إذا ورد البحيرة شاربًا
ورد الفرات زئيره والنيلا
متخضب بدم الفوارس لابس
في غيله من لبدتيه غيلا

...إلخ والمبالغات في هذه القصيدة لا تخفى.
ومن طريف ما قرأت في هذا الباب قول امرئ القيس في وصف فم المرأة:

كأن المدام وصوب الغمام
وريح الخزامى ونشر القُـطُر
يُعـلّ بها بـرد أنيابـها
إذا غـرّد الطائــر المستحــر
يعلق ابن رشيق في العمدة على وصف الشاعر:
..
"وصف فاها بهذه الصفة سحَرًا عند تغير الأفواه بعد النوم، فكيف تظنها أول الليل؟
(العمدة ج2 باب المبالغة، ص 52)
جميل جدًا يا أستاذنا ابن رشيق !
...
الأمثلة كثيرة، ويبدو أن الأذن العربية تستملح الكذب في الشعر وتتقبل المبالغة، وكأنها أجمل.
يقول ابن رشيق أيضًا:
..
"ومن فضائل الشعر أن الكذب الذي اجتمع الناس على قبحه – حسن فيه، وحسبك ما حسّن الكذب"
العمدة. ج1، ص 10

***

من جهة أخرى يقول حسان بن ثابت:
..
وإن أشعر بيت أنت قائله
بيت يـُقـال إذا أنشـدته صدقــا
وإن الشعر لبّ المرء يعرضه
على المجالس إن كَيسًا وإن حمقا
..
ولكن ذلك لم يحل دون استخدام حسان للمبالغات في شعره، فهذا أمر كان طبيعيًا وما فتئ.
من أجمل ما قرأت في الصدق -وأعني به ما هو في الواقع كائن أو محتمل- قول المعتمد بن عباد في منفاه وهوانه في أغمات (المغرب)، وقد جاءته بناته يزرنه:

فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا = وكان عيدك باللذات معمورا

وكنت تحسب أن العيد مسعدةٌ = فساءك العيد في أغمات مأسورا

ترى بناتك في الأطمار جائعةً = في لبسهنّ رأيت الفقر مسطورا

معاشهنّ بُعيد العزّ ممتهنٌ = يغزلن للناس لا يملكن قطميرا

برزن نحوك للتسليم خاشعةً = عيونهنّ فعاد القلب موتورا

يطأن في الطين والأقدام حافيةً = تشكو فراق حذاءٍ كان موفورا
من بات بعدك في ملك يُسر به
فإنما بات بالأحلام مغرورا
إلخ
...
ومن القصائد الجميلة كذلك بصدقها وبوحها قول ابن زريق في درّته الفذة، وهو يناجي حبيبته:

لا تعذليه فإن العذل يولعه
قد قلـت حـقًا ولكن ليـس يسمـــــــــعه
جاوزت في نصحه حدًا أضرّ به
من حيث قدرت أن النصح ينفعه
إلخ

ثمة قصائد كثيرة مما فيه صدق ومشاركة وجدانية،
ويبقى السؤال: أي الشعر أعذب؟
أكذبه؟
أصدقه؟


مشاركة منتدى

  • أعجبني ما اخترتَه من أشعار يا دكتور. أقول: أعذب الشعر هو أكذبه وأصدقه. فالشعر الجميل والعذب هو شعر جميل وعذب إن كان صادقاً أو كاذبا. بالمناسبة، أعدّ لإصدار سلسلة كتب بعنوان "صدق الشعراء ولو كذبوا"، وهي من أحد عشر مجلداً، أتعرض فيها لأشعار (وحياة وشخصية) خمسة عشر شاعراً، من امرئ القيس وحتى تميم البرغوثي. لقد انتهيت من كتابة وتنقيح سبعة من هذه المجلدات. يسعدني أن أرسل لك أحد هذه المجلدات بصيغة بي دي إف لتطلع عليه

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى